النص الســردي وطــرائق تحليله
النص الســـــردي وطـــــرائق تحليلــــه
تحمسالنقاد، ودارسو الأدب في الستينات، في فرنسا، تودوروف، وبارت، وجريماس،وجينيت، وكريستييفا وغيرهم للبنيوية، وتدعيمها؛ سيما وأنهم اعتبروا(الأدب) شكلاً من أشكال النشاط الاجتماعي، والثقافي، ويحتمل التحليلالبنيوي اللغوي، والعلامي؛ ولذلك راحوا يميطون اللثام عن (المنظومةالدلالية) التي وراء الأدب، يستهدون في ذلك باللغة؛ وأنه مثلما(المعنى) فياللغة لا يعود فقط إلى المتكلم، وإنما يعود إلى المنظومة اللغوية ككل،فكذلك الحال في الأدب، حيث المنظومة الدلالية هي الأساس..
العنصر اللغوي في التحليل البنيوي
هذهالطموحات البنيوية ساعدت على تطوير (نموذج سردي) استناداً إلى (النموذجاللغوي)؛ ولا عجب، فمسألة اللغة تتصل اتصالاً وثيقاً بالبنيوية، وما هيتصطنعه من (نمذجة)؛ كما أن الإمكان الهائل الذي يوفره (العنصر اللغوي) فيالتحليل البنيوي جعل مقاربة (الأدب) تتحلى بالعناية العلمية بالعلاقات،الشكل، والعناية على الخصوص بتقري المنظومات الدلالية الفاعلة في الأدب؛ناهيك بأن التحليل اللغوي نفسه ظل مثالاً للتحليل البنيوي(1).
* *
إن(الأدب) باستخدامه اللغة يظل متميزاً عن الاستخدامات الأخرى للغة؛ لأنه،كنتاج إبداعي، يستطيع التحرر من (المرجعية)، وبالتالي يجعلنا بسبب تحررهمن المرجعية، نعي طبيعة اللغة أكثر.. وعملياً، يتكوّن (الأدب) من اللغة،وهو لذلك ينطوي على التوعي للتنظيم اللغوي؛ ويقول (تودوروف): - إن كل مايفعله الكاتب هو قراءة اللغة- ، بمعنى أن الأدب هو حديث عن اللغة نفسها؛بل إن (الأدب) بتحررّه من الالتزام الدلالي يظهر تفوق (اللغة) على غيرهامن النشاطات..
وهذا أيضاً(2)، ما يعنيه (بارث) عندما يقول إن الأدبيمثل - سيادة اللغة- ؛ فاللغة، كما يقول أيضاً (بارث): - هي وجود الأدب،هي عالمه الخاص، والأدب بكامله قائم في عملية الكتابة، وليس في عمليةالتفكير، أو التصوير، أو الإخبار، أو الشعور- ، عن العلم في مقابل الأدب؛وعلى هذه الشاكلة يصبح (العمل الأدبي)، كما يقول أيضاً بارث: - سؤالاًمطروحاً على اللغة- ، عن نقد وحقيقة..
في الأدب، لا تكون اللغة مجرد(وسيلة اتصال)، إذ هي في الأساس (وسيلة تعبير)، وتحمل مضامين معيّنة يريدالأديب الإفصاح عنها، بصورة مباشرة، أو غير مباشرة؛ و(المقاربة البنيوية)رغم أنها بتركيزها على المنظومات الدلالية، تنحّي جانباً مسألة المضمون،وتعطي الأولوية للغة نفسها؛ فبمقدار ما نقول أن للأدب مضموناً، تظل(اللغة) هي مضمون الأدب؛ ويظل الأدب، كما يقول (تودوروف): ضرباً منالتوسيع، والتطبيق لخصائص لغوية معينة- ، عن بويطيقا النثر..
النص الفردي
وهناتبرز مسألة (النص الفردي)، أي العمل الأدبي الواحد الذي ينتجه الأديب،وصلته باللغة، أو المؤلف، أو الواقع؛ وفي رأي (تودوروف): - إن (النصالفردي) هو الوسيلة التي يمكن للمرء من خلالها أن يصف خصائص الأدب، بصورةعامة- ، عن البويطيقا..
