|
الخميس, 11 فبراير 2010 19:37 |
التداولية والنظرية النقدية د. معن الطائي تهدفهذه الدارسة الى بحث امكانية توظيف التداولية منهجا للتحليل النقدي للنصالادبي يقوم الى جانب المناهج النظرية النقدية التي تتخذ من النظرياتاللسانية الحديثة منطلقا لمرجعيتها المعرفية والاجرائية في تحليلهاللنص.كما وتسعى الى الكشف عن الامكانيات التأويلية التي من الممكن انيتيحها لنا التحليل التداولي ومدى فاعليته في اضاءة مستويات جديدة من النصالادبي لم تتمكن الدراسات الاسلوبية والشكلية والبنيوية من الوصول اليها ،ثم تحديد الفضاء المعرفي الذي من الممكن ان تكتسب فيه التداولية اهميةخاصة داخل النظرية النقدية لما يعرف بما بعد- البنيوية. لقد كان للتطورات الحاصلة في حقلالدراسات اللسانية اثر حاسم على تبلور ما يعرف الان بالنظرية النقديةالحديثه. حيث حدثت القطيعة مع المناهج النقدية التقليدية مثل الرومانسيةوالانطباعية والطبيعية بدعوى تجاهلها لموضوعها النقدي، وهو النص الأدبي،وانشغالها بعناصر واشكاليات خارج نصية مثل السيرة الذاتية و الدراساتالنفسية والاجتماعية. لقد كان الحدثالأهم تاريخياً هو نشر دراسات العالم اللساني دي سوسير عام ( 1916) تحتعنوان (محاضرات في اللسانيات العامه) والتي ساهمت في وضع أسس نظرية جديدةللدراسات اللسانية، ثم توالى في الثلث الاول من القرن العشرين ظهور مدارسنقدية تعتمد على دراسة العناصر الداخلية للنص الادبي واقصاء اي حقائقخارجية. أهتمت تلك المدارس بالمستوى اللساني للنص على اعتبار انه المستوىالوحيد الذي من الممكن اخضاعه لشروط الدراسة العلمية المنهجية التحليليةوالوصول الى نتائج يمكن التحقق منها علمياً واجرائياً والركون الىمصداقيتها. اذ ظهرت دراسات المنظرون الروس مثل (فكتور شكلوفسكي) و (بوريساخنباوم) و (يوري تاينانوف) فشكلت اساس المدرسة الشكلية الروسية في الربعالاول من القرن الماضي. وفي الحقبة نفسها ظهر (النقد الجديد) في امريكاعلى يد عدد من النقاد الاكادميين امثال (كلينث بروك) و (روبرت مارن) و(جون بورسر) و (الن تيت). وقد كان لمؤلفات الناقد الانكليزي اي.أ. رتشاردزاثراً كبيراً على نقاد مدرسة النقد الجديد او ما يعرف بالنقد النصوصي،خصوصاً كتابه (معنى المعنى) المنشور عام (1922) بالاشتراك مع الناقد سي.كي.اوغدن. وشكلت حلقة براغ نقطة تحول هامة عن الاسلوبية والشكلية الروسيه.فقد انتقلت دراسات هذه الحلقة من مستوى الجملة او الوحدات الصغرى للمظهرالاسلوبي الفردي الى مستوى البنية الكلية التي تتضمن مستوياته التركيبيةوالصوتية و الدلالية. وابرز ما اتفقت عليه تلك المدارسالنقدية هو التركيز على دراسة (الادبية)، وهي مجموعة العناصر الشكليةالداخلية التي تجعل من نص معين نصاً ادبياً. وقد شاع مصطلح (الشعرية)بدلاً من الادبية بتأثير مباشر من كتابات (رومان ياكبسون)، وعرفت دراسته(بعلم الاسلوب الشعري ) التي تسعى الى اكتشاف قوانين النصوص الادبية علىنحو عام (1). وخلال اكثر من نصف قرن من الزمان تزايدت الاتجاهات النقديةذات المرجعيات الاسلوبية والشكلية والبنيوية وتراكم عدد كبير من الدراساتالمهمة التي اخذت تشكل ارثاً علمياً رسم حدودا واضحة لمقاربات