تشومسكي د. حمزة بن قبلان المزيني
عرضت في الحلقة الماضية نماذج من آراء الباحثين العرب المعاصرين في قضية العلاقة بين النحو العربي والنظرية التوليدية التي اقترحها نعوم تشومسكي. أما في هذه الحلقة فإنني سأورد نماذج من آراء الباحثين الغربيين في هذه القضية. وسأورد ما قاله تشومسكي نفسه عن معرفته بالنحو العربي.
وأود أن أبين أنه سبق لي إيراد بعض هذه الآراء في مقالات وأماكن نشر أخرى، لكنني سأوردها هنا استكمالا للموضوع ولملاءمتها لسياق هذه الحلقات.
فمن أوائل الباحثين الذين اهتموا في أبحاثهم بطبيعة الدراسات النحوية العربية اللساني الأمريكي المعاصر المعروف مايكل بريم في رسالته للدكتوراة. وهي رسالة حلل فيها النظام الصواتي للغة العربية الفصحى، وأنجزها في جامعة ماساتشوستس للتقنية بإشراف عالم الصواتة المشهور موريس هالي في سنة 1970م. وينظر الباحثون إلى هذه الرسالة على أنها عمل بارز استخدم فيه مايكل بريم دراسة التراكيب الصواتية للغة العربية مثالا يحتج به لتطبيق النظرية الصواتية التي جاء بها تشومسكي وموريس هاله في كتابهما الشهير "نمط الأصوات في اللغة الإنجليزية"The Sound Pattern of English, 1968 . وقد انتشرت هذه الرسالة انتشارًا واسعًا في أقسام اللسانيات في أمريكا وغيرها، واعتُمدت مرجعًا رئيسا في الدراسة الصواتية، وظهرت الإشارة إليها في عدد لا يحصى من الكتب والمقالات في تلك الفترة. ولا يزال يشار إليها بوصفها عملاً كلاسيكيًّا في النظرية الصواتية وفي الدراسات العربية على السواء.
ومما قاله بريم في مقدمة الرسالة(وهي ترجمتي):
"أعتقد أن النحو العربي بخاصة قد بلغ أدنى درجات الانحطاط على أيدي العلماء الغربيين. فلقد تجاهلت اللسانيات الغربية تجاهلاً يكاد يكون تامًّا كثيرًا من مظاهر العمق والأصالة اللذين أورثنا إياهما النحويون العرب. وسوف أعالج هذا الموضوع [أي النظام الصواتي للغة العربية في تلك الرسالة] بالروح التي عالجه بها أولئك النحويون العرب. وهذا صحيح في الأقل فيما يخص المسألة التي استرعت اهتمامهم، وهي مسألة تحديد الأصل أو التمثيل العميق للغة. . . .".
فهو يشير هنا إلى مسألتين مهمتين من أوجه التشابه بين النحو العربي والنظرية التوليدية: أنهما يفترضان أن الكلام الذي ننجزه مشتق من أصل ربما لا يكون متوافقا مع الشكل المنجز له، وأن جمل اللغة المنجزة لها مستوى مجرد.
ومن الأبحاث التفصيلية الأولى التي تنحو هذا المنحى بحث كتبه ديفيد بترسون بعنوان "بعض الوسائل التفسيرية عند النحويين العرب"، ألقاه في الندوة السنوية لجمعية اللسانيات في جامعة شيكاغو في سنة 1972، ونشر في مجموعة الأبحاث التي صدرت عنها. ويناقش بيترسون في هذا البحث لجوء النحويين العرب إلى التأويل والتجريد في تفسير الظواهر اللغوية، ويختمه بقوله: ". . . يجب أن يكون واضحًا من النقاش الذي تقدَّم أن النحويين العرب لم يكونوا وصفيين لا يهتمون إلا بالظاهر بأي حال. بل إنهم بنيويون بالمعنى نفسه الذي يُصنَّف به أكثر الدرس اللساني في القرن العشرين، ومن ضمنه النحو التوليدي التحويلي. لقد كان النحويون العرب يهتمون بالتحليل البنيوي الذي يصل الأشكال بعضها ببعض وهو ما يؤدي إلى تفسيرها. ومن اللافت للنظر أن تكون بعض تحليلاتهم مجرَّدة ومصوغة بمصطلحات تشبه ما يستعمله اللسانيون اليوم . . . إن دليل نجاحهم يتبين من أن عملهم لم يُتجاوز إلا في حالات قليلة".