هذا الموقف من النصوص الأدبية، ودراستها،أطلق عليه النقاد، والدراسون الألسنيون مصطلح (بويطيقا)، أي الفنيةالشعرية الأدبية للنص عامة.. وفي نظرهم، أنه مثلما يتعين على الألسنية أنتكون قادرة على تعليل بنية جمل لم تلفظ بعد، فكذلك على البويطيقا أن تفسر(القواعد) التي تتحكم بأعمال أدبية لم تكتب بعد..
وفي رأي هؤلاءالنقاد، والدارسين الألسنيين، أن (قواعد) الأدب عامة التي تكون ظاهرة،بصورة جزئية، في أي عمل فردي، هي موضوع البويطيقا؛ ويقول (تودوروف): - فيهذه الحالة ينظر إلى كل عمل أدبي باعتبار أنه مجرد تجلّ لـِ(بنية مجردة)،وباعتباره واحداً من تجسيدات عديدة، ومختلفة لهذا التجلي.- ..
ولذلكحرصت البويطيقا على التمييز الذي كان ميّزه (دي سوسُور) بين اللغة،والكلام، بحيث أنه، كما أن الألسنية تعنى بمنظومة اللغة ككل، وليسبالكلام؛ فكذلك تنظر (البويطيقا) إلى النصوص الفردية على أنها أمثلة على(كلام) يسترشد بقواعد تنتمي إلى لغة أدبية عامة، وتبحث، أي البويطيقا،بالتالي عن (النماذج المجردة) التي وراءها..
القراءة، والنقد، والبويطيقا
هذهالنقلة إلى الاهتمام في دراسة النص الفردي بـ (قواعد الأدب) عامة، أحدثتوعياً بأنماط الحديث التي تتعامل مع الأدب، وهي: - القراءة، والنقد،والبويطيقا- ؛. وفي كتابه نقد وحقيقة، يضع (بارث) الخطوط العريضة، التيللتمايزات بين هذه الأنماط، ويرى أنه:
(القراءة) عملية اندماج معالعمل الأدبي، وهي لا تعدو تكراراً لنص ما.. في حين أن، (النقد) يضعالناقد على بُعْد معيّن من النص مع جهد فعلي إلى بناء معناه، جهد إلىالخروج بتفسير للنص، يمثل جانباً من الإمكانيات الكامنة فيه..
* *
وذلكأنه بفعل غياب أية ضمانة يمكن أن يوفرها (المؤلف) لنصه فيما يتعلقبمضامينه، وهو (الغياب) المترتب على تجنب كل قصد لدى المؤلف، فإن (وظيفةالناقد) لم تعد تقتصر على استرجاع معنى النص، وإنما سمحت له بالعمل علىنزع (مركزية الذات) في النص، والاهتمام بـِ(البنيات الدالة) فيه،والعلاقات العلامية(3)...
وهكذا درج البنيويون يرون في (المعنى)نتاجاً لنظم، وأعراف، ومنظومات (دالة).. فقللوا من دور (المقاصد) الفردية،و(المعاني) الخاصة عند المؤلف؛ سيما، وإنهم راحوا يرفضون أن يكون للنصمعنى أحادياً؛ وإنما يقوم العمل الأدبي على (تعددية) المعاني، وعلى النقدالنوعي لهذه التعددية، أكثر فأكثر..
ويقول (بارث)، إن (الأدب) يقومعلى - تعددية المعاني بالذات- ؛ ثم يضيف: - إن الكلمات لو كانت لا تحملسوى (معنى قاموسي واحد، لما كان هناك أدب؛ وإنما العمل الأدبي (أزلي)،وليس لأنه يفرض معنى وحيداً على أفراد مختلفين؛ وإنما لأنه يوحي بمعانٍمختلفة للشخص الواحد- ، عن نقد وحقيقة...
إن (البويطيقا)، أي الفنيةالشعرية الأدبية للنص عامة، هي أكثر وعياً بهذه (التعددية) من كل منالقراءة، والنقد، رغم إمكان وجود قراءة، ونقد تعدديين..
وذلك أن(البويطيقا) تهتم، ليس بمضمون الأدب، وإنما تهتم بـ (الطرائق) المختلفةالتي استناداً إليها ينتج (النص) في الأدب؛ وهو ما انعكس على الخصوص فيمجال: - نظرية السرد- ، التي أولاها النقاد، والدارسون الألسنيون عنايتهم،وانتهوا إلى تقرير (نموذج سردي)، أقاموه مستلهمين النموذج اللغوي..
