مفهوم النمذجة
ص1 الفهرس المحور
النمذجة وآفاق التنظير في الخطاب النقدي الحديث
عبد الباسط لكراري
1 - النمذجة وبناء النماذج:
1.1- مفهوم النموذج:
لقد اكتسب مصطلح النموذج (Modèle) "حمولة منهجية واسعة في الدلالة على كل الأشكال والإنتاجات المنذورة لخدمة مرامي المعرفة"(1).ويذهب "H. Wermus" (1983) إلى استبعاد العلاقة المباشرة التي يمكن افتراضنشوتها بين النموذج والمجال الواقعي إذ ما يميز النموذج بوجه خاص هو كونهبناءا (Construction) يصاغ في الغالب من بعض الخواص المنتقاة من الواقع.ويتم ذلك بسند (ضمني) من نظرية مسبقة قد تكون ساذجة. وعلى غرار ذلك فإنالفكر التنظيري (P. Théorisante) أو الصوري، يستعيض عن "الفكر" كما هو،بهندسة مفهومية معينة تنطلق من اللغات والمكونات الأخرى (الرمزية) لتؤسس،مع ذلك، أنسقة متنوعة وذات طاقة تعبيرية هائلة. والمفروض في النظرية تمثيلوشرح واشتقاق الوقائع من النموذج المعطى بل العمل على إثرائه بعلاقاتجديدة واحتوائه ضمن الاتجاه الذي ينحو إليه البحث العلمي. وثمة وفرة منالإجراءات الخاصة لتأسيس النماذج والنظريات تظل بالضرورة وفي مجموعها،مجالا يوظف فيه الباحث-بصورة غالبا ما تكون ضمنية-كفاءته وإبداعيته ونوازعه(2).فالعلاقة الناهضة إذن بين النموذج والعالم الخارجي، أي شكل الخطاب(التمثيل الخطاطي R. Schématique) الذي ينتجه والذي يحدد بشبكة علاقاتهالداخلية نوعية ودينامية الروابط الممكنة مع موضوعه الخارجي.
ويلزم عن هذا التحديد، ضرورة التمييز بين نمطين أساسيين من النماذج:
أ - النموذج المادي: ويؤسس بالاستناد على المعطيات التجريبية للموضوع.
أ.أ-النموذج النظري: ويسمح-انطلاقا من نموذج الموضوع- بصياغة نظرية معينة تجعلمن الظاهرة المدروسة ظاهرة أكثر عمومية وشمولية، محجوجة ومسنودة بالتجربةمع فسح المجال أكثر لتعدد الفرضيات (Hypothèses) التي قد تتيح إمكانيةتجاوزها(3). لكننا نذهب إلى وجود نوع من النماذج النظريةالقابلة للتعديل والمراجعة في ضوء التشكيلات النظرية النقيضة. فأهميتهاالإجرائية تكمن بالنسبة إلى "الخطابات النقدية الشارحة" في كونها تناقحأساسا عن طبيعتها النظرية عبر خرق ما يسمى بالامتحان التجريبي أو معياريالمقبولية واللامقبولية المصوغين في نطاق التجريبية المنطقية والوضعيةالمحدثة.
وبعبارةأخرى فالذي يحدد فاعلية هذا النمط النموذجي يتمثل بوجه خاص في أسلوبمقاربته للمشاكل المطروحة. وليس هذا ما يميز النموذج النظري وحده في سيرهنحو تحسين كيانه، فالأهمية الاستراتيجية للعلم نفسه في تصور Larry Laudanتكمن بالأساس في اقتراحه حلولا ناجعة لمشاكل مطروحة بحيث تشكل هذهافعالية، سواء أكانت متعلقة بمشاكل تجريبية أم مفهومية، وحدة قاعيدة فيمسار تبلوره وتقدمه(4). ولذلك تنحو النماذج النظرية هذا المنحى بما ينتصب عاملا محددا ومترجما لقدراتها الإجرائية-التداولية.
إنتطلب التجريبية للشرط التجريبي اكتنف أيضا حدها للنموذج ذاته. فالنماذجعند (Jean-Pierre Changeux) لا تعدو كونها "تمثيلات مبسطة ومصورنة عنالواقع الخارجي يقترحها رجل المعرفة العلمية ويقارنها به (أي بالواقع) عنطريق التجربة، جاهدا في البرهنة على صلاحيتها بالارتكاز على "معايير صريخةوذات صبغة بتية"(5). وهو مفهوم نلحظه عند غريماس وكورتيس(1979) اللذين يشترطان في لنماذج مطابقة مزدوجة: مكابقة للنظرية (استنباط)ومطابقة للمعطيات التجريبية (إثبات VS تفنيد) [ فقرة التصور الغريماسيللنمذجة رقم 1-3-1].
ونظرالما يستلزمه الأساس التجريبي، رغم كونه خارجا عن مقاصد النموذج التكوينيالذي سنقترحه لاحقا من وقفة إبستمولوجية متأنية، فقد وزعنا هذا القسمالمنهجي إلى الفقرات التالية:
ا-مشكلة النمذجة من خلال منظوري روني طوم وبتيتو كوكوردا.
اا-التصور الغريماسي للنمذجة
ااا-النمذجة في نظرية الأدب.
علىأن إدراج الفقرة (ااا) إنما يرد في سياق التمثيل ما أثمرته بعض النماذجالنظرية-النقدية المتاخمة للخطابات العملية والإبستمولوجية المعاصرة منالتساؤلات جوهرية تمس في الصميم قضية إيجاد نموذج تحليلي للظواهر الأدبية.
1.2.1-مشكلة النمذجة عند "طوم" و "كوكوردا":
طرحتمشكلة النمذجة (Modélisation) في سياق مراجعات مبادئ النظرية السيميوسردية عند غريماس. وقد تم تأطير تلك المراجعات تأطيرا نموذجيا كارثيا(نسبة إلى نظرية الكوارث) يرتكز على بلورة تصور عقلاني متعال لمفهوموأساسيات النمذجة. ومن شأن هذا التوجه الإبستمولوجي أن يعيد النظر فيالأسس العقلانية الغريماسية مع "التمييز بعنياة بين نمذجة الظواهر، وتمثيلالمفاهيم"(6). وقبل إبراز الملامح العامة لتصور بتيتو (1985)(أ) واستلزاماته على مستوى الاختيار المنهجي المدافع عنه في هذا القسم، بلوالخلفيات النظرية الموجهة لصيغته العامة، نريد أن نقف هنا عند العلاقةالجوهرية الكاشفة عن عمق التضافر الإجرائي بين الحدود الصورية المعتمدةلدى بتيتو، ومرجعياتها الإبستمولوجية ضمن نظرية روني طوم.
1-منذ مشروع (الاستقرار البنائي وتكون الشكل) طوم (1977)، الذي حمل كعنوان فرعي/ "بخيث في النظرية العامة للنماذج"(*)برز إلى الوجود مفهوم موسع لنظرية المعرفة ولشروط قيام إبستمولوجيا عامةمسكوت عنها في أغلب الدراسات التي انضوت تحت لواء النزعة التجريبية. وقدلخص بتيتو (1987) نقود طوم على التجريبية في مأخذين متقابلين:
أ-تبعيةالحقيقة النظرية للسلطة العملية للتجربة وما نتج عنها من تحويل تدريجيللعلم إلى مشروع خبرة نافذ ونشي لالتزاماته الأدبية التي يتصدرها معرفةالكائن(7)
ب-أدلجة (Idéologisation) القدرات النظرية الجديدة في شكل معرفة جديدة أو علم جديد (Nuova Scientia)(.
وأماالطبيعة التقابلية التي يتشح بها المأخذان كلاهما وما قد ينجم عن المراوحةبينهما من صعوبة تلمس موقف نظري متجانس، فتكمن بخاصة في تناقض حديالثنائيتين اللتين يولدهما ذانك المأخذان. وهاتان الثنائيتان هما:
أ-الفلسفة العقلانية – المعرفة التقنية المغالية(Techniciste)
ب-العلم العقلاني - الفلسفة التأملية (النظرية).
ولقدتبلور الموقف الأول قبل أواسط العقد السابع من هذا القرن، حين عرض طوم(1972) تساؤلاته حول حاضر العلم وكبيعة إشكالاته النوعية، فأوضح مأزقالتجريبية الساذجة الذي وقعت فيه الدراسات التجريبية حين انساقت وراءإنماء ومراكمة أنسقة وصفية للواقع، وتغافلت عن استكناه "آليات الضمنية"(Sous-Jacents) للسيرورات التي ينصب عليها التحليل"(9). وهذاالخطأ المنذر بغربة السؤال النظري-التأملي- في بيئة المستجدات العلمية-ومحاولة اختزاله إلى مجرد نماذج كمية، هو الذي أدى إلى انحسار محاولاتالتفكير في مشروعية النمذجة المجردة وتضخم السبر الاختباري مع تفاحش سلطةالمؤسسة العلمية التي تحتضنه(10).
إنفقدان التجريبوية لذاكرتها "النظرية يعتبر لوحده مفارقة شاذة يتعين تصحيحوضعيتها في اللحظة الراهنة ابتغاء تحليل جدلي معمق لأسئلة الهامش النظرية.ولاشك أن صنع النماذج وتداولها اعتباران أساسيان لا غنى عنهما، ولا يمكنبحال من الأحوال، في نظر روني طوم، تقييدهما بشرط المواطأة التجريبية كماتفيد مزاعم الوضعية الساذجة.
فخلافالهذا المنحى، ما يهم "في النموذج، ليس اتفاقه مع التجربة(..) بل وزنهالأنطولوجي ((Ontologique أو إثباتات النموذج عل صعيد الآليات الضمنيةللسيرورة المدروسة"(11). ويظل "اقتصاد الوصف"" معيارا أساسيافي التحقق من "كفاية الصورنة (..) والاقتصاد ذاك يصدر دائما عن فرضية، أيعن تمثل ذهني جزئي للظواهر موضوع الدرس"(12) ويمكن اعتبارثانوية المحك التجريبي أساسا لإكساب (أو اكتساب) الشرعية (Ausweisung)وبالتالي استلزمنا من الاستلزامات النظرية لهذا المنحى.
2- لاحظ طوم، من جهة أخرى، افتقار التنظير البنيوي لأي أساس إبستمولوجيمادام لا يؤسس انتقاده للبنيات على تبرير دينامي، وما دام سنده في تبريرانتقائه "اتفاق الخطاطة المجردة، استدلاليا، مع المورفولوجية التجريبية(أي مع المتن المستوعب للمعطيات التجريبية)"(13). وإذ تثيرنظرية الكوارث هذا الإشكال الجوهري، فإنها تستأثر وحدها -في نظر طوم-بالقدرة على حله. من ثمة ينبغي النظر إلى أهمية نظرية الكوارث على أنها لاتكمن فقط في كونها مولدة للنماذج أو عملة جديدة في التعامل مع الأنساق، بلوأكثر من ذلك، في كونها تتعدى الحدود التي تؤطرها منظرية متماسكة، لتصيربمثابة منهج وأسلوب في العمل.
