منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    سيميائية التناص 2

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    سيميائية التناص 2 Empty سيميائية التناص 2

    مُساهمة   الأربعاء ديسمبر 16, 2009 11:48 am

    يميائية التناص في: “فزَّاعة” التركي

    كتبهاعصام واصل ، في 12 يونيو 2009 الساعة: 20:36 م

    سيميائية التناص في نص: "أي فزَّاعة تطرد اليتم عني" للشاعر اليمني عبد المجيد التركي

    :
    تعد القصيدة الكلاسيكية قصيدة شعرية، بينما القصيدة المعاصرة شعرية قصيدة بامتياز، وعليه فقد تعددت الشعريات فثمة شعرية ياكبسون وتودوروف وكمال أبي ديب… إلخ، إلا أن شعرية المفكر الفرنسي جيرار جينيت تختلف عن هذه جميعا، فهو يرى أن شعرية النص تكمن في المتعاليات النصية، أو فيما يسميه بالعلاقات عبر النصية، وبذلك يفكك مفاهيم الشعرية، ويعيد النظر في المفهوم الذي طرحه المفكر رومان ياكبسون لها والتي يحددها -هذا الأخير- في كل ما يجعل من النص نصا أدبيا معطى، ويرى بأن ذلك لا يأتي إلا في العلاقات الداخلية لنص ما.
    ويقسم جيرار جينيت العلاقات النصية إلى خمسة أنماط يفضي كل منها إلى ما يليه تجريدا وتضمينا بشكل تراتبي، وهي بحسبه:
    1- التناص: وهو -كما يراه جيرار جينيت- الوجود الفعلي لنص في آخر بشكل معلن أو خفي، ويأتي هذا الوجود النصي عبر ثلاث آليات هي:
    أ‌- الاقتباس: وهو تكرار وحدة خطابية من خطاب في خطاب آخر، ويمثل أكثر وجوه التناص جلاء وحرفية وحضورا.
    ب- السرقة: وهي اقتباس صريح ولكنه غير معلن ويمس الملكية الفكرية للآخرين، سيما حين يكون المتناص فقرة كبيرة أو أكثر ولا يحيل إلى مصدرها ومؤلفها وينسب العمل لنفسه.
    ج‌- الإيحاء: وهو أكثر ضمنية وخفاء، ويتم عبره تحويل النص وإخفاء تراكيبه وقلب دلالاته، أو إبقائها بعد دمجها في سياقات النص الجديد….
    2- المناص: ويمثل كل ما يحيط بالمتن أو النص ويجعل منه متنا/نصا، ويقسمه جينيت إلى قسمين: الأول النص المحيط، والثاني النص الفوقي، ويعني بالأول كل ما يحيط بالمتن ويكون قريبا منه كالعنوان الرئيسي، والفرعي، والعناوين الخارجية، والداخلية، والمقدمات، والإهداءات… إلخ، ويعني بالثاني كل ما يحيط بالمتن ويكون على مسافة أبعد من سابقه، كالمراسلات والحوارات الصحفية وغيرها…
    3- الميتانص: وهو العلاقة التي تربط نصا بآخر يتحدث عنه دون أن يذكره مباشرة، ويتمثل في علاقة الشرح والتفصيل، إنه علاقة النقد بامتياز.
    4- النص الجامع: وهو العلاقة التي تربط النص بجنسه، وهي أكثر ضمنية وتجريدا، وتهيئ أفق القارئ لتقبل عمل ما وفق مؤشره الجنسي.
    5- التعلق النصي: ويتمثل في علاقة الاشتقاق التي تربط بين نصين سابق ولاحق، فالنص اللاحق ينبني وجوده من السابق، حين يشتق بنياته ودلالاته وفق طريقة ما من سابقه، ويعني ذلك أن النص (ب) هو النص اللاحق الذي يشتق وجوده من النص (أ) وهو السابق عليه في الوجود، ويتم الاشتقاق النصي هذا وفق طريقتي المحاكاة والتحويل ولكل منهما آلياته المحددة، (ليس هذا مقام ذكرها، وتفصيلها)، ويعد هذا النمط أهم الأنماط من حيث إنه عام تندرج تحته بقية الأنماط الأخرى.
    ويحدد جيرار جينيت لكل قسم من هذه الأقسام آلياته، وإجراءاته الاشتغالية التي يتغيا من خلالها قراءة النص، واكتناه تعالقاته مع خارجه والعالم، وانبناءاته السطحية والعميقة.. إلخ، وهو بذلك يحول -كما أشرنا- الشعرية البنيوية المحايثة التي تنهض على علاقات النصوص الداخلية ببعضها لتنتج خصوصية الأدب وتفرده عن غيره، فيجعلها -جينيت- تكمن في هذه المتعاليات التي يعرفها بفئة مجردة تحيل إلى كل ما يتجاوز نصا معطى وتجعله ينفتح على الأدب في عمومه وعلى ما لا يحصى من النصوص، وهو بذلك لا ينفي البنيوية نفيا قاطعا بل يطورها ليجعلها بنيوية مفتوحة، ويركز على الأدب في ذاته، ويقصي إطاره الخارجي المقحم عليه إقحاما من الخارج، بل يجعل النص هو الذي يحيل إلى خارجه المتمثل في العالم ومكوناته كمرجعية، ويستبعد المؤلف من دائرة اهتمامه.
    تتغيا هذه القراءة استكناه شعرية التناص وسيميائيته في نص (أي فزاعة تطرد اليتم عني) للشاعر اليمني (عبد المجيد التركي)، ولأن التناص ليس منهجا فقد استفادت هذه القراءة من بعض إجراءات المنهج السيميائي (الباريسي) سبيلا لمقاربة التناص، وكيفيات انبنائه في النص، بغية الوصول إلى الدلالات العامة التي يتغياها، وكيفية تشكلاتها، من خلال دراسة المناص متمثلا في عتبة العنونة أولا، ومن ثم التناص مع القرآن الكريم بوصفه مهيمنا سيميائيا في النص ثانيا.