النمذجة السردية
لقد تمايزت مواقف هؤلاء النقاد من مسألة (النمذجة السردية)، حيثيات النموذج السردي، وتمايزت بالتالي نتائج اجتهاداتهم فيها:
1- تودوروف
ذهب(تودوروف) إلى أن (النموذج اللغوي) هو القاعدة للنموذج السردي؛ لأن اللغة،في نظره، هي النموذج الرئيسي لجميع المنظومات الدلالية، بنتيجة أنه (العقلالإنساني)، و(الكون) يتصفان ببنية واحدة مشتركة، هي: - بنية اللغة- .
ولذلكعمل تودوروف على تفعيل (أدبية) الأدب؛ وذلك إيماناً منه بأن القصة مثلاًإذا حللناها، فإننا سنجد، كما هو يقول، أنها تعكس (بنية مجردة) ستتخذشكلاً قواعدياً..
وإن تحليلات (تودوروف) لقصص الديكاميرون، هي منباب تحديد أطر هذه (القواعدية)، حيث هو عمل على إظهار (التناظر) الذي بين(المقولات اللغوية): - الاسم، والفعل، والصفة- ، وبين (المقولات الأدبية):- الشخصية، الحدث، المسرودية- ...
وعلى هذه الشاكلة، انتهى إلىتقرير أننا سنفهم (السرد) بصورة أفضل إذا عرفنا أن (الشخصية) في المسرودهي (اسم)، وإن (الحدث) هو (فعل)؛ ثم التقرير أن الجمع بين اسم، وفعل هو-الخطوة الأولى في اتجاه السرد- ، عن قواعد الديكاميرون..
2- بارث
واما(بارث) فإنه يبدأ بالإقرار بالتشاكل الذي بين اللغة، والسرد، والتناظرالذي بين عناصر كل منهما؛ وفي نظره، إن (القصة) هي عبارة عن جملة طويلة،كما أن الجملة التقريرية هي مخطط موجز لقصة، عن المدخل إلى التحليلالبنيوي للمسرود..
إلا أن حرص (بارث) على تطعيم تحليلاته بالعلامية،أبعده عن (النمذجة اللغوية)، ودفعه إلى تقري ما أسماه بـ (شيفرات النص)؛ولذلك أقام (النموذج السردي) على التأثير الذي تمارسه القصة، أي التأثيرالسردي، وليس على التناظر اللغوي الذي لمسروديتها..
ومن هنا يقرر(بارث) أن (قراءة النصّ) بعيداً عن أن تؤدي إلى تأسيس نموذج، هي بالأحرىتؤدي إلى - فتح منظور مكون من نتف، من أصوات صادرة من نصوص أخرى، وشيفراتأخرى- ، عن سين/ زاء؛ ثم استناداً إلى تحليل الشيفرات التي للنص، فتحالمجال أكثر لدراسة التناص، والعلامية..
3- جريماس
وأما(جريماس)، فقد حرص على تكريس (النمو السردي)، أي القواعدية التي تتحكمبالمسرود، بتكريسه النظرية الدلالية نفسها، أي معرفة الشروط التي يظهر منخلالها (المعنى)، والكشف عن بنية أولية للدلالة..
وبنتيجة اهتمام(جريماس) بالتحليلات الأكسيولوجية، نسبة إلى اكسيولوجية أو علم القيم، آثرمعالجة (النموذج السردي)، كنموذج وظيفي، يقوم على تمفصل القيم، وأيضاًتمفصل السلوك الخالق لهذه القيم، أي الأيديولوجيات..
واستناداً إلىهذه التمفصلات التي تعكسها تراكيب الملفوظات، ومعدولية مفرداتها، توصل(جريماس) إلى ترقيم (برنامج سردي)، رآه يلخص تحقيق أحد الفواصل في المسرودلموضوع مطلوب، هو قيمة عنده(4).
4- جينيت
وبينما عالج(تودوروف) في كتابه: - قواعد الديكاميرون- ، موضوعاً واحداً هو أحداثالسرد، كما عالج (بارث) في مقالته: - المدخل إلى التحليل البنيوي للمسرود-أكثر من مستوى من مستويات السرد، راح يدرسها كلاً على حدة، نجد أن:
المبدأالذي أقام (جينيت) عليه تحليلاته، هو أن (المسرود) نتاج (تفاعل) مختلفالمستويات التي يتألف منها؛ وأن (علم السرد) بالتالي يتكون من تحليلالعلاقات القائمة بين هذه المستويات، على نحو ما أوضح ذلك في كتابه: -الخطاب السردي- ..