نصوصيةتحليلية وطرح اشكاليات جديدة دفعت بالجدل النقدي نحو درجات اعلى منالعلمية والموضوعية. ولعل من ابرز الاسماء التي حققت لنفسها حضوراًمتميزاً في هذا المضمار ، بالاضافه الى الاسماء المذكوره سابقاً، (جانكوهين) و (ميشيل ريفارتير) و (ستانلي فيش) و (رولان بارت) و (تودوروف) و(يوري لوتمان) و (ماكاروفسكي) و (جوليا كريستيفا). وعلى الصعيد النظري استثمرتالمدارس النقدية الحديثة التطورات الحاصلة على دراسة الجملة اللسانيةبمستوياتها التركيبية والصوتية والدلالية. فقد تجاوزت الدراسات اللسانيةالحديثة، من دي سوسير و بلومفيد الى تشومسكي، دراسة (المعنى) في الجملةبسبب عدم امكانية اخضاعه للدراسة العلمية الموضوعية كباقي العناصر الشكليةالتركيبية للجملة، كما يقول تشومسكي(2). وعلى غرار تقسيم دي سوسير،اللساني الشهير، اللغة الى مستويين هما لغة ((Lang و كلام ( (Parl، قسم تشومسكي الدرس اللساني الى القدرة ((Competence والاداء ((Performance. وتمحورتدراساته العلمية حول المظهر المادي للجملة ودراسة اللغة دراسة علمية بحتهتتميز بالتجريد الشديد وتحليل المستويات التركيبية وكذلك اقسام الدماغالبشري التي تتدخل في عمليات فهم وانتاج الفعاليات اللسانية باعتبارهاجزءاً من (القدرة). والتزم البنيويون الأمريكيون بهذا المستوى من الدراساتاللسانية وهو ما يعرف (بعلم القواعد التوليدية). ومع ان معظم العلماء اللسانيينقد اكدوا على دراسة المستويات المحسوسة المتجسده في اللغة، الا انهم لميقصوا (المعنى) كمستوى متحقق من مستويات الجملة. فقد اشار اليه دي سوسيرفي دراساته، وجعله الفيلسوف الامريكي بيرس (1839-1914) مدخلاً لدراسته(علم العلامات)، وكذلك فعل العالم (بنفنست). وأقر تشومسكي بوجود مستويينمتمايزين للجملة وهما (البنية السطحية) او الظاهرة التي تشير الى المستوىالتركيبي او النحوي لها و(البنية العميقة) والتي ترتبط بالمعنى والدلالة.وكمحصلة للدرس اللساني النظري الحديث طرأ تحول جوهري على النظر الى(اللغة) وآليات دراستها وتحليلها. فأصبحت (اللغة) عند سوسير ولغويي براغوالبنائيين الامريكيين (هي نظام من العلاقات، او بمعني ادق مجموعة منالانظمة المترابطة فيما بينها، اذ لا تتمتع العناصر، الاصوات والكلمات،بأية قيمة مستقلة خارج علاقات التعارض او الترادف التي تربطها بالعناصرالاخرى، فيظهر هذا النظام النحوي المضمر في كل لغة من اللغات وعند كلالمتكلمين بهذه اللغة) (3). ومع سعي المدارس النقدية الحديثةفي مطلع القرن الماضي نحو مقاربة علمية ومنهجية للنص الادبي، تحولالاهتمام الى دراسة النص باعتباره محصلة نظام من العلاقات المتشكلة فيبنية ذات طبيعة شمولية. وقد اتفقت هذه المدارس ضمنياً على ان ( المادةالوحيدة التي يطرحها النص الشعري للتحليل هي لغته. هي وجوده الفيزيائيالمباشر على الصفحة او في الفضاء الصوتي، ومن هنا كانت الامكانية الوحيدةلتحليل الشعريه في النص هي اكتناه طبيعة الماده الصوتية و الدلالية، اينظام العلامات، وهي جسده وكينونته الناضجة والتي هي شروط وجوده ايضا)ً(4). وتميزت مقاربة الدراسات التي قامبها نقاد المدرسه الشكلية والروسية للنصوص الادبية باهمال (المعنى) علىغرار