دور المستشرقين الفرنسيين في
نقل الثقافة العربية إلى الغرب
د. عبد الرؤوف خريوش*
______________________________________________________
* مشرف أكاديمي متفرغ، منطقة طولكرم التعليمية، جامعة القدس المفتوحة، فلسطين.
ملخص:
كان للمستشرقين دور بارز في إذكاء روح الترجمة، وإقامة العلاقات بين الشرق والغرب،نتيجة للحروب الصليبية، والتبادل التجاري عبر صقلية، والفتح الإسلامي للأندلس، وامتداد الدولة العثمانية، ففي زمن الحروب الصليبية عرفت أكبر حركة ترجمة في التاريخ على امتداد قرنين من الزمان، نقل فيها معظم التراث العربي وأمهات الكتب إلى الغرب مما أتاح للثقافة العربية أن تدخل من باب واسع حضارة الغرب، وتترك أثرا بارزا مهما ساهم في رفع المكانة الثقافية والعلمية والحضارية للغرب.
وقد امتد اهتمام المستشرقين بثقافة الشرق العربي منذ ذلك الوقت حتى العصر الحديث، وهذه الدراسة تلقي الضوء على دور المستشرقين الفرنسيين في نقل الثقافة العربية إلى الغرب، دون الوقوف على تحليل الجوانب السلبية،أو التطرق إلى نظرة المستشرقين للشرق بطرفيها السلبي والإيجابي، فهي دراسة مسحية تلقي الضوء على المساحة التي أفردها المستشرقون الفرنسيون للثقافة العربية في ثلاثة محاور: الأول ترجمة المصادر والكتب العربية، والثاني: دراسات عن الأدب العربي، والثالث: ترجمة أعمال أدبية.
Abstract:
The orientalists had a noticeable role in developing the soul of translation and establishing relationships between the East and the West through the Crusader wars. The orientalists reinforced the trade exchange through Sicily and they helped in the Islamic conquest of Al- Andalus and the extension of the Ottoman State.
During the Crusades the greatest translation movement in history was known and lasted for two hundred years. Through this translation movement, most of the Arab heritage was transmitted to the west. This gave the chance to the Arabic culture to enter through a wide door to the western civilization. As a result, there was an important effect which contributed to highlight the western culture and civilization.
The interest of the orientalists in the East Arab culture extended to the present time. This study sheds some light on the role of the French orientalists in the transmission of the Arabic culture to the West. The study doesn’t analyze the negative sides or handle the orientalists’ view of the East in the negative and positive sides.
This gave study sheds some light on the scope which the French orientalists considered for the Arabic culture through three cores:
The translation of references and Arabic books,
Studies about the Arabic literature,
Translation of literature works.
مقدمة:
الترجمة، و الأدب المقارن، وأدب الرحلات، مصطلحات ارتبطت فيما بينها، إذ من الصعب وضع حد فاصل بينها، وقد أدت هذه المصطلحات دورا بارزا في الكشف عن تراث الأمم السابقة وما زالت، كما يعود لها الفضل في ظهور كثير من المصطلحات الأدبية المرتبطة بها، كالتوازي والتقاطع والفرانكفونية والتأثير والتأثر والمثقافة وغيرها، التي أسهمت في تلاقح الثقافات وتلاقيها، مما فتح المجال أمام الدارسين والباحثين الذين كشفوا عن علاقات مهمة ووثيقة بين ثقافات الأمم السابقة والحالية.
وعند الحديث عن الترجمة لا بد أن نتحدث عن الاستشراق والأدب المقارن ودور المستشرقين والرحالة وغيرهم، في تلاقي الثقافات والأمم والأديان والعلوم كافة، فالترجمة حقل معرفي مشترك، يؤدي دور الوسيط بين النص الأصلي (لغة المصدر)، وبين اللغة التي ينتقل إليها النص (لغة الهدف)(1)، وهي أيضا فعل إبداعي، ونشاط لغوي، وضرورة حضارية، وموقف أيديولوجي، تؤطرها كلها طبيعة العلاقات المتبادلة بين مجتمعي النص: المترجم منه والمترجم إليه في لحظة تاريخية معينة(2).
