منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    الخطاب والدلالة قراءة في تأويل النص القرآني

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    الخطاب والدلالة قراءة في تأويل النص القرآني Empty الخطاب والدلالة قراءة في تأويل النص القرآني

    مُساهمة   الإثنين يناير 03, 2011 7:33 am


    الخطاب والدلالة قراءة في تأويل النص القرآني ـــ د.منقور عبد الجليل(*)

    ملخص
    البحث إنّ أصناف الخطاب القرآني كما تتبدى من خلال نصوصها، أصناف ارتكزت
    أساساً على المعطيات اللغوية في توجيه آلية التأويل نحو الدلالة الراجحة،
    كما انبنت تلك الأصناف على تعيين مقصدية الخطاب من خلال إجراء الوصل بين
    النصوص المتباعدة المواضع، وهو سعي إلى تبيان انسجام الخطاب القرآني في
    سوره وآياته وأحكامه وفي تعبيره عن الواقع، أو في تشكيله للواقع الجديد،‏


    وهو
    بذلك يطلب قارئاً جديداً يستنبط للواقع الجديد أسسه المعرفية ومتطلباته
    الروحية والنفسية وحتى المادية. وقد أسس علماء أصول الفقه قواعد عامة غدت
    أطراً مطردة في استنباط الأحكام من مظانها الشرعية، ووضعوا آليات نسقية،
    تتعلق مع المعطيات السياقية لتتلوّن الدلالة المستنبطة من النص الشرعي،
    بتلوّن قواعد التأويل التي هي انعكاس للبنية المعرفية التي تسود العصر
    وتملك سلطة في تصريف المعنى وطرح آليات محايثة للقراءة...‏


    تمهيد:‏

    يرتد
    مصطلح الخطاب في العرف اللغوي العام إلى معنى الخطب والاهتمام (من الهم)
    وبذلك صارت مشتقات هذا المفهوم تسري ضمنياً في مصطلحات أخرى تدور حول جذر
    الفعل (خطب) كالخطبة مثلاً. ولذلك نقرأ في التراث الإسلامي قول أحد
    الخلفاء الأمويين "شيّبني ركوب المنابر" إشارة إلى ما في الخطبة من عوامل
    الحزم والاهتمام الذهني والجسدي البارز. كما أن "الخطاب" بهذا المفهوم
    اللغوي ـ يبسط ظلاله الدلالية على النسق اللغوي الذي يتشكل وفق وعبر الذات
    المتلقية، فالتركيب الخطابي ـ المشدود إلى حيثيات التخاطب أو سياق المقام
    ـ يبلور وحداته اللفظية المشكلة للنسق التركيبي بناء على مقام المتلقي أو
    المتلقين الذهني والنفسي والاجتماعي ويفتح أفقه الدلالي على التأويل
    بتوفير آليات انسجام التركيب واتساقه على النحو الآتي:‏


    المتكلّم (الخطاب) انسجام التركيب واتساقه ? حيثيات التخاطب= المتلقي (تأويل دلالة الخطاب).‏

    فالمتكلّم
    يغدو تجميعاً لوحدات الخطاب ومفاهيمها الدلالية، ليس باعتبار نسقها
    المعجمي الإفرادي وإنما باعتبار سياقها الملفوظي التركيبي الذي تعمل فيه
    ظاهرة الوقوع والرصف كمعيار لتحويل دلالة المفردات المعجمية المشكلة لنسق
    الخطاب، من الدلالة المعجمية إلى الدلالة التركيبية، ولا يحصل هذا التحويل
    إلا بمراعاة (انسجام التركيب واتساقه).‏


    ويتزاوج
    هذا الاهتمام بشكل الخطاب ودلالته بتحوير موضوع التركيب ومحموله، ليتسابق
    مع (حيثيات التخاطب) التي يسهم في رسم أجوائها (المتلقي) ليس كذات مستقبلة
    فقط، وإنما كقطب من الدلالات المحاورة سواء في محمولها الشكلي التركيبي،
    أو في موضوعها المفهومي التأويلي، وهذا ما يحمل المتكلم على البحث عن
    مسوغات لتمرير الخطاب، وتحقيق وجوده على منظومة التخاطب اللغوي، ومنظومة
    المراجع في عالم الأشياء والأفكار، ذلك أن التأويل أو إمكانيته للخطاب.
    وباعتبار أطراف التركيب اللغوي بدءاً بالمتكلّم (الكاتب) وانتهاء بالمتلقي
    (القارئ)، سنقف على أصناف التركيب القرآني المتشكل عبر قراءة علماء أصول
    الفقه الإسلامي لشكل النص القرآني وفحواه في طريق استنباط الأحكام
    والدلالات من مظانها الشرعية، وهي مسألة تتعلق بتمييز أنواع الخطاب
    وأصنافه باعتباره تركيبه اللغوي.‏