ما قامت به الدراسات اللسانيه، مثل تحليل رائد المدرسه الشكلية(شكلوفسكي) لنصوص ادبية متنوعة ومتباينة (كدون كيشوت) و (هاملت) وروايةالكاتب الانجليزي لورنس ستيرن (ترسترام شاندي)(5). واجرائياً اهتمتالمدرسة الشكلية بدراسة ما يعرف (بالأنزياح الأسلوبي)، وهو عبارة عن خرقلمعايير الأستخدام الدلالي للكلمات التي ترد في لغة الحديث اليومي. ويؤكدعلماء النحوعدم جواز حدوث الأنزياح على مستوى قواعدي او نحوي لانه خروجعلى المعيارية النحوية للغة. أما الأنزياح الدلالي فهو كسر شبكة العلاقاتالتقليدية التي تنشأ بين الكلمات خلال عملية استخدامها العادي ووضعها ضمنشبكة علاقات جديدة خاصة بالنص الادبي. (وقد حدده جان كوهين بانه انحراف عنمعيار، هو قانون اللغة الاعتيادية او المألوف، يحمل قيمه جماليه... فهوخطأ ولكنه كما يقول برونو"خطأ مقصود")(6). ان المدرسة الشكلية بتأكيدهاعلى مفهوم (الانزياح) والقيمة الجمالية، تشتغل على المستوى الدلالي منمستويات التحليل اللساني للجمله وليس النحوي أو التركيبي، ومنظورهاالدلالي للكلمات يقوم على اساس انها علامات لا تعني شيئاً بذاتها وليس لهااهمية او دلالة خارج حدود شبكة العلاقات الداخلية التي تنشأ بينها داخلالجملة او النص الادبي. وظل مفهوم الدراسات الاسلوبيةوالشكلية مقتصراً على تحليل المميزات الاسلوبية للنص عن طريق دراسةالجملة. وحتى دراسات الناقد (ميشيل ريفاريتر) الاسلوبية الحديثة فيسيميائيات الشعر لم تتجاوز المظاهر التركيبية و النحوية والدلالية للنصالادبي. ان ظهور مدرسة براغ وطرح ياكبسونلمفهوم (الشعرية) قد ساعد على الانتقال من مستوى الجملة الى مستوى البنية،فبينما اقتصرت الاسلوبية والتشكلية على المستوى الفردي للتجربة الادبيةوالبعد الدلالي متداخلاً مع التأثير الانفعالي في نفس المتلقي، قامت حلقةبراغ، والدراسات البنيوية من بعدها، بالانتقال الى المستوى النحويالعلائقي والنزوع نحو البنية كنظام شمولي من العلاقات الداخلية بين عناصرالنص الادبي، وبذلك ظهرت سلسلة من الدراسات التي تبحث في المستوى الهيكليالعام لنوع معين من النصوص الادبيه، ولعل اوضح مثال على ذلك النوع منالنشاط النقدي النظري الدراسات النقدية السردية التي ظهرت في النصف الثانيمن القرن الماضي. فقد وجد نقاد السردية، وهي فرعمن فروع الشعرية، ان هناك تماثلاً بنيويا بين عناصر النص وعناصر الجملةعلى المستوى التركيبي(7). وقاموا بدراسة (الخطاب السردي)، وهو يقوم علىاقصاء اي مستوى من مستويات (المعنى) او المضمون وتحليل هيكلية البناءالسردي شكلياً والكشف عن طبيعة العلاقات الداخلية التي تربط بين عناصرالسرد، فاطلق على هذا النوع من الدراسات (السردية اللسانية) و أهم ممثليهجيرار جينيت و رولان بارت و تودوروف. وقد ظهر حقل مقابل من الدراساتالسردية حاول اعادة الاعتبار الى اهمية الدلالة والمعنى بالاضافة الىالتحليل البنائي، ويعرف هذا الاتجاه (بالسردية السيميائية)، و يهتم هذاالتيار (بسردية الخطاب، من خلال عنايته بدلالاته، قاصداً الوقوف على البنىالعميقه التي تتحكم به، ومتجاوزاً المستوى اللساني المباشر. ويهدف هذا التيار الى تقديمقواعد وظائفيه للسرد. ومن ابرز اقطاب هذا