[[ المدارس اللسانية ]]
ويجب قبل
أن التحدث عن المدارس اللسانية، يجدر بنا أن نقدم تعريف اللسانيات نفسها،
فاللسانيات عند أحمد محمد قدّور في الحديث عن تعريف اللسانيات (1) :
«العلم الذي يدرس اللغة الإنسانية دراسة علمية تقوم على الوصف ومعاينة الوقائع بعيدا عن النزعة التعليمية والأحكام المعيارية»
. وكلمة "علم"
الواردة في هذا التعريف لها ضرورة قصوى لتمييز هذه الدراسة من غيرها، لأن
أول ما يطلب في الدراسة العلمية هو اتباع طريقة منهجية والانطلاق من أسس
موضوعية يمكن التحقق منها وإثباتها.
والعلم بحث
موضوعة دراسة طائفة معينة من الظواهر لبيان حقيقتها وعناصرها ونشأتها
وتطورها ووظائفها والعلاقات التي تربط بعضها ببعض، والتي تربطها بغيرها،
وكشف القوانين الخاضعة لها في مختلف نواحيها .(3)
سنتناول في هذا البحث المدارس اللسانية. ونبدأ الحديث أولاّ عن المدارس اللسانيات العربية، ثم بعد ذلك عن المدارس اللسانية الغربية.
ب- المدارس اللسانية العربية :
إن علماء العرب، مثل الجاحظ والجرجاني والسكاكي وابن خلدون هم الذين أسّسوا المدارس اللسانية العربية، وبإمكاننا أن نتحدث عنهم في هذا الحديث بداية من المدرسة البيانية مع الجاحظ ثم مدرسة النظم مع الجرجاني ثم المدرسة الشمولية مع السكاكي لنصل إلى المدرسة الارتقائية مع ابن خلدون.
1- المدرسة البيانية مع الجاحظ:
كان من الأصح أن نقول المدرسة البيانية -التبيينية- حتى نلتزم بعبارة الجاحظ وبفكره كما كانا في عنوان كتابه المشهور «البيان والتبيين»،
لأن إتباع التبيين للبيان الذي كان بالإمكان الاستغناء عنه في العنوان
طلبا للاختصار دفع بالجاحظ إلى تجشم المسالك الوعرة لاستيعاب مدارك الكلام
في جميع مضانها، لأن البيان إن كان يعبر بالخصوص عن هذه الظاهرة اللسانية
الإنسانية التي تمثل الأمانة التي عرضها الله على السماوات والأرض فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان لأنه كان ظلوما جهولا،
وهي بالتالي ظاهرة غيبية بالدرجة الأولى، فإن التبيين موضوع من الجاحظ
لوصف العلاقات اللسانية التي تجري في عالم الشهادة وتجمع بين المتكلم
والمخاطب وتنقل البيان إلى بلاغة، والكلام إلى رسالة مع ما تتضمنه الرسالة
من إلقاء وتلقي ورموز ومعاقد وحال ومقال ومقام كما تشرحه اليوم اللسانيات
الحديثة . (3)
والتأمل في
حقيقة الكلام وفي كيفية إنشائه وتطويره وعلاقته بالإنسان منذ بدء الخليقة
إلى أن صار بلاغة في سياسة الكون والكلام. كل هذا ضمنها في كتابيه «البيان والتبيين» و«الحيوان»، وقد اعتمد في ذلك على ما جاء في القرآن خاصة مما جعله أول ممثل للمدارس الكلامية المستمدة من القرآن الكريم .(4)
بدأ الجاحظ بتلخيص أنواع الدلالات في خمسة لا تزيد ولا تنقص، هي: اللفظ ثم الإشارة ثم العقد ثم الخط ثم النصبة. وسر هذا التصنيف لا يزال لغزا، لكن يبدو أنه قائم على النظرة الارتقائية التي تتلخص في عبارة
«العالم الصغير سليل العالم الكبير»
الشهيرة عنده حيث ينحدر اللفظ من الإشارة، والإشارة من العقد، والعقد من الخط، والخط من النصبة. (5)
2- مدرسة النظم مع الجرجاني :
النظم كما
تصوره الجرجاني يعني كيفية تركيب الكلام انطلاقا من الجملة البسيطة ليصل
إلى نظم القرآن في تراكيبه الصوتية والدلالية والنحوية والبلاغية
والأسلوبية والغيبية الإعجازية. والنظم باختصار يعني تأليف الحروف
والكلمات والجمل تأليفا خاصا يسمح للمتكلم والسامع أن يرتقيا بفضل بديع
التركيب إلى مدارك الإعجاز في المعاني علما بأن المعاني تملأ الكون وتعمر
الفضاء واختيار تركيب من التراكيب في النص كاختيار مسلك من المسالك في
البر والبحر قد يؤدي بالسالك يعني المتكلم إما إلى الوصول إلى الغاية التي
يقصدها في بر النجاة أو إلى الضلال والهلاك، والنظم كالبناء والنسج يتم في
معاقد النسب والشبكة، فمعاقد النسب تبرم الخيوط التي تذهب طولا، ومعاقد
الشبكة تبرم الخيوط التي تذهب عرضا، فإذا نسجت خيوط الطول في خيوط العرض
حصل النظم. (6)
3- المدرسة الشمولية مع السكاكي :
كتاب السكاكي «مفتاح العلوم في البلاغة»،
كان له تأثير كبير على الأجيال التالية، فصارت آراؤه مرجعا للدارسين جعلته
أكبر مدرسة لسانية في العربية، ولا يعرف الدارسون مدرسة مماثلة لها من حيث
الاتساع والشمول في الثقافات الأخرى.