3- أفضى هذا المسار الإبستمولوجي التأسيسي إلى تجسير الهوة بين العلومالطبيعية (Naturwissenschaften) وعلوم الإنسان (Geistswissesnschaften)،وإلى اقتراح صيغة جديدة سماها روني طوم "سيميوفيزياء" (Sémiophysique).وتقوم بشكل عام على عملية نقل تركيبية أساسها تشغيل العلوم السيميولسانيةفي مقاربة حقول العلوم الطبيعية. وقد أثبتت هذه الطفرة الجذرية جدواها فيقراءة منظومة الفيزياء الأرسطية على أسس جديدة، بعد مرحلة القطيعةالغاليلية (نسبة إلى "غاليليو" 1942).
إنالقطيعة التاريخية المكرسة بين المناهج النقدية والإبستمولوجيات الحديثةتشكل -في نظرنا- عقبة كأداء يصعب اقتحامها في سياق البت في كثير منالجوانب الأساسية لنظرية الكوارث التي تشكل قطب الرحى في النموذج التكوينيالذي اقترحناه وترتبط هذه الملاحظة أكثر بالمجهود الذي ينبغي بذله لفهمقضية النمذجة كما تبلورت مع بتيتو (1985) على وجه الخصوص. ولعل مظاهر تلكالعقبة أن تحول دون تذليل التعقيدات والوعوائق التي يمكن اختزالها فيجانبين أحدهما يتعلق باللغة الواصفة التي تأبى إلا أن تتخذ من الصورنةالمفهومية الموغلة في التجريد أسلوبا، والتمثيل الرياضي المكثف أداة، ممايؤدي إلى صعوبة استيفاء الدقة في تمثل اللغة الواصفة باعتبارها شرطا أوللاستيضاح طبقات الخطاب النظري العام للمشكلة المطروحة. وحتى إن قهر الدارسهذا العائق واستوثق من موجهات الخطاب وتدبر مستغلقاته، فإنه معرض لا محالةلمشكلة لا تقل عن الأولى صعوبة، وهي مشكلة اختيار اللغة الواصفة (الثانية)الأقل تعقيدا، ولهذه الأسباب جميعها، اقتصرنا على حوصلة الملامح العامةلقضية النمذجة عند "جان بتيتو" (1985-أ)، دون الخوض في جوانبها الرياضية.
2.2.1-طبيعة البناء التركيبي للنموذج:
سنعملعلى معالجة النمذجة (Modélisation) وبناء النماذج انطلاقا من مبحث "بتيتو"(1985-أ) المعنون ب: "أطروحات من أجل موضوعية سيميائية"، وفيه حاول"بتيتو" طرح مشروع تصور عقلاني متعال (Transcendantale) للنمذجة شبيه بذلكالذي نصادفه في الفيزياء(14). فعمد في القسم الرئيس من مبحثهإلى استرجاع مفهوم "طوم" للنموذج كما بسطه (G. Geymonat و G. Giorello) فيدائرة المعارف الإيطالية (Einaudi). فالنموذج ليس سوى تناظر بين ظاهرةمعينة (نرمز لها بحرف x) وموضوع مركب (M) هو النموذج، وينبغي أن يفي مابينهما من الشبه بالإجابة عن السؤال (Q) الذي نطرحه بصدد (X ) ولتحقيق هذاالغرض يجب توافر هذه المجموعة من القيود:
أ - أن يكون السؤال(Q) هو المحدد لتركيب (M)
أأ - أن يكون بمقدورنا ترجمة السؤال (Q) إلى سؤال (Q) يخص ((M
أأأ- أن يكون بمقدور الإجابة ( R) التي يقدمها (M) عن (Q) أن تخضع بعدترجمتها إلى إجابة موحدة ( R) و (Q) للتحققات والتمحيصات التجريبية(الستويغ الاستدلالي بواسطة: الإثبات-التفنيد)(15).
ويستوجبالقيد (ااا) المتعلق بالتسويغ الاستدلالي النهائـي للنماذج عامة، توافرإجرامين متمايزين ومتلازمين يتعلق أولهما بالجانب اللساني في انتقاله مناللغة الطبيعية الوصفية لملاحظة (X) (أي لملاحظة الظاهرة)، إلى اللغةالنظرية المصورنة للنموذج (M). بينما يتوقف الجانب الثاني المتصلبالموضوع، على معرفة استراتيجية الانتقال من ظاهرة معطاة إلى موضوعنظري-صوري مركب- Théorético Formel. ويندرج هذا القيد ضمن المحورالإبستيمولوجي بثيماته الكبرى. أما الاختيار الرياضي في هذا المستوى فيمثلحالة خاصة لكونه ينزاح بمنهجه ونوعية اقتضاءاته عن كثير من تلك المعاييروالقيود. من ذلك استحالة قابلية للتجريب، وبالتالي خرقه للقيد (ااا) فضلاعن طبيعته القياسية الاحتمالية (Abductive)، إذ لا هو بالاستقرائـي ولابالاستنباطي. وتظل هذه السمة المميزة للاختيار الرياضي مهجوسة بثقل النظريوالتصوري في أبعادها الأنطولوجية الخصيبة للاختيار الرياضي لتتجلى بوضوحكثافة المنظور الظاهراتي (الفينومينولوجي). وهذا الأخير هو -حسب مفهوم"هولطون" (Gerald Holton) "ثيمة" أو اختيار إبستمولوجي مركزي في نظريةالكوارث برمتها.
ولمزيد من الإيضاح يمكن تمثيل الإجراءات الأساسية السابقة، على هذا الشكل(16):
التحقق التجريبي
السؤال (Q) الظاهرة (X)
التسويغ الاستدلالي
-التناظر (Aposteriori)
الترجمة -تسويغ الإجابة (R )
قبلي
الترجمة
السؤال (Q) النموذج (M) الإجابة ( R)
ونخلص مما سبق إلى الأهداف التالي:
-ضرورة ترييض المفاهيم (Mathématisation des concepts).
-أهمية التسويغ القبلي، وضرورة دعم الاختيار الرياضي في هذا السياق
-مايهم في الخاصية القياسية الاحتمالية المنوه بها آنفا من حيث كونها إجراءفي صوغ الفرضيات كما نص على ذلك "بتيتو" هو "علاقتها بالابتكار المفاهيمي،والخيال النظري"(17).
-إمكانية مد الجسور بين الدلالة المجردة، وموضوعية الظواهر.
-توفير الزخم الأنطلوجي بوصفه ضرورة من ضرورات النمذجة والتأسيس النظري.
1.3.1-التصور الغريماسي للنمذجة:
يعتبر(A. Gulien Greimas 1992) من أبرز منظري السيميائيات السردية، فهو إلىجانب نموذجه الشهير في نحو السرد ومارقيه، يتميز بانفتاح ملحوظ على قطاعاتعلوم الإنسان وإفادته منها في إثراء تصوراته، وإكسابها صبغة صورية خاصةاستأثرت إلى حد كبير بعناية المنظرين الكارثيين وفي مقدمتهم بتيتو كوكوردا(1985 أ- 1985ب).
ونريدهنا أن نقف وقفة متأنية مفهوم غريماس للنموذج وفقا لمجموعة من المبادئوالتحديات النظرية التي لا تخفى تعقيداتها وخصوصياتها في الآن معا. وسنكونبهذه الخطوة الأساسية -إضافة إلى ما تقدم- قد مهدنا لجوهر هذا العمل الذيسيبلور موقفا شاملا -نسبيا- من مجمل القراءات النظرية المطروحة في مسألةالنمذجة في الوقت الذي يكون فيه حقلا لانعكاساتها في مستوى نسقهواستراتيجيته المنهجية.
نحتاجقبل ذلك كله إلى سوق موجهات إجرائية صدر عنها غريماس (1966) في مقدمةكتابة: "الدلالة البنيوية/بحث في المنهج" لوثاقة صلتها بما هو آت.
لقدشكل "الإدراك" (Perception) زاوية أساسية لفهم سيرورة الدلالة(Signification) وتمظهراتها في مبحث غريماس. وهو في هذا التوجه يستند على"نظرية الإدراك" كما تطورت في فرنسا مع "ميرلوبونتي" (Merleau Ponty)بخاصة. ولئن كان قد حدد موقفه النظري من المرجعية الفلسفية في هذا الشأن،فإنه لم يحدد دينامية التفاعل المحايث بين الآلية الإدراكية والآلياتالدلالية، وأبعادها الإشكالية العميقة، بل اقتصر على التماس التعضيدالمناسب لموقفه هذا في ظل متغيرات العلوم الإنسانية الأخرى؛ محيلا مثلاعلى النموذجين السلوكي والجشطلتي اللذين شكلا ردة فعل إزاء الذريةالترابطية (Atomisme Associatonniste)، وحلا محل سيكولوجيات "الاستبطان"و"الملكات". ويمكن تأويل ميله -في السياق نفسه- إلى تبئير الإبدالالإدراكي للأثر الأدبي في مجال تفسير الظواهر الجمالية، بقصور التمثيلالمفهومي لكيفية اختمار واشتغال المكون الإدراكي في صميم البنياتالدلالية. ولعل وجاهة هذه الملاحظة تستبين بشكل واضح في حد علم الدلالة(Sémantique) لديه؛ حيث لا تخرج -في نظره- عن كونها "محاولة لوصف عالمالخواص المحسوسة"(18).
إن ترسيخ(*)الإدراك في النظرية الغريماسية لا يعفيها من طابع "الإغضاء عن الموضوع"(Ignoration elenchi) حيث تظل إبستيمية الإدراك مفصولة عن أي علاقة ممكنةبالبنية الدلالية المحايثة. على أن إصرار غريماس على طائلة التحليل الكيفيووروده بإلحاح قوي في توصيف الظاهرة الدلالية، مؤشر جد إيجابي على فهمالإبدالات النوعية في الرؤية الإبستمولوجية الراهنة. وأحد تلك الإبداعاتالأساسية، إغناء مجال تبني وممارسة التحليلات الكيفية بالنظر إلى مساهمتهافي "سد الثغرة الحاصلة حاليا بين علوم الطبيعة التي درج العلماء علىاعتبارها علوما كمية، وعلوم الإنسان التي -رغم المظاهر المخادعة- تظلعلوما كيفية"(19). وهنا يلوح تقارب ملحوظ- رغم اختلاف منطلقاته- بين التصور الغريماسي ومشروع روني طوم الآنف الذكر.
وبعدهذا التمهيد أريد هنا أن أقف وقفة متأنية عند مفهوم غريماس (1979) للنموذجوفقا لمجموعة من المبادئ والتحديدات النظرية التي ستكون لها انعكاسات هامةعلى الإستراتيجية المنهجية للنموذج التكويني الكارثي المقترح.