    1 ـ الخطاب القرآني والتركيب:‏

    إن
    لعلاقة الخطاب بالتركيب أهمية قصوى في تأويل الدلالة واستنباط الحكم، وقد
    أسس علماء الأصول نظرهم في النصوص الشرعية باعتماد عملية التفكيك للنسق
    اللغوي للخطاب والوقوف على وحداته في مستواها التركيبي التداولي، بل إن
    ربط الدلالة المعجمية للوحدة المفرداتية، بالدلالة العامة للخطاب، قد شكل
    قراءة ثانية لموروثنا في حقل أصول الفقه، فالخطاب كتجميع لوحدات معجمية
    دالة، يمركز ثقله الدلالي على مفردة تغدو مفتاحاً للتأويل وأداة لترجيح
    المعنى وفهم الفحوى من النص الشرعي، ويتمدد تركيب الخطاب أفقياً أو يتقلص
    بحسب وجود أو عدمه لآليات الاستبدال لدى المتلقي عمودياً، أي أن الخطاب
    يتراوح من الكلمة المفردة الواردة مع سياق تخاطبي معين إلى النص كمجموعة
    من الكلمات المتسقة، فإذا كان محصول المتلقي حول وحدة الخطاب المفردة
    وافراً جنح التركيب إلى إيجاز بيانه واختصار لغته، لأن تشكيلات الخطاب
    الأخرى يؤسسها المتلقي بمعرفته فهناك إذن أصناف من الخطاب القرآني يمكن
    حصرها في: الخطاب الموجز، والخطاب المسهب، والخطاب المعطى والممكن،
    والخطاب ذي التركيب المفتوح.‏


    أ ـ الخطاب الموجز:‏

    هو
    خطاب يشتغل على نسق اللغة في تشكيلها للتركيب، إذ تغدو الدلالة في حجمها
    المؤدي غير ذات أهمية كما هو شأن التعبير الذي صيغت ضمنه، فيحدث أن يتقلص
    التركيب اللغوي لتوفر آليات الاستبدال لدى المتلقي، إذ تنفتح الجملة
    النواة أو المفردة النواة، على قائمة كبيرة من الجمل أو المفردات التي تقع
    معها في نفس المحور الاستبدالي: فحين يعبر الله تعالى في سورة الفلق: (قل
    أعوذ برب الفلق((1). تأتي مفردة "فلق" في هذه الآية مركز اهتمام المتلقي
    لكونها مفردة إسناد، وينفتح محور الاستبدال للمسند والمسند إليه معاً "رب
    الفلق" على تشكيل نحوي ودلالي مثل: فالق الحب والنوى، فالق الأرض والسماء،
    فالق الإصباح، فالق الأرض... بل إن المحور الاستبدالي (paradignatoque) أو
    الخط الاستبدالي بمصطلح الألسنية، لا يقع في تواز إيجابي دوماً مع الخط
    الركني (Syntagnatique) إلا في طبيعة الوحدات المستبدلة بحيث تنتمي معاً
    إلى الفئة نفسها التي تنتمي إليها المفردة النواة، أو الجملة النواة مثل
    الركن الاسمي والركن الفعلي... ففي سورة الفلق تقع جملة "رب الفلق" وهي
    جملة نواة في الخط الركني مع الفئة نفسها التي حددناها في الخط
    الاستبدالي.‏