وقد صنف السكاكي العلوم اللسانية في شكل شجرة أصلها ثابت في قواعد اللغة وفروعها في السماء تشمل جميع أنواع الكلام.(7) .
والتطور
يشمل أولا فرعين: النحو والصرف، ثم يرتقي النحو والصرف إلى درجة البلاغة،
فيخلف علم المعاني «النحو» وعلم البيان «الصرف»، ويخلف مقتضى الحال في
البلاغة مقتضى الوضع في النحو بإدراج المنطق والاستدلال في العملية عملية
التحويل كما يدرج مع مقتضى الحال مقتضى المقام ومقتضى المقال، ويرتقي من
البلاغة إلى علوم الأسلوب في مستوى علم البديع، فيخلف البيان المحسنات
اللفظية والمعاني المحسنات المعنوية، ولا يعرف العلماء عندنا حتى الآن أن
انتقال السكاكي من البيان إلى المعانـي ليس شيئا آخر سوى انتقال من علم
البلاغة إلى علم الأسلوب الذي أصبح علما قائما بذاته اليوم، وجعل الكثير
من الأدباء واللسانيين لا يميزون بين الطائف الدقيقة في البلاغة والأسلوب،
وجعلهم يعدون الوجوه البديعية زبدا رابيا يذهب جفاء ولا ينفع الناس. وقد
ساهم بعض أصحاب البديع بتصنعهم وتكلفهم في تأكيد هذا الانطباع، وبعد
البديع يرتقي الكلام إلى مرتبة الشعر مع العروض والقافية. فالعروض يخلف
التراكيب النحوية والمعنوية، والقافية تخلف البيان، وعند اكتمال هذه
الطبقات كلها ينتقل إلى الأدبية. ومفهوم الأدب يجمع بين القول والعمل يعني
بين التربية [التأديب] والقول الحسن، وليس فوق الأدب إلاّ الإعجاز
القرآنـي الذي ينقل القول والفعل الحسن إلى مدارك الغيب حيث يلتقي صواب
القول بصواب العمل.
وهكذا يطمح السكاكي في مفتاحه إلى النفاذ إلى جميع العلوم اللسانية والغيبية.
4- المدرسة الارتقائية مع ابن خلدوت :
إن النظرية
الارتقائية مبنية على طبقات خمس متراصفة يعبر عنها ابن خلدون بالأطوار،
ويقصد بالطور الفترة الزمنية التي ينتقل فيها الكائن لسانيا كان أو
إنسانيا أو حيوانيا من صورته الأولى إلى صورة أخرى كما أن لو كان حقيقة
أخرى وليست تطورا داخليا لحقيقة واحدة تنتقل من طور إلى طور حتى تنتهي إلى
غايتها.( .
والطور عند
ابن خلدون هو الحال عند البلاغيين، وقد أخذوه عن المتصوفة ووظفها ابن
خلدون لبناء نظرية التحصيل وهي تنص على أن المعنى ينشأ أول ما ينشأ عن
الفعل، فإذا تكرر الفعل صار صفة، وإذا تكررت الصفة صارت حالا
(أعني صفة غير ثابتة)،
وإذا تكررت الحال صارت ملكة
(أي مقاما كما يقول المتصوفة).(9)
والنظام
الخماسي هذا يجري في تسلسل مطرد من أسفل إلى أعلى صعودا، ومن أعلى إلى
أسفل نزولا في صورة هرمية أو في شكل شجرة أصلها ضيق وهو واسع، وفرعها واسع
وهو ضيق دقيق، هذه الشجرة هي المنوال الذي رصت فيه جميع المعاني التي تعمر
الكون كلمات كانت أم أشخاصا وأشياء.