    1- :
    ينتمي العنوان إلى النص المحيط -كما ذكرنا سابقا-، ويمثل مفتاحا إجرائيا يلج من خلاله القارئ إلى أعماق النص، ويقدم صورة استباقية لمضامينه وعوالمه، والمتأمل في عنوان هذا النص سيجده عنوانا ملفوظا، أي إنه جزء من المتن، منتزع من بناه التركيبية، فهو يتكرر في السطر العاشر حرفيا ودلالياً: "أي فزاعة تطرد اليتم عني".
    والفزَّاعة معجميا مشتقة من الفَزَع والتخويف، وهي عبارة عن دمية (شخص/حارس افتراضي)، يصنعها القرويون ويضعونها في حقولهم كحارس وهمي يشتغل على الإيهام بدرجة أساس؛ ليمنع الطيور والعصافير من أكل الحبوب والثمار الزراعية، وهذه الصورة المنتزعة من الواقع محملة بشحنات أنثربولوجية ممتدة في الذاكرة مرتبطة بمشاهد الطبيعة والحقول منها بشكل خاص، والشاعر حينما يتناص معها لا يستدعيها إلى نصه بمحمولاتها القارة فيها، وإنما يعمد إلى قلب صورتها النمطية، فيكسر بذلك أفق التوقع لدى القارئ حين يجعل من الفزاعة أُمنية يتغيا من خلالها طرد اليتم الناتج عن موت الأب/الشخصية المحورية التي تخاطبها الذات المتلفظة في النص منذ بنيته الافتتاحية حتى بنيته الختامية، وإذا كان النص -أي نص- حين يستدعي نصا آخر يعمل بدرجة أساس على قلب دلالاته وتغيير سياقاته بشكل متفاوت؛ فإن النص اللاحق يحول الفزاعة من حقلها إلى حقل متخيل غير متحقق نابع من إيمان المبدع بأنه ليس ثمة ما يبعد الموت مهما يكن..
    ومن ثم فإن العنوان يحشد في ذهن المتلقي هذه الصور المستدعاة من الواقع فتجعله يتأهب للدخول في عالم النص دراميا من حيث انبنائه على الحركة والصراع اللذين يوحي بهما ويفرضهما على الذاكرة؛ سيما في دالي "فزَّاعة ويتم"، فدال فزَّاعة يحمل كل معاني الخوف والترهيب لعالم الطيور الذي يتغيا منعها من الاقتراب نحو الثمار، وبذلك فإن الفزَّاعة تمثل عاملا معيقا يعمل على منع العصافير من الاتصال بموضوع القيمة، وعاملا مساعدا لواضعه/الفلاح من حيث إنها تحافظ على محاصيله، أما دال اليتم فإنه يحمل معه صورة مأساوية درامية تحمل في بؤرتها معنى الموت والاغتراب من حيث إنها بالضرورة تستدعي معها أحد قطبي الدلالة الغائبة، فاليتيم واليتم لديهما قطبان غائبان:
    يتم موت.
    يتيم ميت.
    فدال اليتم يستدعي دلالة الموت ذلك أنه لا يُتْمَ بدون موت أحد قطبي الأسرة "الأب أو الأم"، ومن ثم فإن اليتيم يستدعي معه ميِّتٌ ما؛ إما أن يكون الأب أو الأم أو كليهما معا، فكل دالٍّ بالضرورة يستدعي معه دالا ضمنيا يتضاد معه أو يتضمنه وينتج عنه؛ أي إن حدوث أحدهما مترتب على حدوث الآخر.
    إن هذا العنوان يقدم حالة ذات تتغيا إقامة وصلة بـ"فزَّاعة" مفترضة، تفصله عن قيمة اليتم بوصفه حالة غربة روحية، وفقدان امتلاك ينتج عنه في العادة انقطاع عن مصادر الرغد والعيش، والطفولة الآمنة، واستغلال الآخرين لليتيم سيما في صغره..

