[center]
مدخل الى الخطاب (1/2)
غريب اسكندر
بقلم سارة ميلز
ترجمة وتقديم: غريب اسكندر
تعمل البروفسورة سارة ميلز SARA MILLS باحثة في مدرسة الدراسات الثقافية بجامعة شفيلد في انكلترا. وقد قدمت ابحاثا متعددة في الحقول الثقافية العامة، كاللسانيات النسوية ونظرية الادب ونظرية الخطاب الكولونيالي ودراسات في النظرية النسوية. واصدرت مجموعة من الكتب في هذا المجال، ففضلا عن هذا الكتاب (الخطاب) الذي نترجم الفصل الاول منه اصدرت ميلز: خطاب الاختلاف، الكتابة الكتابة النسوية والكونيالية (لندن 1991)، كفاءة الخطاب او كيفية التنظير لنساء قويات (بحث في HY PATIA المجلد67 العدد الثاني، ربيع 1992) والخطابات المفاوضة للانوثة في (JOURNAL OF GENDER STUDIES المجلد الاول، العدد الثالث، ايار (مايو) 1992. والفجوة وخطاب ما بعد الكونيالية في (المجلة العالمية للأدب الانكليزي، المجلد 26 العدد الثالث ، تموز (يوليو) 1995. والاسلوبية النسوية (لندن 1995). واللغة والجنس (هارلو 1995). والنظرية النسوية—ما بعد الحداثة بالاشتراك مع بيرس لين (1996) وغيرها كثير. وتقدم في كتابها هذا الموسوم (الخطاب DISCOURSE) تحليلا منفتحا وشاملا لمصطلح الخطاب، وتكشف عن الافتراض النظري الذي يتضمنه ليزود الدارسين ببعض المفاهيم المهمة المتعلقة بموضوعة الخطاب في مثل: التعريفات المباشرة للمصطلح والتغييرات التاريخية التي طرأت عليه ، وتحليلات دقيقة للكيفية التي استعمل بها ميشيل فوكو مصطلح الخطاب ومناقشة تخصيصاته في النظرية النسوية ونظريات الخطاب الكونيالي وما بعد الكونيالي واللسانيات وابحاث علم النفس وعلم النفس الاجتماعي وامثلة لنصوص ادبية واخرى غير ادبية توضح استعمال الخطاب مصطلحا ومفهوما.
***
اصبح مصطلح الخطاب متداولا وشائعا في مجموعة من الحقول : النظرية النقدية وعلم النفس واللسانيات والفلسفة وعلم النفس الاجتماعي وعدد من الحقول الاخرى، الى حد انه ترك مبهما مرارا، كما لو كان استعماله معرفة مألوفة وبسيطة. وقد استعمل الخطاب بصورة واسعة في تحليل النصوص الادبية والنصوص غير الادبية، موظفا دوما للاشارة الى خبرات نظرية معينة بطرق غامضة واحيانا مشوشة. الخطاب، ربما، له اعرض سلسلة من الدلالات الممكنة من اي مصطلح في النظرية الادبية والثقافية. ومع ذلك كان دائما هو المصطلح الاقل تعريفا عند استعماله في النصوص النظرية. لذلك كان من الممتع ان نقتفي الطرق التي نحاول فيها ان نتحسس ونستوعب معانيه. والطريق الاكثر وضوحا في تعقب هذه السلسلة تكمن في مراجعة المعاجم المعتبرة، لكن تبدو هنا ان المعاني الاكثر عمومية للمصطلح قد وقعت في شرك، نظرا لأن المعاني النظرية، دائما، لها غطاء من المعاني العامة. وقد تنوع تاريخ تطور الاستعمال العام للمصطلح، فلو اخذنا الطريق الاسهل في تاريخه لامكننا رؤية التحول في التركيز من جانب الى جانب اخر في الاستعمال.
الخطاب:
1- تواصل فعلي، حديث أو محادثة.
2- معالجة شكلية لموضوع في الكلام أو الكتابة.
3- وحدة نصية يستعملها اللساني لتحليل ظاهرة لسانية تتسلسل في اكثر من جملة.
4- أما الفعل منه TO DISCOURSE فيعني القدرة على التسبب (تعبير مهجور).
5- وإن جاء بعده حرف الجر TO DISCOURSE ON فيعني ان نتكلم أو نكتب في موضوع معين.
6- لاجراء مناقشة.
7- يقدم (موسيقى) (تعبير مهجور).
الخطاب
محادثة ولا سيما ذات طبيعة رسمية ، وتعبيررسمي منتظم للافكار في الكلام أو الكتابة، فضلا عن ان مثل هذا التعبير يشكل موضوعة أو بحثا... الخ. وهو جزء او وحدة كلام مترابط او كتابة مترابطة. (الوسيط الانكليزي، الخطاب في اللاتينية فعل التدفق ACT OF RUNNING ABOUT) (قاموس لونغ مان للغة الانكليزية 1984).
ان مثل هذا الاستعمال العام للخطاب بوصفه مرتبطا بالمحادثة وذا صلة تصاعدية بموضوع معين اوتفوه قد يكون بسبب ايتمولوجيا الكلمة، ولكن يرجع السبب ايضا الى حقيقة مفادها ان ذلك هو المعنى الجوهري للمصطلح. والخطاب في اللغة الفرنسية ومنذ ستينيات القرن الماضي كان هو الكلمة التي ارتبطت بالتفكير الفرنسي على الرغم من ان المصطلحين الفرنسي والانكليزي لا يطابق احدهما الاخر. لذلك يزودنا القاموس الفرنسي- الانكليزي بالاتي:
1- الخطاب:الكلام في مثل "هذا الحديث جميل".
2- الخطاب: الكلام المباشر وغير المباشر (اللسانيات).
3- الخطاب (في البحث الفلسفي): احد معانيه هو التحدث باسهاب.
خلال ستينيات القرن الماضي بدأ المعنى العام للمصطلح ومعناه الفلسفي مع عدد من المعاني النظرية الكثيرة بالتباعد ولكن بقيت هذه المعاني العامة مهيمنة دوما ومؤثرة على المعاني النظرية بطريقة خاصة. ومن الصعوبة داخل سلسلة المعاني النظرية ان تعرف اين وكيف تقتفي اثر معاني او مقاصد مصطلح الخطاب، قد تساعد احيانا مسارد الشروحات ولكن كثيرا ما يكون السياق الصارم الذي يظهر به المصطلح مهما جدا في محاولة تحديد المعنى الذي نحمل عليه. وهذا الكتاب يهدف الى محاولة تحديد الاطر التي استعمل فيها المصطلح ليقلص قدر المستطاع من عدد المعاني الممكنة له. فعندما يتحدث اللسانيون عن (خطاب الاعلان) يشيرون بصورة واضحة الى شيء مختلف تماما بالمقارنة مع طبيب نفسي-اجتماعي يتحدث عن (خطاب التمييز العنصري).
غير اننا قد نجد ضمن اختصاص معين مقدارا كبيرا من المرونة في نطاق الاشارة لمصطلح الخطاب. ديفيد كريستال على سبيل المثال حاول تحديد مدلول استعمال المصطلح ضمن اللسانيات ووفقا لتباينه بحسب استعماله:
تحليل الخطاب يسلط الضوء على بنية اللغة المحكية الموجودة طبيعيا في مثل المحادثات والتعليقات واللهجات، بينما يركز تحليل النصبنية اللغة المكتوبة في مثل الابحاث والملاحظات واشارات الطريق وفصول الكتب. لكن هذا الفارق ليس واضحا بشكل قاطع وهناك عدد من الاستعمالات الاخرى لهذه التصنيفات ولاسيما ان (الخطاب والنص) يمكن استعمالهما بمعنى اوسع ليضمن كل وحدات اللغة في وظيفة صريحة ومحددة سواء أكانت محكية أم مكتوبة، حيث يتناول بعض العلماء موضوعة (الخطاب المحكي أو المكتوب)بشيء من العناية بينما يتحدث اخرون وبالاهمية نفسها عن (النص المحكي أو المكتوب).
(كريستال 1987).
عرف مصطلح الخطاب مثل اي مصطلح اخر بصورة واسعة، باشياء لا تمت له بأية صلة وباشياء تقع في الطرف النقيض منه. وهكذا فإن الخطاب غالبا ما يشخص بنقاط الاختلاف بينه وبين مصطلحات اخرى مثل: النص والجملة والايديولوجيا بحيث كل واحد من هذه المصطلحات المتعارضة يرسم حدودا لتعريف معنى الخطاب، فمثلا جيفري ليج ومايكل شورت ناقشا ذلك:
الخطاب: هو تواصل لغوي يفهم بوصفه تعاملا او صفقة بين المتكلم والسامع ونشاطا بيشخصيا INTERPERSONAL يحدد شكله مقاصده الاجتماعية.
النص: هو تواصل لغوي سواءأكان محكيا ام مكتوبا يفهم ببساطة على انه رسالة رمزية لوساطه السمعي أو البصري.
(مقتبس من هاوثورن 1992: 189).