وهي أعيان
متفرقة، إذا جمعت ونظمت شكلت أكوانا متراصفة في منوال عمراني واحد، إذا
ركبت في الأفعال كانت عمرانا فعليا، وإذا ركبت في أفكار وألفاظ لسانية
كانت عمرانا فكريا وكلاميا. والذوات التي في آخر كل أفق من العوالم مستعدة
لأن تنقلب إلى الذوات التي تجاورها من الأسفل والأعلى استعدادا طبيعيا كما
في العناصر الجسمانية البسيطة وكما في النخل والكرم من آخر أفق النبات مع
الحلزون والصدف من أفق الحيوان، وكما في القردة التي استجمع فيها الكيس
والإدراك مع الإنسان صاحب الفكر والروية. (10) .وهذا لا يعني أكثر مما
يعنيه مبدأ
«العالم الصغير سليل العالم الكبير»
الذي بنى عليه الجاحظ نظريته.
وهذا
التطور الارتقاؤي إذا طبقناه على الكلام كان الارتقاء كالتالى،ففي الأسفل
نجد الدلالات التي لا تتحدد أبعادها إلاّ إذا أدرجت في شبكة نحوية،
والشبكة النحوية لا تظهر قيمتها الكلامية إلاّ إذا أدرجت في الطبقة التي
فوقها طبقة البلاغة. والبلاغة التي هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال ترتقي
إلى طبقة الأسلوب التي تجمع العبارة البلاغية وتضيف إليها البديع أي
إبداعات المتكلم، لأن الأسلوب هو العلامات الدالة على شخص المتكلم أو
الصانع للعمران . (11) .
وكيفية صنع
التراكيب الكلامية ككيفية صنع التراكيب العمرانية تخضع للذكاء والحذق،
ولذلك فكر ابن خلدون في الجمع بين التراكيب العمرانية والتراكيب اللسانية
في علم واحد للتراكيب سماه فقه التراكيب . (12) ففقه التراكيب هو كل شيء
في نظرية ابن خلدون. والتراكيب الارتقائية هي وحدها التي تمكن من الارتقاء
إلى مدارك الأعجاز في القرآن الكريم بحيث يمكن القول أن التراكيب المعنوية
تبدأ عند العناصر العليا المؤلفة لنظم القرآن الذي لا تدركه إلاّ خواص
النفوس.
وهذه
التراكيب أوسع من أن يحاط بها في قواعد معينة وهي التي يجب تعليمها
للناشئة بالجمع فيها بين التراكيب اللسانية والتراكيب العملية كما تجري
بالفعل في الواقع اليومي الميداني وفي العلاقات بين الأشخاص في الأحوال
والمقامات التي يعيشون فيها، وهي خلاصة منوال ابن خلدون.
وفقه التراكيب يتلخص في نظر ابن خلدون في مفهوم الأسلوب، وهو أسمى ما توصل إليه التفكير الخلدوني في لسانيته الارتقائية . (13)
ج- المدارس اللسانيّة الغربيّة
لقد لاقت
آراء سوسير (14) ونظرياته، في النصف الأول من القرن العشرين من النجاح
قسطا عظيما، بين عدد كبير من الدارسين وكانت معينا لعدد من المدارس قامت
على المبادئ النظرية التي أرسى سوسير قواعدها، والأسس المنهجية التي سطر
معالمها ووضعها.(15) ومن تلك المدارس اللسانية الغربية، هي :
1- المدرسة البنيوية (structuralisme) مع سوسير:
البنيوية
مفهوم يطلق حسب الأشخاص والأحوال على مدارس لسانية مختلفة وهو يستعمل
أحيانا لتعيين واحدة أو أكثر من المدارس أو لتعينها جميعا، لأن لها مجموعة
من التصورات والمناهج التي يشملها مفهوم البنية في اللسانيات(16) .