-يستند القاموس المشترك لغريماس وكورتيس (1979) على تصور خاص لمفهوم "النموذج" وجهازه المفاهيمي:
(ا)-فالنظريةبالنسبة إليهما تركيب "أو بناء متماسك وقابل للتحقق يتوسط بين المفاهيماللامعرفة ((Indéfinissables، ومواجهة المعطى التجريبي"(20).والنظرية بأوسع مفهوم "تراتبية من اللغات الواصفة التي تتدرج من مستوىالظواهر التجريبية إلى لغة الوصف والمفاهيم الإجرائية: فاللغة المنهجيةالمسوغة للتوصيفات، فاللغة الإبستمولوجية في آخر المطاف" وهذا المستوىالأرقى درجة والمشتمل على المفاهيم اللامعرفة والفرضيات التي لا يقامعليها دليل، يتموضع كنسق من البديهيات التي لا تقبل البرهنة أو: (Axioma).
(اا)-والمستوىالمنهجي يتمثل في "تحليل المفاهيم الوصفية (كمفاهيم العنصر والوحدة والفئةوالمقولة الخ) وتحليل الإجراءات (أو الطرائق: التعيين، التقطيع،الاستعاضة، الإبدال، الخ) وهي الطرائق الإجرائية التي تتيح التمثيل النظريللموضوع (أي وصفه)" ويحيل نعت "الإجرائية" على ممارسة الفعل العلمي (Lefaire scientifique) الفعال حسب الظاهر" سواء أتعلق الأمر بمفهوم ما أوقاعدة أو غيرهما، رغم كونهما غير محددين بصرامة كافية.
(ااا)-أماالمستوى الإبستمولوجي فيشكل من حيث هو فعالية تحليلية البديهيات والفرضياتوجرد للمفاهيم اللامعرفة المذكورة "سمة جوهرية لكل نظرية صلبة المبنى".
(Vا)-قوامالبناء (Construction) "لغته الواصفة الكاشفة تدريجيا عن النظام المحايثللأشياء". والبناء يندرج ضمن فاعلية الذات العارفة (الذات الإبستيميةالجماعية)، ومن ثم فإنه معرض لأن يلتبس بالوصف، وهذا الخلط قد يرتفع إذاتبين أن الموضوع المبني لا يكون كذلك إلا إذا دل على أو وصفه يتم عبر لغةواصفة مبنية أيضا.
((V-بناء لغة (واصفة للبناء) إنما هو التمثيل المنطقي الدلالي المرتكز، بشكل عام، على "تأويل رموز اللغة الصورية"…
(اV)-اللغاتالواصفة (أو الشارحة) التي يجري توظيفها في الوصف، متمايزة عن لغاتالتمثيل (Langages de représentation) التي تمظهرها وتجليها. وليس متعذراإمكان توافر "تمثيلات مختلفة "لواقعة" واحدة".
(ااV)-الصورنة(Formalisation) "نقل للغة الشارحة المتعلقة بالوصف إلى اللغة الصورية"وعليها المعول في روز "تماسك النظرية واستخلالص النتائج". والصورنة "لاتتدخل-مبدئيا- إلا في المقام الأخير بعد أن تكون النظرية قد اكتمل بناؤهاالمفهومي من قبل".
(اااV)-"يتسمالصوري بتقابله مع المضمون" و"النسق الصوري نسق اصطلاحي" أي هو عبارة عن"حساب رمزي غير ذي دلالة". وإن اعتبار كونه "خلوا من المعنى" و"متعلقابشكل المفهوم" حسب تعبير هيلمسليف ومتطابق الوجهين: "التعبير/المضمون"الخ، كل ذلك يجعله معدا لأن "يؤول دلاليا".
(Xا)-النماذج-في نظر غريماس- هي بمثابة ممثالات ((Simulacres مؤسسة تتيح تمثيل مجموعةمن الظواهر. وبتعبير آخر، هي بناءات مجردة وافتراضية يتم استخلاصها منالنظرية في إطار المنهج الافتراضي-الاستنباطي، وتنجز في نطاق لغات تمثيلملائمة، كما يلزمها أن تلبي شرط "مطابقة مزدوجة": مطابقة، من جهة، للنظرية(استنباط)، ومطابقة للمعطيات التجريبية من جهة ثانية (إثبات/تفنيد أودحض)".
((X-فيإطار لغات التمثيل "تخصص النماذج" (…) الملفوظات المستنبطة من المفاهيماللامعرفة ومن بديهيات النظرية". وتضطلع تلك الملفوظات بما هي "إجراءاتاستكشاف Procédures de découverte)" بوظيفة أساسية:-فإذا كانت إجراءاتالوصف مؤدية إلى بناء اللغة الواصفة، فإن "إجراءات الاستكشاف"، تلك، صيغصريحة (Explicites ) للعمليات المعرفية (Cognitives) المؤدية إلى إجراءاتالوصف". ونظرا لخاصيتها الإجرائية، فهي تقتضي تقويما مزدوجا؛ تقويما أولمن الناحية المنهجية، وتقويما ثانيا من الناحية الإبستمولوجية: [أي (اا)و(ااا) آنفا].
2.3.1-مناقشة:
مهمايبدو جليا انخراط غريماس في "الحساسية الإبستمولوجية الجديدة" المجانيةللدوغمائية التجريبية، فإنه ما برح يصالح في أكثر من موطن وكما تشف عن ذلكمواقفه المتأخرة-حتمية مبدأ الاتفاق التجريبي/النظري. ولاشك أن هذا المبدأيعكس مفهوما معينا يجافي حقيقة التحولات التي غيرت أطر النظريات وأنساقها. إن الحساسية الجديدة تنقل مسألة المطابقة التي تقدم تحليلها، منأفقها المعياري الضيق إلى أفق يحتفظ للسبك النظري بكيانه النوعي الخاص.معنى ذلك أن النظريات "التي بلغت درجة من العمق التفسيري في مجال محدود،يجب ألا تنحى بمجرد تقديم الحجة على أنها تتعارض مع التجربة كما تظهر فيالإحساس العادي، ويجب أن يتوفر الاستعداد عند الباحثين لاحتمال أن تظهربعض الظواهر بدون تفسير"(21). وحتى الرياضيات التي تمثل أرقى أدوات الصورنة إلى حد جعل طوم يقرر أن "التنظير الوحيد الممكن ذو طبيعة رياضية"(22)كانت إلى حدود القرن الماضي باعثة على ترسيخ الدور الافتراضي لمبادئها حيث"لم يعد بالإمكان التمييز بين المبادئ الرياضية على أساس أن بعضها أصدق منبعض أو أكثر وضوحا، وإنما أصبحت هذه المبادئ(..) مجرد فروض بالمعنىالرياضي للكلمة، أي أنها توضع وضعا، ولاتكون قط موضع إثبات، ولا يخامرواضعها شك في أنها توضع خارج الصدق والكذب كمجرد قرار واتفاق"(23).وقد تمت، من جهة أخرى، بلورة جملة من المواقف الإبستمولوجية النقدية إزاءنسيج العلائق اللامتكافئة بين العلوم الطبيعية-التي تريد لنفسها أن تكوننموذجا أصليا (Prototype) وبعض العلوم الإنسانية (مثل التحليل النفسي)، معإعادة النظر -منهجيا- في الأحكام القاسية الصادرة بهذا الخصوص.
إن مشروعية النماذج -في تقدير غريماس- تأتي من "مطابقتها للنظرية و/أو التجربة"(24). وأي نموذج، على هذا الأساس، ليس سوى "ممثال" ينتظر منه أن يعمل جاهدا على تنحية "المضمون أو المحتوى الأنطولوجي".
إننعت "المشروعيى" الذي يجرد على النماذج المستجيبة (أو المتوقع منها أنتستجيب) للمبدأ المذكور آنفا، يساعدنا على فهم الافتراضات التي تحكمها،وتكوين نظرة عن الكيفية التي تؤسس النظرية-في ضوئها- نظام تحديداتهاالذاتية: -فحين نعلم متى "يكتسب" نموذج ما مشروعيته ومتى "تجرد منه"،نستطيع أن ندرك الحدود المرسومة له، ونطاق قدرته أو كفايته التحليلية. وفيوفرة من الحالات، يصير السؤال عن المشروعية سؤالا عن الماهية نفسهابإيحاءاتها وظلالها الإيديولوجية. فإذا افترضنا مثلا أن على قول علمي معين(Enoncé Scientifique) أن يخضع - إذا أراد استحقاق علميته- لقاعدة تلزمهبالاستجابة لمجموعة من الشروط الضرورية، فحينئذ تكون المشروعية "تلكالسيرورة التي بإيعاز منها، يباح للمشرع (Législateur) الذي يدرس الخطابالعلمي، سن الشروط ذاتها إلى هذا الخطاب، ويحظى بقيمة اعتبارية لدىالأوساط العلمية"(25). وتنقلب المشروعية -بهذه الصورة- إلىمفهوم يجد تفسيره في ظل المؤسسة وأجهزتها الايديولوجية، وتصير المعرفةوالسلطة وجهين لسؤال واحد هو: من يقرر ما يكون معرفة، ومن يعرف ما يجدرتقريره؟(26).
لقدأوضحنا، في هذه الفقرة، الإقصاء الذي يطال "المحتوى الأنطولوجي" فيالنظرية الغريماسية. ولئن ارتكزت سيميائيات غريماس على مبدأ "الاستقلالالأنطولوجي للشكل السيميائي، واعتباره شكلا (Gestalt) وبنية دالة"(27)، فإنها تتذرع بإقصاء البعد الأنطولوجي لتسويغ كثير من الإجراءات (ومنها، على سبيل المثال، " الحفاظ على إجرائية مفهوم البنية"(28)).وقد أبرز بتيتو كوكوردا(1985) حدة المفارقة الناشئة عن حاجة النظريةالسيميائية إلى لحظة التأسيس الأنطولوجي الموضوعي، وتبرم غريماس بها تحتضغط ضرورات شكلية صرف تمليها اعتبارات خارج النظرية أكثر مما تمليها شروطبنائها الداخلي.
1.4.1-النمذجة في نظرية الأدب:
يمكننا إجمال أساسيات البناء المنهجي في النموذج التجريبي، فيما يلي:
أ - المنطلق الافتراضي
ب - بروتوكول التحضير مع تحري الدقة والشمولية
ج - بروتوكول التجربة
د - قابلية التحقق (Vérifiabilité)
هـ - قابلية إعادة الإنتاج (Reproductibilité) بما يتيح استخلاص القانون.
و - الشرط التداولي (Pragmatique) (الفائدة النظرية أو التطبيقية)(29).
ويتتبع عمليات بناء النماذج في نظرية الأدب، نلاحظ أن بعضها يوفر العناصر: أ-د-و، السالفة.