ويعلق هاوثورن نفسه على هذا التعارض بين النص والخطاب: يعد مايكل ستوبس (1983) النص والخطاب متطابقين بدرجة كبيرة حينا وحينا يكون هذا التطابق طفيفا. ففي الاستعمالات الاخرى ربما يكون النص مكتوبا، بينما يكون الخطاب محكيا. النص ربما يكون غير متفاعل في حين يكون الخطاب متفاعلا. ويكون النص، ربما قصيرا أو طويلا في حين يتضمن الخطاب طولا معينا، ويجب ان يحوز النص على تناسق ولو سطحيا. في حين ينبغي ان يحوز الخطاب على ترابط اعمق بكثير. اخيرا يلاحظ ستوبس ان هؤلاء الباحثين وبشكل مشوش لم يتفقوا فيما بينهم على اي من هذين المفهومين يمكن ان يمثل النص. (هاوثورن 1992: 189).
يقارن إميل بنفنست الخطاب بنظام اللغة عندما يبين ان:
الجملة ابداع غير محدد لتنوع لا حد له، تمثل حياة الكلام البشري بعينها في التحاور ونستشف من هذا كذلك اننا مع الجملة نغادر ميدان اللغة كنظام للعلامات وندخل الى عالم اخر، انه عالم اللغة بوصفها وسيلة اتصال تعبر عن نفسها بالخطاب. (بنفنست 1971: 110).
هكذا يشخص الخطاب بوصفه حقلا من حقول التواصل، لكنه يسترسل في اظهار اوجه التباين بين الخطاب والتاريخ او التأريخ، الذي تطور بشكل ملفت للنظر وعلى نحو رائع في اللغة الفرنسية اكثر منه في اللغة الانكليزية ويعزى السبب في ذلك الى استعمال ازمنة الماضي المختلفة للتأريخ (تجسيدها وتصويرها) ضمن اطر أو قوالب شفوية بحتة.
ينبغي ان يكون الخطاب بمعناه الواسع: كل تفوه يفترض جدلا، وان هناك متكلما وسامعا وفي داخل المتكلم هناك القصد الذي يعني التأثير في الاخرين بطريقة ما. والتنوع في الخطابات الشفوية في اي موضوع يبدأ من المحادثات الاعتيادية وصولا الى الخطب الاكثر اتقانا. لكن الخطاب كذلك هو الكتابة التي تعيد صياغة الخطاب الشفوي او التي تستعيد اسلوبه التعبيري واغراضه مثل: المراسلات والمذكرات والمسرحيات والاعمال التعليمية (الوعظية DIDACTIC) بعبارة موجزة كل الانواع التي يتعاطاها المرء نفسه متحدثا وينظمها في مقولة شخصية. لايتوافق التمييز الذي نحاول صناعته بين التأريخ والخطاب، مع ذلك هو الذي يمييز اللغة المكتوبة والمحكية، فالتأريخ هو اليوم مدخر لصالح اللغة المكتوبة، لكن الخطاب مكتوب فضلا عن كونه محكيا. في التطبيق يتحول المرء من الذات الى الاخرين بشكل فوري. وفي كل وقت يظهر فيه الخطاب في وسط السرد التاريخي فاننا نعبر عندما يقتبس المؤرخ كلمات شخص ما او عندما يتدخل بنفسه لكي يعلق على الوقائع المروية، نعبر الى نظام متوتر اخر ذلك هو الخطاب.
يبدو هذا وكأنه استعمال خاص للمصطلح لأن عددا من المنظرين يفضلون احيانا الاحتفاظ بالاستعمال الفرنسي (التاريخ/ الخطاب) على الاستعمال الانكليزي له.
بينما يميزه البعض الاخر عن الايديولوجيا كما يبين روجر فاولر:
الخطاب هو كلام او كتابة مدركة من وجهة نظر المعتقدات والقيم والفئات التي تجسدها، فهو إذن يشكل طريقة نظر الى العالم تنظيما او تمثيلا للتجربة- الايديولوجيا في المعنى الطبيعي او المقبول للمصطلح. بينما الاساليب المختلفة للخطاب ترمز الى التمثيلات المتعددة للتجربة، واصل هذه التمثيلات فب السياق التواصلي الذي يكون فيه الخطاب مجسدا. (هاوثورن 1992: 48).
عندما نحاول تحديد الخطاب ربما نلجأ الى مراجعة المعاجم، او السياقات المعتبرة من المحادثات او المصطلحات التي تستعمل كنقيض لمعناه ولكن، وعلى الرغم من كل هذه الستراتيجيات فاننا لا نجد معنى بسيطا وواضحا لهذا المصطلح، بل على العكس ساعدت في تأكيد مطاطية fluidity المعنى فحسب.
من اجل محاولة تقديم بعض الوضوح في تحديد المصطلح يهدف هذا المدخل الى تزويدنا ببعض التعريفات الواضحة والملائمة، مثلما تستعمل بشكل شائع في الدراسات المختلفة. على اية حال فإن المصطلح وكما رأينا بيسر لا يمكن ان يكون ملزما بتحقيق معنى واحد، ويعزى ذلك الى سببين:
احدهما تاريخ المصطلح المعقد. والاخر استعماله في سلسلة من المناهج المختلفة ، كما يعلق ميشيل فوكو:
بدلا من الاختزال التدريجي للمعنى المنفلت لكلمة (خطاب) اعتقد انني قد اضفت بعض المعاني بمعالجته، تارة كميدان عام لكل الحالات وتارة اخرى كمميز او مشخص لها، وكممارسة منظمة تحسب لعدد منها تارة ثالثة. (فوكو 1972: 80).
لو حللنا هذه القضية قليلا فسوف نتمكن من عزل سلسلة المعاني التي انشأها مصطلح الخطاب نفسه داخل اعمال فوكو فكان تعريفه الاول هو الاشمل ((الميدان العام لكل الحالات)) اي ان كل التعبيرات والنصوص التي لها معنى ولها بعض التأثير في العالم الواقعي تعد خطابا. هذا تعريف رئيس واستعمله فوكو بشكل عام بهذه الطريقة ولاسيما في عمله المبكر عندما كان يناقش مفهوم الخطاب في المستوى النظري. ولربما من المفيد لدراسة هذا الاستعمال ان يكون مختصا بمصطلح الخطاب عموما اكثر مما يخص خطابا معينا او مجموعة محددة من الخطابات. ان ما يقصده للتعريفين الثاني والثالث ؛التعريف الثاني هو ما يعطي التشخيص المميز للحالات، وقد استعمل فوكو احد تلك التعريفات كثيرا عندما كان يناقش البنيات الخاصة ضمن الخطاب، هكذا كان مهتما كي يكون قادرا على تعريف الخطاب، ويعني هذا ا الجماعات التعبيرية التي تبدو متماسكة في بعض الاساليب وتملك قوى مشتركة. ضمن هذا التعريف وبناء على ما تقدم فانه من الممكن الحديث عن خطاب الانوثة، وخطاب الامبريالية وهلمّ جرا. وقد يكون التعريف الثالث للخطاب واحدا من اكثر التعريفات رنينا لعدد من المنظرين ((ممارسة منتظمة تحسب لعدد من الحالات)). استنتج ها هنا ان فوكو كان اقل اهتماما بالتفوهات الواقعية/النصوص التي انتجت منه في الاعراف والبنيات التي تنتج تفوهات ونصوصا معينة. انها طبيعة الخطاب المحكومة التي لها اهمية اساسية في هذا التعريف. وقد استعملت هذه التعريفات في معظم اعمال منظري الخطاب بشكل تبادلي تقريبا فالواحد منها يمكن ان يكون مكسوا بالاخر.
على الرغم من ان تعريفات فوكو للخطاب كانت مؤثرة جدا، ولصنع قضايا مركبة الى ابعد الحدود في نظرية الثقافة عموما، كان هو، على اية حال، المنظر الوحيد تقريبا الذي استعمل المصطلح واصبحت التعريفات الاخرى للخطاب في شرك المعاني العامة له. وعلى سبيل المثال يستعمل ميخائيل باختين الخطاب احيانا للدلالة اما عن صوت كما في (خطاب مزدوج الصوت) او طريقة لاستعمال الكلمات التي تفترض سلطة، وهذا الاستعمال متأثر بمعنى الكلمة الروسية (OVOLS) التي تعني (الخطاب). (هاثورن 1992:48).
بالنسبة للنظرية البنيوية وما بعد البنيوية فإن استعمال مصطلح الخطاب قد اشار الى الانقطاع الكبير مع الاراء السابقة للغة وتمثيلاتها، مفضلا ذلك على رؤية اللغة تعبيرية مجردة ناقلا وحاملا للتواصل وشكلا للتمثيل. لذلك يرى المنظرون البنيويون وفي اعقابهم ما بعد البنيويين ان اللغة هي نظام قائم بقوانينه الخاصة وبتقيداته وتأثيراته الحتمية على الطريقة التي يفكر بها الاشخاص ويعبرون عن بها انفسهم، واستعمال مصطلح الخطاب ربما يكون اكثر من اي مصطلح اخر يؤشر هذا الانقطاع مع وجهات النظر السابقة للغة.
وكما ذكرت اعلاه ما يجعل عملية تعريف الخطاب اكثر تعقيدا هي ان الذين يستعملونه لم يقوموا بتعريف اية من هذه المدلولات المعينة، علاوة على ذلك فإن اغلب المنظرين، وكما ساناقش في الفصلين الرابع والخامس ، يقيدون حتى تلك التعريفات الاساسية. ولما هو ضروري لتقرير الاستعمال السياقي الاول في استعمال المصطلح والمعاني التي تكون قد نتجت عنه. اهتم هذا الكتاب بتعيين حدود معاني الخطاب، وفي الفصول التي تلي سأكون مهتمة بثلاثة سياقات للاستعمال: نظرية الثقافة ، واللسانيات ، واللسانيات النقدية/علم النفس الاجتماعي. ولكن ربما من المفيد ان نضع رسماعاما لسلسلة التعريفات والسياقات التي ظهرت فيها، قبل الشروع بتحليلها تفصيليا.