والمترجمون على اختلافهم، تحكمهم الثقافة والتوجهات الفكرية والقدرة اللغوية، فالمترجم لا بد له من أن تتوافر فيه هذه القدرات المختلفة حتى يستطيع أن يتفهم النص وينقله بأمانة، كما لا بد له أن يتقن لغة النص الأصلي حتى يستطيع أن يتفهم أبعاده وموتيفاته الصغيرة، لكي ينقل أفكاره العميقة بدقة "ولا بد للترجمان من أن يكون بيانه في الترجمة نفسها، في وزن عمله في المعرفة نفسها، وينبغي أن يكون أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها"(3) .
والحديث عن الترجمة حديث قديم جديد، فكل عصر يضفي على المترجم التطورات التي تصيب الأمم،فيطال مجالاتها المعرفية المختلفة، وهذا يعني أن تواكب الترجمة هذه التطورات دون أن تغفل عنها. وقد عرف العرب الترجمة على امتداد عصورهم المختلفة،ففي العهد الأموي اعتنى الأمير (خالد بن يزيد بن معاوية ت 85هـ) بالترجمة والعلوم، فهو بالإضافة لكونه خليفة كان عالم كيمياء، وحاول تحويل بعض المعادن إلى ذهب، كما وضع رسائل عدة في الكيمياء، وفي عهده ترجم كثير من كتب الطب والنجوم والكيمياء عن اليونانية(4) .
وفي العصر العباسي تبوأت الترجمة منزلة رفيعة، بحيث يمكن أن نميزها بثلاث مراحل:
الأولى: من عهد المنصور (أبو جعفر عبد الله بن محمد ت 158هـ) إلى عهد الرشيد (هارون بن محمد بن عبد الله ت 193هـ) وقد ركزت على الطب وعلم الفلك.
الثانية: خلال خلافة المأمون (عبد الله بن هارون الرشيد ت 218هـ) من بداية 198هـ حتى بداية القرن الرابع الهجري.
الثالثة: في القرنين الرابع والخامس الهجريين، وقد صنف المترجمون إلى طبقات، وانفتح العرب على الكتب اليونانية بشكل خاص، وترجمت معظم الكتب اليونانية في مختلف العلوم المعرفية(5).
وقد كان للمستشرقين دور بارز في إذكاء روح الترجمة، وإقامة العلاقات بين الشرق والغرب، من خلال الحروب الصليبية (1096 – 1184م)، والطرق التجارية عبر صقلية، والفتح الإسلامي للأندلس (92هـ - 897هـ)، وامتداد الدولة العثمانية (1280-1922 م)، ففي زمن الحروب الصليبية عرفت أكبر حركة ترجمة في التاريخ على امتداد قرنين من الزمان، نقل بوساطتها معظم التراث العربي وأمهات الكتب، مما أتاح للثقافة العربية أن تدخل من باب واسع حضارة الغرب، وتترك أثرا بارزا، مما أسهم في رفع المكانة الثقافية والعلمية والحضارية للغرب(6)، كما ركزت الإرساليات على دور التعليم بنشر الكتب وعمل المطبعات، ونشر المجلات في الناصرة ولبنان(7).
ومن ثم أصبحت الترجمة تؤدي دورا مهما في الحياة الثقافية العالمية، فهي من ضروريات العمل الأدبي، بل من ضروريات الحياة المعاصرة التي لا يمكن الاستغناء عنها بعد الانفتاح الكبير بين الشعوب، إذ أصبح العالم قرية صغيرة، أمام وسائل الاتصال المختلفة، والترجمة تعد الرابط الأساس بين أمم هذه المعمورة التي تصل كل بيت وأسرة من خلال الفضائيات المختلفة؛ التي تنقل لنا القيم والمعارف المختلفة للأمم والشعوب الأخرى، من خلال الترجمة المباشرة، أو غير المباشرة التي تقوم بها تلك الفضائيات لتسهل على المشاهدين معرفة ما يجري من حولهم في العالم. وتقوم الترجمة بوظائف عدة، منها نقل المعارف والعلوم والنظريات المختلفة، عبر القرون، فهي ليست وليدة الساعة أو اللحظة، إنها عملية قديمة عرفتها الأمم المختلفة على مر العصور؛ لما لها من أهمية ودور بارز في تلاقح الثقافات( .