    2- :

    ويتناص هذا النص مع القران الكريم، ومع صور أنثربولوجية -كما رأينا في العنوان-، أو صور منتزعة من الحياة اليومية والطبيعة كصورتي الفزَّاعة والخبَّازة التي تحمل خبزها وتبيعه للمارة، إلا أن هذه الصور في النص تأتي بشكل جزئي غير مهيمن، في حين يأتي التناص مع القرآن الكريم مهيمنا في كل بنى النص، ولذلك ستكتفي به القراءة -هنا- عن غيره.
    ويعني التناص مع القرآن الكريم استدعاء دواله ومدلولاته، والتفاعل معها، وإعادة تحويلها في نص معطى، حتى تغدو جزءا من مكوناته وشبكته الدلالية والنحوية، فتكتمل حينئذ الدلالة بين النصين فيغدوان نصا واحدا.
    يأتي التناص مع القران الكريم منذ الجملة البدئية للنص وتحديدا في:
    من يُؤَوِّلُ رؤيايَ يا أبتِ
    إذْ إن هذه الجملة البدئية تستنفر ذاكرة القارئ وتعود بها إلى آفاق النص القرآني عامة، وإلى القصص منه خاصة، وبشكل أخص إلى قصة سيدنا يوسف عليه السلام ورؤاه المتعددة، وينتقي منها رؤياه التي نتج عنها توجس الأب وخوفه مما قد يحل بيوسف، وتحذيره من مغبة ذلك، كما يخبرنا قوله تعالى:

    {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ{4} قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ{5} وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ{6}[ يوسف: 4-5-6]
    والنص إذْ يحيل إلى ذلك لا يذكره مباشرة، وإنما يستبطنه ويحيل إليه بشكل مختزل مكثف، ويداعب الحدث الكامن في ذاكرة القارئ الذي يترك له مهمة استكمال ذلك؛ أي إن ثمة فجوات دلالية وتركيبية، يترك النص مهمة إكمالها للقارئ المفترض؛ لأنه يفترض أن هذه التراكيب والدلالات قارة في ذاكرته..
    وفاتحة النص حينما تستدعي ذلك تقر منذ البداية أن ثمة فصلة كبيرة بين الأب وقيامه بتأويل الرؤيا، وبينه وبين الابن، أي إن ثمة غربة ووحدة وفقدان لموضع نتج عنه انغلاق المعرفة وفقدان موضوع الجهة المتمثل في المعرفة وتأويل هذه الرؤيا، وذلك ناتج عن حالة اليتم.. التي نتج عنها الفراغ الذي يجسده الملفوظ اللاحق للملفوظ الافتتاحي القائل:
    فالفراغ مليء بأحلامنا..

    إن الفراغ عدم، وهو أمر طبيعي بعد فقدان الأب، إلا أن هذا الفراغ مليء بأحلام الذات، والحلم هو فراغ أيضا وإن كان انزياح عن واقع لخلق واقع مغاير غير متحقق في الغالب، لأن الحلم يبقى رؤى وأفكار من الصعوبة تجسيدها على الواقع في هذا النص، والنص لم يذكر ماهية الأحلام ولم يحدد نوعها، ولكن القارئ يلمحها من خلال دلالات الحزن القارة في النص، والناتجة عن الموت واليتم، وهذه الأحلام تتمثل في عودة الأب وتأويل الأحلام والاستقرار.. إلخ..
    فتأويل الرؤيا مرتبط في الخطاب القرآني بيوسف بدرجة أساس ومن ثم بالأب الذي فسر أول رؤيا رآها يوسف، فالأب يؤل رؤيا يوسف أولا، ومن ثم يؤل يوسف رؤيا السجينين والملك، وفي الخطاب الشعري بموت الأب لم يجد يوسف/النص من يؤل رؤياه، فيعمد الملفوظ الشعري إلى تحويل كبير في الخطاب المتناص، فالأب هناك لم يمت وإنما عاش حزينا على فراق ابنه، وهنا يحدث العكس فالابن هو من يعيش حزينا لفراق أبيه ويعيش في غربة عن العالم.
    ومن ثم فإن النص يرتقي بالأب إلى مصاف روحانية حين يجعله "يوسفهم" و"سليمانهم" و"موساهم" (ضمنيا).. في الملفوظ القائل:

