المحرر | نصوص نقدية | 2010.05.4 1tweetretweet
وقف امرؤ القيس، قديماً في الزمن ، ليرفع صوته بما يمكن أن يكون إجابةلسؤال : ما الذي تفعله كشاعر؟ امرؤ القيس القائل آنئذٍ : نبكي الديار كمابكى ابنُ خذامِ، لم يترك لنا علامة واضحة نهتدي بها إلى ابن خذام، بيد أنهبمقدورنا تخيّل ابن خذام واحداً من شعراء صحراء العرب الكُبرى في فترةالعدمية الحضارية، تلك التي لم تطوّر أدواتها الإبداعية الموازية للشعركالنحت والتدوين، كما كان الحال لدى سكان الشمال، لتحتفظ بتاريخ عاداتهاوثقافاتها في مواجهة الذاكرة مع الزمن. وأيّا كان عمق ابن خذام في التاريخفُهناك ثيمة جامعة بينه وبين رفاق امرئ القيس لخصها الأخير بالقول ” نبكيالديار”. وهي ذات الثيمة الشعرية التي ينتظم تحتها شعراء العالم، باختلافأجناسهم وثقافاتهم وذاكراتهم. مضافاً إليها جملة واسعة من الثيماتالإنسانية، بالطبع، كالفقد والحزن والموت والحب والألم والنشوة ، وما إلىذلك من ثيمات افترض د. بدوي طبانة في كتابه عنالسرقات الأدبية انحصارها ما بين 33 إلى 35 ثيمة. وإذن فنحنُ، الشعراء،نكتبُ تحت العناوين العريضة ذاتها، مهما اختلف الشكل الكتابي، أو تباعدتالأزمنة. أي أننا لا نزال نقول مع الهلالي: إن منزلاً نأت به هندٌ إليّبغيضُ، بمعنى من المعاني. ونرتبِط في شبابنا الشعري بثورية السليك بنالسكلة وثابت بن قيس وعروة بن الورد. حتى أننا ، في الكثير من انفعالاتناالكونية في النص، لا نكاد نقول أبعد من مقولة ابن الورد: إني امرؤ عافي.إنائي شركةٌ ، وأنت امرؤٌ عافي. إناؤك واحدُ. تحت وجع الضمير الإنسانيذاته، المتناهي إلى الثيمة البشرية ذاتها : التوق إلى العدالة، الذييكتُبه بابلو نيرودا أو عفيفي مطر ، أو أي شاعر يجد نفسه في مواجهة حتميةمع البهيموث الجديد : الرأسمالية العالمية، والدم السائل من أعلى بابالكون.
وحتى في اشتباكات الشاعر التجريبية مع الشكل الكتابي ومحاولاته الدؤوبةلتخليق أشكال كتابية جديدة، فهو لا يتجاوز الهاجس ذاته لدى الشاعر العربيالقديم. ففي التاريخ ، يدخل حسان بن ثابت على ولده فيبصره وهو يبكي.وعندما سأله عن السبب أجاب الطفل: لسعني طائرٌ كأنما دخل في بردي حبرة. فيتلك اللحظة تهللت قسمات حسان فهتف: قال ابني الشعرَ ورب الكعبة. حسان،كشاعر، وناقد له حضوره المؤكّد في المواسم الشعرية العربية الكبيرة مثلسوق عكاظ ، لم يكُن يغفل اشتراطات القصيدة العربية على صعيد الشكل، لكنّهكان يكتم بداخله حنيناً إلى القول الشعري بعيداً عن الالتزامات الشكليةالتي ليست بالضرورة مكوّناً حقيقيّاً في النص الشعري. حسّان ، هُنا ، يتفقحسّان مع الضمير العالمي للشعراء، مع الجوهر الشعري الذي يشبه الماءوالنار، والأرض والهواء .. الذي يشبه العالم، كما يقول خمنيث. فمثلاً إذاأردنا أن نذهب إلى أقاصي الجنوب الغربي من هذا الكوكب، أمريكا الجنوبية،سنجد رامون خمينث يتفق مع حسان تماماً في وعيه بالعمل الشعري : الشعرجوهري، وما هو جوهري لا يكون وزناً ولا مبالغة ولا صناعة. وهُنا ، فيإنسانية العمل الشعري ، في جوهره الفرد المجاوز للدالة الزمَكانيّة ،تتعالق النصوص الجديدة ، الإبداعية ، مع التراث الشعري القديم وتمتد منهإليه، غائراً في الصحراء وعميقاً في الإنسان، مهما اختلفت طرُق القول.