ففيسياق تأسيس "علم الأدب التجريبي" (Emprischen Literaturwissenschaft)،اقترح "شيغفريد شميت" (Siegfried J. Schmidt) نموذجا سماه "تجريبيا"(Empirisch). وهو يقوم على توسيع نطاق إجرائية مجموعة من المفاهيموالآليات ضمن نظرية جديدة هي ما اصطلح "شميت" على تسميته "بنظريةالأفعال". ويشكل مفهوم الأدب أحد المتغيرات الأساسية في هذا الاتجاه لكونه-وفقا للتشغيل التجريبي- لم يعد مؤشرا على "تلك المجموعة المحددة منالنصوص المنطوية على خصائص متميزة"(30)، بل اتسع باعتباره كلا مركبا- ليستوعب "المجموعة الكلية من السيرورات الاجتماعية والجوانب المتعلقة عموما بالحياة الأدبية"(31)،وهكذا يتحول مفهوم "الأدب" -في منظور التجريبية المؤسسة- إلى "منظومةاجتماعية فرعية (Social Subsystem) يتعامل أعضاؤها (العوامل Actants) معالموضوعات أو النصوص التي يعتبرونها أدبية"(32). ودون الخوض فيتفريعات نظرية الأفعال، من الملاحظ على نموذج "شميت" كونه يشدد على قابليةالتحقق من بعض المواضعات ذات الخاصية الافتراضية (hypothétique)والتقريبية)(33)، ويعيد بناء المرجعية السوسيولوجيةوالسيكولوجية. وفي هذا الإطار، وإمعانا في توسيع القاعدة المفهومية لسياقالقراءة، يتبنى مفهوم "منظومة السامع/المتكلم القبشرطية" (Varus etZungssystem)، وهي عبارة عن نسق من الأطر المتحكمة في آليتي المقاربةالنقدية، والتلقي معا -و"يتضمن كل الشروط التي اكتسبها المتكلم/ السامععلى امتداد عملية التكيف الاجتماعي عند الانخراط في المقام التواصلي"(34).والواضح أن المفهوم الجديد/القديم، يأتي استجابة لدافع استراتيجي يهدف إلىتقنين شروط الفعل التواصلي بصورة عامة، تمهيدا لإجراء المطابقة التجريبيةمع مرجع الخطاب (النقاط: د، هـ، و، سابقا)، أو المصادرة على تجانس الأفقالتواصلي مع شروطه المرجعية (سمة القصدية)(*).
مقابل هذا النوع من النماذج التجريبية، توجد نماذج نظرية تقيم علاقات إنتاجية وتخصيبية مع موضوعاتها في نطاق الحرص على:
أ - الإصغاء المرهف للأسئلة النظرية (دعم خصوصية البناء الافتراضي)
ب - تبئير بنية المفارقة والمشابهة
ج - تكثيف الصيغ الاستعارية للخطاب الواصف كبديل عن لغة الوقائع والتطابقات
د - الانسجام الداخلي بين مكونات النموذج
هـ - توسيع حركية المعنى عن طريق تبسيط الوصف (إغناء المستوى التوليدي للنموذج)
و - إبدال آلية التحقق التجريبي بالحمولة الأنطولوجية-الفلسفية.
ونضرب مثلا على ذلك بمقترح "جان كلود غاردان" (J. Claude Gardin)(1982). ففي دراسة موسومة "بالقراءات الجماعية وعلوم الأدب الفريدة"(35)،يسعى "غاردان" إلى طرح مقترح نظري يرتكز على الدعوة إلى أفق علمي للأدبيقوم مقام النقد أو لتفسير الكلاسيكي للنصوص الأدبية. وتتحدد ملامح هذاالأفق بخاصة في توظيف جهاز تحليلي جديد فضلا عن الاستناد على مناهج أكثرتمفصلا. والأثر في ضوء هذا التوظيف يغدو "موضوعا مجردا يسمى نصا". ولايتعين الإمساك بجوهر أو معاني هذا الموضوع إلا "بواسطة إجراء تحويلي ينبنيعلى عمليات متتالية لإعادة الكتابة تنطلق من النص -المصدر (الأثر) لتنتهيإلى النص- الهدف (تفسيره)"(36). ويذهب "غاردان" -لمزيد منإيضاح مسعاه النظري- إلى افتراض أسس صورية للجهاز التحليلي يصار بمقتضاهاإلى عملية الانتقال من وضع أولي يسميه متنا [ مجموعة من النصوص يؤشر عليهابحرف (م)]، إلى وضع هو خلاصة الفعاليات التأويلية يؤدي إلى ما يسميه"غاردان" بناءا علميا" (Construction scientifique) [يؤشر عليه بحرف (ب)]،ومدار الممارسة على "تحديد متوالية من العمليات الخطابية التي إن هي طبقتعلى (م) تتأدى إلى توليد (ب)"(37). ويفرز هذا الإجراء ما يمكن أن يسعف على "الإمساك الواثق بالأسس الصورية للتحليل الدقيق والحدود التجريبية لمشروعيته"(38).ويظل الذكاء الاصطناعي إطارا مرجعيا يؤمل منه أن يكشف عن "الموسوعةالضمنية" التي "يتعذر بدونها تسويغ بله فهم عملية الانتقال من (م) إلى (ب)"(39).ونستطيع باستقراء "الموسوعات المحلية" بشكل عام أن نفحص الخواص التيتستضمرها الأجهزة التحليلية وما يمكن أن ينعقد بينها من علائق وصلات أوفوارق واختلافات. ومن ثمة يظهر الدور الأساس الذي ستنهض به هذه الموسوعاتالمحلية لتزويدنا بقاعدة مرجعية ملائمة للمقارنة بين التحليلات تشمل"أنظمتها المنطقية-الدلالية"(40) [ التي يرمز إليها بحروف (أمد)]. وتتجاوز الوظيفة الموكولة إلى هذه الأنظمة تخصيص الفرادة النوعية لكلموسوعة على حدة عن كريق إبراز "مضمونها الدلالي وبنيتها المنطقية"(41)في صيغتها الفردية إلى صيغة جمعية تستوعب تشكيلة من الموسوعات المحلية.ويمكن -في تصور جان كلود غاردان- بناء أنظمة منطقية- دلالية أكثر شموليةبحيث يشكل مجموع الموسوعات المحلية "دعامة التفسيرات المختلفة المتعلقةبالأثر نفسه"(42). كما يمكن أن تستغرق الـ (أم د) ليس فقطالرؤى والمنظورات النقدية المتضاربة بل أيضا ما يتولد عن تركيبة العناصرالمستقاة من هذه التفسيرات أو تلط، من رؤى وتصورات أخرى مضافة. وبذلك ينظرإلى تفسير النصوص "كمتوالية من الاختيارات ضمن مجموع الاستدلالات أوالاشتقاقات الممكنة انطلاقا من (م)، تفضي إلى بناء ما من جملة بناءات.وتشكل هذه الاختيارات أساسها الوحيد في نهاية المطاف"(43).ولئن تم استيفاء المكونات الضرورية للتأسيس النظري في مقترح "غاردان" فإنهيلبث مع ذلك مشوبا ببعض القصور الذي يتجلى في افتقاره إلى قاموم ملائملتقويم البناءات. وهو قصور التمس "غاردان" تغطيته عن طريق تبني فكرة"جيلبير ديران" (Gilbert Durand) عن كبيعة الإجراء التقويمي في علاقتهالوثيقة بالمستوى التوليدي للنموذج. "فالقيمة المعرفية للبناء إنما تقاسبقدرته التوليدية وطبيعة مفعولاته"(44). يضاف إلى ذلك مشروعيةاختيار مبادئ خاصة تستلزمها طبيعة البناءات العلمية التي تقرب (م) وتعيدصوغه في نفس الآن. على أن الحسم في حدود تعددية القراءات يبقى مع ذلك مثارتساؤل مادام يهم -في نظرنا- ماصدقية الأنظمة المنطقية-الدلالية المذكورةأكثر مما يتعلق بمشروعية القراءات ذاتها. إنه تساؤل جوهري يستدعي توافرمجموعة من الافتراضات الجديدة لا سيما إذا علمنا درجة الصعوبة التي تكتنفإثبات الضوابط الإجرائية الخاصة بنوعية المنظورات الممكنة لكل (م)، ونوعيةالمقاربات التي تشتغل عليه، وقد حاول "غاردان" الحد من تلك الصعوبةبافتراض البحث عن القوانين التي تحكم الاستثناءات ضمن الموضوعات المفردةللمجموع المتعدد. فإذا كان من المتعذر تصور مجموع بدون أفراد منالموضوعات، فيكون من الصعب تصور علم يقام على أساس موضوعات مماثلة إلا إذاسعى "إلى البحث عن القوانين التي تحكم الاستثناءات"(45). وهنا تكمن إحدى مظاهر إنتاجية السؤال النظري.
إنمقترح "غاردان" يؤطره هاجس البحث عن مفهوم جديد للتلقي يصاغ في ضوئه نموذجهو "نموذج العلم الاسترجاعي" ((Science rétrospective فهذا الأخير يبدأ منحيث ينتهي القارئ. وهاجس من هذا القبيل، لا ينفي الإمكانية النظرية -علىالأقل- لافتراض وجود "قارئ مثالي -أنى تعددت مظاهره وتسمياته- يكون سلوكهموضوع العلم الأدبي"(46).
الهوامش
1 - Modèle in Encyclopedia Univeralis (op.cit) vol(10) p(121).
2- Les critères de vérité dans la recherche scientifique (ouvragecollectif) du colloque de (A.P.U.G) Moloine S. a éditeur 1983 ParisFrance. P (182-183).
3 - المرجع الأسبق ص (125-127)
4- موريس كلافلان: العقلانية والتقدم في مج، الفكر العربي المعاصر. ع64/65،ماي/يونيو 1989، مركز الإنماء القومي، بيروت، لبنان- ص(105).
5 - Jean Pierre Changeux: Modèle et mémoire 1988 Ed. Bedon. Paris France p(44).
6- Jean Petitot: (Thèses pour une objectivité sémiotique) in: Degrés(Revue) 3ème année/N° 42-43 - 1985(A) Bruxelles p (g1) (pagiation parlettres).
(*) René THOM: Stabilité structurelle et morphogénèse. Inter Editions 1977.
7 - Jean Petitot - Cocorda: René THOM et SA (T.C). Universilia (1987) Ency. Univ. France - S.A. p.(638).
قارنبمارثن هيدجر في مقاله "فكرة الظاهراتية والعودة إلى الوعي" (1927) الذينادى فيه بقيام سيكولوجية صرفة تحيل بما هي علم وضعي للوعي، على العلمالمتعالي للذاتية الصرفة. ولأنها "علم وضعي" فإنها "لن تعنى بالمسألة التيتخص بالطريقة نفسها كل العلوم الوضعية، وهي مسألة معنى الكينونة بالنسبةإلى قطاعاتها الأونطولوجية الخاصة" ص(56) من:Cahier de l'Heure: MartinHeidgger. Ed. De l'herne 1983 Paris - France.
8 - بتيتو (1987) ص (638).
9 - René THOM: (La science malgré tout..) in Encyclo. Univ. vol (17). Organum. Novembre (1973). France. P(7).
10 - Tito Tonietti: Catastrofi. 1983. Edizioni Dedalo. Bari. ITALIA. Pp (176-177).
11 - طوم (1973) ص (7)
12 - (ون) (ص ن)
13 - (من) ص (
(*)ينظر باستفاضة مشروعنا العلمي لتأسيس نموذج بنيوي دينامي ضمن رسالتناالجامعية: "الخطاب التكويني/محاولة في تأسيس نموذج" مرقونة بكلية الآداب -جامعة محمد الخامس.