    فالفراغ مليءٌ بأحلامِنا
    كنتَ يوسفنا وسليماننا
    ما تزال عصاكَ تهشُّ على ألمٍ
    يتوطنُ كلَّ وسائدنا.

    وهذا الملفوظ يستدعي في السطرين الأولين شخصيتي يوسف وسليمان وفي السطر الثالث يستدعي شخصية موسى عليه السلام إلا أنه لم يذكرها وإنما ذكر العصا وهي قيمة تختزل كل سمات وخصائص الشخصية الدال عليها قوله تعالى:

    {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى{17} قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى{18} قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى{19} فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى{20} قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى{21} وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى{22} لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى{23} اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى{24}. [طه: 17-24]

    إن الشاعر باستدعائه لهذه الشخصيات يأتي بها ليمنح قضيته وحالته الشعورية قيمة روحية، ويوحي بفداحة فقدان الأب من جهة، وبقيمته ومكانته التي كان يتبوؤها في الأسرة وفي نفسية المبدع، وبمدى الفراغ الذي تركه فيها من جهة أخرى، وتستدعي هذه الشخصيات معها سماتها وصفاتها، وتسندها إلى الأب الذي أصبح بذلك حاملا لها، فغدا جميلا وطاهرا ونقيا وأمينا، وهو ما تحيل إليه الصفات المستعارة من شخصية يوسف عليه السلام، وعارفا وعالما وأوتي من مواضيع القيمة ومواضيع الجهة الشيء الكثير، وهو ما توحي به شخصية سليمان عليه السلام، كما أنه قد أوتي الكثير من الخصائص الدلالية المستعارة من شخصية موسى عليه السلام.
    وإذا كان المتلفظ في النص يوحي بشكل غير معلن عبر ضمير المتكلم بأنه يوسف فإنه يسند ذلك في الملفوظ الذي يليه بشكل معلن وصريح للأب الذي كان بمثابة يوسف، وإذا كانت شخصية يوسف تحتمل دلالتين اثنتين الأولى المسندة إلى الذات المتلفظة في البنية الافتتاحية للنص وهي الاغتراب التي ترتب عليها الخروج من العالم إلى الجب أولا ومن الجب إلى العالم ثانيا، والدلالة الثانية مسندة إلى الأب وهي صفات الجمال والروحانية… إلخ.
    ويعمل النص على قلب دلالة الآية السابقة فحين كان موسى يهش بعصاه على غنمه كان الأب يهش بها على ألم يتوطن كل وسائد الذوات المفترضة إلى جوار المتلفظ:

    ما تزال عصاك تهشُّ على ألمٍ
    يتوطَّن كلَّ وسائدنا

    ويبقى التناص مع تيمات قصة يوسف عليه السلام متمفصلا في النص، ومحيلا إلى الفراغ والاغتراب، ومحاولة الخروج من الاغتراب واللحاق بالأب، في صورة مركبة مدورة تفضي محاورها الأولى إلى التي تليها:

    سوف آتي وقد نخر الخوفُ فاكهتي
    وسأمسح في عتبات بهائك حزني
    الذي بتُّ أحمله مثل خبَّازةٍ
    لا طيور تراود أحلامها.

    فالشاعر يقرر أنه سوف يأتي ويمسح على عتبات بهاء الأب حزنه/الذات الذي يحمله كخبازة لا طيور تراود أحلامها فدال تراود يحيل إلى قصة يوسف مع امرأة العزيز وما ترتب عليها من غربة ليوسف وانقطاعه عن العالم بدخوله السجن وبالتالي اكتشاف براءته.. إلخ، كما يقول تعالى:

    {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [يوسف: 30].