أي أن الشاعر الجديد الذي يعيش في القرن الواحد والعشرين، ينتمي بصورةما إلى جهاز الشعرية العربية القديم بحسبانه يدور في ذات الثيمة الإنسانيةمنذ ابن خذام، ويسكنه ذات الهاجس الكوني لمناهضة اللامساواة والظلم ،ويتوق إلى تجريب أشكال تعبيرية حديثة يمكن أن تجلب معها حظوظاً جديدة منالكفاءة التعبيرية، كما فعلت قصيدة التفعيلة ، ثم قصيدة النثر .. وتنتابهذات البهجة التي انتابت حسان بن ثابت عندما يقف على طرائق تعبيرية جديدةبطاقة كمون تعبيرية عالية، تعودُ به – كما هو جوهر الشعر – مرّة أخرى إلىناقف الحنظل، غداة البيّنِ يوم ترحّلت فتاته، وليس أبعَد. وهو بهذاالتجريب لا ينبتّ عن الشعرية العربية القديمة ولا عن أسسها، لأنه لا يكتبُفي الهواء الطلق. فالكتابة الجديدة هي محاولات من داخل الفضاء الموجودسلفاً، وهو الشعر. وأي محاولة لنسف القديم ، بحسبانه مجرّد شكل أسقطتالعادة لذّته .. دون وعي لمعادلات النص الشعري التراثي الداخلية والخارجية، هي تهشيم للذات المنتظمة في النسق الكائن والموجود، الشعر. لأن القضاءعلى الذاكرة ليس نشاطاً حداثيّاً، بالمرّة. فالتراث الشعري العربي ساعد فيتشكيل ذاكرتنا اللغوية والجمالية، وغذّى الأنوات الشعرية العربيّةبمحتوياته من الأسطورة والحكمة والتطلّع إلى ميتافيزيقا الوجود. وما زاليمدها حتى هذه اللحظة بمحتواه الضخم من الصورة والإشارة. أي أنه ترسّختماماً في منطقة خاصة من اللاوعي، أسماها كارل جوستاف يونج : اللاوعيالجمعي، أو الأنماط العليا. وهي واقعة تحت منطقة اللاوعي الشخصي، التيوصفها فرويد قبل ذلك. هذه المنطقة الصامتة ، اللاوعي الجمعي ، هي ذاتالمنطقة التي اعتمد عليها النقد الأسطوري في مقارباته للعمل الشعري، بوصفهمجرد حيود ما عن الأسطورة التي سكنت الذاكرة الثقافية، وأن مهمة النقد –فقط – قياس درجة الحيود هذه . حتى تجرّأ النقد الأسطوري على القول : ليسهُناك شعر جديد، هُناك فقط شعراء جدد، كما تحدّث وهب رومية في ” شعرناالقديم ونقدنا الحديث”. وربما كان هذا هو ما أراده المتنبي وهو يتحّدث عنتطابق المعنى الشعري بين شاعرين لم يسبق أن سمعا من بعض : الشعر جادةوربما وقع الحافر على أثر الحافر. فكأنه كان يشير إلى نمط عالٍ، تحكّمي،مشترك يصدر عنه الشعراء، فيما يمكن أن يكون تأصيلاً نقديّاً للأسطورية.وأيّاً يكنِ المعنى هُنا، فما يمكن الحديث عنه، في سياق موضوعتنا عن علاقةما نكتبه بالتراث الشعري العربي، هو حضور هذا الموروث في لاوعينا الجمعيوالشخصي، وفي وعينا أيضاً. حتى أن الذاكرة العربية ، التي توصف من قبلكثيرين بأنها ذاكرة صوتية، هي ذاكرة شعرية في صورتها الغالبة. وإذااتّجهنا، على طريق الحديث ، إلى كاتب معروف مثل بول فالير . حاول فاليريتفكيك العقل الأوروبي فأرجعه إلى ثلاث مكوّنات أساسية : التراث الفنيوالفلسفي اليوناني ، والتراث السياسي والفقهي الروماني، مضافاً إليهماالمكوّن الأخلاقي المسيحي. وكذلك الحال بالنسبة للعقل العربي، والعقلالعربي المبدع ليس استثناءاً ، يحضر التراث الشعري العربي في تأسيسهوتشكيله بعمق. المعنى الذي دفع ناقداً ، د. جابر قميحة ، إلى القول علانية: لم تقولوا أكثر مما قاله المنخل اليشكري “وأحبها وتحبني ويحب ناقتهابعيري” في إحدى ندوة عن الأصالة والحداثة، في منتدى المثقف العربي.