14 - بتيت
ص1 الفهرس المحور
النمذجة وآفاق التنظير في الخطاب النقدي الحديث
عبد الباسط لكراري
1 - النمذجة وبناء النماذج:
1.1- مفهوم النموذج:
لقد اكتسب مصطلح النموذج (Modèle) "حمولة منهجية واسعة في الدلالة على كل الأشكال والإنتاجات المنذورة لخدمة مرامي المعرفة"(1).ويذهب "H. Wermus" (1983) إلى استبعاد العلاقة المباشرة التي يمكن افتراضنشوتها بين النموذج والمجال الواقعي إذ ما يميز النموذج بوجه خاص هو كونهبناءا (Construction) يصاغ في الغالب من بعض الخواص المنتقاة من الواقع.ويتم ذلك بسند (ضمني) من نظرية مسبقة قد تكون ساذجة. وعلى غرار ذلك فإنالفكر التنظيري (P. Théorisante) أو الصوري، يستعيض عن "الفكر" كما هو،بهندسة مفهومية معينة تنطلق من اللغات والمكونات الأخرى (الرمزية) لتؤسس،مع ذلك، أنسقة متنوعة وذات طاقة تعبيرية هائلة. والمفروض في النظرية تمثيلوشرح واشتقاق الوقائع من النموذج المعطى بل العمل على إثرائه بعلاقاتجديدة واحتوائه ضمن الاتجاه الذي ينحو إليه البحث العلمي. وثمة وفرة منالإجراءات الخاصة لتأسيس النماذج والنظريات تظل بالضرورة وفي مجموعها،مجالا يوظف فيه الباحث-بصورة غالبا ما تكون ضمنية-كفاءته وإبداعيته ونوازعه(2).فالعلاقة الناهضة إذن بين النموذج والعالم الخارجي، أي شكل الخطاب(التمثيل الخطاطي R. Schématique) الذي ينتجه والذي يحدد بشبكة علاقاتهالداخلية نوعية ودينامية الروابط الممكنة مع موضوعه الخارجي.
ويلزم عن هذا التحديد، ضرورة التمييز بين نمطين أساسيين من النماذج:
أ - النموذج المادي: ويؤسس بالاستناد على المعطيات التجريبية للموضوع.
أ.أ-النموذج النظري: ويسمح-انطلاقا من نموذج الموضوع- بصياغة نظرية معينة تجعلمن الظاهرة المدروسة ظاهرة أكثر عمومية وشمولية، محجوجة ومسنودة بالتجربةمع فسح المجال أكثر لتعدد الفرضيات (Hypothèses) التي قد تتيح إمكانيةتجاوزها(3). لكننا نذهب إلى وجود نوع من النماذج النظريةالقابلة للتعديل والمراجعة في ضوء التشكيلات النظرية النقيضة. فأهميتهاالإجرائية تكمن بالنسبة إلى "الخطابات النقدية الشارحة" في كونها تناقحأساسا عن طبيعتها النظرية عبر خرق ما يسمى بالامتحان التجريبي أو معياريالمقبولية واللامقبولية المصوغين في نطاق التجريبية المنطقية والوضعيةالمحدثة.
وبعبارةأخرى فالذي يحدد فاعلية هذا النمط النموذجي يتمثل بوجه خاص في أسلوبمقاربته للمشاكل المطروحة. وليس هذا ما يميز النموذج النظري وحده في سيرهنحو تحسين كيانه، فالأهمية الاستراتيجية للعلم نفسه في تصور Larry Laudanتكمن بالأساس في اقتراحه حلولا ناجعة لمشاكل مطروحة بحيث تشكل هذهافعالية، سواء أكانت متعلقة بمشاكل تجريبية أم مفهومية، وحدة قاعيدة فيمسار تبلوره وتقدمه(4). ولذلك تنحو النماذج النظرية هذا المنحى بما ينتصب عاملا محددا ومترجما لقدراتها الإجرائية-التداولية.
إنتطلب التجريبية للشرط التجريبي اكتنف أيضا حدها للنموذج ذاته. فالنماذجعند (Jean-Pierre Changeux) لا تعدو كونها "تمثيلات مبسطة ومصورنة عنالواقع الخارجي يقترحها رجل المعرفة العلمية ويقارنها به (أي بالواقع) عنطريق التجربة، جاهدا في البرهنة على صلاحيتها بالارتكاز على "معايير صريخةوذات صبغة بتية"(5). وهو مفهوم نلحظه عند غريماس وكورتيس(1979) اللذين يشترطان في لنماذج مطابقة مزدوجة: مكابقة للنظرية (استنباط)ومطابقة للمعطيات التجريبية (إثبات VS تفنيد) [ فقرة التصور الغريماسيللنمذجة رقم 1-3-1].
ونظرالما يستلزمه الأساس التجريبي، رغم كونه خارجا عن مقاصد النموذج التكوينيالذي سنقترحه لاحقا من وقفة إبستمولوجية متأنية، فقد وزعنا هذا القسمالمنهجي إلى الفقرات التالية:
ا-مشكلة النمذجة من خلال منظوري روني طوم وبتيتو كوكوردا.
اا-التصور الغريماسي للنمذجة
ااا-النمذجة في نظرية الأدب.
علىأن إدراج الفقرة (ااا) إنما يرد في سياق التمثيل ما أثمرته بعض النماذجالنظرية-النقدية المتاخمة للخطابات العملية والإبستمولوجية المعاصرة منالتساؤلات جوهرية تمس في الصميم قضية إيجاد نموذج تحليلي للظواهر الأدبية.
1.2.1-مشكلة النمذجة عند "طوم" و "كوكوردا":
طرحتمشكلة النمذجة (Modélisation) في سياق مراجعات مبادئ النظرية السيميوسردية عند غريماس. وقد تم تأطير تلك المراجعات تأطيرا نموذجيا كارثيا(نسبة إلى نظرية الكوارث) يرتكز على بلورة تصور عقلاني متعال لمفهوموأساسيات النمذجة. ومن شأن هذا التوجه الإبستمولوجي أن يعيد النظر فيالأسس العقلانية الغريماسية مع "التمييز بعنياة بين نمذجة الظواهر، وتمثيلالمفاهيم"(6). وقبل إبراز الملامح العامة لتصور بتيتو (1985)(أ) واستلزاماته على مستوى الاختيار المنهجي المدافع عنه في هذا القسم، بلوالخلفيات النظرية الموجهة لصيغته العامة، نريد أن نقف هنا عند العلاقةالجوهرية الكاشفة عن عمق التضافر الإجرائي بين الحدود الصورية المعتمدةلدى بتيتو، ومرجعياتها الإبستمولوجية ضمن نظرية روني طوم.
1-منذ مشروع (الاستقرار البنائي وتكون الشكل) طوم (1977)، الذي حمل كعنوان فرعي/ "بخيث في النظرية العامة للنماذج"(*)برز إلى الوجود مفهوم موسع لنظرية المعرفة ولشروط قيام إبستمولوجيا عامةمسكوت عنها في أغلب الدراسات التي انضوت تحت لواء النزعة التجريبية. وقدلخص بتيتو (1987) نقود طوم على التجريبية في مأخذين متقابلين:
أ-تبعيةالحقيقة النظرية للسلطة العملية للتجربة وما نتج عنها من تحويل تدريجيللعلم إلى مشروع خبرة نافذ ونشي لالتزاماته الأدبية التي يتصدرها معرفةالكائن(7)
ب-أدلجة (Idéologisation) القدرات النظرية الجديدة في شكل معرفة جديدة أو علم جديد (Nuova Scientia)(.
وأماالطبيعة التقابلية التي يتشح بها المأخذان كلاهما وما قد ينجم عن المراوحةبينهما من صعوبة تلمس موقف نظري متجانس، فتكمن بخاصة في تناقض حديالثنائيتين اللتين يولدهما ذانك المأخذان. وهاتان الثنائيتان هما:
أ-الفلسفة العقلانية – المعرفة التقنية المغالية(Techniciste)
ب-العلم العقلاني - الفلسفة التأملية (النظرية).
ولقدتبلور الموقف الأول قبل أواسط العقد السابع من هذا القرن، حين عرض طوم(1972) تساؤلاته حول حاضر العلم وكبيعة إشكالاته النوعية، فأوضح مأزقالتجريبية الساذجة الذي وقعت فيه الدراسات التجريبية حين انساقت وراءإنماء ومراكمة أنسقة وصفية للواقع، وتغافلت عن استكناه "آليات الضمنية"(Sous-Jacents) للسيرورات التي ينصب عليها التحليل"(9). وهذاالخطأ المنذر بغربة السؤال النظري-التأملي- في بيئة المستجدات العلمية-ومحاولة اختزاله إلى مجرد نماذج كمية، هو الذي أدى إلى انحسار محاولاتالتفكير في مشروعية النمذجة المجردة وتضخم السبر الاختباري مع تفاحش سلطةالمؤسسة العلمية التي تحتضنه(10).
إنفقدان التجريبوية لذاكرتها "النظرية يعتبر لوحده مفارقة شاذة يتعين تصحيحوضعيتها في اللحظة الراهنة ابتغاء تحليل جدلي معمق لأسئلة الهامش النظرية.ولاشك أن صنع النماذج وتداولها اعتباران أساسيان لا غنى عنهما، ولا يمكنبحال من الأحوال، في نظر روني طوم، تقييدهما بشرط المواطأة التجريبية كماتفيد مزاعم الوضعية الساذجة.
فخلافالهذا المنحى، ما يهم "في النموذج، ليس اتفاقه مع التجربة(..) بل وزنهالأنطولوجي ((Ontologique أو إثباتات النموذج عل صعيد الآليات الضمنيةللسيرورة المدروسة"(11). ويظل "اقتصاد الوصف"" معيارا أساسيافي التحقق من "كفاية الصورنة (..) والاقتصاد ذاك يصدر دائما عن فرضية، أيعن تمثل ذهني جزئي للظواهر موضوع الدرس"(12) ويمكن اعتبارثانوية المحك التجريبي أساسا لإكساب (أو اكتساب) الشرعية (Ausweisung)وبالتالي استلزمنا من الاستلزامات النظرية لهذا المنحى.
2- لاحظ طوم، من جهة أخرى، افتقار التنظير البنيوي لأي أساس إبستمولوجيمادام لا يؤسس انتقاده للبنيات على تبرير دينامي، وما دام سنده في تبريرانتقائه "اتفاق الخطاطة المجردة، استدلاليا، مع المورفولوجية التجريبية(أي مع المتن المستوعب للمعطيات التجريبية)"(13). وإذ تثيرنظرية الكوارث هذا الإشكال الجوهري، فإنها تستأثر وحدها -في نظر طوم-بالقدرة على حله. من ثمة ينبغي النظر إلى أهمية نظرية الكوارث على أنها لاتكمن فقط في كونها مولدة للنماذج أو عملة جديدة في التعامل مع الأنساق، بلوأكثر من ذلك، في كونها تتعدى الحدود التي تؤطرها منظرية متماسكة، لتصيربمثابة منهج وأسلوب في العمل.