وأوجه السرد عند (جينيت) ثلاثة، هي: (القصة)، أيالحكاية استوار، ويقصد منها الأحداث في تسلسلها التاريخي، والذي قد لايتطابق مع التسلسل الذي اختاره المؤلف؛ (المسرود) ريسي، وهو القصة، أوالحكاية كما يقدمها المؤلف في نَصّه؛ ثم (المسرودية)، أو السرد ناراسيون،أي الصيغة التي دونت بها القصة، سواء فيما يتعلق بشخصياتها وأحداثها، أوعرضها وأساليبها..
تكريس علم السرد
كان (تودوروف) يعتقد أنالعقل البشري، والكون يتصفان ببنية واحدة مشتركة، هي: - بنية اللغة- ؛ وهومعتقدٌ قديم أحياه تودوروف لتدعيم ما ظل يصبوا إليه من تكريس (علم السرد)،ناراتولوجية..
وقد حاول (تودوروف) ذلك في تحليله لقصص الديكاميرون؛إذ اعتبر أن هذه القصص مبنية على (أسس سردية)، وليس على أسس سيكولوجية، أووصفية، أو فلسفية، بحيث يكون (النموذج اللغوي) هو القاعدة الأساس للنموذجالسردي لها..
وبالفعل، قياساً على التحليل اللغوي لتراكيب اللغة،فكل قصة تقوم على (وحدات)، هي الوحدات الصوتية، الفونيمات، والوحداتالشكلية، المورفيمات؛ و (الوحدات الأساسية) في السرد في نظره هي الجمل،وخاصة الجمل المكونة من مبتدأ وخبر..
وأما (المقولات السردية)فبعضها أولي: هي:- اسم العلم، والصفة، والفعل- ، وبعضها ثانوي، هي: -النفي، التعارض، صيغ التفضيل، وصيغ الفعل..
الخطوة الأولى نحو السرد
هناكفي نظر تودوروف تشابه جوهري بين (اللغة)، و (السرد)؛ وإننا بوسعنا فهمالسرد بصورة أفضل إذا عرفنا أن شخصية معينة، هي - اسم- ، وإن الحدث هو -فعل- ؛ كما أننا سنفهم الأسماء، والأحداث إذا تأملنا دورها ضمن السرد؛ وفيتحليله للعملية السردية يقرر - أن الجمع بين اسم، وفعل، هو الخطوة الأولىفي اتجاه السرد- عن قواعد الديكاميرون.
وهذا معناه أن (تودوروف) دفعبالتناظر اللغوي بين اللغة والسرد إلى حدود متطرفة؛ كما أنه أخذ بحرفيةالمعتقد البنيوي القائل بأن (الأدب) هو التجلي الجوهري للغة؛ وإن كل مايفعله الكاتب هو قراءة اللغة، كما مر بنا..
وقد أكد (تودوروف) علىقيمة هذا التناظر اللغوي، إذ، أنّ (اللغة) في نظره هي النموذج الرئيسيلجميع المنظومات الدلالية.. فهُناك في نظره بنيات للقول الأدبي على المحللالألسني إماطة اللثام عنها؛ إلا أن (النموذج اللغوي) هو القاعدة الأساسللنموذج السردي؛ وهو ما اعتبر تدعيماً للاتجاه البنيوي..
نمطان من البنية القصصية
وعندماطبق (تودوروف) تحليلاته على قصص الديكاميرون، استخدم (المقولات اللغوية)استخداماً صارماً، وقسم السرد إلى مظاهر ثلاثة، هي: المظهر الدلالي،والمظهر التركيبي، والمظهر اللفظي.
(المظهر الدلالي) هو ما يطلقعليه المضمون؛ و (المظهر التركيبي) هو المتعلق بالعلاقات بين الأحداث؛ و(المظهر اللفظي) هو اللغة التي قدمت المسرودية بها..
وقد وصل (تودوروف) بالنسبة إلى (بنية النص) إلى تقرير وجود (نمطين) من البنية القصصية(4)..