الاتجاه (فلاديمير بروب) و (كلودبريمون) و(غريماس)(. وبذلك يكون من اهم اهداف الدراسات السردية بشقيها،البنيوي و السيميائي، هو الكشف عن مجموعة القوانين العامة التي تتحكمبانتاج الجملة وهي ما يعرف (بقواعد اللغة). وبذلك تكون المدرسة الاسلوبيةوالشكلية والبنيوية قد تحركت وبشكل متناظر مع اتجاهات البحث اللساني بينالمستويات المختلفة للجملة التركيبي والصوتي والدلالي. غير ان كل تلكالمناهج اللسانية والنقدية لم تستطع تجنب الأشكالية الأهم في الحديث عنعلاقة الدلالة بالسياق. لقد اقصت الدراسات الحديثةاللسانية والنقدية السياق من دراستها لمستويات الجملة.وقامت بعزل الجملةاو النص عن السياق ووضعها بين اقواس نظرية تمهيداً لتحليلها علمياً. ومعتراكم الدراسات وتنوع مجالاتها اللسانية، وصل البحث العلمي الى الضفافنفسها التي غادرها من بدايه القرن الماضي. ولكنه اصبح الان يتمتع بمعرفةمنهجية واسعة وعميقة وشاملة تمكنه من استثمار انجازاته المعرفية في فهمالاشكالية التي تواجهه. اصبح من الواضح ان على المنهج النقدي واللسانيالحديث ان يخوض في مستوى جديد من مستويات الجملة وهو مستوى حاسم على صعيدتحديد الدلالة وفهم تحولاتها وتغيراتها. هذا المستوى الجديد هو الذي يطلقعليه (التداولية). في الستينيات من القرن الماضيتسارعت التطورات الحاصلة في مجال الدراسات اللسانية وطرحت فكرة امكانيةدراسة (المعنى) في اطار نظرية لغوية شكلية. ولقد أنجزت البدايات على يدالفلاسفة وليس علماء اللغة. فقد شكلت دراسات (أوستن) 1962 و (سيرل) 1969نقطة تحول هامة. ومع بداية السبعينيات من القرن الماضي بدأ العلماءاللغويون أمثال (لاكوف) و (فرث) و (هاليدي) التوسع بدراسة اللغة منتقلينمن العناصر النحوية و التركيبية في الجملة الى دراسة المعنى و السياق. ثمتوالت الابحاث مع (جرايس) 1975 و (جيوفري ليتش). الاشكالية من الناحية اللسانيةكانت في أمكانية ادخال دراسة (المعنى) في حقل الدراسات اللغوية الحديثةبشكل عام. وبعد أن قبل تشومسكي، من خلال دراسته، للغموض و المرادفات فياللغة، ادخال و دراسة المعنى كجزء من البنية اللغوية الاساسية للجملة، لميعد بالامكان تجاوز السياق، وبذلك قادت الدراسات المتعلقة بالمعنى أومايعرف بعلم المعاني (Semantics) الى الدراسات التداولية (Pragmatics)(9). لقد وضع تشومسكي أساس المدرسةالبنيوية الأمريكية وشكلت أعماله أقوى الخطوط الدفاعية النظرية لتلكالمدرسة التجريدية. غير أن الكثير من الدراسات بدأ بالظهور مهاجما و ناقدالتصورات تشومسكي اللسانية. فقد نقضت الدراسات السوسيولسانية (Sociolinguistics مفهوم الناطق المثالي للغة ( Ideal Native Speaker). و أكدت الدراسات السايكو- لغوية ((Psycholinguistics علىعملية التطور في اللغة، على العكس مما ذهب اليه تشومسكي، ورفضت نظرياتتحليل الخطاب و تحليل النص التقيد بقواعد الجملة عند تشومسكي. بينما أظهرتحليل المحادثات اللغوية اهمية البعد الاجتماعي في دراسة اللغة. وجاءت الدراسات التداولية لتبتعدكثيرا عن نظريات تشومسكي من خلال دراسة المعنى المتداول في الجملة بدلا منالمعنى المجرد للمفردات المكونة للجملة. ويفترض العالم اللساني (ليتش) أندراسة النحو ( النظام الشكلي المجرد للغة) و التداولية (دراسة اللغة علىأساس ا لتداول او التخاطب) هما حقلان متكاملان في الدراسات اللغوية وليسامتعارضين تماما (10). ويعتمد التفسير التداولي علىالمظاهر الأتصالية للغة، فبينما تكون التفسيرات النحوية شكلية أساسا تتحركالتداولية على المستوى الادائي ( (Functional للجملة.