نظرية الثقافة/النظرية النقدية/النظرية الادبية
كان الخطاب عمل فوكو المؤثر في النظرية الثقافية اجمالا وقد استعمل لذلك مزيجا من المعاني المشتقة من الاصلين اللاتيني والفرنسي للمصطلح وتاثيراته (كلام/محادثة) وبشكل اكثر تحديدا، المدلول النظري الذي يرى الخطاب ميدانا عاما للانتاج واحاطة للحالات المحكومة بانتظام. وربما يكون من المفيد التمييز بين الاهتمام العام والاهتمام المجرد النظري للخطاب، وكذلك تحليل الخطابات الشخصية من جهة، أو تصنيف الحالات المنتجة ضمن علاقات القوة من جهة اخرى. في اعمال باختين وكذلك في اعمال رولان بارت، وكما اشرت انفا، يمكن ان يستعمل الخطاب لتمثيل صوت داخل نص أو حالة كلام. أما بالنسبة لمنظرين اخرين مثل بنفنست فالخطاب يكون تمثيلا للوقائع داخل نص من دون اهتمام خاص لتطورها الكرونولوجي في الزمن الواقعي.
اللسانيات السائدة
يدل مصطلح الخطاب عند عدد من المنظرين التقليديين داخل اللسانيات على منعطف يبعد عن الجمل بوصفها نماذج تستعمل نظريا، او كامثلة عن الطريقة التي تنظم بها اللغة، الى التركيز على اللغة في الاستعمال (براون ويول: 1983). بينما ينطوي الخطاب بالنسبة لاخرين على اهتمام بطول النص او القول. لذلك يكون الخطاب النموذج الموسع لنص له بعض التنظيم الداخلي مثل الترابط والتناسق. (سنكلير وكولثارد: 1975- كارتر وسمبسون: 1989).
وبالنسبة لاخرين من اصحاب هذا الاتجاه فالخطاب يكون محددا بسياق يسمونه سياق الحادثة OCCURRANCE لتعبير معين، كما يُرى في خطابات دينية واخرى مهتمة بالاعلانات. وتلك السياقات هي التي تحدد المقومات الداخلية الخاصة بها كما ينبغي.
علم النفس الاجتماعي/اللسانيات النقدية
يستعمل مصطلح الخطاب بالنسبة لعلماء النفس الاجتماعيين واللسانيين النقديين باساليب متنوعة، لكنها جميعا تذوب بالمدلولات المشتقة من اللسانيات السائدة ونظرية الثقافة. لذلك ينزع النفسانيون الاجتماعيون الى توحيد الاهتمام بعلاقات القوة والبنيات الناتجة عن التعبيرات المبتكرة مثل: الرأسمالية أو التمييز الجنسي SEXISM مع منهجية مشتقة من التحليلات المبكرة للخطاب. (وثريل وبوتر: 1992 – ولكنسون وكتزنجر: 1995). وقد نزع اللسانيون النقديون مثل نورمان فيركلوف وبالطريقة نفسها الى الاهتمام بعلاقات القوة وبالطريقة التي تتشكل فيها تلك العلاقات والنصوص لكن منهجيته كانت قد تأثرت باخرتحليلات الخطاب، لذلك يمكنه ان يزودنا بنموذج اكثر تعقيدا للاسلوب الذي يوظف فيه الخطاب والتأثيرات التي يملكها المشاركون فيه (فيركلوف: 1992). وقد انتج هذا المزج بين اللسانيات ونظرية الثقافة وعلى نحو لايمكن اجتنابه تراكما لمدلولات الخطاب وفي كلا الحقلين.
يؤكد هذا الكتاب وبصورة رئيسة على افكار ميشيل فوكو في الخطاب التي تم توحيدها داخل دراسات متعددة وفي اساليب مختلفة. ويقودني هذا بالطبع الى مناقشة عمله بشيء من الايجاز مع تنظير ميشيل بيشو معا، ومن ثم سأخذ بعين الاعتبار الطريقة التي يمكن النظر بها الى الأدب، وعلى نحو نافع ، بوصفه خطابا مرسوما في عمل فوكو. سيكون هذا متبوعا في الفصلين الثاني والثالث باجابات اكثر تفصيلا للاستعمالات التي وضعها فوكو للمصطلح. أما في الفصلين الرابع والخامس فسوف اختبرالتعديلات التي ادخلها منظرو الثقافة على عمل فوكو وعلى الأخص هولاء المهتمين بالنظرية النسوية ونظرية الخطاب الكولونيالي – ما بعد الكونيالي، تلك التعديلات التي صنعت لهذا العمل والطريقة التي وضعوها لمصطلح الخطاب لعمله التحليلي. وبعد ذلك يحلل الفصل السادس الطريقة التي سار فيها الخطاب مسارات مختلفة، وبالنسبة للطريقة التي يعالج فيها الخطاب داخل اللسانيات النقدية وعلم النفس الاجتماعي.
نظرية الثقافة ونماذج الخطاب
كان ميشيل فوكو من اكثر المنظرين اشارة عند مناقشة مصطلح الخطاب. كما وضح ذلك ديان ماكدونيل من ان هناك الكثير من المنظرين الذين حازت اعمالهم على اهمية بالغة في مسألة تنظير الخطاب (ماكدونيل: 1986). وقد ناقش ماكدونيل بتفصيل الفروقات بين التحديدات التي طورها ميشيل فوكو وبارني هندس وباول هيرست من جهة، وتلك التي تبناها لويس التوسير وفالنتين فولوشينوف/ ميخائيل باختين من جهة اخرى. وتستنتج ماكدونيل من ذلك بانها الطبيعة المؤسساتية للخطاب وموقعه في الاجتماعي الذي يكون مركزيا لكل تلك المنظورات المختلفة. وتقرر ان الحوار شرط اساس للخطاب: كل كلام وكتابة اجتماعي (المصدر نفسه: 1). وتذهب الى القول ان الخطابات تختلف مع انواع المؤسسات والتطبيقات الاجتماعية فيما يفترضونه شكلا ومع هؤلاء الذين يتكلمون واولئك الذين يوجه اليهم الكلام، من ثم ان الخطاب لا يكون جمعا غير مجسد لحالات معينة، بل هو ضما لاقوال او جمل، حالات تكون ممثلة وفاعلة داخل سياق اجتماعي التي يعالجها السياق الاجتماعي نفسه وتقدم الوسيلة التي يستمر خلالها بوجوده. وتلعب المؤسسات والسياق الاجتماعي دورا مهما في تطوير وديمومة الخطاب وانتشاره ايضا.
هذه الطبيعة المؤسساتية للخطاب بارزة ولاسيما في عمل ميشيل بيجوكس وفي مناقشة تنظيره للخطاب، تعلق ماكدونيل:
الخطاب بوصفه فضاء خاصاً لاستعمال لغة يمكن ان يكون تعريفه بحسب المؤسسات التي ينتمي لها ومن المواقفَ التي ينبع منها او التي تحدده للمتكلم. لا يوجد الموقف من تلقاء نفسه، ولكن في الواقع، يمكن ان يفهم على انه وجهة نظر يتبناها الخطاب خلال علاقته بخطاب آخر، وبشكل اساس الخطاب المناقض له.
وهكذا لاتحدث الخطابات ولاسيما في عمل بيجوكس (هنا تعني الاقوال/النصوص التي تمتلك قوة او تأثيرا متشابها) لا تحدث في العزلة وانما في الحوار وفي العلاقة بـ او في احوال كثيرة في التباين والتضاد ؛لذلك اضاف الاقوال الاخرى. ونضرب على ذلك مثالا بسيطا هو الطريقة التي نشأ بها الخطاب البيئي كردة فعل للعمل الاقتصادي المسيطر وسياسات التطوير الستراتيجية، وكذلك ردة فعل الكوارث البيئية، بهذا المعنى أُعتمد هذا الشكل الذي طورته الفلسفة البيئية وبدرجة كبيرة على وقائع واطر خطابية خارجة عنها، مع ذلك يمكن ان يثار جدل وبالتساوي على ان سياسات الحكومة مؤطرة بدقة في ردة فعل جماعات الضغط مثل جماعات البيئة. لذلك لكل جماعة حدود نطيقية يحددها لها الاخرون.