3- أفضى هذا المسار الإبستمولوجي التأسيسي إلى تجسير الهوة بين العلومالطبيعية (Naturwissenschaften) وعلوم الإنسان (Geistswissesnschaften)،وإلى اقتراح صيغة جديدة سماها روني طوم "سيميوفيزياء" (Sémiophysique).وتقوم بشكل عام على عملية نقل تركيبية أساسها تشغيل العلوم السيميولسانيةفي مقاربة حقول العلوم الطبيعية. وقد أثبتت هذه الطفرة الجذرية جدواها فيقراءة منظومة الفيزياء الأرسطية على أسس جديدة، بعد مرحلة القطيعةالغاليلية (نسبة إلى "غاليليو" 1942).
إنالقطيعة التاريخية المكرسة بين المناهج النقدية والإبستمولوجيات الحديثةتشكل -في نظرنا- عقبة كأداء يصعب اقتحامها في سياق البت في كثير منالجوانب الأساسية لنظرية الكوارث التي تشكل قطب الرحى في النموذج التكوينيالذي اقترحناه وترتبط هذه الملاحظة أكثر بالمجهود الذي ينبغي بذله لفهمقضية النمذجة كما تبلورت مع بتيتو (1985) على وجه الخصوص. ولعل مظاهر تلكالعقبة أن تحول دون تذليل التعقيدات والوعوائق التي يمكن اختزالها فيجانبين أحدهما يتعلق باللغة الواصفة التي تأبى إلا أن تتخذ من الصورنةالمفهومية الموغلة في التجريد أسلوبا، والتمثيل الرياضي المكثف أداة، ممايؤدي إلى صعوبة استيفاء الدقة في تمثل اللغة الواصفة باعتبارها شرطا أوللاستيضاح طبقات الخطاب النظري العام للمشكلة المطروحة. وحتى إن قهر الدارسهذا العائق واستوثق من موجهات الخطاب وتدبر مستغلقاته، فإنه معرض لا محالةلمشكلة لا تقل عن الأولى صعوبة، وهي مشكلة اختيار اللغة الواصفة (الثانية)الأقل تعقيدا، ولهذه الأسباب جميعها، اقتصرنا على حوصلة الملامح العامةلقضية النمذجة عند "جان بتيتو" (1985-أ)، دون الخوض في جوانبها الرياضية.
2.2.1-طبيعة البناء التركيبي للنموذج:
سنعملعلى معالجة النمذجة (Modélisation) وبناء النماذج انطلاقا من مبحث "بتيتو"(1985-أ) المعنون ب: "أطروحات من أجل موضوعية سيميائية"، وفيه حاول"بتيتو" طرح مشروع تصور عقلاني متعال (Transcendantale) للنمذجة شبيه بذلكالذي نصادفه في الفيزياء(14). فعمد في القسم الرئيس من مبحثهإلى استرجاع مفهوم "طوم" للنموذج كما بسطه (G. Geymonat و G. Giorello) فيدائرة المعارف الإيطالية (Einaudi). فالنموذج ليس سوى تناظر بين ظاهرةمعينة (نرمز لها بحرف x) وموضوع مركب (M) هو النموذج، وينبغي أن يفي مابينهما من الشبه بالإجابة عن السؤال (Q) الذي نطرحه بصدد (X ) ولتحقيق هذاالغرض يجب توافر هذه المجموعة من القيود:
أ - أن يكون السؤال(Q) هو المحدد لتركيب (M)
أأ - أن يكون بمقدورنا ترجمة السؤال (Q) إلى سؤال (Q) يخص ((M
أأأ- أن يكون بمقدور الإجابة ( R) التي يقدمها (M) عن (Q) أن تخضع بعدترجمتها إلى إجابة موحدة ( R) و (Q) للتحققات والتمحيصات التجريبية(الستويغ الاستدلالي بواسطة: الإثبات-التفنيد)(15).
ويستوجبالقيد (ااا) المتعلق بالتسويغ الاستدلالي النهائـي للنماذج عامة، توافرإجرامين متمايزين ومتلازمين يتعلق أولهما بالجانب اللساني في انتقاله مناللغة الطبيعية الوصفية لملاحظة (X) (أي لملاحظة الظاهرة)، إلى اللغةالنظرية المصورنة للنموذج (M). بينما يتوقف الجانب الثاني المتصلبالموضوع، على معرفة استراتيجية الانتقال من ظاهرة معطاة إلى موضوعنظري-صوري مركب- Théorético Formel. ويندرج هذا القيد ضمن المحورالإبستيمولوجي بثيماته الكبرى. أما الاختيار الرياضي في هذا المستوى فيمثلحالة خاصة لكونه ينزاح بمنهجه ونوعية اقتضاءاته عن كثير من تلك المعاييروالقيود. من ذلك استحالة قابلية للتجريب، وبالتالي خرقه للقيد (ااا) فضلاعن طبيعته القياسية الاحتمالية (Abductive)، إذ لا هو بالاستقرائـي ولابالاستنباطي. وتظل هذه السمة المميزة للاختيار الرياضي مهجوسة بثقل النظريوالتصوري في أبعادها الأنطولوجية الخصيبة للاختيار الرياضي لتتجلى بوضوحكثافة المنظور الظاهراتي (الفينومينولوجي). وهذا الأخير هو -حسب مفهوم"هولطون" (Gerald Holton) "ثيمة" أو اختيار إبستمولوجي مركزي في نظريةالكوارث برمتها.
ولمزيد من الإيضاح يمكن تمثيل الإجراءات الأساسية السابقة، على هذا الشكل(16):
التحقق التجريبي
السؤال (Q) الظاهرة (X)
التسويغ الاستدلالي
-التناظر (Aposteriori)
الترجمة -تسويغ الإجابة (R )
قبلي
الترجمة
السؤال (Q) النموذج (M) الإجابة ( R)
ونخلص مما سبق إلى الأهداف التالي:
-ضرورة ترييض المفاهيم (Mathématisation des concepts).
-أهمية التسويغ القبلي، وضرورة دعم الاختيار الرياضي في هذا السياق
-مايهم في الخاصية القياسية الاحتمالية المنوه بها آنفا من حيث كونها إجراءفي صوغ الفرضيات كما نص على ذلك "بتيتو" هو "علاقتها بالابتكار المفاهيمي،والخيال النظري"(17).
-إمكانية مد الجسور بين الدلالة المجردة، وموضوعية الظواهر.
-توفير الزخم الأنطلوجي بوصفه ضرورة من ضرورات النمذجة والتأسيس النظري.
1.3.1-التصور الغريماسي للنمذجة:
يعتبر(A. Gulien Greimas 1992) من أبرز منظري السيميائيات السردية، فهو إلىجانب نموذجه الشهير في نحو السرد ومارقيه، يتميز بانفتاح ملحوظ على قطاعاتعلوم الإنسان وإفادته منها في إثراء تصوراته، وإكسابها صبغة صورية خاصةاستأثرت إلى حد كبير بعناية المنظرين الكارثيين وفي مقدمتهم بتيتو كوكوردا(1985 أ- 1985ب).
ونريدهنا أن نقف وقفة متأنية مفهوم غريماس للنموذج وفقا لمجموعة من المبادئوالتحديات النظرية التي لا تخفى تعقيداتها وخصوصياتها في الآن معا. وسنكونبهذه الخطوة الأساسية -إضافة إلى ما تقدم- قد مهدنا لجوهر هذا العمل الذيسيبلور موقفا شاملا -نسبيا- من مجمل القراءات النظرية المطروحة في مسألةالنمذجة في الوقت الذي يكون فيه حقلا لانعكاساتها في مستوى نسقهواستراتيجيته المنهجية.
نحتاجقبل ذلك كله إلى سوق موجهات إجرائية صدر عنها غريماس (1966) في مقدمةكتابة: "الدلالة البنيوية/بحث في المنهج" لوثاقة صلتها بما هو آت.
لقدشكل "الإدراك" (Perception) زاوية أساسية لفهم سيرورة الدلالة(Signification) وتمظهراتها في مبحث غريماس. وهو في هذا التوجه يستند على"نظرية الإدراك" كما تطورت في فرنسا مع "ميرلوبونتي" (Merleau Ponty)بخاصة. ولئن كان قد حدد موقفه النظري من المرجعية الفلسفية في هذا الشأن،فإنه لم يحدد دينامية التفاعل المحايث بين الآلية الإدراكية والآلياتالدلالية، وأبعادها الإشكالية العميقة، بل اقتصر على التماس التعضيدالمناسب لموقفه هذا في ظل متغيرات العلوم الإنسانية الأخرى؛ محيلا مثلاعلى النموذجين السلوكي والجشطلتي اللذين شكلا ردة فعل إزاء الذريةالترابطية (Atomisme Associatonniste)، وحلا محل سيكولوجيات "الاستبطان"و"الملكات". ويمكن تأويل ميله -في السياق نفسه- إلى تبئير الإبدالالإدراكي للأثر الأدبي في مجال تفسير الظواهر الجمالية، بقصور التمثيلالمفهومي لكيفية اختمار واشتغال المكون الإدراكي في صميم البنياتالدلالية. ولعل وجاهة هذه الملاحظة تستبين بشكل واضح في حد علم الدلالة(Sémantique) لديه؛ حيث لا تخرج -في نظره- عن كونها "محاولة لوصف عالمالخواص المحسوسة"(18).
إن ترسيخ(*)الإدراك في النظرية الغريماسية لا يعفيها من طابع "الإغضاء عن الموضوع"(Ignoration elenchi) حيث تظل إبستيمية الإدراك مفصولة عن أي علاقة ممكنةبالبنية الدلالية المحايثة. على أن إصرار غريماس على طائلة التحليل الكيفيووروده بإلحاح قوي في توصيف الظاهرة الدلالية، مؤشر جد إيجابي على فهمالإبدالات النوعية في الرؤية الإبستمولوجية الراهنة. وأحد تلك الإبداعاتالأساسية، إغناء مجال تبني وممارسة التحليلات الكيفية بالنظر إلى مساهمتهافي "سد الثغرة الحاصلة حاليا بين علوم الطبيعة التي درج العلماء علىاعتبارها علوما كمية، وعلوم الإنسان التي -رغم المظاهر المخادعة- تظلعلوما كيفية"(19). وهنا يلوح تقارب ملحوظ- رغم اختلاف منطلقاته- بين التصور الغريماسي ومشروع روني طوم الآنف الذكر.
وبعدهذا التمهيد أريد هنا أن أقف وقفة متأنية عند مفهوم غريماس (1979) للنموذجوفقا لمجموعة من المبادئ والتحديدات النظرية التي ستكون لها انعكاسات هامةعلى الإستراتيجية المنهجية للنموذج التكويني الكارثي المقترح.