ويعرف (المعنى) في التداولية بالأحالة على المتكلم او مستخدم اللغة، بينمايعرف (المعنى) دلالياً عند المدارس الشكلية و البنيوية على أنه احدى خصائصالجملة في لغة معينة و بصورة مجردة عن اي موقف معين او متكلم او مستمع(11). وهذا التطور التداولي (للمعني)لا يفترض تلازما بين (الشكل النحوي لمنطوق ما وما يحققه من حدث كلامي.فالجمل المتماثلة نحوياً يمكن ان تعبر عن احداث كلام متعددة وبالمقابل،فحدث كلام معين يمكن تحقيقه في اكثر من شكل).على حد قول هايمز. و بذلكيصبح المعنى كامناً في السياق التداولي وليس خصيصة داخلية للجملة. ولتوضيحذلك يتساءل العالم الرياضي واللساني الشهير(فيثغشتاين) (هل بأمكاني ان اقول bububu وانااود القول انه اذا لم يكن الجو ماطرا، فأنني ساخرج في نزهة) ويجيب: "داخلاللغة وحدها نستطيع التعبير عن شيء من خلال شيء اخر" (12). ان التداوليةتتجاوز محددات الدلالة الى دراسة مدى امكانية الكشف عن قصدية المتكلم منخلال احالة الجملة الى السياق التداولي لمعرفه مدى التطابق او اللاتطابقبين دلالة الجملة لسانياً وظروف السياق، ومثلما درست النظريات اللسانيهالسابقه مستويات الجملة التركيبية والصوتية والدلالية للكشف عن مجموعهالقوانين العامه التي تتحم بتحديد دلالة المنطوق سياقياً. وقد حاول كل من(جرايس)و (ليتش) وضع قواعد للتأدب والمخاطبه والمحاورة مستمدة من السياقالاجتماعي والثقافي وتتجسد لسانياً من خلال المنطوق. وان أي خرق أو كسرلمجموعة القوانين السياقية ينتج عنه عدم التماثل بين المنطوق والسياق، وهوما يسمى بانعدام الملائمه السياقيه. ان ما يحدث في حالة غياب الملائمةالسياقيه وهو (خطأ تداولي)، وهذا الخطأ لا يخرق قوانين صوتية او نحوية اودلالية وانما يحصل نتيجة خرق احدى مبادئ محددات السياق الاجتماعيةوالثقافية. وحتى يتوافر عنصر التطابق بينالمنطوق والسياق يجب تأمين عدة شروط تعطي للمنطوق قوته الادائية. فالكلامبالنسبة للتداولية ليس مجموعة جمل متراصفة مع بعضها ولكنه (حدث)،والتداولية بذلك تنقل حقل دراستها من القدرة (Competence) الى الاداء (Performance) بحسب تقسيم تشومسكي. ويرى (سيرل) ان اللغة سلسلة احداث في العالم وكان أول من وضع ما يعرف (بافعال لكلام) (Speech Acts) وتحدد نظرية افعال الكلام ثلاثة مستويات لكل منطوق؛ وهي (فحوى الكلام) (locution) ومقصد الكلام (Illocution) (اثر الكلام) (per locution). وكل منطوق مهما كان يتحدد بهذه المستويات الثلاثه والسياق الذي يحيط بها. ولتوضيح ذلك يورد العالم اللساني(ديفيد كريستال) المثال الاتي في موسوعته: ( اذا نطلق احدهم بجملة "اغلقالباب" فهذا يجب ان يتضمن على صعيد السياق أن الشخص المتكلم أعلى مرتبة منالمستمع، وأن الباب في الغرفه مفتوح اساسا، وأن المستمع بوضع جسدي يمكنهمن القيام بفعل غلق