أ- أحدهما يعبر عن (إعادة توازن مفقود)؛ وهو يستند إلى (الصفة)، أي شخصية البطل الرئيسي..
ب- والآخر يعبر عن (المرور من حال إلى حال)؛ وهو يستند إلى (الفعل)، أي الأحداث، ومسروديتها..
وسبقأن عرفت بهما في فصل مطول في كتابي: - النقد والأسلوبية- ، الصادر عناتحاد الكتاب العرب بدمشق 1989، كما اصطنعتهما في تطبيقاتي النقديةالمختلفة؛ وفي الكتاب فصول موسعة تعرف بتحليلات جريماس ذات الأساسالأكسيولوجي، مع تطبيقات مختلفة(5)..
العناية بالدال
ثم إناستهداف الكشف عن (بنية) للقصة، أو الرواية، دفع إلى الكشف عن طبيعة اللغةفيهما؛ الأمر الذي رجح الاستغناء عن المقاربات التاريخية للأدب، من أجلمصافحة (المنظومات الدلالية) الفاعلة في الأدب..
وقد أدى ذلك إلىالتركيز على (الدوال) على حساب. (المدلولات).. وبالتالي، العناية بـِ -الطريقة، والشكل- اللذين ينتج عنهما (المعنى)، أكثر من العناية بـ -المعنى- نفسه..
وقد انعكس ذلك جلياً على شكل البنيويين لـ (النقد)،و (البويطيقا) كما سبق وعرضنا ذلك قبل قليل؛ ويقول تودوروف أن النص الفرديهي ببساطة الوسيلة التي يمكن للمرء من خلالها أن يصف خصائص الأدب..
وذلكأن البنيويين رأوا أن على (البويطيقا) أن تفسر القواعد التي تحكم إنتاجالأعمال الأدبية المكتوبة، وغير المكتوبة؛ وفي هذه الحالة ينظر إلى كل عملأدبي على أنه مجرد تجلٍ لبنية مجردة، وواحد من تجسيدات عديدة لها..
بارث والتحليل العلامي
ورغمإقرار (بارث) بالتشاكل الذي بين اللغة، والسرد، كما رأينا؛ إلا أنه آثرتطعيم تحليلاته باللمسات العلامية.. وقد رسم (بارث) لذلك (نموذجاً سردياً)متميزاً عن النموذج الذي رسمه تودوروف؛ إذ أن (وحدات السرد) الأساسية عندبارث هي: - الوظائف، والقرائن- .
إن (بارث) يعتمد على نظرية(بنفينيست) في المستويات، والعلاقات التي بينها، أي العلاقات التوزيعية،والعلاقات التكاملية.. كما أنه يعتمد على نظرية بنفينيست أيضاً في(الأوجه) الشخصية، واللاشخصية للغة؛ إذ أن هناك في نظر كتابات قصصية تجريبصيغة (الغائب)، أي على النظام اللاشخصي، في حين هي تعبرّ عن (المتكلم)،أي تجري على النظام الشخصي.
**
ومثلما كان (بنفينيست) يقول: -إنه في المسرود لا أحد يتكلم- ، راح (بارث) يقول إن الكتابة القصصية ليست- قصاً- ، وإنما هي: - قول إننا نقص- ؛ وإن دورها ليس تسريب المسرود،وإنما إعلانه؛ وفي هذا (الإعلان) تتكامل الوحدات التي للمستويات الدنيافيما بينها؛ وهناك يبرز المسرود، وقد تجاوز مضامينه، وصوره، أي الوظائف،والأفعال..
وعلى هذه الشاكلة، لا تعود الكتابة القصصية تأخذ معناهاإلا من (العالم) الذي تستهلك فيه؛ وهو عالم يبدأ وراء مستويات القص(6)،على شكل أنظمة مختلفة، اجتماعية، واقتصادية، وإيديولوجية؛ إلا أن عناصرهليست فقط (قصصية) أي سردية؛ وإنما هي تاريخية من تعينات، وأوضاع، وسلوكاتوغيرها مما يمكن اكتشافها، والكشف عنها بواسطة التحليل العلامي(7)..