    ويشتغل النص على تحويل في عوامل السرد؛ أي استبدال القائمين بالفعل سيميائيا، فيستبدل امرأة العزيز بالخبازة، ويستبدل القائم بالمراودة من امرأة العزيز أيضا إلى الطيور، ويحول المُرَاوَد من يوسف إلى أحلام الخبازة، ليخدم سياقات النص وفق رؤيته للعالم، والنابعة من التجربة الواقع تحت ضغطها.. ويعمق حالة الاغتراب والفقد التي تستمر في مفاصل النص وتمتد إلى قوله:

    أيُّ فزَّاعة تطرد اليـُتمَ عني
    فلا كنز تحت الجدار
    سوى وجعٍ ليس يُقنى.

    فهذا الملفوظ يعمق دلالة الفقد والفراغ وقسوة اليتم ويستدعي إلى الذاكرة قوله تعالى:

    {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً }.[الكهف: 77]
    {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً}. [الكهف: 82].

    فإذا كان الملفوظ القرآني يخبر في دلالاته بأن ثمة كنزا ليتيمين فإن الملفوظ الشعري يخبر بأن الجدار لا يحتوي ذلك الكنز ليعمق دلالة الفقر والوحدة، وبالتالي فإن الملفوظ الشعري يتماثل مع النص الشعري ويتخالف معه من جهة أخرى؛ يتماثل معه من حيث أن هناك يُتْما، ويتخالف معه من حيث وجود الكنز واختفائه.. لتتسع دوائر الاغتراب والوحشة التي نتج عنها مناجاة الشاعر لأبيه في قوله:

    أبي:
    إن دمعي يسيلُ على ما يرامُ
    وحرف القصيدة مُرٌّ كقيء المريض
    ولكن عافية الموت أوسعُ
    من غائلات الحياة .
    فثمة أمنية في الموت والهرب من غائلات الحياة، إلى اتساع عافية الموت، ويتناص الشاعر أثناء مناجاته لأبيه مع طقوس دينية تتمثل في قراءة الفاتحة على المريض:

    كنت تقرأ فاتحة فوق جرحي
    وتمسح بالضوء روحي
    أنا الآن أكثر من أي وقتٍ مضى مؤمنٌ بيديك
    أغثني أبي
    قبل أن يأكل الليلُ وجهي
    وخارطتي
    وبقايا بياضي.

    إن دال (كنت) يوحي بِفُصْلَةٍ بين [قبل وبعد]، وانتقال من كائن كان فعَّالا إلى كينونة غير فاعلة، ففي القبل كان الأب موجودا يمارس طقوس القراءة على جرح الابن، في زمن مليء بالبهجة والامتلاك، وفي المابعد أصبح الأب مفقودا، وأصبح الزمن مفرغا من البهجة وممتلئا بالتعاسة والحزن.. ولذلك يستغيث الشاعر بالزمن/السعيد الممتلئ بالبهاء قبل أن يداهمه الليل ويأكل نقاءه وطهارته.. ويخبر عن حالته التي يود الهرب منها إليه إذْ يقول:

    أنا رئةٌ
    لو أردتُ انتحاراً
    لحالتْ جبالٌ من القشِّ
    بيني وبين المياه.

    وهو بذلك يستدعي إلى الذاكرة قصة الطوفان، وعصيان بن نوح، وغرقه، الدال عليها قوله تعالى:

    {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}. [هود: 43].

    وهو حين يستدعيها يستدعيها بشكل مغاير لسياقها التاريخي تماما، فيصبح الابن رئة، وهو الذي يود الانتحار والموت بغية اللحاق بالأب، ولكنه يفصح أن ثمة معيقا يعيقه عن أمنيته هذه، والمعيق برغم إعاقته له ضعيف/جبال من القش، فالقش على ضعفه يمنعه من الاتصال بأمنيته في حين كان في الملفوظ القرآني نداء من الأب وفي النص الشعري نداء من الابن للأب، وتماثل في أن الابنين الأول غرق والآخر يود الغرق، والأول عاص والآخر بار بابيه.
    وخلاصة ما يمكن قوله في هذه القراءة أن نص عبد المجيد التركي يتناص مع آيات القران الكريم الدالة على الحزن، وعلى المكيدة والاغتراب بالفعل وبالقوة، وحينما يتناص معها يعمل على قلب دلالاتها ومضامينها، ويفرغها دلاليا ليحملها أبعاد تجربته ورؤيته للعالم وللحياة وفق فلسفته من الأشياء، ويعمل على تحويل وإضافة، أو تحويل وحذف في القيم المتمفصلة في الآيات القرآنية التي تناص معها في نص "أي فزاعة تطرد اليتم عني".

    *جامعة الجزائر المركزية

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 21, 2024 4:42 am