ومن أشهر الباحثين الغربيين البارزين الذين اهتموا بدراسة تاريخ النحو العربي وطبيعة الدراسة النحوية عند العرب ثلاثة، وهم مايكل كارتر وكيس فرستيغ وجوناثان أوين. إذ كتبوا في هذين الموضوعين عددا كبيرا من المقالات والكتب.
وقد حرر كيس فرستيغ ومايكل كارتر كتابا بالإنجليزية عنوانه: "دراسات في تاريخ النحو العربي ـ 2"، ونشر في 1990. ويقول المحرران في مقدمة هذا الكتاب:
"يمكن أن يشار هنا إلى نقطتين مهمتين يُعنى بهما مؤرخ اللسانيات: فالنقطة الأولى هي أن الاهتمام العميق الظاهر الآن باللسانيات العربية هو من غير شك نتيجة لتطور النظرية اللسانيات العامة ونُضْجها، إذ وضع هذا التطورُ العلماء الغربيين في مستوى يمكن لهم فيه أن يقدِّروا عمق التفكير اللساني العربي ودِقّته؛ وبغض النظر عن النواحي التي يمكن أن تكون اللسانيات النظرية قد فشلت في إنجازها في الدوائر العلمية الغربية، إلا أنها أسهمت من غير شك إسهامًا موجِبًا في فهمنا للسانيات غير الغربية. والنقطة الثانية أن من الواضح أنه على المستوى النظري الكُلِّي أو على المستوى التطبيقي أو كليهما فإن هناك بعض الدروس التي يمكن للسانيات الحديثة أن تتعلَّمها من النحويين العرب القدماء. إن مفهوم الكُلّيّات اللسانية في الأقل ربما لا يمكن نقاشه الآن دون النظر في التنظيرات المشابهة في اللغة العربية، حيث يجب ألا يؤكَّد تطبيق كثير من معطيات اللسانيات المعاصرة دون الإشارة إلى التقاليد اللسانية التي تُعد اللغة العربية أشهرها من حيث النضج الذي لا يقل عن نضج التقاليد اللسانية المعروفة الأخرى مثل الهندية أو الصينية. وربما وجد المهتم باللسانيات العامة الذي يعرف العربية، أو الذي يكون على استعداد لأن يتعلم من العربية ما يُمَكِّنه من فهم محتوى الأبحاث في هذه المجموعة، بعضَ المعلومات التي يمكن أن تقوده إلى تعديل بعض آرائه التي تأسست كلها على التقاليد الغربية".
أما جوناثان أوين فقد كتب عددًا كبيرًا من الأبحاث التي تناقش قضايا معينة في النظرية النحوية العربية. وسوف أقتصر هنا على عَرْض ما قاله عن هذا الموضوع في كتابه "مقدمة للنظرية النحوية العربية في القرون الوسطى"، 1988م. فهو يشير في المدخل الذي صدَّر به الكتاب إلى أن الفكرة التي مؤداها أن الممارسة اللسانية العربية يمكن أن تُفهم حق الفهم من خلال المبادئ اللسانية العامة لم تبدأ إلا في أوائل السبعينيات من القرن العشرين. كما يشير في المقدمة إلى أن عبارة "القرون الوسطى" التي تظهر في عنوان كتابه يجب ألا يفهم منها الفهم المألوف في الدراسات الغربية التي يمكن فيها أن تشير هذه العبارة إلى غموض المنهج وتعقيده. ذلك أن النظرية النحوية العربية في تلك الفترة تتشابه مع النظرية اللسانية المعاصرة في عدد من الأمور الأساسية، وهو ما يجعل مناقشتها أسهل للقارئ الغربي المعاصر. ويشير كذلك إلى أنه يمكن البرهنة على أن أحد الأسباب التي أدت إلى عدم تقدير النظرية العربية حين اكتشفها الغربيون في القرن التاسع عشر، وهو الزمن الذي شهد تكوُّن التقاليد الإستشراقية، أنه لم يكن في الدراسات الأوروبية في تلك الفترة مثيل لها. ولم توضع هذه النظرية في منظور أفضل إلا مع التقاليد البنيوية التي أسسها دي سيسور وبلومفيلد وتشومسكي.