عصر ما بعد البنيوية
كلذلك مهد السبيل إلى ولوج ما سمّي بـِ (عصر ما بعد البنيوية)، حيث يخرج(بارث) صراحة عن (النمذجة) اللغوية السردية، ويخرج على الخصوص عن الإيمانبأن (البويطيقا) يمكنها أن تقدّم تفسيرات للنصوص الأدبية المختلفة، سواءبردّها إلى بنيةٍ نموذجيةٍ مجردة، أو أيضاً إلى تمثيل للواقع..
و"بالفعل"،فقد استعاض (بارث) عن النقد بـِ (التعليق)، كما استعاض عن البويطيقابدراسة تقويمية لما أسماه بـ (لغزية النص)، أي ما ينطوي عليه من شيفرات،ورموز..
إن (النص الأدبي) الآن لم يعد عالماً مصغراً لعالم(البويطيقا) الذي يؤمن به البنيويون، ومنهم مثلاً تودوروف؛ فهو لم يعدبنية، ولا نسخة عن بنية تستند إلى البويطيقا، وإنما هو: (ممارسة)، هي -لعب- ، أو لنقل هي: مغامرة نقدية؛ إذ الاعتبار الآن للكتابة النصية نفسها(...
كانالنقد التقليدي يرد (السرد) إلى واقع خارج اللغة، فيردّه إلى عقل المؤلف،أو إلى شخصيته، أو إلى الواقع الذي حصل فيه.. إلا أن كل ما يحدث الآن يعودإلى (اللغة) نفسها، وإلى ما تكشف عنه من شيفرات، ورموز(9)؛ المهم هو(الإنتاج الأدبي) للنص، وليس كونه نسخة عن بنيةٍ، أو تمثيلاً لواقع معين؛إن الأهمية الآن للإنتاج، والقيم الأساسية هي (قيم الدال)..
القابل للقراءة والقابل للكتابة
لقدأقام (بارث) دراسته لـِ(لغزية النصّ)، ورموزه، على التمييز بين (النصالقابل للقراءة) ليزيبل، و (النص القابل للكتابة) سكريبتيبل؛ النص الأولهو النص الذي يستهلكه القراء، في حين أن الثاني يتطلب من القارئ تعاوناًفعلياً، ويقتضي منه المشاركة في إنتاج النص، وكتابته..
صفة(القابلية للقراءة) تغلب على النصوص الكلاسيكية، بينما صفة (القابليةللكتابة) تغلب على النصوص الحديثة، والتي هي أكثر تعددية من الأولى؛ المهمهو عملية الإنتاج، لأن عملية (إنتاج المعنى) جزء أساسي من (فعالية النصّ)،وليس تابعاً ثانوياً لمدلول أولي.. إن الأهمية الآن هي لـِ (الدال)؛فالنصّ القابل للكتابة كما يقول (بارث) يتيح للقارئ أن يؤدي وظيفة؛ أنهيتيح له أن يلج (سحر الدال)، يلج في لذة الكتابة، عن سين/ زاء.
وعلىهذه الشاكلة، تؤدي القراءة الأدبية لـِ (النص القابل للكتابة) إلى تجنبانغلاق البنيات السكونية، بل إلى (تحطيم) سكونية البنية، والمنظو عامة؛وطبيعي أن مثل هذه القراءة لن تفضي إلى تأسيس (نموذج)، أو بنية قانونية منالأعراف، أو المخلفات، أو تأسيس قانون سردي، أو شعري؛ وإنما إلى فتح(منظور) مكون من نتف، وشيفرات..
وآنئذ، يحل (التعليق) على فقراتأجزاء النص محل (النقد)، و(البويطيقا) اللذين يقلصان النص، ويجعلانهيتطابق مع معنى ما، أو نموذج ما.. في حين أن التقدم الطولاني عبر النص،هذا التقدم المرتكز إلى (الليكسيس)، أي (بذرات القراءة)، سيعمل على(بعثرة) النص بدلاً من توحيده، وعلى ترصيعه بالنجوم بدلاً من تجميعه،وبالتالي سيعمل على المحافظة على تعددية النص، عن سين/ زاء.
النص التعددي والحقيقة
وفي نظر (بارث) يتكون الأدب من خمس شيفرات، كود أوسنن(10)، هي:
1- الشيفرة التأويلية، والتي تعرض لغزية النص، وتثير السؤالين: ما هذا؟.. ولماذا؟..
2- شيفرة التضمين، والتي تلخص الموضوعات التي تدور حول شخصية معينة.