الباب)(13). اذ أن خرق أو غياب أي واحدة من تلكالمحددات السياقية سيحدث حالة من اللاتطابق بين المنطوق والسياق ومن ثميحدث ما يمكن تسميته (بالأنزياح السياقي) فمثلا في حاله التطابق السياقييصبح المنطوق (أغلق الباب) جملة فعية أمرية عادية ، وفي حالة كون: أ-المتكلم اقل مرتبة اجتماعيا او في تراتبية معينة من المستمع فعندها تصبحجملة اغلق الباب ذات مقصدية خاصة تشير الى خرق في قواعد التأدب وتدل علىنوع من الإهانه أو التحقير. ب- البابمغلق اساسا قبل لحظة النطق بالجملة، عندها يشير الخرق السياقي الى انحراففي دلالة الجملة نحو قول ذي مقصديه مغايره لغلق الباب. وقد يكون مقصدالمتكلم "اغلق الموضوع"او "توقف عن الحديت بهذا الموضوع" مثلاً. جـ- المستمع في وضع لا يسمح لهبالقيام بفعل غلق الباب، فقد يكون مقيداً او لا يستطيع التحرك لسبب ما.عندها ايضاً يشير اللاتطابق الى خرق سياقي او انحراف يتمثل في وجود مقصديةمغايرة لدلالة المنطوق الحرفية. وهنالكجمل لا تكتسب دلالتها الا من خلال مكانة الشخص المتكلم، مثل اعلان الحرباو اقامة صلاة او الحكم على متهم، وعند غياب الشخص المناسب اجتماعياً اودينياً او قانونياً او سياسياً يصبح المنطوق مفرغاً من الدلالة. ان كل ما سبق ذكره عن التداوليةفي هذه الدراسة كان قد ورد في العديد من الدراسات والكتب اللسانية سواءباللغة الانكليزية او العربية، وان كان حقل التداولية ما زال يعد حقلاًجديداً على صعيد الدراسات اللسانية العربية. غير ان ما تحاول ان تنفرد بههذه الدراسة هو كيفية نقل آليات التحليل التداولي من المستوى اللساني اوالمجرد الى المستوى الادبي. يوجد هناك عدد من الدراسات في اللغةالانكليزية، و ان كان محدودا جدا، قد تطرق لتطبيقات التداوليه على النصوصالادبيه (14)، وقام النقاد واللغويون في تلك الدراسات بتطبيق نظرياتالتواصلية اللغوية والوظائفية (Communicative and Functional)علىالنص السردي وعلى مستوى الجملة. اما ما تقترحه هذه الدراسة فهو الانطلاقمن نفس مبادئ (الشعرية) كما جاءت عند جان كوهين، وهي عبارة عن (خصيصةعلائقية، أي انها تجسد في النص لشبكة من العلاقات التي تنمو من مكوناتاولية سمتها الاساسية ان كلا منها يمكن ان يقع في سياق اخر دون ان يكونشعرياً، لكنه في السياق التي تنشأ فيه هذه العلاقات، وفي حركته المتواشجةمع مكونات أخرى لها السمة الاساسية ذاتها يتحول الى فاعلية خلق شعرية)(15). ابتداء تقر الدراسة بوجود شبكة علاقات داخليه بين عناصر النص، الذي يعادل الرسالة او(فحوى الكلام) (locution)،غير ان هذه الرسالة لا تحمل اي (معنى) محدد بذاتها الا بعد موضعتها فيسياق تداولي يتضمن المتكلم (المؤلف) او المستمع(المتلقي)، وبذلك يتوافرالعنصران الاخران (مقصد الكلام) (Illocution) وأثر الكلام (Per locution). ويبدأ التحليل التداولي نقدياًمن البحث عن حالة اللا تطابق بين المنطوق و السياق او مايعرف بغيابالمواءمة. وهي هنا ان وجدت تمثل (انزياحا سياقيا) (Contextual Deviation) يماثل(الانزياح الدلالي) الذي تدرسه الدراسات الاسلوبية والشكلية على انه خطأمقصود ذو قيمة جمالية فائضة. وبذلك يصبح (الانزياح السياقي) مصدر(الفجوه:مسافه