وعلى الرغم من هذا التشابه بين النحو العربي واللسانيات الحديثة، وبخاصة النحو التوليدي، إلا أنه يبيِّن أن هناك أربعة فروق بين النحو العربي والنحو التوليدي في مسألة الحذف. وهي المسألة التي جعلت كثيرا من الناس ينتبهون إلى وجوه التشابه بينهما. وأول هذه الفروق أن الحذف في النحو التوليدي لا يقع إلا إذا كان للمحذوف مثيل في النص. أما في النحو العربي فإن للحذف سببين: فالأول تركيبي، والثاني "مقاميّ" pragmatic ، ذلك أن المحذوف يمكن أن يفهم من السياق. والفارق الثاني بين النحويْن هو فرق في الاهتمام؛ ففي الوقت الذي ينظر فيه النحو العربي إلى الحذف على أنه محاولة للوصول إلى معرفة المحذوف، فإن النحو التوليدي يبدأ من الجمل الكاملة ويطبق عليها قواعد الحذف ليصل إلى الشكل الظاهري لها. والفرق الثالث أن في النحو التوليدي قواعد محدَّدة للحذف، أما في النحو العربي فلم تحدد تلك القواعد، بل لقد أُسندت تلك القواعد إلى المتكلم نفسه. والفرق الرابع هو أن النحو العربي كان ينظر إلى المعنى حين يقع الحذف، وهذا ما لا نجده في النحو التوليدي.
ويقارن أيضًا بين النحو العربي والنحو التحويلي من حيث أوجه التشابه والاختلاف في مسألة التحويل. ويرى عدم التشابه بين النحوين لأن النحو التحويلي يسعى لتحويل جمل إلى جمل أخرى، وذلك ما لا يفعله النحو العربي. وينتهي إلى أن من المضلِّل أن نساوي بين النحوين على الرغم من وجود بعض التشابه.
ويدرس في الفصل التاسع الذي عنوانه "التركيب، والدلالة، والمقاميَّة" ما عمله النحويون والبلاغيون العرب من ربط المعنى بالشكل والعلاقة بينهما. ومن الذين اهتموا بهذه المسألة، سيبويه وأبو على الفارسي من النحويين والجرجاني من البلاغيين. ويعود مرة أخرى في هذا الفصل للمقارنة بين النحو التحويلي والنحو العربي في مسألة دراسة المعنى. ويرى أنه لا يوجد تشابه بين النحوين، وذلك لاختلاف الاهتمام ولاختلاف التحليل.
وهكذا نجد من هذه النماذج للآراء التي يظهر فيها التقدير الكبير لما عمله النحويون العرب القدماء أن هناك تشابها في كثير من المنطلقات والتقنيات بين النحو العربي والنحو التوليدي بخاصة. لكنه لم يقل أحد من هؤلاء المؤرخين الدارسين بأخذ تشومسكي عن النحو العربي. بل إن من الواضح من دراسة جوناثان أوين أن هناك اختلافات عميقة بين النحو العربي والنحو التوليدي تكاد تسد باب افتراض أخذ النحو التوليدي عن النحو العربي.
وما دام أن تشومسكي نفسه طرف في القضية فإنه يحسن بنا أن نطلع على ما قاله عنها تحديدا. فقد كنت بعثت إليه برسالة أسأله فيها عما سمعته من الدكتور عبده الراجحي الذي أكد في محاضرة عامة في النادي الأدبي في الرياض أخْذ تشومسكي عن النحو العربي، وذلك أنه، في رأي الدكتور الراجحي، درس كتاب سيبويه، واطلع على دراسات عالم اللغة الألماني فون همبولت الذي كان يعرف النحو العربي، يزاد على ذلك تأكيد الدكتور الراجحي أن هناك باحثا عربيا، هو الدكتور يوسف عون، يدرِّس تشومسكي كتاب سيبويه.
وقد أجاب تشومسكي عن تساؤلاتي في رسالة مؤرخة في 28 مايو 1989م. وكنت ترجمت هذه الرسالة ونشرتْها جريدة الرياض في حينه، لكنها نشرت في وسط الأسبوع مما جعل كثيرا من القراء لا يطلع عليها. ولهذا فإنني أترجمها مرة أخرى وأوردها هنا لملاءمتها للسياق أيضا.