ومع بداية عصر النهضة ازداد الاهتمام بالشرق عامة، وأسهمت مجموعة من العوامل السياسية والاقتصادية في دفع الدراسات الاستشراقية في الدول الأوروبية، كي تنمو لتشكل منظومة معرفية تسعى لخدمة الغرب في سعيه الدءوب لإخضاع الشعوب المستَعمرة، لذا فإن هذه المنظومة لا تعكس حقائق أو وقائع، بل تصور صورة الغرب وهو يتعامل مع الحضارات الأخرى من منظور المركزية الأوروبية(9) وهذا ما عكسته حملة نابليون على مصر (1798- 1801م)، فقدوم المستشرقين معه، هو محاولة لمعرفة ما يكتنزه الشرق من قيم ومفاهيم وثقافات.
ومع تطور مفهوم الاستشراق في القرن الثامن عشر، أصبح المستشرقون يتعاملون مع الشرق من زاويتين: سلبية، وهي النظرة القديمة التي كونتها العقلية الغربية البعيدة عن الشرق، من خلال بعض الرحلات التي كان يقوم بها بعض المستشرقين من أمثال إدوارد لين (ت1876م)، وريتشارد بيرتن (ت1890م)، وساسي (ت1838م)، ورينان (ت1892م(10). وإيجابية كما صورها الدارسون الذين درسوا وأقاموا بالشرق، وعايشوه،كما فعل بلاشير (ت 1973م)،وفيشر (ت 1949م)، وايمكيل وغيرهم. أو من أقام بالغرب من العرب، من أمثال رفاعة الطهطاوي (رفاعة ت1873م)، والمراش الحلبي (فرنسيس فتح الله الحلبي ت1874م)، فقد كانت باريس بالنسبة لهم مدينة العلم، والمعرفة، والفن، والتطور، فكتبوا الكثير عنها بعد أن أقاموا فيها، وكانوا ممن كتبوا عنها(11) .
وقد اتسعت مجالات الاستشراق، وأخذت تشهد انعقاد المؤتمرات الدولية، وقد احتضنت فرنسا أولها عام 1873 م. وصارت بذلك باريس عاصمة الاستشراق، وأخضع الاستشراق للإمبريالية والعرقية والماركسية وغيرها، غير أنه أصبح يملك منطلقات للبحث، وجمعيات علمية ومؤسسات خاصة، نمّت عدد كراسي الأستاذية في الدراسات الشرقية عبر عدد من دول الغرب، ممَّا أتاح مجالاً واسعًا لنشر الدراسات الأكاديمية (12). وهذا الميدان من أبرز الميادين التي يعتمد عليها المستشرقون في الوصول إلى أغراضهم، لأنه الميدان الذي يستطيعون منه توجيه الباحثين وإخضاعهم للمنهج الاستشراقي، سواء أكانوا غربيين أم كانوا شرقيين من طالبي الشهادات العليا من العرب والمسلمين... وفي هذا المجال استطاع المستشرقون بدءا من القرن التاسع عشر، في وضع الفكر العربي الإسلامي تحت المجهر لقولبته من جديد، وتكييفه وفقًا للأهداف الاستشراقية المسبقة. كما امتد نشاطهم ليشمل مجال المحاضرات في الجامعات والجمعيات العلمية سواء في داخل أوروبا أم في داخل الوطن العربي والإسلامي نفسه، وعمدوا إلى تأليف الكتب، وإصدار الموسوعات العلمية كما اعتمدوا على إصدار المجلات العلمية اعتمادا كبيرا، ومن أبرز المجلات التي أصدروها، "المجلة الآسيوية"، ومجلة "الدراسات الشرقية"، ومجلة "شؤون الشرق الأوسط"، ومجلة "العالم الإسلامي"(13) .