-يستند القاموس المشترك لغريماس وكورتيس (1979) على تصور خاص لمفهوم "النموذج" وجهازه المفاهيمي:
(ا)-فالنظريةبالنسبة إليهما تركيب "أو بناء متماسك وقابل للتحقق يتوسط بين المفاهيماللامعرفة ((Indéfinissables، ومواجهة المعطى التجريبي"(20).والنظرية بأوسع مفهوم "تراتبية من اللغات الواصفة التي تتدرج من مستوىالظواهر التجريبية إلى لغة الوصف والمفاهيم الإجرائية: فاللغة المنهجيةالمسوغة للتوصيفات، فاللغة الإبستمولوجية في آخر المطاف" وهذا المستوىالأرقى درجة والمشتمل على المفاهيم اللامعرفة والفرضيات التي لا يقامعليها دليل، يتموضع كنسق من البديهيات التي لا تقبل البرهنة أو: (Axioma).
(اا)-والمستوىالمنهجي يتمثل في "تحليل المفاهيم الوصفية (كمفاهيم العنصر والوحدة والفئةوالمقولة الخ) وتحليل الإجراءات (أو الطرائق: التعيين، التقطيع،الاستعاضة، الإبدال، الخ) وهي الطرائق الإجرائية التي تتيح التمثيل النظريللموضوع (أي وصفه)" ويحيل نعت "الإجرائية" على ممارسة الفعل العلمي (Lefaire scientifique) الفعال حسب الظاهر" سواء أتعلق الأمر بمفهوم ما أوقاعدة أو غيرهما، رغم كونهما غير محددين بصرامة كافية.
(ااا)-أماالمستوى الإبستمولوجي فيشكل من حيث هو فعالية تحليلية البديهيات والفرضياتوجرد للمفاهيم اللامعرفة المذكورة "سمة جوهرية لكل نظرية صلبة المبنى".
(Vا)-قوامالبناء (Construction) "لغته الواصفة الكاشفة تدريجيا عن النظام المحايثللأشياء". والبناء يندرج ضمن فاعلية الذات العارفة (الذات الإبستيميةالجماعية)، ومن ثم فإنه معرض لأن يلتبس بالوصف، وهذا الخلط قد يرتفع إذاتبين أن الموضوع المبني لا يكون كذلك إلا إذا دل على أو وصفه يتم عبر لغةواصفة مبنية أيضا.
((V-بناء لغة (واصفة للبناء) إنما هو التمثيل المنطقي الدلالي المرتكز، بشكل عام، على "تأويل رموز اللغة الصورية"…
(اV)-اللغاتالواصفة (أو الشارحة) التي يجري توظيفها في الوصف، متمايزة عن لغاتالتمثيل (Langages de représentation) التي تمظهرها وتجليها. وليس متعذراإمكان توافر "تمثيلات مختلفة "لواقعة" واحدة".
(ااV)-الصورنة(Formalisation) "نقل للغة الشارحة المتعلقة بالوصف إلى اللغة الصورية"وعليها المعول في روز "تماسك النظرية واستخلالص النتائج". والصورنة "لاتتدخل-مبدئيا- إلا في المقام الأخير بعد أن تكون النظرية قد اكتمل بناؤهاالمفهومي من قبل".
(اااV)-"يتسمالصوري بتقابله مع المضمون" و"النسق الصوري نسق اصطلاحي" أي هو عبارة عن"حساب رمزي غير ذي دلالة". وإن اعتبار كونه "خلوا من المعنى" و"متعلقابشكل المفهوم" حسب تعبير هيلمسليف ومتطابق الوجهين: "التعبير/المضمون"الخ، كل ذلك يجعله معدا لأن "يؤول دلاليا".
(Xا)-النماذج-في نظر غريماس- هي بمثابة ممثالات ((Simulacres مؤسسة تتيح تمثيل مجموعةمن الظواهر. وبتعبير آخر، هي بناءات مجردة وافتراضية يتم استخلاصها منالنظرية في إطار المنهج الافتراضي-الاستنباطي، وتنجز في نطاق لغات تمثيلملائمة، كما يلزمها أن تلبي شرط "مطابقة مزدوجة": مطابقة، من جهة، للنظرية(استنباط)، ومطابقة للمعطيات التجريبية من جهة ثانية (إثبات/تفنيد أودحض)".
((X-فيإطار لغات التمثيل "تخصص النماذج" (…) الملفوظات المستنبطة من المفاهيماللامعرفة ومن بديهيات النظرية". وتضطلع تلك الملفوظات بما هي "إجراءاتاستكشاف Procédures de découverte)" بوظيفة أساسية:-فإذا كانت إجراءاتالوصف مؤدية إلى بناء اللغة الواصفة، فإن "إجراءات الاستكشاف"، تلك، صيغصريحة (Explicites ) للعمليات المعرفية (Cognitives) المؤدية إلى إجراءاتالوصف". ونظرا لخاصيتها الإجرائية، فهي تقتضي تقويما مزدوجا؛ تقويما أولمن الناحية المنهجية، وتقويما ثانيا من الناحية الإبستمولوجية: [أي (اا)و(ااا) آنفا].
2.3.1-مناقشة:
مهمايبدو جليا انخراط غريماس في "الحساسية الإبستمولوجية الجديدة" المجانيةللدوغمائية التجريبية، فإنه ما برح يصالح في أكثر من موطن وكما تشف عن ذلكمواقفه المتأخرة-حتمية مبدأ الاتفاق التجريبي/النظري. ولاشك أن هذا المبدأيعكس مفهوما معينا يجافي حقيقة التحولات التي غيرت أطر النظريات وأنساقها. إن الحساسية الجديدة تنقل مسألة المطابقة التي تقدم تحليلها، منأفقها المعياري الضيق إلى أفق يحتفظ للسبك النظري بكيانه النوعي الخاص.معنى ذلك أن النظريات "التي بلغت درجة من العمق التفسيري في مجال محدود،يجب ألا تنحى بمجرد تقديم الحجة على أنها تتعارض مع التجربة كما تظهر فيالإحساس العادي، ويجب أن يتوفر الاستعداد عند الباحثين لاحتمال أن تظهربعض الظواهر بدون تفسير"(21). وحتى الرياضيات التي تمثل أرقى أدوات الصورنة إلى حد جعل طوم يقرر أن "التنظير الوحيد الممكن ذو طبيعة رياضية"(22)كانت إلى حدود القرن الماضي باعثة على ترسيخ الدور الافتراضي لمبادئها حيث"لم يعد بالإمكان التمييز بين المبادئ الرياضية على أساس أن بعضها أصدق منبعض أو أكثر وضوحا، وإنما أصبحت هذه المبادئ(..) مجرد فروض بالمعنىالرياضي للكلمة، أي أنها توضع وضعا، ولاتكون قط موضع إثبات، ولا يخامرواضعها شك في أنها توضع خارج الصدق والكذب كمجرد قرار واتفاق"(23).وقد تمت، من جهة أخرى، بلورة جملة من المواقف الإبستمولوجية النقدية إزاءنسيج العلائق اللامتكافئة بين العلوم الطبيعية-التي تريد لنفسها أن تكوننموذجا أصليا (Prototype) وبعض العلوم الإنسانية (مثل التحليل النفسي)، معإعادة النظر -منهجيا- في الأحكام القاسية الصادرة بهذا الخصوص.
إن مشروعية النماذج -في تقدير غريماس- تأتي من "مطابقتها للنظرية و/أو التجربة"(24). وأي نموذج، على هذا الأساس، ليس سوى "ممثال" ينتظر منه أن يعمل جاهدا على تنحية "المضمون أو المحتوى الأنطولوجي".
إننعت "المشروعيى" الذي يجرد على النماذج المستجيبة (أو المتوقع منها أنتستجيب) للمبدأ المذكور آنفا، يساعدنا على فهم الافتراضات التي تحكمها،وتكوين نظرة عن الكيفية التي تؤسس النظرية-في ضوئها- نظام تحديداتهاالذاتية: -فحين نعلم متى "يكتسب" نموذج ما مشروعيته ومتى "تجرد منه"،نستطيع أن ندرك الحدود المرسومة له، ونطاق قدرته أو كفايته التحليلية. وفيوفرة من الحالات، يصير السؤال عن المشروعية سؤالا عن الماهية نفسهابإيحاءاتها وظلالها الإيديولوجية. فإذا افترضنا مثلا أن على قول علمي معين(Enoncé Scientifique) أن يخضع - إذا أراد استحقاق علميته- لقاعدة تلزمهبالاستجابة لمجموعة من الشروط الضرورية، فحينئذ تكون المشروعية "تلكالسيرورة التي بإيعاز منها، يباح للمشرع (Législateur) الذي يدرس الخطابالعلمي، سن الشروط ذاتها إلى هذا الخطاب، ويحظى بقيمة اعتبارية لدىالأوساط العلمية"(25). وتنقلب المشروعية -بهذه الصورة- إلىمفهوم يجد تفسيره في ظل المؤسسة وأجهزتها الايديولوجية، وتصير المعرفةوالسلطة وجهين لسؤال واحد هو: من يقرر ما يكون معرفة، ومن يعرف ما يجدرتقريره؟(26).
لقدأوضحنا، في هذه الفقرة، الإقصاء الذي يطال "المحتوى الأنطولوجي" فيالنظرية الغريماسية. ولئن ارتكزت سيميائيات غريماس على مبدأ "الاستقلالالأنطولوجي للشكل السيميائي، واعتباره شكلا (Gestalt) وبنية دالة"(27)، فإنها تتذرع بإقصاء البعد الأنطولوجي لتسويغ كثير من الإجراءات (ومنها، على سبيل المثال، " الحفاظ على إجرائية مفهوم البنية"(28)).وقد أبرز بتيتو كوكوردا(1985) حدة المفارقة الناشئة عن حاجة النظريةالسيميائية إلى لحظة التأسيس الأنطولوجي الموضوعي، وتبرم غريماس بها تحتضغط ضرورات شكلية صرف تمليها اعتبارات خارج النظرية أكثر مما تمليها شروطبنائها الداخلي.
1.4.1-النمذجة في نظرية الأدب:
يمكننا إجمال أساسيات البناء المنهجي في النموذج التجريبي، فيما يلي:
أ - المنطلق الافتراضي
ب - بروتوكول التحضير مع تحري الدقة والشمولية
ج - بروتوكول التجربة
د - قابلية التحقق (Vérifiabilité)
هـ - قابلية إعادة الإنتاج (Reproductibilité) بما يتيح استخلاص القانون.
و - الشرط التداولي (Pragmatique) (الفائدة النظرية أو التطبيقية)(29).
ويتتبع عمليات بناء النماذج في نظرية الأدب، نلاحظ أن بعضها يوفر العناصر: أ-د-و، السالفة.