من زاوية أخرى، ومن واقع تجربة كتابيّة وقرائيّة ، فإن انفتاح النصالجديد على النص الشعري القديم ، أو التراث الشعري العربي، يمكن تقصّيه /حضوره في أكثر من بُعد. فهُناك البعد الميتافيزيقي، والأخلاقي ، والأسطوري، والصوفي ، والفلسفي، وكلها أبعاد تحضر وتشتبك بالنص الذي أكتبه بدرجة أوبأخرى، في حين يتحوّل النص، في أحايين كثيرة، إلى لوحة فسيفسائية لمجموعةمن النصوص المُذابة والممتصة فيه .. يحدثُ هذا غالباً في البداياتالكتابيّة ، حيث تكوّن الأبوة الشعرية ، أو المثل الأعلى الشعري ، مسيطرةًإلى حد كبير على طريقة قول الشاعر وحتى مدلولاته الشعرية. وبعد أن يتشكّلالقوامُ الشعري، يعاودُ الشاعر تمشيته في الذاكرة، حيثُ يسكن جنّ الشعراءالسابقين كما زعم ابن شهيد الأندلسي في التوابع والزوابع، ليتناص مع هذا،ويتقاطع مع الآخر. فيحضر عنترة العبسي في ” البكاء بين يدي زرقاء اليمامة” لأمل دُنقل، ويقف المنخل اليشكري وطرفة بن العبد على شواهد درويش بينمايعيش عبد الصبور الحلاجَ ومجنون ليلى. وكذلك هو الحال في التجربةالشبابية، وفي كتاباتي بالتحديد، خصوصاً تلك التي لم تتعرف على أبي نواسعبر وسيط ثالث ، مثل بودلير كما فعل أدونيس ، ولا إلى أبي تمام عبر مالاراميه. بل تحسسته بنكهته العربيّة، وشعريّته المدنية الجديدة، بعد أنقضى الشعر قروناً في الصحراء. وفي الكتابة نفسها، تختصم التجارب بينالبحتري وأبي تماما، فتتعالق النصوص الفلسفية الجديدة مع نصوص الأخير،بينما يرفع مريدو الأوّل أصواتهم بمقولته الرافضة لإغراق الشعر في الفلسفة: كلفتمونا حدود منطقكم ، فالشعر يغني عن صدقه كذبُه. ويتجسّد البعدُالصوفي في النص الجديد بصورة أكثر جلاء، في محاولات اتصال المتناهيباللامتناهي، للإفلات من قسرية المادة وخواء العالم من القيمة والمرجعيّة.وستكون، بالتأكيد، شعرية عبد الجبار النفّري وابن الفارض زوّادة لغربةالشاعر العربي المعاصِر. والصوفية ،في الذاكرة العربية ، ليست بعيدة عنالسوريالية في الذاكرة الأوربيّة، فكلتاهما تتقاطعان في التجريد ،كمايعتقد صلاح فضل، وكلتاهما مارستا التشفير والترميز ونزع الدلالات اللغوية– الصوفية بالتحديد – المتصلة بالجنس والعشق والخمر، لأجل ربطها بدلالاتفائقة وجديدة، كما يذهب د. عبدالرحمن القعود. ويستمر عمل الذاكرة، التراثالشعري العربي، في النص الجديد عند مستويات أخرى، غير البعد الفلسفيوالميتافيزيقي، كالأسطورة. وإذا أمكن تعريف الأسطورة بوصفها الرمز الذيتخلقه ثقافة ما للتعبير عن حقائقها الوجودية والكونيّة، فالذاكرة العربيةالتي أبدعت أسطورة ” وادي عبقر” و ” الرائي الشعري ” لا تزال حاضرة حتىاللحظة في الكتابة الجديدة، تعيد تشغيل هذه الأسطورة بشكل أو آخر. وربمابنفس طريقة قول امرئ القيس : تخيرني الجن أشعارهن ، فأختارُ من شعرها ماأشاء.وكما قدّمت في المقالة، فإن الشعرية الحقيقية التي اشتبكت مع التُّراثالشعري العربي في بداياتها الكتابية ، وكوّنت مخزونها اللغوي والجماليوالدلالي، لا تزال تشتبك معه عند مستويات أعلى من تقنيات الكتابة، بصورةتعطي فرصة وافرة لدارسي سيموطيقيا التناص للتوفّر على نماذج صافية. ومعذلك يحاول النص الجديد أن يؤسس لهويته وسط هذه الشبكة الهائلة التي لاحدود لها من النصوص الشعرية العربية المشتبك معها ، والتي تجري عملياتامتصاصها وتذويبها بفعل من تحكمية اللاوعي الجمعي ، أو الأنماط العُليا،كما افترض كارل غوستاف يونج.—————————-* للتواصل مع الكاتب :thoyazan@hotmail.com