يقول تشومسكي في جزء الرسالة الذي يتعلق بهذا الموضوع:
"وتسأل عن تأثير النحو العربي التقليدي على منهجي في دراسة اللغة. إن أكثر الأقوال التي سمعتَها صحيحة جزئيا، إلا تلك التي تتعلق بفون همبولت الذي لم أطلع على دراساته إلا في الستينيات. فقد كان والدي عالما من علماء النحو العبري في القرون الوسطى، وقد حقق الطبعة المعتمدة لكتاب النحو الذي ألفه[النحوي اليهودي الأندلسي] ديفيد قمحي. وكنت مطلعا اطلاعا جيدا في أيام صباي المبكرة على أعمال أبي، كما أنني درست حينها شيئا قليلا من الدراسات التاريخية عن نحو اللغات السامية. وكان أثر النحو العربي[على النحو العبري] عظيما، وهذا أمر مشهور. وكان هذا السياق ذا أثر مباشر كبير على دراساتي المبكرة. بل إن رسالة التخرج من الجامعة [البكالوريوس] ورسالة الماجستير اللتين أنجزتهما في جامعة بنسلفانيا عن الأنظمة الصواتية الصرفية للغة العبرية الحديثة كانتا متأثرتين بتلك الدراسات إلى درجة كبيرة، كما صممتا جزئيا من حيث النموذج على مفاهيم مأخوذة من اللسانيات السامية التاريخية والنحو التقليدي. وكانت هاتان الرسالتان أقدم النماذج للنحو التوليدي المعاصر، وإن لم تنشرا إلا بعد سنين من تاريخ إنجازهما.
ولما التحقت بجامعة بنسلفانيا في سنة 1945م بدأت مباشرة بدراسة اللغة العربية مع جورجيو ليفي ديللا فيدا الذي كان مستعربا متميزا جدا، ثم درست، بعد أن تقاعد ديللا فيدا، مع فرانز روزينتال. ومع روزينتال درست مادة اللغة العربية لفصل واحد، وكنت الطالب الوحيد في تلك المادة، ودرست معه فيها كتاب سيبويه، وربما كان هذا هو أساس الشائعة التي سمعتَها [أي أن هناك شخصا يدرس تشومسكي كتاب سيبويه]. وكان زيلك هاريس، الذي درست [اللسانيات] على يديه، أنجز أعماله الأساسية في اللسانيات التاريخية السامية، وكنت درست ما كتبه في هذا الموضوع أيضا. إن من الصعب دائما أن نتتبع بدقة مثل هذه الأمور، لكن هناك من غير شك احتمالات كبيرة لمثل هذا التأثير".
كما كتب لي رسالة مؤرخة في 17 ديسمبر 1990، بعد أن بعثت إليه نسخة من ترجمتي لكتابه "اللغة ومشكلات المعرفة" ضمنها النص التالي:
"على الرغم من أنني كنت في فترة مبكرة من حياتي أعرف ما يكفي من اللغة العربية أستطيع به فهم ما ينشر في جريدة أو رواية(أما دراستي الفعلية فقد كانت مقصورة على الشعر الجاهلي، والمؤلفات النحوية التي ألفت في القرن الثامن الميلادي ["القرن الثاني الهجري"؛ ربما يشير هنا إلى كتاب سيبويه])، إلا أن ذلك كان قبل أربعين سنة خلت، أما الآن فإنني لا أثق بمعرفتي [للعربية]. لكنني سوف أعير الكتاب [الترجمة] إلى أحد زملائي أو أصدقائي [لقراءته]".
ويتبين بوضوح من كلام تشومسكي أن تأثره بالنحو العربي لا يتجاوز كونه احتمالا. ولو كان يعرف العربية معرفة تمكنه من فهم دقائق كتاب سيبويه لما كان من الممكن لهذه المعرفة العميقة أن تضمحل إلى الدرجة التي يذكرها. بل إن من يعرف تشومسكي وأمانته ودقته في ذكر مصادره سيستغرب من عدم إشارته إلى كتاب سيبويه تحديدا، لو كان نقل عن سيبويه شيئا محددا في بناء نظريته.
كما أن كلام الباحثين العرب والغربيين على السواء لم يستطع على تفصيله في بعض الأحيان تأكيد هذه الصلة المباشرة بين تشومسكي والنحو العربي.
وفي ختام هذه الحلقات الخمس أرجو ألا أكون قد أطلت أو أمللت القارئ الكريم؛ وقد عرضت فيها لشيء من حياة تشومسكي ولمناقشة الموضوع الذي يثار دائما عن العلاقة بين النحو العربي والنحو التوليدي الذي ارتبط باسم تشومسكي.
ومع ذلك فإنه ما تزال هناك بعض المواضيع المهمة التي لم أتناولها بعد، وتتعلق بالأسباب التي تجعل بعض الباحثين يفترضون وجود هذه الصلة بين النحوين. ولهذا فإنني أرجو القارئ الكريم أن يتحمل معي الاستمرار، لأنني أجد أن استكمال هذا الموضوع يستوجب كتابة حلقة أو حلقتين عن هذه المسألة المهمة.