جانب آخرهناك هو أن كل آراء الخطاب هذه مشاعة أو مشتركة ؛الامر الذي يعني انهم يعدون الخطاب ليكون قبل كلّ شيء منظما حول تطبيقات الاستثناء في حين أنه يمكننا القول أنه يبدو واضحا وطبيعيا. وهذه الطبيعية نتيجة لما كان قد استبعده العلماء ؛أي ذلك الذي لا يمكن التصريح به تقريبا. ومن ثم يبدو الخطاب واضحا بنفسه عندما نتحدث، مثلا، عن الطمث MENSTRUATION بمعانيه السلبية ووصفها بمصطلحات متشابهة يسجنها ويخفيها بسرية. ومع ذلك ما على المرء سوى ان ينظر الى اعلانات الصمامات والمناشف الصحية ليشعر بهذا الجهد غير المبرر، و الى حد ما يبدو ذلك غير مثير للخلاف اكتشاف النساء الغربيات الطمث عبئا والما يحدد حياتهن الطبيعية، ولكن الحقيقة ان كون هذا الاحساس مرتبطا او مشروطا بضغط خطابي لا يعني ان ليس له وجود في الواقع ؛ووجهة النظر هذه عن الطمث وتجربتها اتيحت باستبعاد الطرق الاخرى، وطريقة النظر هذه الى جسد المرأة يمكن ان تكون جزءاً من الخطاب الطبي لصحة النساء، ومن ضمنها تلك التصنيفات مثل احداث الولادة والطمث بوصفها حالة مرضية في علاقتها بنموذج ذكري مدرك. (شتل وريدكروف). وهذا لا يعني، كما عند شتل وريدكروف، انه ينبغي للنساء أن يحتفلن بالطمث بل تم استبعاد اي تقييم ايجابي لطريقة عمل جسد المرأة. ما حاوله منظرو الحركة النسوية في العمل خلال العشرين سنة الماضية هو التساؤل عن طبيعة تلك البنيات الخطابية المهيمنة داخل ما يبحثه موضوع صحة المرأة من اجل أن تكون هذه الاوضاع الخطابية المبعدة متيسرة ولديها مصداقية.
افرز ماكدونيل عاملا آخر متعلقا بكل تعريفات الخطاب وهو ان كل شيء يدل أو يحتوي على معنى يمكن أن يعد من الخطاب (ماكدونيل 1986: 4). بينما من الممكن أن ينظر البعض الى هذا بوصفه تعريفا مطاطا، وبعيدا عن تعريف الخطاب، وهو يؤكد حقيقة أن الخطابات ليست تجميعا بسيطا لاقوال وبيانات مع انها تتكون من اقوال لها معنى وقوة وأثر في سياق اجتماعي. وكما سنرى في الفصل الثالث ان البيانات - أجزاء بناء الخطاب الاساسية - هي تلك الاقوال أو هي اجزاء النص التي لها تأثير ما، وهي ليست كالجمل ؛بل هي تلك الاقوال التي يمكن أن تُعرف بوصفها مجموعة حول أثر معين، فعندما يقول القاضي: (احكم عليك بثلاث سنوات سجناً) ثمة قدر من النتائج، القاضي، متاح له مؤسسيا للحكم /تلفظه حوّل المتهم الى مجرم وتنفيذ العقوبة المناسبة له. ومن ثم (احكم عليك...) يمكن أن تكون بيانا او جزءاً من خطاب، في حين أن البيان يمكن أن يحوي أثرا فقط عندما ينطق به ضمن سياق اقوال أُخرى، (وهذا يعني اذا قيدته اجراءات معينة) واذا حدثت في اطار قانوني (في قاعة محكمة مثلا وصدرت عن قاضٍ معين).
اللساني الماركسي ميشيل بيشو هو أحد المنظرين الذي من الممكن ان يتواصل عمله مع ميشيل فوكو ولاسيما في عمله المهم عن الخطاب عام 1982 الذي حاول فيه تحليل معاني الكلمات وعلاقاتها ببنيات أكبر من دون الافتراض ان الكلمات والجمل لها معنى في نفسها. وقد اجرى اختبارا سمّي لاحقا (تقرير مانشولت) بعد أن اعطى الطلاب نصا اقتصاديا للقراءة وقال لجمع منهم انه نص يساري ولجمع آخر نص يميني، النص نفسه، عموما، يمكن تصنيفه نصا اقتصاديا معتدلا لكن بيشو رأى ان كل مجموعة قرأت النص بشكل انتقائي لتتطابق مع الاطار السياسي الذي منحه اياها.
بهذا المعنى اعطى شكلا لعمل فوكو في الخطاب عندما قدم مثالا ملموسا للوسيلة التي يشكل فيها الخطاب تأويلاتنا للنصوص. فلو وظفنا خطاب (جناح اليسار) في النصوص الاقتصادية لتأويل نص سنصبغ ذلك النص بمعاني الاطار الاكبر للخطاب. وعمل بيجوكس مهم في أنه يؤكد، أكثر من فوكو، على الطبيعة الخلافية للخطاب، يعني انه دائما في حوار وفي نزاع مع المواقف الاخرى. وهو يؤكد حقيقة أن الصراع الايديولوجي هو اساس بنية الخطاب وقد صنع اضافة مفيدة في التفكير حول الخطاب نظرا لاهتمامه مثل منظرين آخرين كرينيه بالي بار باسئلة المدخل، بينما يحيل فوكو الى التعامل مع فكرة ثابتة لمقترب الخطابات بشكل لائق. وقد أكد بيشو ذلك فمثلا الناس الذين لايتمتعون بامتياز داخل النظام الطبقي بسبب النقص في التعليم والمعرفة وامكانية استعمال شبكة المعلومات ورأس المال ممنوعون وعلى نحو مماثل من سهولة الوصول من الخطابات. وهكذا برغم ان اللغة نفسها من الممكن ان تكون محكية في ارجاء بلد ما (وهذا الامر نفسه مطروح للمناقشة، مثلا، البيئة المتعددة الثقافات بيريطانيا في تسعينيات القرن المنصرم) هناك احساس في ان ما يتكاثر من هذه الهياكل الاستطرادية التي تنتشر في المجتمع ليست متاحة بالتساوي للجميع. مثالا على هذا هو الاستثناءات المتعلقة بالنشر في دورية اكاديمية، نظريا يمكن لأي شخص أن يقدم مقالا لدورية اكاديمية، لكن عمليا سينشر المقال فقط اذا اذعن للقواعد الرسمية لحكم الخطاب وللبنى الموجودة داخل الابحاث الاكاديمية (هذا يعني يستعمل المفردات واللغة الرسمية المعترف بها كلغة مناسبة في مثل هذه الكتابات التي يكتب عنها نقديا في مقالات اكاديمية أُخرى ويشيد بها اكاديميون آخرون في الاعلام لانها تطابق اهتمامات ماينشرفي المجلة المتخصصة وتستعمل مفردات تتفق واياها. مع ذلك، وبصورة عامة، هناك اعراف غير مباح بها UNSPOKEN RULES تحكم نشر مقالة ما من عدم نشرها، وهذه الاعراف تتعلق فيما اذا كان الكاتب موظفا في معهد تعليمي او فيما اذا كان معروفا للمحررين او لمراجعي المقال.. الخ. وهكذا فيما يبدو ان باب النشر مفتوحا للجميع الا انه في الحقيقة هناك عدد من العوائق (المنطقية) والمؤسساتية التي تحصرالنشر الاكاديمي لأولئك الذين يعملون في مراكز اكاديمية، الذين يعرفون اعراف كتابة المقالات الاكاديمية والذين لهم القدرة على ادارة اهتماماتهم ببراعة وفي سطر واحد بمساعدة تلك البنيات الخطابية.
تبني الخطابات احساسنا تجاه الواقع ومفهومنا الشخصي لهويتنا. وعمل بيشو مفيد جدا هاهنا لأنه يمكننا أن نفهم يمكن لاتجاهات في موضوعات أن تصل الى حالة من عدم التطابق ووفقا لذلك نستطيع ان نفهم كيف يمكن لنا كأشخاص بُنينا وتموضعنا، بل كذلك نظمنا لانفسنا حقولا جديدة تتيح لنا أن نبني اتجاهات مختلفة وأكثر تحررا فيما نوجد به. وقد عدت الحركة النسوية مهمة لكثير من النساء في تنظيم ادوار خطابية جديدة للرجال والنساء على حد سواء. هذه القواعد فندتها بشدة تمثيلات الاعلام والتمثيلات التي بنيت خلال ردود فعل الناس على مختلف انواع الصور النمطية. لكن هذا النوع من المعرفة النقدية قد تغير بشكل جوهري وأُعيد تقديمه ليكون موضوعا مجنسا GENDERED SUBJECT. ومن ثم فإن العودة الى الامثلة المتقدمة للطمث يتضح ان الكتابة والفعالية النسوية حول صحة المرأة مكنا الحديث عن الطمث في العلن واتاحا للاعلان عن المنتجات الصحية للمرأة في التلفزيون. والتقييمات النسوية الجديدة للطمث ادت الى عدم تركيز الاعلانات على الناحية المزعجة؛ في الحقيقة يمكن القول أن ضغط الحركة النسوية، اجمالا ، اسفر عن اعلانات عجيبة مثل منتجات بودي فورم وتامبكس، عندما تمارس المرأة الحائض العاب القوى (القفزفي الجو والسباحة واللعب على الشاطئ ودفع السيارات العاطلة) التي ربما لاتكون بارزة في اعلانات اخرى موجهة للمرأة. ومن ثم فإن اللاتطابق النسوي مع الخطابات المهيمنة التي اهتمت بالطمث اسفرت عن تغييرات في تمثيلات الطمث في العلن، وصولا الى تبديل الاتجاهات التي تعنى بصحة المرأة. مع ذلك يدل الطابع المجازي العجيب للاعلان المهتم بالمنتجات الصحية على عجز بارز في تحمل هذه التجربة. الاعلانات مازالت مهتمة بمحو اثار الطمث اكثر من التعامل مع اراء ايجابية للدورة الشهرية.
إذن، فيما يخص بيشو الخطاب لا يوجد في عزلة بل هو هدف وموقع الصراع.