3- شيفرة الأحداث، والتي تكشف عن السلوكات..
4- الشيفرة الثقافية، والتي تعرض معلومات اجتماعية، وعلمية عن أفكار، وقيم.
5- الحقل الرمزي، حيث تتعدّد المعاني، وتصبح قابلة أن تنعكس كموضوعة..
هذه(الشيفرات) ليست بمنزلة (النموذج)؛ وإنما هي أمثلة على (كلام) لا يملك أيةلغة أولية؛ إنها كما يقول (بارث) - تخلق نوعاً من الشبكة، إنها تخلقموضعاً يمر النص بكليته من خلاله- ..
وليس لهذه (الشيفرات) قيمةأدبية، وإنما هي تؤدي وظيفتها كجزء من - الثقافة- ؛ وفي هذه الحال، لاتعني (الكتابة) عن الواقع ربط كلمة بشيء، وإنما ربط الواقع بالنص؛ ولذلكيغدو (الواقع) نوعاً من النص، يتألف من شيفرات..
وبذلك يكون الأدب(تناصاً)، أو تبادلاً نصياً، يجسّد ماهو قائم وراء حدوده من حقيقة، أومؤلف، أو قارئ؛ الأمر الذي يبعد (الأدب) إلى مسافة شاسعة عن أية طريقةتمثيلية(11)...
إن كل شيفرة لا تعدو كونها منظوراً من (الاقتباسات)،وربط نصٍ بنصٍ؛ أما منطقها فهو منطق الأمر المنجز، والمقروء؛ و (التمثيل)يصبح هو نفسه نوعاً من الاقتباس، فلا تعود (الحقيقة) تمتلك مكانة واقعيةضمن النص الأدبي..
إن (الحقيقة) في نظر بارث هي مجرد سراب خادع،تخدمه إحدى هذه الشيفرات؛ وبذلك يبطل (النص التعددي) الصورة التقليدية عنمؤلف حقيقي، يبعث برسالة حقيقية، إلى قارئ حقيقي(12)..
الهوامش
1-لوحظ على الرواد من النقاد، والدارسين وقتها محاولاتهم تثبيت (قواعدبنيوية) للأدب، هي ما ارتأوا أن يطلقوا عليه مصطلح (بويطيقا)، قياساً علىمصطلح البويطيقا القديم، أي الفنية الشعرية عامة؛ ورغم أن المجال الذيأثمرت فيه محاولاتهم هو (المجال السردي)، إلا أن التجربة دللت على أنهم لميستطيعوا الاتفاق على (نموذج سردي)، ولا على طرائق تحليل واحدة.
2- للتوسع في ذلك يمكن الرجوع إلى كتاب النظرية الأدبية الحديثة، السابق الذكر، ص 188 وما بعدها..
3- بمعنى أن الأهمية الآن لم تعد للمؤلف، ومقاصده؛ وإنما للمنظومات الدلالية، وعلاقاتها، وما يترتب عليها من العلامية..
4- انظر كتابنا النقد والأسلوبية، السابق الذكر..
5- يرقم (البرنامج السردي) على الشكل التالي:
ب س= و [ذ1 (ذ2 م ق)]
ويقرأ:هو وظيفة تحول مضمون فعل [ ] إلى مضمون حال ( ) في ملفوظات العلاقةالذاتية ذ1 و ذ2 التي لتحقيق قيمة، هي الموضوع م ق الذي تعمل الذاتالفاعلة على بلوغه كقيمة مطلوبة منها؛ انظر كتابنا النقد والأسلوبية،السابق الذكر، حيث الشروح الوافية في ذلك.
6- هذه العناية بـ(الدال) على حساب (المدلول) هي التي فتحت آفاق (العلامية الأدبية)، والكشفعما وراء مستويات النص من أنظمة اجتماعية، وأيديولوجية، انظر النقدوالأسلوبية، ص 43، وما بعدها..
7- النقد والأسلوبية، أيضاً، ص 99.
8-9 - ولذلك أعرض النقاد، والدارسون عن (البويطيقا)، وتركوها، وتركواتقعيدها، مستعيضين عنها بالممارسة النقدية ضمن حدود اللغة، وعلى الخصوصضمن ما يعكسه النص من شيفرات، ستكون هي الدوال.