توتر) على حد وصف الناقد الدكتور كمال ابو ديب، ويمكن انيصبح الانزياح السياقي مؤشراً لقياس مدى الشعرية في النص الادبي تمامامثلما يكون الانزياح الدلالي مؤشراً جمالياً. ومثلما اكد هايمز على عدمالترابط الشرطي بين التركيب النحوي للمنطوق ومايحققه من حدث كلامي، نستطيعالقول ان الأدبية او الشعرية (ليست خصيصة في الاشياء ذاتها بل في تموضعالاشياء في فضاء من العلاقات. بدقه اكبر:لا شيْ يمتلك الشعرية، ماهو شعريهو الفضاء الذي يتموضع بين الاشياء)(16). اي بدلاً من أن يكون النص شعرياًيصبح السياق التداولي هو الشعري. وبهذا يكون حتى الانزياح الدلالي الذيركزت عليه الدراسات الاسلوبية والشكلية كمعطى جمالي ليس خصيصة داخلية فيالنص. فتحديد جمالية النص يخضع لمعيارية ذوقيه ذات مرجعيات اجتماعيهوثقافيه وفرديه. وهذه المعيارية تتشكل في كل عصر بشكل مختلف ومن اتخاذالتحليل التداولي منهجياً نقدياً تطبيقياً يمكن ان نعيد ادخال السياق الىالتحليل النصوصي وذلك بعد ما تم اقصاءه من النظرية النقدية للنقد الجديدوالدراسات الشكلية والبنيوية لوقت طويل. فقد اطلقت عليه الشكلية الروسية(ميتافيزيقيا النص) واستبعدت امكانية دراسته دراسة علمية موضوعية. كماويمكن ردم الفجوه القائمه بين النقد النصوصي والنقد السياقي، اي بينالشكلية والبنيوية وبين الدراسات الماركسية والتاريخية الجديده والتحليلالنفسي. وقد يتبادر الى ذهن القارئ انوجود مثل تلك المدارس النقدية السياقية التي تؤكد على الظروف التاريخيةوالاجتماعية والنفسية لا يدع جديداً امام التحليل التداولي، اذ ان تلكالمناهج النقديه قد سبقت التداولية بالتأكيد على السياق بوقت طويل، غير انالجديد الذي تطرحه التداولية باستخدامها منهجاً نقدياً هو دراسة السياقانطلاقاً من التحليل اللساني للنص. فالتداولية لا تتجاوز مبدأ دراسةالمظهر الفيزيائي للنص الذي يتجسد من خلال اللغة، ولكنها تتحرك الى مدياتابعد من الدلالة المباشرة للكلمات المكونة للمنطوق. اي ان التحرك التداوليينطلق من النص لسانياً الى الكشف عن الانساق الثقافيه والفكريه التي تشكلسياق النص. وتقترح هذه الدراسه كذلك امكانيهاشتغال التحليل التداولي ضمن الفضاء النقدي المعرفي الخاص (بالنقدالثقافي). اذ ان التداولية تهتم بالكشف عن قصدية المتكلم، كما سبق ان ذكر،وفي حالة دراسة النص الادبي فان المؤلف يحل محل المتكلم في السياقالتداولي. وتقوم الدراسات التداولية النقدية باعادة الاعتبار ( لقصديةالمؤلف) كأحد اهم منطقات التحليل التداولي. ان التأمل المعرفي لماهية(قصديه المؤلف) يحيلنا الى (منطقة الوعي) عنده كفرد عاقل يقوم بانجازفعل(وهو انتاج النص الادبي). وقد اكدت الدراسات الايديولوجية والماركسيةالجديدة والمادية الثقافية والتاريخانية الجديدة والنسوية جميعها علىاشكالية مركزية، وهي خضوع وعي الفرد في مجتمع معين وفي لحظة تاريخية معينةلسلطة الخطاب المؤسساتي والذي يمارس هيمنة تتمثل في سلطة الاقصاء والتهميشلبعض المقولات والمبادئ والانساق الفكرية والثقافية التي تعارضه. واذاسلمنا بذلك ندرك ان مصطلح (قصدية المؤلف) يصبح محدوداً جدا من الناحيةالثقافية وان الخطاب الثقافي المهيمن او الانساق الثقافية العامة تصبح هيالمؤلف الحقيقي. ويشير الدكتور الغذامي الى دور الخطاب المؤسساتي في(ترويض الجمهور ودفعهم الى القبول بالانساق المهيمنه والرضى بالتمايزاتالجنسية والطبقية) (17). ان التطابق او الانسجام بين المنهج النقديالتداولي والنقد الثقافي لا يقتصر على صعيد التحليل النظري المنطقي ولكنيتعداه الى المصطلحات المستخدمه نفسها. (فسيرل) يعتبر اللغة سلسلة احداث.