يتبع
مدخل الى الخطاب (1/2)
غريب اسكندر
بقلم سارة ميلز
ترجمة وتقديم: غريب اسكندر
تعمل البروفسورة سارة ميلز SARA MILLS باحثة في مدرسة الدراسات الثقافية بجامعة شفيلد في انكلترا. وقد قدمت ابحاثا متعددة في الحقول الثقافية العامة، كاللسانيات النسوية ونظرية الادب ونظرية الخطاب الكولونيالي ودراسات في النظرية النسوية. واصدرت مجموعة من الكتب في هذا المجال، ففضلا عن هذا الكتاب (الخطاب) الذي نترجم الفصل الاول منه اصدرت ميلز: خطاب الاختلاف، الكتابة الكتابة النسوية والكونيالية (لندن 1991)، كفاءة الخطاب او كيفية التنظير لنساء قويات (بحث في HY PATIA المجلد67 العدد الثاني، ربيع 1992) والخطابات المفاوضة للانوثة في (JOURNAL OF GENDER STUDIES المجلد الاول، العدد الثالث، ايار (مايو) 1992. والفجوة وخطاب ما بعد الكونيالية في (المجلة العالمية للأدب الانكليزي، المجلد 26 العدد الثالث ، تموز (يوليو) 1995. والاسلوبية النسوية (لندن 1995). واللغة والجنس (هارلو 1995). والنظرية النسوية—ما بعد الحداثة بالاشتراك مع بيرس لين (1996) وغيرها كثير. وتقدم في كتابها هذا الموسوم (الخطاب DISCOURSE) تحليلا منفتحا وشاملا لمصطلح الخطاب، وتكشف عن الافتراض النظري الذي يتضمنه ليزود الدارسين ببعض المفاهيم المهمة المتعلقة بموضوعة الخطاب في مثل: التعريفات المباشرة للمصطلح والتغييرات التاريخية التي طرأت عليه ، وتحليلات دقيقة للكيفية التي استعمل بها ميشيل فوكو مصطلح الخطاب ومناقشة تخصيصاته في النظرية النسوية ونظريات الخطاب الكونيالي وما بعد الكونيالي واللسانيات وابحاث علم النفس وعلم النفس الاجتماعي وامثلة لنصوص ادبية واخرى غير ادبية توضح استعمال الخطاب مصطلحا ومفهوما.
***
اصبح مصطلح الخطاب متداولا وشائعا في مجموعة من الحقول : النظرية النقدية وعلم النفس واللسانيات والفلسفة وعلم النفس الاجتماعي وعدد من الحقول الاخرى، الى حد انه ترك مبهما مرارا، كما لو كان استعماله معرفة مألوفة وبسيطة. وقد استعمل الخطاب بصورة واسعة في تحليل النصوص الادبية والنصوص غير الادبية، موظفا دوما للاشارة الى خبرات نظرية معينة بطرق غامضة واحيانا مشوشة. الخطاب، ربما، له اعرض سلسلة من الدلالات الممكنة من اي مصطلح في النظرية الادبية والثقافية. ومع ذلك كان دائما هو المصطلح الاقل تعريفا عند استعماله في النصوص النظرية. لذلك كان من الممتع ان نقتفي الطرق التي نحاول فيها ان نتحسس ونستوعب معانيه. والطريق الاكثر وضوحا في تعقب هذه السلسلة تكمن في مراجعة المعاجم المعتبرة، لكن تبدو هنا ان المعاني الاكثر عمومية للمصطلح قد وقعت في شرك، نظرا لأن المعاني النظرية، دائما، لها غطاء من المعاني العامة. وقد تنوع تاريخ تطور الاستعمال العام للمصطلح، فلو اخذنا الطريق الاسهل في تاريخه لامكننا رؤية التحول في التركيز من جانب الى جانب اخر في الاستعمال.
الخطاب:
1- تواصل فعلي، حديث أو محادثة.
2- معالجة شكلية لموضوع في الكلام أو الكتابة.
3- وحدة نصية يستعملها اللساني لتحليل ظاهرة لسانية تتسلسل في اكثر من جملة.
4- أما الفعل منه TO DISCOURSE فيعني القدرة على التسبب (تعبير مهجور).
5- وإن جاء بعده حرف الجر TO DISCOURSE ON فيعني ان نتكلم أو نكتب في موضوع معين.
6- لاجراء مناقشة.
7- يقدم (موسيقى) (تعبير مهجور).
الخطاب
محادثة ولا سيما ذات طبيعة رسمية ، وتعبيررسمي منتظم للافكار في الكلام أو الكتابة، فضلا عن ان مثل هذا التعبير يشكل موضوعة أو بحثا... الخ. وهو جزء او وحدة كلام مترابط او كتابة مترابطة. (الوسيط الانكليزي، الخطاب في اللاتينية فعل التدفق ACT OF RUNNING ABOUT) (قاموس لونغ مان للغة الانكليزية 1984).
ان مثل هذا الاستعمال العام للخطاب بوصفه مرتبطا بالمحادثة وذا صلة تصاعدية بموضوع معين اوتفوه قد يكون بسبب ايتمولوجيا الكلمة، ولكن يرجع السبب ايضا الى حقيقة مفادها ان ذلك هو المعنى الجوهري للمصطلح. والخطاب في اللغة الفرنسية ومنذ ستينيات القرن الماضي كان هو الكلمة التي ارتبطت بالتفكير الفرنسي على الرغم من ان المصطلحين الفرنسي والانكليزي لا يطابق احدهما الاخر. لذلك يزودنا القاموس الفرنسي- الانكليزي بالاتي:
1- الخطاب:الكلام في مثل "هذا الحديث جميل".
2- الخطاب: الكلام المباشر وغير المباشر (اللسانيات).
3- الخطاب (في البحث الفلسفي): احد معانيه هو التحدث باسهاب.
خلال ستينيات القرن الماضي بدأ المعنى العام للمصطلح ومعناه الفلسفي مع عدد من المعاني النظرية الكثيرة بالتباعد ولكن بقيت هذه المعاني العامة مهيمنة دوما ومؤثرة على المعاني النظرية بطريقة خاصة. ومن الصعوبة داخل سلسلة المعاني النظرية ان تعرف اين وكيف تقتفي اثر معاني او مقاصد مصطلح الخطاب، قد تساعد احيانا مسارد الشروحات ولكن كثيرا ما يكون السياق الصارم الذي يظهر به المصطلح مهما جدا في محاولة تحديد المعنى الذي نحمل عليه. وهذا الكتاب يهدف الى محاولة تحديد الاطر التي استعمل فيها المصطلح ليقلص قدر المستطاع من عدد المعاني الممكنة له. فعندما يتحدث اللسانيون عن (خطاب الاعلان) يشيرون بصورة واضحة الى شيء مختلف تماما بالمقارنة مع طبيب نفسي-اجتماعي يتحدث عن (خطاب التمييز العنصري).
غير اننا قد نجد ضمن اختصاص معين مقدارا كبيرا من المرونة في نطاق الاشارة لمصطلح الخطاب. ديفيد كريستال على سبيل المثال حاول تحديد مدلول استعمال المصطلح ضمن اللسانيات ووفقا لتباينه بحسب استعماله:
تحليل الخطاب يسلط الضوء على بنية اللغة المحكية الموجودة طبيعيا في مثل المحادثات والتعليقات واللهجات، بينما يركز تحليل النصبنية اللغة المكتوبة في مثل الابحاث والملاحظات واشارات الطريق وفصول الكتب. لكن هذا الفارق ليس واضحا بشكل قاطع وهناك عدد من الاستعمالات الاخرى لهذه التصنيفات ولاسيما ان (الخطاب والنص) يمكن استعمالهما بمعنى اوسع ليضمن كل وحدات اللغة في وظيفة صريحة ومحددة سواء أكانت محكية أم مكتوبة، حيث يتناول بعض العلماء موضوعة (الخطاب المحكي أو المكتوب)بشيء من العناية بينما يتحدث اخرون وبالاهمية نفسها عن (النص المحكي أو المكتوب).
(كريستال 1987).
عرف مصطلح الخطاب مثل اي مصطلح اخر بصورة واسعة، باشياء لا تمت له بأية صلة وباشياء تقع في الطرف النقيض منه. وهكذا فإن الخطاب غالبا ما يشخص بنقاط الاختلاف بينه وبين مصطلحات اخرى مثل: النص والجملة والايديولوجيا بحيث كل واحد من هذه المصطلحات المتعارضة يرسم حدودا لتعريف معنى الخطاب، فمثلا جيفري ليج ومايكل شورت ناقشا ذلك:
الخطاب: هو تواصل لغوي يفهم بوصفه تعاملا او صفقة بين المتكلم والسامع ونشاطا بيشخصيا INTERPERSONAL يحدد شكله مقاصده الاجتماعية.
النص: هو تواصل لغوي سواءأكان محكيا ام مكتوبا يفهم ببساطة على انه رسالة رمزية لوساطه السمعي أو البصري.
(مقتبس من هاوثورن 1992: 189).