ففيسياق تأسيس "علم الأدب التجريبي" (Emprischen Literaturwissenschaft)،اقترح "شيغفريد شميت" (Siegfried J. Schmidt) نموذجا سماه "تجريبيا"(Empirisch). وهو يقوم على توسيع نطاق إجرائية مجموعة من المفاهيموالآليات ضمن نظرية جديدة هي ما اصطلح "شميت" على تسميته "بنظريةالأفعال". ويشكل مفهوم الأدب أحد المتغيرات الأساسية في هذا الاتجاه لكونه-وفقا للتشغيل التجريبي- لم يعد مؤشرا على "تلك المجموعة المحددة منالنصوص المنطوية على خصائص متميزة"(30)، بل اتسع باعتباره كلا مركبا- ليستوعب "المجموعة الكلية من السيرورات الاجتماعية والجوانب المتعلقة عموما بالحياة الأدبية"(31)،وهكذا يتحول مفهوم "الأدب" -في منظور التجريبية المؤسسة- إلى "منظومةاجتماعية فرعية (Social Subsystem) يتعامل أعضاؤها (العوامل Actants) معالموضوعات أو النصوص التي يعتبرونها أدبية"(32). ودون الخوض فيتفريعات نظرية الأفعال، من الملاحظ على نموذج "شميت" كونه يشدد على قابليةالتحقق من بعض المواضعات ذات الخاصية الافتراضية (hypothétique)والتقريبية)(33)، ويعيد بناء المرجعية السوسيولوجيةوالسيكولوجية. وفي هذا الإطار، وإمعانا في توسيع القاعدة المفهومية لسياقالقراءة، يتبنى مفهوم "منظومة السامع/المتكلم القبشرطية" (Varus etZungssystem)، وهي عبارة عن نسق من الأطر المتحكمة في آليتي المقاربةالنقدية، والتلقي معا -و"يتضمن كل الشروط التي اكتسبها المتكلم/ السامععلى امتداد عملية التكيف الاجتماعي عند الانخراط في المقام التواصلي"(34).والواضح أن المفهوم الجديد/القديم، يأتي استجابة لدافع استراتيجي يهدف إلىتقنين شروط الفعل التواصلي بصورة عامة، تمهيدا لإجراء المطابقة التجريبيةمع مرجع الخطاب (النقاط: د، هـ، و، سابقا)، أو المصادرة على تجانس الأفقالتواصلي مع شروطه المرجعية (سمة القصدية)(*).
مقابل هذا النوع من النماذج التجريبية، توجد نماذج نظرية تقيم علاقات إنتاجية وتخصيبية مع موضوعاتها في نطاق الحرص على:
أ - الإصغاء المرهف للأسئلة النظرية (دعم خصوصية البناء الافتراضي)
ب - تبئير بنية المفارقة والمشابهة
ج - تكثيف الصيغ الاستعارية للخطاب الواصف كبديل عن لغة الوقائع والتطابقات
د - الانسجام الداخلي بين مكونات النموذج
هـ - توسيع حركية المعنى عن طريق تبسيط الوصف (إغناء المستوى التوليدي للنموذج)
و - إبدال آلية التحقق التجريبي بالحمولة الأنطولوجية-الفلسفية.
ونضرب مثلا على ذلك بمقترح "جان كلود غاردان" (J. Claude Gardin)(1982). ففي دراسة موسومة "بالقراءات الجماعية وعلوم الأدب الفريدة"(35)،يسعى "غاردان" إلى طرح مقترح نظري يرتكز على الدعوة إلى أفق علمي للأدبيقوم مقام النقد أو لتفسير الكلاسيكي للنصوص الأدبية. وتتحدد ملامح هذاالأفق بخاصة في توظيف جهاز تحليلي جديد فضلا عن الاستناد على مناهج أكثرتمفصلا. والأثر في ضوء هذا التوظيف يغدو "موضوعا مجردا يسمى نصا". ولايتعين الإمساك بجوهر أو معاني هذا الموضوع إلا "بواسطة إجراء تحويلي ينبنيعلى عمليات متتالية لإعادة الكتابة تنطلق من النص -المصدر (الأثر) لتنتهيإلى النص- الهدف (تفسيره)"(36). ويذهب "غاردان" -لمزيد منإيضاح مسعاه النظري- إلى افتراض أسس صورية للجهاز التحليلي يصار بمقتضاهاإلى عملية الانتقال من وضع أولي يسميه متنا [ مجموعة من النصوص يؤشر عليهابحرف (م)]، إلى وضع هو خلاصة الفعاليات التأويلية يؤدي إلى ما يسميه"غاردان" بناءا علميا" (Construction scientifique) [يؤشر عليه بحرف (ب)]،ومدار الممارسة على "تحديد متوالية من العمليات الخطابية التي إن هي طبقتعلى (م) تتأدى إلى توليد (ب)"(37). ويفرز هذا الإجراء ما يمكن أن يسعف على "الإمساك الواثق بالأسس الصورية للتحليل الدقيق والحدود التجريبية لمشروعيته"(38).ويظل الذكاء الاصطناعي إطارا مرجعيا يؤمل منه أن يكشف عن "الموسوعةالضمنية" التي "يتعذر بدونها تسويغ بله فهم عملية الانتقال من (م) إلى (ب)"(39).ونستطيع باستقراء "الموسوعات المحلية" بشكل عام أن نفحص الخواص التيتستضمرها الأجهزة التحليلية وما يمكن أن ينعقد بينها من علائق وصلات أوفوارق واختلافات. ومن ثمة يظهر الدور الأساس الذي ستنهض به هذه الموسوعاتالمحلية لتزويدنا بقاعدة مرجعية ملائمة للمقارنة بين التحليلات تشمل"أنظمتها المنطقية-الدلالية"(40) [ التي يرمز إليها بحروف (أمد)]. وتتجاوز الوظيفة الموكولة إلى هذه الأنظمة تخصيص الفرادة النوعية لكلموسوعة على حدة عن كريق إبراز "مضمونها الدلالي وبنيتها المنطقية"(41)في صيغتها الفردية إلى صيغة جمعية تستوعب تشكيلة من الموسوعات المحلية.ويمكن -في تصور جان كلود غاردان- بناء أنظمة منطقية- دلالية أكثر شموليةبحيث يشكل مجموع الموسوعات المحلية "دعامة التفسيرات المختلفة المتعلقةبالأثر نفسه"(42). كما يمكن أن تستغرق الـ (أم د) ليس فقطالرؤى والمنظورات النقدية المتضاربة بل أيضا ما يتولد عن تركيبة العناصرالمستقاة من هذه التفسيرات أو تلط، من رؤى وتصورات أخرى مضافة. وبذلك ينظرإلى تفسير النصوص "كمتوالية من الاختيارات ضمن مجموع الاستدلالات أوالاشتقاقات الممكنة انطلاقا من (م)، تفضي إلى بناء ما من جملة بناءات.وتشكل هذه الاختيارات أساسها الوحيد في نهاية المطاف"(43).ولئن تم استيفاء المكونات الضرورية للتأسيس النظري في مقترح "غاردان" فإنهيلبث مع ذلك مشوبا ببعض القصور الذي يتجلى في افتقاره إلى قاموم ملائملتقويم البناءات. وهو قصور التمس "غاردان" تغطيته عن طريق تبني فكرة"جيلبير ديران" (Gilbert Durand) عن كبيعة الإجراء التقويمي في علاقتهالوثيقة بالمستوى التوليدي للنموذج. "فالقيمة المعرفية للبناء إنما تقاسبقدرته التوليدية وطبيعة مفعولاته"(44). يضاف إلى ذلك مشروعيةاختيار مبادئ خاصة تستلزمها طبيعة البناءات العلمية التي تقرب (م) وتعيدصوغه في نفس الآن. على أن الحسم في حدود تعددية القراءات يبقى مع ذلك مثارتساؤل مادام يهم -في نظرنا- ماصدقية الأنظمة المنطقية-الدلالية المذكورةأكثر مما يتعلق بمشروعية القراءات ذاتها. إنه تساؤل جوهري يستدعي توافرمجموعة من الافتراضات الجديدة لا سيما إذا علمنا درجة الصعوبة التي تكتنفإثبات الضوابط الإجرائية الخاصة بنوعية المنظورات الممكنة لكل (م)، ونوعيةالمقاربات التي تشتغل عليه، وقد حاول "غاردان" الحد من تلك الصعوبةبافتراض البحث عن القوانين التي تحكم الاستثناءات ضمن الموضوعات المفردةللمجموع المتعدد. فإذا كان من المتعذر تصور مجموع بدون أفراد منالموضوعات، فيكون من الصعب تصور علم يقام على أساس موضوعات مماثلة إلا إذاسعى "إلى البحث عن القوانين التي تحكم الاستثناءات"(45). وهنا تكمن إحدى مظاهر إنتاجية السؤال النظري.
إنمقترح "غاردان" يؤطره هاجس البحث عن مفهوم جديد للتلقي يصاغ في ضوئه نموذجهو "نموذج العلم الاسترجاعي" ((Science rétrospective فهذا الأخير يبدأ منحيث ينتهي القارئ. وهاجس من هذا القبيل، لا ينفي الإمكانية النظرية -علىالأقل- لافتراض وجود "قارئ مثالي -أنى تعددت مظاهره وتسمياته- يكون سلوكهموضوع العلم الأدبي"(46).
الهوامش
1 - Modèle in Encyclopedia Univeralis (op.cit) vol(10) p(121).
2- Les critères de vérité dans la recherche scientifique (ouvragecollectif) du colloque de (A.P.U.G) Moloine S. a éditeur 1983 ParisFrance. P (182-183).
3 - المرجع الأسبق ص (125-127)
4- موريس كلافلان: العقلانية والتقدم في مج، الفكر العربي المعاصر. ع64/65،ماي/يونيو 1989، مركز الإنماء القومي، بيروت، لبنان- ص(105).
5 - Jean Pierre Changeux: Modèle et mémoire 1988 Ed. Bedon. Paris France p(44).
6- Jean Petitot: (Thèses pour une objectivité sémiotique) in: Degrés(Revue) 3ème année/N° 42-43 - 1985(A) Bruxelles p (g1) (pagiation parlettres).
(*) René THOM: Stabilité structurelle et morphogénèse. Inter Editions 1977.
7 - Jean Petitot - Cocorda: René THOM et SA (T.C). Universilia (1987) Ency. Univ. France - S.A. p.(638).
قارنبمارثن هيدجر في مقاله "فكرة الظاهراتية والعودة إلى الوعي" (1927) الذينادى فيه بقيام سيكولوجية صرفة تحيل بما هي علم وضعي للوعي، على العلمالمتعالي للذاتية الصرفة. ولأنها "علم وضعي" فإنها "لن تعنى بالمسألة التيتخص بالطريقة نفسها كل العلوم الوضعية، وهي مسألة معنى الكينونة بالنسبةإلى قطاعاتها الأونطولوجية الخاصة" ص(56) من:Cahier de l'Heure: MartinHeidgger. Ed. De l'herne 1983 Paris - France.
8 - بتيتو (1987) ص (638).
9 - René THOM: (La science malgré tout..) in Encyclo. Univ. vol (17). Organum. Novembre (1973). France. P(7).
10 - Tito Tonietti: Catastrofi. 1983. Edizioni Dedalo. Bari. ITALIA. Pp (176-177).
11 - طوم (1973) ص (7)
12 - (ون) (ص ن)
13 - (من) ص (
(*)ينظر باستفاضة مشروعنا العلمي لتأسيس نموذج بنيوي دينامي ضمن رسالتناالجامعية: "الخطاب التكويني/محاولة في تأسيس نموذج" مرقونة بكلية الآداب -جامعة محمد الخامس.
14 - بتيت