10- جانب السياق،ولغزيته هما قوام (الشيفرة التأويلية)، والقارئ يمسك بها عندما يبرزالسؤالان: ما هذا؟. ولماذا... وأما (الشيفرة التضمينية) فتقوم بالموضوعالذي تعالجه المسرودية، ولذلك هي تدور حول الشخصية، وتكشف عن مزاياها،واما (شيفرة الأحداث)، فهي تشمل كل حدث في المسرودية، منذ بدايته حتىنهايته في نقطة حدث آخر؛ وعادة تتشابك الأحداث، ثم يستقل بعضها عن بعض؛ناهيك بأنها يكمل بعضها بعضاً؛ وأما (الشيفرة الثقافية) فتشمل نظريات نظامالمعرفة، والقيم التي يثيرها النص، وتتبدى كحكمة لفظية، أو كحقائق علمية؛وأما (الحقل الرمزي) فهو حقل الموضوعة، تيم، التي في أساس المعالجةالكتابية للمسرود، أي الفكرة، أو الأفكار التي يقوم عليها المسرود؛ انظركتاب البنيوية في الأدب، لشولز، ترجمة حنا عبود، نشر اتحاد الكتاب العرببدمشق 1984، ص 174، وكتاب النظرية الأدبية الحديثة، السابق الذكر، ص 190.
11- مفهوم (التناص) يعود إلى (جوليا كريستييفا)، والتي كانت متأثرةفيه بآراء (باختين) في الحوارية؛ وهي تقصد منه التفاعل، والتداخل اللذينبين النصوص، وأثرهما في دلالة الكتابات التي تحتضنه؛ وقد شاع المصطلح،واستهلك بشكل واسع حتى اختلط بمفاهيم أخرى، مثل التضمين، والاقتباسوغيرهما؛ إلا أنه متميز عن هذه المفاهيم، وكانت (جوليا كريستييفا) تزيدتبديله بمصطلح (نقل دلالي)، أو (تحول دلالي)، لإظهار وظيفته، كتفاعل دلاليبين النصوص ينتج عنه (تحول) في معانيها؛ إذ أن (التناص) في حقيقته هو في(تولد) نص عن نص آخر، وبالتالي دخول في علاقة معه، هي علاقة حوارية،وسيميولوجية علامية؛ وقد أصدرت مجلة (الأسبوع الأدبي) التي يصدرها اتحادالكتاب العرب بدمشق ملحقاً خاصاً عن التناص، هو الملحق 61 في 18/11/1993؛كما تجد في مجلة (المعرفة) التي تصدرها وزارة الثقافة بدمشق مقالة عنالتناص بقلم د. شكري الزاهي، في العدد 353، شباط 1993، وغيرهما..
12-يذهب (بارث) في كتابه سين/ زاء إلى أن (الحقيقة) أي رسم الواقع، هي المهمةالأبعد ما تكون عن مهمة الأدب في إبداعاته؛ وأنها مجرد سراب خادع، تحدثه(شيفرة) من شيفرات الأدب الخمس؛ وأنه عن طريق طرح أحجية، أو لنقل لغزية،وتأجيل حلها تقوم الشيفرة التأويلية بتنفيذ (ألعاب خفة) بارعة، تجعل منالمعلومات المؤجلة شيئاً مرادفاً للحقيقة..
ويضيف (بارث) أن الفنانالواقعي لا يطرح الواقع أبداً كمصدر لقوله، وإنما هو يرجعه إلى أبعد مسافةيمكن تتبعها، إلى شيء مكتوب سابقاً؛ وهناك يبرز (التناص)؛ أو أنه يرجعهأيضاً إلى (شيفرة مستقبلية)، تصير تتميز على امتدادها سلسلة من النسخ عنالواقع..
إن (الواقعية) بذلك تتألف ليس من نسخ الواقع، وإنما من نسخالنسخ المرسوم عن الواقع؛ وأما الشخصيات التي في المسرود، فهي مجرد مجموعةمن السمات يتم توحيدها بصورة خرافية عن طريق تسميتها؛ في حين أن (الأنا)التي تقارب (النص) هي في حد ذاتها تعددية، ومأخوذة من نصوص أخرى، وبالتاليمن شيفرات، كود أو سنن أخرى لا متناهية؛ إنها بتعبير أدق مفقودة كما وأنأصلها مفقود، عن سين/ زاء.