وأمَّا الموضوعات التي تناولتها هذه الدراسات، فقد بدأت بدراسة اللغة العربية والإسلام، ثم توسعت إلى دراسة جميع ديانات الشرق وعاداته وجغرافيته وتقاليده وأشهر لغاته، ولكن أهم ما اعتنوا به هو الدراسات الخاصة بالإسلام، والآداب العربية والحضارة العربية والإسلامية. وبذلك نشأ من عقيدتهم اتجاه فكري يُعنَى بدراسة الحياة الحضارية للأمم الشرقية عامة، ودراسة حضارة الإسلام والعرب خاصة (14). وقد بنى كثير من الدارسين العرب فكرتهم على هذا الاتجاه لصياغة تعريف واضح للاستشراق، فعمر فروخ يذهبُ إلى أنَّ الاستشراق هو اهتمام علماء الغرب بعلوم المسلمين وتاريخهم ولغاتهم وآدابهم وعاداتهم ومعتقداتهم وأساطيرهم(15)، كما حاول كل من: إدوارد سعيد(16)، ومالك بن نبي(17)؛ وأحمد سمايلوﭬتش(18)؛ ومحمد حسين الصغير(19)؛ ومحمد عبد النبي حسن(20)، وضع تعريف يقترب من التعريف الذي وضعه القاموس الفرنسي الذي حدد مفهومه بأنه مجموعة المعارف التي تتعلق بالشعوب الشرقية ولغاتهم وتاريخهم وحضارتهم، وفي المجاز يعني عندهم تذوّق أشياء الشرق(21) .
ولأن المدرسة الفرنسية هي رائدة المدارس الاستشراقية في أوروبا، فإننا في هذه الدراسة سنتعرف إلى ما قام به المستشرقون الفرنسيون من نقل للثقافة العربية إلى الغرب من خلال ثلاثة محاور: الأول ترجمة أمهات الكتب العربية القديمة إلى اللغات الغربية، والثاني: الوقوف على أهم ما أنجزه المستشرقون من دراسات عن الأدب العربي، والثالث: التعرف إلى ترجمتهم القصص والروايات العربية الحديثة.
أولا: ترجمة المصادر والكتب العربية.
العلاقة بين فرنسا والشرق بدأت منذ عهد قديم، منذ أن بدا العرب بغزو مقاطعات منها (22)، وازداد وتوسع في زمن الحروب الصليبية، وإنشاء طرق التجارة، والرحلات، واحتلال شمال إفريقيا، وحملة نابليون على مصر، وفتح قناة السويس (1869م)، والانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان (1920 – 1949)، وإقامة معاهد وأقسام للدراسات الإسلامية والعربية في جامعاتها (23). وقد ساهمت مدرسة الاستشراق الفرنسية منذ إنشاء مدرسة اللغات الشرقية الحية سنة 1795م والتي رأسها المستشرق المشهور سلفستر دي ساسي، في نقل الكثير من الثقافة العربية إلى أوروبا.
وكانت روابط هذه الصلات والعلاقة، هم المستشرقين الذين سعوا منذ القرون الوسطى إلى نقل الثقافة العربية والإسلامية إلى أوروبا، وفي هذا المحور سنتعرف إلى أبرز المستشرقين الذين أسهموا في ترجمة كثير من المصادر والمراجع العربية إلى الغرب.
1. بطرس المحترم (1092 – 1156م): PETRUS VENERABILIS من أهم أعماله: ترجمة القرآن إلى اللاتينية في العام 1141، وهي أول ترجمة إلى اللاتينية للقرآن كله من اللغة العربية، واستمرت معتمدة في أوروبا حتى نهاية القرن السابع عشر(24) .
2. ليون برشيه: Leon Bercher (1889- 1955). ترجم الرسالة لأبي زيد القيرواني (عبد الله ت 386هـ)؛ وطوق الحمامة لابن حزم (أبو محمد علي بن أحمد ت456هـ)، إلى اللغة الفرنسية(25).
3. فاتيه: Fattier (1613-1667م). طبيب دوق، تعلم العربية وبرع فيها، ونقل كثيرا منها إلى اللغة الفرنسية، ومن أهم الكتب التي ترجمها للفرنسية: تاريخ ابن مكين (ت 1292م)، وقد ذيله بتاريخ العرب بإسبانيا؛ وكتابا علم المنطق و الأمراض العقلية لابن سينا (أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي ت 650هـ)؛ والرثاء للطغرائي (الحسين بن علي بن محمد بن عبد الصمد ت 515 هـ)(26). 4.