منقول للفائدة
عرضت في الحلقة الماضية نماذج من آراء الباحثين العرب المعاصرين في قضية العلاقة بين النحو العربي والنظرية التوليدية التي اقترحها نعوم تشومسكي. أما في هذه الحلقة فإنني سأورد نماذج من آراء الباحثين الغربيين في هذه القضية. وسأورد ما قاله تشومسكي نفسه عن معرفته بالنحو العربي.
وأود أن أبين أنه سبق لي إيراد بعض هذه الآراء في مقالات وأماكن نشر أخرى، لكنني سأوردها هنا استكمالا للموضوع ولملاءمتها لسياق هذه الحلقات.
فمن أوائل الباحثين الذين اهتموا في أبحاثهم بطبيعة الدراسات النحوية العربية اللساني الأمريكي المعاصر المعروف مايكل بريم في رسالته للدكتوراة. وهي رسالة حلل فيها النظام الصواتي للغة العربية الفصحى، وأنجزها في جامعة ماساتشوستس للتقنية بإشراف عالم الصواتة المشهور موريس هالي في سنة 1970م. وينظر الباحثون إلى هذه الرسالة على أنها عمل بارز استخدم فيه مايكل بريم دراسة التراكيب الصواتية للغة العربية مثالا يحتج به لتطبيق النظرية الصواتية التي جاء بها تشومسكي وموريس هاله في كتابهما الشهير "نمط الأصوات في اللغة الإنجليزية"The Sound Pattern of English, 1968 . وقد انتشرت هذه الرسالة انتشارًا واسعًا في أقسام اللسانيات في أمريكا وغيرها، واعتُمدت مرجعًا رئيسا في الدراسة الصواتية، وظهرت الإشارة إليها في عدد لا يحصى من الكتب والمقالات في تلك الفترة. ولا يزال يشار إليها بوصفها عملاً كلاسيكيًّا في النظرية الصواتية وفي الدراسات العربية على السواء.
ومما قاله بريم في مقدمة الرسالة(وهي ترجمتي):
"أعتقد أن النحو العربي بخاصة قد بلغ أدنى درجات الانحطاط على أيدي العلماء الغربيين. فلقد تجاهلت اللسانيات الغربية تجاهلاً يكاد يكون تامًّا كثيرًا من مظاهر العمق والأصالة اللذين أورثنا إياهما النحويون العرب. وسوف أعالج هذا الموضوع [أي النظام الصواتي للغة العربية في تلك الرسالة] بالروح التي عالجه بها أولئك النحويون العرب. وهذا صحيح في الأقل فيما يخص المسألة التي استرعت اهتمامهم، وهي مسألة تحديد الأصل أو التمثيل العميق للغة. . . .".
فهو يشير هنا إلى مسألتين مهمتين من أوجه التشابه بين النحو العربي والنظرية التوليدية: أنهما يفترضان أن الكلام الذي ننجزه مشتق من أصل ربما لا يكون متوافقا مع الشكل المنجز له، وأن جمل اللغة المنجزة لها مستوى مجرد.
ومن الأبحاث التفصيلية الأولى التي تنحو هذا المنحى بحث كتبه ديفيد بترسون بعنوان "بعض الوسائل التفسيرية عند النحويين العرب"، ألقاه في الندوة السنوية لجمعية اللسانيات في جامعة شيكاغو في سنة 1972، ونشر في مجموعة الأبحاث التي صدرت عنها. ويناقش بيترسون في هذا البحث لجوء النحويين العرب إلى التأويل والتجريد في تفسير الظواهر اللغوية، ويختمه بقوله: ". . . يجب أن يكون واضحًا من النقاش الذي تقدَّم أن النحويين العرب لم يكونوا وصفيين لا يهتمون إلا بالظاهر بأي حال. بل إنهم بنيويون بالمعنى نفسه الذي يُصنَّف به أكثر الدرس اللساني في القرن العشرين، ومن ضمنه النحو التوليدي التحويلي. لقد كان النحويون العرب يهتمون بالتحليل البنيوي الذي يصل الأشكال بعضها ببعض وهو ما يؤدي إلى تفسيرها. ومن اللافت للنظر أن تكون بعض تحليلاتهم مجرَّدة ومصوغة بمصطلحات تشبه ما يستعمله اللسانيون اليوم . . . إن دليل نجاحهم يتبين من أن عملهم لم يُتجاوز إلا في حالات قليلة".