ويعلق هاوثورن نفسه على هذا التعارض بين النص والخطاب: يعد مايكل ستوبس (1983) النص والخطاب متطابقين بدرجة كبيرة حينا وحينا يكون هذا التطابق طفيفا. ففي الاستعمالات الاخرى ربما يكون النص مكتوبا، بينما يكون الخطاب محكيا. النص ربما يكون غير متفاعل في حين يكون الخطاب متفاعلا. ويكون النص، ربما قصيرا أو طويلا في حين يتضمن الخطاب طولا معينا، ويجب ان يحوز النص على تناسق ولو سطحيا. في حين ينبغي ان يحوز الخطاب على ترابط اعمق بكثير. اخيرا يلاحظ ستوبس ان هؤلاء الباحثين وبشكل مشوش لم يتفقوا فيما بينهم على اي من هذين المفهومين يمكن ان يمثل النص. (هاوثورن 1992: 189).
يقارن إميل بنفنست الخطاب بنظام اللغة عندما يبين ان:
الجملة ابداع غير محدد لتنوع لا حد له، تمثل حياة الكلام البشري بعينها في التحاور ونستشف من هذا كذلك اننا مع الجملة نغادر ميدان اللغة كنظام للعلامات وندخل الى عالم اخر، انه عالم اللغة بوصفها وسيلة اتصال تعبر عن نفسها بالخطاب. (بنفنست 1971: 110).
هكذا يشخص الخطاب بوصفه حقلا من حقول التواصل، لكنه يسترسل في اظهار اوجه التباين بين الخطاب والتاريخ او التأريخ، الذي تطور بشكل ملفت للنظر وعلى نحو رائع في اللغة الفرنسية اكثر منه في اللغة الانكليزية ويعزى السبب في ذلك الى استعمال ازمنة الماضي المختلفة للتأريخ (تجسيدها وتصويرها) ضمن اطر أو قوالب شفوية بحتة.
ينبغي ان يكون الخطاب بمعناه الواسع: كل تفوه يفترض جدلا، وان هناك متكلما وسامعا وفي داخل المتكلم هناك القصد الذي يعني التأثير في الاخرين بطريقة ما. والتنوع في الخطابات الشفوية في اي موضوع يبدأ من المحادثات الاعتيادية وصولا الى الخطب الاكثر اتقانا. لكن الخطاب كذلك هو الكتابة التي تعيد صياغة الخطاب الشفوي او التي تستعيد اسلوبه التعبيري واغراضه مثل: المراسلات والمذكرات والمسرحيات والاعمال التعليمية (الوعظية DIDACTIC) بعبارة موجزة كل الانواع التي يتعاطاها المرء نفسه متحدثا وينظمها في مقولة شخصية. لايتوافق التمييز الذي نحاول صناعته بين التأريخ والخطاب، مع ذلك هو الذي يمييز اللغة المكتوبة والمحكية، فالتأريخ هو اليوم مدخر لصالح اللغة المكتوبة، لكن الخطاب مكتوب فضلا عن كونه محكيا. في التطبيق يتحول المرء من الذات الى الاخرين بشكل فوري. وفي كل وقت يظهر فيه الخطاب في وسط السرد التاريخي فاننا نعبر عندما يقتبس المؤرخ كلمات شخص ما او عندما يتدخل بنفسه لكي يعلق على الوقائع المروية، نعبر الى نظام متوتر اخر ذلك هو الخطاب.
يبدو هذا وكأنه استعمال خاص للمصطلح لأن عددا من المنظرين يفضلون احيانا الاحتفاظ بالاستعمال الفرنسي (التاريخ/ الخطاب) على الاستعمال الانكليزي له.
بينما يميزه البعض الاخر عن الايديولوجيا كما يبين روجر فاولر:
الخطاب هو كلام او كتابة مدركة من وجهة نظر المعتقدات والقيم والفئات التي تجسدها، فهو إذن يشكل طريقة نظر الى العالم تنظيما او تمثيلا للتجربة- الايديولوجيا في المعنى الطبيعي او المقبول للمصطلح. بينما الاساليب المختلفة للخطاب ترمز الى التمثيلات المتعددة للتجربة، واصل هذه التمثيلات فب السياق التواصلي الذي يكون فيه الخطاب مجسدا. (هاوثورن 1992: 48).
عندما نحاول تحديد الخطاب ربما نلجأ الى مراجعة المعاجم، او السياقات المعتبرة من المحادثات او المصطلحات التي تستعمل كنقيض لمعناه ولكن، وعلى الرغم من كل هذه الستراتيجيات فاننا لا نجد معنى بسيطا وواضحا لهذا المصطلح، بل على العكس ساعدت في تأكيد مطاطية fluidity المعنى فحسب.
من اجل محاولة تقديم بعض الوضوح في تحديد المصطلح يهدف هذا المدخل الى تزويدنا ببعض التعريفات الواضحة والملائمة، مثلما تستعمل بشكل شائع في الدراسات المختلفة. على اية حال فإن المصطلح وكما رأينا بيسر لا يمكن ان يكون ملزما بتحقيق معنى واحد، ويعزى ذلك الى سببين:
احدهما تاريخ المصطلح المعقد. والاخر استعماله في سلسلة من المناهج المختلفة ، كما يعلق ميشيل فوكو:
بدلا من الاختزال التدريجي للمعنى المنفلت لكلمة (خطاب) اعتقد انني قد اضفت بعض المعاني بمعالجته، تارة كميدان عام لكل الحالات وتارة اخرى كمميز او مشخص لها، وكممارسة منظمة تحسب لعدد منها تارة ثالثة. (فوكو 1972: 80).
لو حللنا هذه القضية قليلا فسوف نتمكن من عزل سلسلة المعاني التي انشأها مصطلح الخطاب نفسه داخل اعمال فوكو فكان تعريفه الاول هو الاشمل ((الميدان العام لكل الحالات)) اي ان كل التعبيرات والنصوص التي لها معنى ولها بعض التأثير في العالم الواقعي تعد خطابا. هذا تعريف رئيس واستعمله فوكو بشكل عام بهذه الطريقة ولاسيما في عمله المبكر عندما كان يناقش مفهوم الخطاب في المستوى النظري. ولربما من المفيد لدراسة هذا الاستعمال ان يكون مختصا بمصطلح الخطاب عموما اكثر مما يخص خطابا معينا او مجموعة محددة من الخطابات. ان ما يقصده للتعريفين الثاني والثالث ؛التعريف الثاني هو ما يعطي التشخيص المميز للحالات، وقد استعمل فوكو احد تلك التعريفات كثيرا عندما كان يناقش البنيات الخاصة ضمن الخطاب، هكذا كان مهتما كي يكون قادرا على تعريف الخطاب، ويعني هذا ا الجماعات التعبيرية التي تبدو متماسكة في بعض الاساليب وتملك قوى مشتركة. ضمن هذا التعريف وبناء على ما تقدم فانه من الممكن الحديث عن خطاب الانوثة، وخطاب الامبريالية وهلمّ جرا. وقد يكون التعريف الثالث للخطاب واحدا من اكثر التعريفات رنينا لعدد من المنظرين ((ممارسة منتظمة تحسب لعدد من الحالات)). استنتج ها هنا ان فوكو كان اقل اهتماما بالتفوهات الواقعية/النصوص التي انتجت منه في الاعراف والبنيات التي تنتج تفوهات ونصوصا معينة. انها طبيعة الخطاب المحكومة التي لها اهمية اساسية في هذا التعريف. وقد استعملت هذه التعريفات في معظم اعمال منظري الخطاب بشكل تبادلي تقريبا فالواحد منها يمكن ان يكون مكسوا بالاخر.
على الرغم من ان تعريفات فوكو للخطاب كانت مؤثرة جدا، ولصنع قضايا مركبة الى ابعد الحدود في نظرية الثقافة عموما، كان هو، على اية حال، المنظر الوحيد تقريبا الذي استعمل المصطلح واصبحت التعريفات الاخرى للخطاب في شرك المعاني العامة له. وعلى سبيل المثال يستعمل ميخائيل باختين الخطاب احيانا للدلالة اما عن صوت كما في (خطاب مزدوج الصوت) او طريقة لاستعمال الكلمات التي تفترض سلطة، وهذا الاستعمال متأثر بمعنى الكلمة الروسية (OVOLS) التي تعني (الخطاب). (هاثورن 1992:48).
بالنسبة للنظرية البنيوية وما بعد البنيوية فإن استعمال مصطلح الخطاب قد اشار الى الانقطاع الكبير مع الاراء السابقة للغة وتمثيلاتها، مفضلا ذلك على رؤية اللغة تعبيرية مجردة ناقلا وحاملا للتواصل وشكلا للتمثيل. لذلك يرى المنظرون البنيويون وفي اعقابهم ما بعد البنيويين ان اللغة هي نظام قائم بقوانينه الخاصة وبتقيداته وتأثيراته الحتمية على الطريقة التي يفكر بها الاشخاص ويعبرون عن بها انفسهم، واستعمال مصطلح الخطاب ربما يكون اكثر من اي مصطلح اخر يؤشر هذا الانقطاع مع وجهات النظر السابقة للغة.
وكما ذكرت اعلاه ما يجعل عملية تعريف الخطاب اكثر تعقيدا هي ان الذين يستعملونه لم يقوموا بتعريف اية من هذه المدلولات المعينة، علاوة على ذلك فإن اغلب المنظرين، وكما ساناقش في الفصلين الرابع والخامس ، يقيدون حتى تلك التعريفات الاساسية. ولما هو ضروري لتقرير الاستعمال السياقي الاول في استعمال المصطلح والمعاني التي تكون قد نتجت عنه. اهتم هذا الكتاب بتعيين حدود معاني الخطاب، وفي الفصول التي تلي سأكون مهتمة بثلاثة سياقات للاستعمال: نظرية الثقافة ، واللسانيات ، واللسانيات النقدية/علم النفس الاجتماعي. ولكن ربما من المفيد ان نضع رسماعاما لسلسلة التعريفات والسياقات التي ظهرت فيها، قبل الشروع بتحليلها تفصيليا.