اي ان الجملة هي حدث كلامي. بينما يعرف النقد الثقافي النص الادبي على انهحادثة ثقافية (18). للنص اثر فاعل على المستوى الثقافي و الذهني للمتلقييمثل ما يسمى (اثر الكلام) (Per locution)، بينما تتجاوز مقصدية النص القصدية المباشرة للمؤلف (Illocution)، اذ يكون وعي المؤلف جزءا من الوعي الجمعي لطبقته ومجتمعه الواقع تحت هيمنة خطاب مؤسساتي ما، كما أكد ميشيل فوكو. ومما سبق يمكننا ان نقترحباطمئنان الفضاء النقدي الثقافي مجالا لاشتغال اليات التحليل النقديالتداولي للنص. وبذلك يمكن للتداولية مساءلة النص الادبي تماما كما تصورالناقد المابعد- بنيوي (جوثان كلر)(19). أي ان بامكاننا احلال التحليلالتداولي كآلية منهجية علمية محل التأويل المضاعف عند (كلر) لضبط عمليةالتأويل الحر والاعتباطي مع التمتع بنفس الفاعلية على مساءلة النص الادبيوالانتقال من المستوى الدلالي المقيد للتأويل الطبيعي الى مستوى السياقالثقافي والتاريخي والاجتماعي. المراجع: ا- د. بشرى موسى صالح :"المرآة والنافذة"، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 2001، ص16. 2- Geoffrey n. Leech: "principles of pragmatics", Longman 1983, p1 3- نصر حامد ابو زيد وسيزا قاسم (اشراف): "مدخل الى السيميوطيقيا- مقالات مترجمة ودراسات"، دار الياس العصريه- القاهرة، ص354. 4- كمال ابو ديب: "في الشعريه"، مؤسسة الابحاث العربية، ط/لبنان 1987، ص 15 5-Fredric Jameson: "The prison-house of Language", Princeton university press, Princeton n.j.1972, p71 6-د. بشرى موسى صالح: "المرآة والنافذة"، ص13. 7-Roger Fowler: "Linguistics and the Novel", Routledge 1985, p123 8- د. عبدالله ابراهيم:"المتخيل السردي:مقاربات نقديه في التناص والرؤى والدلالة"، المركز الثقافي العربي ط/،199 ،ص 146 9-, p2. "Geoffrey. N. Leech: "Principles of Pragmatics 10-Ibid, p5 11- Ibid, p6 12- أمبرتو ايكو: "التأويل بين السيميائيات والتفكيكيه"، ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي ط/2000 ،ص187 13-David Crystal:" Cambridge Encyclopedia of language", p121 14-راجع مثلا: - Teun A. Van Dijk: "Pragmatics of Language and Literature". - Richard J. watts: "The Pragmalinguisic Analysis of Narrative Texts" 15- كمال ابو ديب: "في الشعرية"، ص14 16- نفس المصدر، ص58 17- د. عبدالله الغذامي: "النقد الثقافي ، قراءة في الأنساق الثقافية العربية"، المركز الثقافي العربي ط/2001، ص 22. 18- نفس المصدر ص 56 19- أمبرتو ايكو: "التأويل بين السيميائيات والتفكيكية"، ص179. - عن مجلة الأدب والفن - |
التداولية والنظرية النقدية
- تاريخ التسجيل : 31/12/1969
- مساهمة رقم 1