ومن أشهر الباحثين الغربيين البارزين الذين اهتموا بدراسة تاريخ النحو العربي وطبيعة الدراسة النحوية عند العرب ثلاثة، وهم مايكل كارتر وكيس فرستيغ وجوناثان أوين. إذ كتبوا في هذين الموضوعين عددا كبيرا من المقالات والكتب.
وقد حرر كيس فرستيغ ومايكل كارتر كتابا بالإنجليزية عنوانه: "دراسات في تاريخ النحو العربي ـ 2"، ونشر في 1990. ويقول المحرران في مقدمة هذا الكتاب:
"يمكن أن يشار هنا إلى نقطتين مهمتين يُعنى بهما مؤرخ اللسانيات: فالنقطة الأولى هي أن الاهتمام العميق الظاهر الآن باللسانيات العربية هو من غير شك نتيجة لتطور النظرية اللسانيات العامة ونُضْجها، إذ وضع هذا التطورُ العلماء الغربيين في مستوى يمكن لهم فيه أن يقدِّروا عمق التفكير اللساني العربي ودِقّته؛ وبغض النظر عن النواحي التي يمكن أن تكون اللسانيات النظرية قد فشلت في إنجازها في الدوائر العلمية الغربية، إلا أنها أسهمت من غير شك إسهامًا موجِبًا في فهمنا للسانيات غير الغربية. والنقطة الثانية أن من الواضح أنه على المستوى النظري الكُلِّي أو على المستوى التطبيقي أو كليهما فإن هناك بعض الدروس التي يمكن للسانيات الحديثة أن تتعلَّمها من النحويين العرب القدماء. إن مفهوم الكُلّيّات اللسانية في الأقل ربما لا يمكن نقاشه الآن دون النظر في التنظيرات المشابهة في اللغة العربية، حيث يجب ألا يؤكَّد تطبيق كثير من معطيات اللسانيات المعاصرة دون الإشارة إلى التقاليد اللسانية التي تُعد اللغة العربية أشهرها من حيث النضج الذي لا يقل عن نضج التقاليد اللسانية المعروفة الأخرى مثل الهندية أو الصينية. وربما وجد المهتم باللسانيات العامة الذي يعرف العربية، أو الذي يكون على استعداد لأن يتعلم من العربية ما يُمَكِّنه من فهم محتوى الأبحاث في هذه المجموعة، بعضَ المعلومات التي يمكن أن تقوده إلى تعديل بعض آرائه التي تأسست كلها على التقاليد الغربية".
أما جوناثان أوين فقد كتب عددًا كبيرًا من الأبحاث التي تناقش قضايا معينة في النظرية النحوية العربية. وسوف أقتصر هنا على عَرْض ما قاله عن هذا الموضوع في كتابه "مقدمة للنظرية النحوية العربية في القرون الوسطى"، 1988م. فهو يشير في المدخل الذي صدَّر به الكتاب إلى أن الفكرة التي مؤداها أن الممارسة اللسانية العربية يمكن أن تُفهم حق الفهم من خلال المبادئ اللسانية العامة لم تبدأ إلا في أوائل السبعينيات من القرن العشرين. كما يشير في المقدمة إلى أن عبارة "القرون الوسطى" التي تظهر في عنوان كتابه يجب ألا يفهم منها الفهم المألوف في الدراسات الغربية التي يمكن فيها أن تشير هذه العبارة إلى غموض المنهج وتعقيده. ذلك أن النظرية النحوية العربية في تلك الفترة تتشابه مع النظرية اللسانية المعاصرة في عدد من الأمور الأساسية، وهو ما يجعل مناقشتها أسهل للقارئ الغربي المعاصر. ويشير كذلك إلى أنه يمكن البرهنة على أن أحد الأسباب التي أدت إلى عدم تقدير النظرية العربية حين اكتشفها الغربيون في القرن التاسع عشر، وهو الزمن الذي شهد تكوُّن التقاليد الإستشراقية، أنه لم يكن في الدراسات الأوروبية في تلك الفترة مثيل لها. ولم توضع هذه النظرية في منظور أفضل إلا مع التقاليد البنيوية التي أسسها دي سيسور وبلومفيلد وتشومسكي.
