التأويلية والفن عند هانس جورج غادامير
المستقبل - السبت 12 حزيران 2010 - العدد 3679 - ثقافة و فنون - صفحة 20
<table id="ctl00_CPHMainBody_imgTable" align="Right" border="0"> <tr> <td><table border="0"> <tr> <td colspan="3"></td> </tr><tr> <td></td><td align="center"></td><td></td> </tr> </table></td> </tr> </table> |
عمر كوش يحتل الفن موقع الصدارة في تأويلية الفيلسوف الألماني هانس جورج غادامير، حيث لم ينظر إلى الفن بوصفه مجرد مادة أو موضوع خصب للتأويل (الهرمنيوطيقا) فقط، بل وأيضاً بوصفه نموذجاً يمكن أن يمدنا بمدخل جيد لفهم الهرمنيوطيقا ذاتها. وفي هذا السياق يحاول هشام معافة في كتابه "التأويلية والفن" تبيان المكانة التي يحتلها الفن في الهرمنيوطيقا عند غادامير، والكيفية التي تساعدنا فيها على فهم الفن، خصوصاً وأن الفن يشكل موضوعاً خصباً لتأويلية غادامير، بوصفه يمثل جانباً هاماً من جونب النشاط التأويلي، ويمثل كذلك نموذجاً، يتحقق من خلاله مفهوم التواصل التاريخي، الذي يجعل التراث مألوفاً وحاضراً في عالمنا. ويعتبر المؤلف أن تأويلية غادامير نهضت على مبدأ يرى بأن خبرتنا في العالم هي خبرة لغوية، وأن الهرمنيوطيقا هي أنطولوجيا الفهم، في حين أن الحقيقة تشير إلى نمط لوجود الكينونة في العالم، وبالتالي فإن مشروع غادامير الفلسفي، بمجمله، ينبع من شك موجه نحو الاستغراق الكلي لفكرة المنهج، التي فُهمت كسبيل أوحد للولوج إلى الحقيقة. ويعد الفن من أخصب المجالات التي ينكشف فيها هذا النوع من الحقيقة، لأنه خبرة يقال لنا فيها شيء ما يقتضي الفهم والتفسير، لهذا كان الفن نقطة الانطلاق الكبرى لكتاب غادامير الشهير "الحقيقة والمنهج"، بوصفه يقدم مثالاً خصباً للحقيقة، أو نموذجاً للكشف عنها. وبهذا المعنى يمكن القول بأن هناك قرابة بين خبرة الفن والخبرة الهرمنيوطيقة، لذلك ارتكز مسعاه على إعادة تحليل المنهجيات الجمالية في الفن، ثم في العلوم الإنسانية التي كان يسميها علوم الفكر، ثم في اللغويات والفعاليات اللغوية. فالعمل الفني لا ينظر إليه بوصفه شكلاً نقياً خاضعاً لأحكام التذوق، إنما يدعونا إلى "مضمون الحقيقة" بوصفه تجربة لا تختزل بمقاصد المؤلف، حيث لم يبقى فيه شيء من قصد المؤلف وفهمه، فيما بقي الشكل الفني أو النص الأدبي، الذي فيه تقبع حقيقة كامنة تقبل التغير والتعدد. ومع أن عملية الفهم هي عملية مشاركة وجودية - استناداً إلى هيدغر - تقوم على الحوار بين المتلقي والعمل الفني، فإنها كذلك تفتح عالماً جديداً، وتوسع من أفق العالم الذي حولنا وفهمنا لأنفسنا. وليس العمل الفني منفصل عن العالم الذاتي، رغم أنه يبدأ من المبدع وينتهي بالمتلقي، من خلال وسيط هو النص أو الشكل الفني الثابت، الذي يجعل تلقيه عملية متكررة وممكنة، والحقيقة التي يتضمنها هي كمثيلاتها في الفلسفة والتاريخ حقيقة غير ثابتة، متغيرة بتغاير الأقاليم المعرفية والتاريخية، تبعاً لتغير أفق التلقي وتجارب المتلقي، وعليه فإن النص هو الذي يجعل عملية الفهم ممكنة الحدوث. المنهج ما يريد قوله غادامير هو أن الطريقة أو المنهج لا أهمية له في حدوث عملية الفهم، مع أنه لا ينكر إمكانية الاستفادة من المنهج في العلوم التجريبية، بينما ينفي إمكان الوصول إلى الحقيقة في جلّ القضايا والظواهر الفنية والتاريخية عن طريقه. بمعنى أنه ينفي إمكانية وضع قواعد معينة لعملية التأويل أو التفسير. فعمليات الفهم في العلوم الإنسانية تتجاوز المنهج، كونه لا يوصلنا إلا إلى الإجابة عن الأسئلة التي يطرحها، انطلاقاً من كون عملية التأويل ليست سوى حوار وتفاعل بين المؤول والنص، وبالتالي فإن الفهم ليس سوى نتيجة حاصلة لهذا الحوار، ويحدث عند التوافق بين المؤول والنص، حيث تنصهر التجربتان في