فإذا
أبعدنا في الوقت الحاضر البنيوية التحويلية (التابعة للنحو التوليدي)، فإن
المدارس المختلفة التي تتمثل فيها هي التوزيعية والوظيفية والنسقية. وهي
التي تتأسس عليها اللسانيات لدراسة العبارات المنجزة بالفعل. فاللسانيات
تسعى هكذا إلى وضع نظرية لدراسة النص المنجز بعد إنهائه وغلق باب تراكيبه
باستعمال منهج تحليلي (شكلي) يقوم على شكل النص (من صورته الخارجية)، و
بهذا تطرح البنيوية أولا مبدأ الحضور والشهادة يعني الوجود في النص.
فالعالم اللساني يقف عند حدود العبارة المنجزة بالفعل (في مدونة) محاولا
تفسير البنية يعني هندسة العناصر الموجودة داخل النص وقيامها بذاتها(17)
.ويترتب عن هذا أننا نستخلص من النص أو من النصوص المختلفة الناجمة عن
ألفاظ القول نظاما للغة.وبالعكس فإن كل ما يمس بالتعبير (كيفية تحقيق
العبارة) خاصة صاحب العبارة (وفاعلها) والحال التي أنجز فيها النص فتترك
على جانب، لأنها تعتبر ثابتة وغير متبدلة، لكن يجب الإشارة إلى وجود
خلافات جوهرية حول الموضوع، فمدرسة براغ وعلى رأسها ياكوبسن وبنفنيست تهتم
بدراسة علاقة المتكلم بكلامه يعني وظيفة الكلام وكيفية التعبير عنها. أما
أتباع دي سوسير (كشارل بالي خاصة) فيقترحون لسانيات تنطلق من اللفظ (يعني
القول) وهي ذات أهمية وترفض اللسانيات التي تنظر إلى اللغة وحدها. وعكسها
نجد بلومفيلد الذي يرى أنه يستحيل تحديد المعنى وعلاقة صاحب النص بالكون
الواقعي، قائلا أن هناك عوامل كثيرة تتدخل في نسج العبارة مما يعجز على
حصرها ويستحيل ضبط خصوصيتها ووصف العلامات البارزة التي لها دور في تأليف
المقام. وهناك خاصية أخرى هامة للبنية هي التمييز بين معاقد الكلام فـي
مختلف وجوهها وبين إنجازها أقوالا (18)
وهكذا
يتعين علينا دراسة نظام اللغة كما يجري في لحظة من اللحظات عند مطابقتها
لمقتضى الحال، وهي دراسة نيرية، لأن الدراسة الزمنية (التاريخية) تبدو
متنافية مع دراسة اللغة كنظام.
2- المدرسة النسقية (glossématique) مع هلمسليف :
العالم
اللساني الدنمركي لويس هلمسليف (19) بكوبنهاجن هو الذي اخترع مفهوم
غلوسيماتيك (glossématique) باشتقاقه من الإغريقية غلوسة يعني اللغة
لتعيين النظرية المستخلصة من نظرية دي سوسير التي تجعل من اللغة غاية
لذاتها لا وسيلة لتحقيق الغاية المقصودة بالكلام .(20) .
والغلوسيماتيك
تقوم على النقد الحاد للسانيات التي سبقتها وحادت في نظرها عن مجال اللغة
بانتصابها خارج الشبكة اللغوية واهتمامها بالإجراءات (غير اللسانية) التي
تهدف إلى معرفة مصادرها الأولى ما قبل التاريخ وجوانبها الفيزيائية
والظواهر الاجتماعية والأدبية والفلسفية. والنسقية تنتصب على العكس من ذلك
داخل اللغة فهي تصدر منها وإليها ولا تخرج عن دائرة اللغة المنظور إليها
على أنها حقل مغلق على نفسه وبنية لذاتها وهي تبحث عن المعطيات الثابتة
التي تعتمد على الظواهر غير اللسانية، وهي تسعى إلى إبراز كل ما هو مشترك
بين جميع اللغات البشرية، وتكون اللغة بسببه هي مهما تبدل الزمن وتغيرت
الأحداث. وهكذا تختلف الغلوسيماتك عن النظرة الإنسانية، فمظاهر اللغة لا
تبصر إلاّ مرة واحدة ولا تتجدد مثل الظواهر الطبيعية بحيث يمكن دراستها
دراسة علمية على العكس من هذه الظواهر اللسانية.(21)
وهكذا تضع
الغلوسيماتيك نظرية تتسع إلى جميع العلوم الإنسانية، فكل إجراء عملي
يقابله إجراء نظري، و الإجراء يمكن تحليله من خلال العناصر التي يشكلها
بكيفيات مختلفة.