وعلى الرغم من هذا التشابه بين النحو العربي واللسانيات الحديثة، وبخاصة النحو التوليدي، إلا أنه يبيِّن أن هناك أربعة فروق بين النحو العربي والنحو التوليدي في مسألة الحذف. وهي المسألة التي جعلت كثيرا من الناس ينتبهون إلى وجوه التشابه بينهما. وأول هذه الفروق أن الحذف في النحو التوليدي لا يقع إلا إذا كان للمحذوف مثيل في النص. أما في النحو العربي فإن للحذف سببين: فالأول تركيبي، والثاني "مقاميّ" pragmatic ، ذلك أن المحذوف يمكن أن يفهم من السياق. والفارق الثاني بين النحويْن هو فرق في الاهتمام؛ ففي الوقت الذي ينظر فيه النحو العربي إلى الحذف على أنه محاولة للوصول إلى معرفة المحذوف، فإن النحو التوليدي يبدأ من الجمل الكاملة ويطبق عليها قواعد الحذف ليصل إلى الشكل الظاهري لها. والفرق الثالث أن في النحو التوليدي قواعد محدَّدة للحذف، أما في النحو العربي فلم تحدد تلك القواعد، بل لقد أُسندت تلك القواعد إلى المتكلم نفسه. والفرق الرابع هو أن النحو العربي كان ينظر إلى المعنى حين يقع الحذف، وهذا ما لا نجده في النحو التوليدي.
ويقارن أيضًا بين النحو العربي والنحو التحويلي من حيث أوجه التشابه والاختلاف في مسألة التحويل. ويرى عدم التشابه بين النحوين لأن النحو التحويلي يسعى لتحويل جمل إلى جمل أخرى، وذلك ما لا يفعله النحو العربي. وينتهي إلى أن من المضلِّل أن نساوي بين النحوين على الرغم من وجود بعض التشابه.
ويدرس في الفصل التاسع الذي عنوانه "التركيب، والدلالة، والمقاميَّة" ما عمله النحويون والبلاغيون العرب من ربط المعنى بالشكل والعلاقة بينهما. ومن الذين اهتموا بهذه المسألة، سيبويه وأبو على الفارسي من النحويين والجرجاني من البلاغيين. ويعود مرة أخرى في هذا الفصل للمقارنة بين النحو التحويلي والنحو العربي في مسألة دراسة المعنى. ويرى أنه لا يوجد تشابه بين النحوين، وذلك لاختلاف الاهتمام ولاختلاف التحليل.
وهكذا نجد من هذه النماذج للآراء التي يظهر فيها التقدير الكبير لما عمله النحويون العرب القدماء أن هناك تشابها في كثير من المنطلقات والتقنيات بين النحو العربي والنحو التوليدي بخاصة. لكنه لم يقل أحد من هؤلاء المؤرخين الدارسين بأخذ تشومسكي عن النحو العربي. بل إن من الواضح من دراسة جوناثان أوين أن هناك اختلافات عميقة بين النحو العربي والنحو التوليدي تكاد تسد باب افتراض أخذ النحو التوليدي عن النحو العربي.
وما دام أن تشومسكي نفسه طرف في القضية فإنه يحسن بنا أن نطلع على ما قاله عنها تحديدا. فقد كنت بعثت إليه برسالة أسأله فيها عما سمعته من الدكتور عبده الراجحي الذي أكد في محاضرة عامة في النادي الأدبي في الرياض أخْذ تشومسكي عن النحو العربي، وذلك أنه، في رأي الدكتور الراجحي، درس كتاب سيبويه، واطلع على دراسات عالم اللغة الألماني فون همبولت الذي كان يعرف النحو العربي، يزاد على ذلك تأكيد الدكتور الراجحي أن هناك باحثا عربيا، هو الدكتور يوسف عون، يدرِّس تشومسكي كتاب سيبويه.
وقد أجاب تشومسكي عن تساؤلاتي في رسالة مؤرخة في 28 مايو 1989م. وكنت ترجمت هذه الرسالة ونشرتْها جريدة الرياض في حينه، لكنها نشرت في وسط الأسبوع مما جعل كثيرا من القراء لا يطلع عليها. ولهذا فإنني أترجمها مرة أخرى وأوردها هنا لملاءمتها للسياق أيضا.