ناتج جديد، يُعبّر عنه بالمعرفة الحاصلة باندماج الأفق الفكري للمؤول وأفق معنى العمل الفني أو النصي، ومن التركيب الحاصل بينهما يحصل الفهم. إن المؤول لا يحاور العمل الفني أو النص أو يسأله وهو خالي الذهن، إنما يمتلك أفقاً ووعياً وفكراً، وما يمتلكه مشكّل من قبليات وخلفيات، تضم مجموعة من الأحكام والقناعات والمعلومات والتوقعات والتطلعات المسبقة، وهي جميعاً تحدد أسئلته للنص، وبدونها لا يحصل الفهم ولا يصدر السؤال والحوار. وتشكل مثل هذه القبليات شرط وجودي لحصول الفهم، وبالتالي فهي ليست حاجبة أو مانعة للفهم كما كان يظن سابقاً، بل هي ضرورية للتأويل، لذلك يسخر غادامير من فكرة الوعي التاريخي القائم على أساس منهجي متخلص من النوازع والأهواء الذاتية للتجربة الحاضرة، والتي تشكل حكمنا على التاريخ. كونه يرى في النوازع والهواء المؤسس لموقفنا الوجودي الراهن الذي ننطلق منه لفهم الماضي والحاضر، وعليه فإن المنهج العلمي الصارم لن يتحقق في دراسة التاريخ أو التراث. والأهم من هذا هو أن الوجود الإنساني هو وجود تاريخي ومعاصر، غير مفصول أو معزول عن تأثير التراث أو التقاليد التي انتقلت إليه من التاريخ، ولا يمكن للإنسان تجاوز أفقه الراهن في فهم الظواهر التاريخية، كما لا يمكنه العيش في الماضي كي يفهمه فهماً موضوعياً، وعليه فإن فهمنا للتاريخ يبدأ من الأفق الراهن الذي يدخل التاريخ فيه كأحد مكوناته الأساسية، ولهذا يكون كل فهم هو فهم تاريخي، كونه محكوم بالشروط المادية والتاريخية التي تتم فيها المعرفة، وبالتالي ليس هناك تفسير نهائي وثابت، لأن الفهم بطبيعته تركيبي ومشكّل من أفقين، أفق المفسر وأفق العمل الفني، وبتغاير أفق المفسر بتغاير التركيبات والتفسيرات وتعددها. الاغتراب وتحاول هرمنيوطيقا غادامير استعادة تلك الحقيقة التي تقبع في كل لقاء لنا مع العمل الفني، عن طريق تجاوز الاغتراب السائد في الوعي الجمالي المعاصر، الذي أدى إلى طمس هذه الحقيقة وتشويهها، من خلال نقد الوعي الجمالي الذي يرد الفن والجميل إلى نزعة ذاتية خالصة، والعودة إلى جذوره الأولى عن طريق تتبع بروز مفهوم الوعي الجمالي المجرد. فقد بيّن غادامير أن نموذج الجمال كما وصفه كانط في كتاب "نقد ملكة الحكم"، كان بمثابة نقطة تحول أساسية أدت إلى انقطاع التقليد المتوارث في رؤية الجميل بوصفه مجالاً للمعرفة تنكشف فيه الحقيقة، عندما ربط الحكم الجمالي بحالات وظروف الذات واللذة التي تستشعرها إزاء الموضوع دون وساطة المفاهيم والتصورات العقلية. يرى غادامير أن مهمة الهرمنيوطيقا، كمحاولة لتجاوز الاغتراب في الأنظمة الإنسانية، هي مهمة يمكن تعريفها من خلال نموذجين للاغتراب السائد في وعي الإنسان الغربي المعاصر، والذي تحاول الهرمنيوطيقا قهره، وهما اغتراب الوعي الجمالي، واغتراب الوعي التاريخي. على الرغم من أن خبرة الفن تشكل جنباً إلى جنب مع خبرتي التاريخ والفلسفة نماذج من الحقيقة تتجاوز مناهج البحث العلمي وتنتمي إلى العلوم الإنسانية، فذلك لأن الفن يمنحنا لمحة أولية عن هذا النوع من الحقيقة. وعليه، يسعى غادامير في مواجهة هذا الاغتراب والتجريد الذي أثارته التحولات الجذرية التي عرفتها التعبيرات الفنية منذ الأزمنة الحديثة، والتي تزداد حدتها يوماً بعد يوم، إلى استجلاء معنى هذه الظاهرة والكشف عن أسبابها الحقيقية، ومجاوزتها في نهاية المطاف. وقد بيّن أن هذا الاغتراب الذي يعاني منه الوعي المعاصر نتيجة طبيعية لهيمنة اسمية العلم الحديث، ولتغلغل المنهج العلمي في نظرتنا إلى العالم، حتى ذلك النوع من التجربة التي نحياها بوصفنا أفراداً تاريخيين. [ الكتاب: التأويلية والفن عند هانس جورج غادامير [المؤلف: هشام معافة [الناشر:الدار العربية للعلوم ومنشورات الاختلاف، بيروت،0 201 |