نظرية الثقافة/النظرية النقدية/النظرية الادبية
كان الخطاب عمل فوكو المؤثر في النظرية الثقافية اجمالا وقد استعمل لذلك مزيجا من المعاني المشتقة من الاصلين اللاتيني والفرنسي للمصطلح وتاثيراته (كلام/محادثة) وبشكل اكثر تحديدا، المدلول النظري الذي يرى الخطاب ميدانا عاما للانتاج واحاطة للحالات المحكومة بانتظام. وربما يكون من المفيد التمييز بين الاهتمام العام والاهتمام المجرد النظري للخطاب، وكذلك تحليل الخطابات الشخصية من جهة، أو تصنيف الحالات المنتجة ضمن علاقات القوة من جهة اخرى. في اعمال باختين وكذلك في اعمال رولان بارت، وكما اشرت انفا، يمكن ان يستعمل الخطاب لتمثيل صوت داخل نص أو حالة كلام. أما بالنسبة لمنظرين اخرين مثل بنفنست فالخطاب يكون تمثيلا للوقائع داخل نص من دون اهتمام خاص لتطورها الكرونولوجي في الزمن الواقعي.
اللسانيات السائدة
يدل مصطلح الخطاب عند عدد من المنظرين التقليديين داخل اللسانيات على منعطف يبعد عن الجمل بوصفها نماذج تستعمل نظريا، او كامثلة عن الطريقة التي تنظم بها اللغة، الى التركيز على اللغة في الاستعمال (براون ويول: 1983). بينما ينطوي الخطاب بالنسبة لاخرين على اهتمام بطول النص او القول. لذلك يكون الخطاب النموذج الموسع لنص له بعض التنظيم الداخلي مثل الترابط والتناسق. (سنكلير وكولثارد: 1975- كارتر وسمبسون: 1989).
وبالنسبة لاخرين من اصحاب هذا الاتجاه فالخطاب يكون محددا بسياق يسمونه سياق الحادثة OCCURRANCE لتعبير معين، كما يُرى في خطابات دينية واخرى مهتمة بالاعلانات. وتلك السياقات هي التي تحدد المقومات الداخلية الخاصة بها كما ينبغي.
علم النفس الاجتماعي/اللسانيات النقدية
يستعمل مصطلح الخطاب بالنسبة لعلماء النفس الاجتماعيين واللسانيين النقديين باساليب متنوعة، لكنها جميعا تذوب بالمدلولات المشتقة من اللسانيات السائدة ونظرية الثقافة. لذلك ينزع النفسانيون الاجتماعيون الى توحيد الاهتمام بعلاقات القوة والبنيات الناتجة عن التعبيرات المبتكرة مثل: الرأسمالية أو التمييز الجنسي SEXISM مع منهجية مشتقة من التحليلات المبكرة للخطاب. (وثريل وبوتر: 1992 – ولكنسون وكتزنجر: 1995). وقد نزع اللسانيون النقديون مثل نورمان فيركلوف وبالطريقة نفسها الى الاهتمام بعلاقات القوة وبالطريقة التي تتشكل فيها تلك العلاقات والنصوص لكن منهجيته كانت قد تأثرت باخرتحليلات الخطاب، لذلك يمكنه ان يزودنا بنموذج اكثر تعقيدا للاسلوب الذي يوظف فيه الخطاب والتأثيرات التي يملكها المشاركون فيه (فيركلوف: 1992). وقد انتج هذا المزج بين اللسانيات ونظرية الثقافة وعلى نحو لايمكن اجتنابه تراكما لمدلولات الخطاب وفي كلا الحقلين.
يؤكد هذا الكتاب وبصورة رئيسة على افكار ميشيل فوكو في الخطاب التي تم توحيدها داخل دراسات متعددة وفي اساليب مختلفة. ويقودني هذا بالطبع الى مناقشة عمله بشيء من الايجاز مع تنظير ميشيل بيشو معا، ومن ثم سأخذ بعين الاعتبار الطريقة التي يمكن النظر بها الى الأدب، وعلى نحو نافع ، بوصفه خطابا مرسوما في عمل فوكو. سيكون هذا متبوعا في الفصلين الثاني والثالث باجابات اكثر تفصيلا للاستعمالات التي وضعها فوكو للمصطلح. أما في الفصلين الرابع والخامس فسوف اختبرالتعديلات التي ادخلها منظرو الثقافة على عمل فوكو وعلى الأخص هولاء المهتمين بالنظرية النسوية ونظرية الخطاب الكولونيالي – ما بعد الكونيالي، تلك التعديلات التي صنعت لهذا العمل والطريقة التي وضعوها لمصطلح الخطاب لعمله التحليلي. وبعد ذلك يحلل الفصل السادس الطريقة التي سار فيها الخطاب مسارات مختلفة، وبالنسبة للطريقة التي يعالج فيها الخطاب داخل اللسانيات النقدية وعلم النفس الاجتماعي.
نظرية الثقافة ونماذج الخطاب
كان ميشيل فوكو من اكثر المنظرين اشارة عند مناقشة مصطلح الخطاب. كما وضح ذلك ديان ماكدونيل من ان هناك الكثير من المنظرين الذين حازت اعمالهم على اهمية بالغة في مسألة تنظير الخطاب (ماكدونيل: 1986). وقد ناقش ماكدونيل بتفصيل الفروقات بين التحديدات التي طورها ميشيل فوكو وبارني هندس وباول هيرست من جهة، وتلك التي تبناها لويس التوسير وفالنتين فولوشينوف/ ميخائيل باختين من جهة اخرى. وتستنتج ماكدونيل من ذلك بانها الطبيعة المؤسساتية للخطاب وموقعه في الاجتماعي الذي يكون مركزيا لكل تلك المنظورات المختلفة. وتقرر ان الحوار شرط اساس للخطاب: كل كلام وكتابة اجتماعي (المصدر نفسه: 1). وتذهب الى القول ان الخطابات تختلف مع انواع المؤسسات والتطبيقات الاجتماعية فيما يفترضونه شكلا ومع هؤلاء الذين يتكلمون واولئك الذين يوجه اليهم الكلام، من ثم ان الخطاب لا يكون جمعا غير مجسد لحالات معينة، بل هو ضما لاقوال او جمل، حالات تكون ممثلة وفاعلة داخل سياق اجتماعي التي يعالجها السياق الاجتماعي نفسه وتقدم الوسيلة التي يستمر خلالها بوجوده. وتلعب المؤسسات والسياق الاجتماعي دورا مهما في تطوير وديمومة الخطاب وانتشاره ايضا.
هذه الطبيعة المؤسساتية للخطاب بارزة ولاسيما في عمل ميشيل بيجوكس وفي مناقشة تنظيره للخطاب، تعلق ماكدونيل:
الخطاب بوصفه فضاء خاصاً لاستعمال لغة يمكن ان يكون تعريفه بحسب المؤسسات التي ينتمي لها ومن المواقفَ التي ينبع منها او التي تحدده للمتكلم. لا يوجد الموقف من تلقاء نفسه، ولكن في الواقع، يمكن ان يفهم على انه وجهة نظر يتبناها الخطاب خلال علاقته بخطاب آخر، وبشكل اساس الخطاب المناقض له.
وهكذا لاتحدث الخطابات ولاسيما في عمل بيجوكس (هنا تعني الاقوال/النصوص التي تمتلك قوة او تأثيرا متشابها) لا تحدث في العزلة وانما في الحوار وفي العلاقة بـ او في احوال كثيرة في التباين والتضاد ؛لذلك اضاف الاقوال الاخرى. ونضرب على ذلك مثالا بسيطا هو الطريقة التي نشأ بها الخطاب البيئي كردة فعل للعمل الاقتصادي المسيطر وسياسات التطوير الستراتيجية، وكذلك ردة فعل الكوارث البيئية، بهذا المعنى أُعتمد هذا الشكل الذي طورته الفلسفة البيئية وبدرجة كبيرة على وقائع واطر خطابية خارجة عنها، مع ذلك يمكن ان يثار جدل وبالتساوي على ان سياسات الحكومة مؤطرة بدقة في ردة فعل جماعات الضغط مثل جماعات البيئة. لذلك لكل جماعة حدود نطيقية يحددها لها الاخرون.