يقول تشومسكي في جزء الرسالة الذي يتعلق بهذا الموضوع:
"وتسأل عن تأثير النحو العربي التقليدي على منهجي في دراسة اللغة. إن أكثر الأقوال التي سمعتَها صحيحة جزئيا، إلا تلك التي تتعلق بفون همبولت الذي لم أطلع على دراساته إلا في الستينيات. فقد كان والدي عالما من علماء النحو العبري في القرون الوسطى، وقد حقق الطبعة المعتمدة لكتاب النحو الذي ألفه[النحوي اليهودي الأندلسي] ديفيد قمحي. وكنت مطلعا اطلاعا جيدا في أيام صباي المبكرة على أعمال أبي، كما أنني درست حينها شيئا قليلا من الدراسات التاريخية عن نحو اللغات السامية. وكان أثر النحو العربي[على النحو العبري] عظيما، وهذا أمر مشهور. وكان هذا السياق ذا أثر مباشر كبير على دراساتي المبكرة. بل إن رسالة التخرج من الجامعة [البكالوريوس] ورسالة الماجستير اللتين أنجزتهما في جامعة بنسلفانيا عن الأنظمة الصواتية الصرفية للغة العبرية الحديثة كانتا متأثرتين بتلك الدراسات إلى درجة كبيرة، كما صممتا جزئيا من حيث النموذج على مفاهيم مأخوذة من اللسانيات السامية التاريخية والنحو التقليدي. وكانت هاتان الرسالتان أقدم النماذج للنحو التوليدي المعاصر، وإن لم تنشرا إلا بعد سنين من تاريخ إنجازهما.
ولما التحقت بجامعة بنسلفانيا في سنة 1945م بدأت مباشرة بدراسة اللغة العربية مع جورجيو ليفي ديللا فيدا الذي كان مستعربا متميزا جدا، ثم درست، بعد أن تقاعد ديللا فيدا، مع فرانز روزينتال. ومع روزينتال درست مادة اللغة العربية لفصل واحد، وكنت الطالب الوحيد في تلك المادة، ودرست معه فيها كتاب سيبويه، وربما كان هذا هو أساس الشائعة التي سمعتَها [أي أن هناك شخصا يدرس تشومسكي كتاب سيبويه]. وكان زيلك هاريس، الذي درست [اللسانيات] على يديه، أنجز أعماله الأساسية في اللسانيات التاريخية السامية، وكنت درست ما كتبه في هذا الموضوع أيضا. إن من الصعب دائما أن نتتبع بدقة مثل هذه الأمور، لكن هناك من غير شك احتمالات كبيرة لمثل هذا التأثير".
كما كتب لي رسالة مؤرخة في 17 ديسمبر 1990، بعد أن بعثت إليه نسخة من ترجمتي لكتابه "اللغة ومشكلات المعرفة" ضمنها النص التالي:
"على الرغم من أنني كنت في فترة مبكرة من حياتي أعرف ما يكفي من اللغة العربية أستطيع به فهم ما ينشر في جريدة أو رواية(أما دراستي الفعلية فقد كانت مقصورة على الشعر الجاهلي، والمؤلفات النحوية التي ألفت في القرن الثامن الميلادي ["القرن الثاني الهجري"؛ ربما يشير هنا إلى كتاب سيبويه])، إلا أن ذلك كان قبل أربعين سنة خلت، أما الآن فإنني لا أثق بمعرفتي [للعربية]. لكنني سوف أعير الكتاب [الترجمة] إلى أحد زملائي أو أصدقائي [لقراءته]".
ويتبين بوضوح من كلام تشومسكي أن تأثره بالنحو العربي لا يتجاوز كونه احتمالا. ولو كان يعرف العربية معرفة تمكنه من فهم دقائق كتاب سيبويه لما كان من الممكن لهذه المعرفة العميقة أن تضمحل إلى الدرجة التي يذكرها. بل إن من يعرف تشومسكي وأمانته ودقته في ذكر مصادره سيستغرب من عدم إشارته إلى كتاب سيبويه تحديدا، لو كان نقل عن سيبويه شيئا محددا في بناء نظريته.
كما أن كلام الباحثين العرب والغربيين على السواء لم يستطع على تفصيله في بعض الأحيان تأكيد هذه الصلة المباشرة بين تشومسكي والنحو العربي.
وفي ختام هذه الحلقات الخمس أرجو ألا أكون قد أطلت أو أمللت القارئ الكريم؛ وقد عرضت فيها لشيء من حياة تشومسكي ولمناقشة الموضوع الذي يثار دائما عن العلاقة بين النحو العربي والنحو التوليدي الذي ارتبط باسم تشومسكي.
ومع ذلك فإنه ما تزال هناك بعض المواضيع المهمة التي لم أتناولها بعد، وتتعلق بالأسباب التي تجعل بعض الباحثين يفترضون وجود هذه الصلة بين النحوين. ولهذا فإنني أرجو القارئ الكريم أن يتحمل معي الاستمرار، لأنني أجد أن استكمال هذا الموضوع يستوجب كتابة حلقة أو حلقتين عن هذه المسألة المهمة.
منقول للفائدة