والنظرية
هذه تهتم قبل كل شيء باللسانيات، فإذا ثبتت نجاعتها توسع بها إلى العلوم
الإنسانية الأخرى، ولكي يمكن قبول نتائجها يجب أن تتفق والتجربة الفعلية،
وقد أسسها هلمسليف على ما سماه مبدأl’empirisme التجربة الشاهدة (22)،
ولكي تتصف بهذه الخاصية يجب أن تكون خالية من كل تناقض وأن تتصف بالشمولية
وتكون بسيطة سهلة الإدراك ما أمكن. فالنظرية الاستقرائية التقليدية حسب
هلمسليف تدعي الانطلاق من الجزء إلى الكل (من المعطيات الخاصة إلى
العامة)، يعني القوانين المنطقية. وهي قبل كل شيء تلخيصية وتعميمية، وهي
لا تستطيع تجاوز الظاهرة اللسانية الخاصة، فبعبارات مثل العامل والشرط
والماضي والمفعول فيه والاسم والفعل والمبتدأ والخبر لا يمكنها أن تنطبق
إلاّ في مجال الإعراب، ولا يمكن قبولها كأقسام لسانية فهي إذا تتناقض مع
الوصف اللساني فالغلوسيماتيك تنطلق من النص الملفوظ المعبر أو من جميع
العبارات الملفوظة المجعولة للتعبير. وهذا النص قابل للتقسيم إلى أنواع
تكون بدورها قابلة للتقسيم إلى أصناف والصنف ينبغي أن لا يحمل تناقضا وأن
يكون شاملا. فالأمر يتعلق بوصف المواد ذاتها ووصف العلاقات التي تجمع
بينها والتي تسعى اللسانيات إلى وصف علاقاتها وتحديدها. فالموضوع الوحيد
والحقيقي للسانيات هو اللغة(23) التي يوجه البحث منها وإليها، فبنية النص
اللساني الشاهد في نظر هلمسليف هي الموضوع الوحيد للسانيات.
3- المدرسة الوظيفية (fonctionnelle)مع ياكوبسن (24) ومارتيني (25)
لا شك في
أن الاتجاه الوظيفي بدأ يبرز إلى الوجود وتتكون ملامحه في حلقة [مدرسة]
براغ [التشيكوسلوفاكية] التي استفادت من آراء دي سوسير بقدر ما استغلت
منطلقاتها النظرية في أعمالها وكونت لنفسها نظرية لغوية. (26).على أنها لم
تحدد منهجها إلاّ بالانطلاق من تحديد للغة باعتبارها نظاما وظيفيا يرمي
إلى تمكين الإنسان من التعبير والتواصل.
فإذا كان
دور اللغة هو توفير أسباب التواصل فإن دراسة اللغة ينبغي أن تراعي ذلك،
فكل ما يضطلع بدور في التواصل ينتمي إلى اللغة وكل ما ليس له مثل هذا
الدور فهو خارج عنها، وبعبارة أخرى فإن العناصر اللغوية هي التي تحمل شحنة
إعلامية، أما التي لا يمكن أن نعتبرها ذات شحنة إعلامية فلا يعتد بها
اللغوي، فالأولى وحدها هي التي لها وظيفة.
وقد اعتمدت
مدرسة براغ هذا المنطلق لتدريس خاصة الأصوات وتضبط منهجا للتمييز بين ما
هو وظيفي فيها وما ليس وظيفيا، وكان تروباتزكوي هو الذي بلور فـي أجلى
مظهر نتائج أعمالها في كتابه : مبـادئ الأصـوات الوظيفية (principes de
phonologie(27
على أن
النظرية الوظيفية لم تتبلور في كل مظاهرها مع مدرسة براغ، فقد تواصل
بناؤها وصقلت مبادؤها ومفاهيمها في فرنسا عن طريق أندري مارتيني خاصة.
ويمكننا أن نستخلص مما كتبه أندري مارتيني ثلاثة اتجاهات رئيسية ذات علاقات حميمة فيما بينها كما يلي: (28)
- اتجاه الفونولوجيا (علم الأصوات العام) وتعتني بضبط الأصوات العامة ووصف صورها (الفونولوجيا الوصفية)؛
- اتجاه الفونولوجيا الزمنية (العلم بتطور الأصوات عبر الزمان)؛
اتجاه اللسانيات العامة.