جانب آخرهناك هو أن كل آراء الخطاب هذه مشاعة أو مشتركة ؛الامر الذي يعني انهم يعدون الخطاب ليكون قبل كلّ شيء منظما حول تطبيقات الاستثناء في حين أنه يمكننا القول أنه يبدو واضحا وطبيعيا. وهذه الطبيعية نتيجة لما كان قد استبعده العلماء ؛أي ذلك الذي لا يمكن التصريح به تقريبا. ومن ثم يبدو الخطاب واضحا بنفسه عندما نتحدث، مثلا، عن الطمث MENSTRUATION بمعانيه السلبية ووصفها بمصطلحات متشابهة يسجنها ويخفيها بسرية. ومع ذلك ما على المرء سوى ان ينظر الى اعلانات الصمامات والمناشف الصحية ليشعر بهذا الجهد غير المبرر، و الى حد ما يبدو ذلك غير مثير للخلاف اكتشاف النساء الغربيات الطمث عبئا والما يحدد حياتهن الطبيعية، ولكن الحقيقة ان كون هذا الاحساس مرتبطا او مشروطا بضغط خطابي لا يعني ان ليس له وجود في الواقع ؛ووجهة النظر هذه عن الطمث وتجربتها اتيحت باستبعاد الطرق الاخرى، وطريقة النظر هذه الى جسد المرأة يمكن ان تكون جزءاً من الخطاب الطبي لصحة النساء، ومن ضمنها تلك التصنيفات مثل احداث الولادة والطمث بوصفها حالة مرضية في علاقتها بنموذج ذكري مدرك. (شتل وريدكروف). وهذا لا يعني، كما عند شتل وريدكروف، انه ينبغي للنساء أن يحتفلن بالطمث بل تم استبعاد اي تقييم ايجابي لطريقة عمل جسد المرأة. ما حاوله منظرو الحركة النسوية في العمل خلال العشرين سنة الماضية هو التساؤل عن طبيعة تلك البنيات الخطابية المهيمنة داخل ما يبحثه موضوع صحة المرأة من اجل أن تكون هذه الاوضاع الخطابية المبعدة متيسرة ولديها مصداقية.
افرز ماكدونيل عاملا آخر متعلقا بكل تعريفات الخطاب وهو ان كل شيء يدل أو يحتوي على معنى يمكن أن يعد من الخطاب (ماكدونيل 1986: 4). بينما من الممكن أن ينظر البعض الى هذا بوصفه تعريفا مطاطا، وبعيدا عن تعريف الخطاب، وهو يؤكد حقيقة أن الخطابات ليست تجميعا بسيطا لاقوال وبيانات مع انها تتكون من اقوال لها معنى وقوة وأثر في سياق اجتماعي. وكما سنرى في الفصل الثالث ان البيانات - أجزاء بناء الخطاب الاساسية - هي تلك الاقوال أو هي اجزاء النص التي لها تأثير ما، وهي ليست كالجمل ؛بل هي تلك الاقوال التي يمكن أن تُعرف بوصفها مجموعة حول أثر معين، فعندما يقول القاضي: (احكم عليك بثلاث سنوات سجناً) ثمة قدر من النتائج، القاضي، متاح له مؤسسيا للحكم /تلفظه حوّل المتهم الى مجرم وتنفيذ العقوبة المناسبة له. ومن ثم (احكم عليك...) يمكن أن تكون بيانا او جزءاً من خطاب، في حين أن البيان يمكن أن يحوي أثرا فقط عندما ينطق به ضمن سياق اقوال أُخرى، (وهذا يعني اذا قيدته اجراءات معينة) واذا حدثت في اطار قانوني (في قاعة محكمة مثلا وصدرت عن قاضٍ معين).
اللساني الماركسي ميشيل بيشو هو أحد المنظرين الذي من الممكن ان يتواصل عمله مع ميشيل فوكو ولاسيما في عمله المهم عن الخطاب عام 1982 الذي حاول فيه تحليل معاني الكلمات وعلاقاتها ببنيات أكبر من دون الافتراض ان الكلمات والجمل لها معنى في نفسها. وقد اجرى اختبارا سمّي لاحقا (تقرير مانشولت) بعد أن اعطى الطلاب نصا اقتصاديا للقراءة وقال لجمع منهم انه نص يساري ولجمع آخر نص يميني، النص نفسه، عموما، يمكن تصنيفه نصا اقتصاديا معتدلا لكن بيشو رأى ان كل مجموعة قرأت النص بشكل انتقائي لتتطابق مع الاطار السياسي الذي منحه اياها.
بهذا المعنى اعطى شكلا لعمل فوكو في الخطاب عندما قدم مثالا ملموسا للوسيلة التي يشكل فيها الخطاب تأويلاتنا للنصوص. فلو وظفنا خطاب (جناح اليسار) في النصوص الاقتصادية لتأويل نص سنصبغ ذلك النص بمعاني الاطار الاكبر للخطاب. وعمل بيجوكس مهم في أنه يؤكد، أكثر من فوكو، على الطبيعة الخلافية للخطاب، يعني انه دائما في حوار وفي نزاع مع المواقف الاخرى. وهو يؤكد حقيقة أن الصراع الايديولوجي هو اساس بنية الخطاب وقد صنع اضافة مفيدة في التفكير حول الخطاب نظرا لاهتمامه مثل منظرين آخرين كرينيه بالي بار باسئلة المدخل، بينما يحيل فوكو الى التعامل مع فكرة ثابتة لمقترب الخطابات بشكل لائق. وقد أكد بيشو ذلك فمثلا الناس الذين لايتمتعون بامتياز داخل النظام الطبقي بسبب النقص في التعليم والمعرفة وامكانية استعمال شبكة المعلومات ورأس المال ممنوعون وعلى نحو مماثل من سهولة الوصول من الخطابات. وهكذا برغم ان اللغة نفسها من الممكن ان تكون محكية في ارجاء بلد ما (وهذا الامر نفسه مطروح للمناقشة، مثلا، البيئة المتعددة الثقافات بيريطانيا في تسعينيات القرن المنصرم) هناك احساس في ان ما يتكاثر من هذه الهياكل الاستطرادية التي تنتشر في المجتمع ليست متاحة بالتساوي للجميع. مثالا على هذا هو الاستثناءات المتعلقة بالنشر في دورية اكاديمية، نظريا يمكن لأي شخص أن يقدم مقالا لدورية اكاديمية، لكن عمليا سينشر المقال فقط اذا اذعن للقواعد الرسمية لحكم الخطاب وللبنى الموجودة داخل الابحاث الاكاديمية (هذا يعني يستعمل المفردات واللغة الرسمية المعترف بها كلغة مناسبة في مثل هذه الكتابات التي يكتب عنها نقديا في مقالات اكاديمية أُخرى ويشيد بها اكاديميون آخرون في الاعلام لانها تطابق اهتمامات ماينشرفي المجلة المتخصصة وتستعمل مفردات تتفق واياها. مع ذلك، وبصورة عامة، هناك اعراف غير مباح بها UNSPOKEN RULES تحكم نشر مقالة ما من عدم نشرها، وهذه الاعراف تتعلق فيما اذا كان الكاتب موظفا في معهد تعليمي او فيما اذا كان معروفا للمحررين او لمراجعي المقال.. الخ. وهكذا فيما يبدو ان باب النشر مفتوحا للجميع الا انه في الحقيقة هناك عدد من العوائق (المنطقية) والمؤسساتية التي تحصرالنشر الاكاديمي لأولئك الذين يعملون في مراكز اكاديمية، الذين يعرفون اعراف كتابة المقالات الاكاديمية والذين لهم القدرة على ادارة اهتماماتهم ببراعة وفي سطر واحد بمساعدة تلك البنيات الخطابية.
تبني الخطابات احساسنا تجاه الواقع ومفهومنا الشخصي لهويتنا. وعمل بيشو مفيد جدا هاهنا لأنه يمكننا أن نفهم يمكن لاتجاهات في موضوعات أن تصل الى حالة من عدم التطابق ووفقا لذلك نستطيع ان نفهم كيف يمكن لنا كأشخاص بُنينا وتموضعنا، بل كذلك نظمنا لانفسنا حقولا جديدة تتيح لنا أن نبني اتجاهات مختلفة وأكثر تحررا فيما نوجد به. وقد عدت الحركة النسوية مهمة لكثير من النساء في تنظيم ادوار خطابية جديدة للرجال والنساء على حد سواء. هذه القواعد فندتها بشدة تمثيلات الاعلام والتمثيلات التي بنيت خلال ردود فعل الناس على مختلف انواع الصور النمطية. لكن هذا النوع من المعرفة النقدية قد تغير بشكل جوهري وأُعيد تقديمه ليكون موضوعا مجنسا GENDERED SUBJECT. ومن ثم فإن العودة الى الامثلة المتقدمة للطمث يتضح ان الكتابة والفعالية النسوية حول صحة المرأة مكنا الحديث عن الطمث في العلن واتاحا للاعلان عن المنتجات الصحية للمرأة في التلفزيون. والتقييمات النسوية الجديدة للطمث ادت الى عدم تركيز الاعلانات على الناحية المزعجة؛ في الحقيقة يمكن القول أن ضغط الحركة النسوية، اجمالا ، اسفر عن اعلانات عجيبة مثل منتجات بودي فورم وتامبكس، عندما تمارس المرأة الحائض العاب القوى (القفزفي الجو والسباحة واللعب على الشاطئ ودفع السيارات العاطلة) التي ربما لاتكون بارزة في اعلانات اخرى موجهة للمرأة. ومن ثم فإن اللاتطابق النسوي مع الخطابات المهيمنة التي اهتمت بالطمث اسفرت عن تغييرات في تمثيلات الطمث في العلن، وصولا الى تبديل الاتجاهات التي تعنى بصحة المرأة. مع ذلك يدل الطابع المجازي العجيب للاعلان المهتم بالمنتجات الصحية على عجز بارز في تحمل هذه التجربة. الاعلانات مازالت مهتمة بمحو اثار الطمث اكثر من التعامل مع اراء ايجابية للدورة الشهرية.
إذن، فيما يخص بيشو الخطاب لا يوجد في عزلة بل هو هدف وموقع الصراع.
يتبع