    أما
    في غير طبيعة الوحدات المستبدلة فيمكن للخط الاستبدالي أن يقع مع تواز
    سلبي الدلالة مع الخط الركني، ولنسق في سبيل التدليل على ذلك قوله تعالى:
    (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا((2). فالخطاب القرآني هاهنا يقع تصريف دلالته
    على وجهها الظاهر بانعقاد جدل طرفيه وهما: ثبوت فسق الراوي ـ من جهة ـ
    وضرورة التحقق من الرواية. من جهة ثانية، فإذا تحقق الطرف الأول، تحقق
    الطرف الثاني كما هو شأن الجملة الشرطية، ولذلك الخطاب القرآني أوجز بيانه
    لتوفر هذا الانعقاد الجدلي بين طرفي التركيب، ويغدو أمر نفي الدلالة
    الظاهرة بتغيير وجهة الدلالة من الإيجاب إلى السلب باستعمال الخط
    الاستبدالي الذي يؤدي إلى تنامي الخطاب عمودياً على نحو الآتي:‏


    (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا(، ويقابلها على المحور الاستبدالي:‏

    سياق
    (//غير //فلا //)، بحيث أدّت عناصر التحويل إلى خطاب آخر. يقول أبو عبد
    الله العجلي الأصفهاني معلقاً على هذا التخريج: "إن عدم الفسق شرط جواز
    الرواية فوجب أن يكون العلم به شرطاً لجواز الرواية... وهو صريح في المنع
    من قبول رواية الفاسق"(3).‏


    وهو استنباط لحكم مخالف لحكم النص الظاهر أو ما عرف تسميته في حقل أصول الفقه بـ"دلالة المخالفة".‏

    كما
    أن الخطاب الموجز يعتمد لإيصال دلالته مراعاة السياق اللغوي، فقد يرد
    الخطاب ليؤدي دلالة يطلبها منه المقام، إلا أنه إذا اتسع المقام اتسع
    السياق اللغوي لتتسع معه دائرة التأويل، من ذلك تأويل الآية للدلالة على
    الطلب بدل الدلالة على الخبر، كما ينص عليه ظاهرها. يقول تعالى من سورة
    البقرة: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين
    إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسناً((4).‏


    فالخطاب
    كما تضمنه تركيب الآية: (وقولوا للناس حسناً( خطاب طلبي إلا أنه ورد بصيغة
    العطف ليقود إلى تأويل آية: (لا تعبدون إلا الله( إلى خطاب طلبي وهو خطاب
    خبري بتركيب "لا تعبدو إلا الله". ذلك أن السياق اللغوي اقتضى أن الخبر
    الوارد ضمن هذه الآية الأخيرة يحمل معنى الطلب(5). فالخطاب إذن جاءت
    وحداته قليلة، فهو أدخل في الإيجاز في قوله تعالى: (وقولوا للناس حسناً(.
    إلا أن تشكيل دلالة هذه الآية لا يحصل إلا ضمن مراعاة اتساق الخطاب العام
    اتساقاً نحوياً واتساقاً بلاغياً معنوياً، فقد جاء حرف (الواو) قبل الفعل
    (قولوا) وهو حرف وصل يشير إلى علاقة الترابط الدلالي بين الفعلين (تعبدون)
    و(قولوا). ويحيل في الوقت ذاته إلى أن التركيب الأخير في الآية ليس،
    تركيباً منقطعاً وإنما هو تركيب متصل ذلك أن الآية باعتبارها جملة تحمل
    بُعداً تركيبياً على حين أن الاتصال بين أجزائها، وارتباط هذه الأجزاء
    بأدوات الوصل يحمل بُعداً دلالياً تأويلياً.‏


    ويبقى
    أن الخطاب الموجز يحقق فاعليته الإيصالية بإيجاز أدواته التعبيرية من قبل
    (المتكلم)، ليقوم (المتلقي) بتأويل وتعويض الأدوات اللفظية (الناقصة)، حتى
    يتسنى له ترجيح الدلالة القصدية. وقد بيّنا أن عملية التأويل في الخطاب
    القرآني الموجز تتم عبر ثلاثة طرق:‏


    أ ـ عن طريق الإلحاق: (إلحاق غير المعبر عنه بالمعبر عنه لوقوعهما معاً في نفس الحقل الدلالي أو المفهومي).‏

    ب
    ـ عن طريق الاستبدال: (وهو فتح المفردة النواة، أو الجملة النواة على
    قائمة من المفردات والجمل، يمكن أن تستبدل بها في سياق معين يقتضي هذه
    القائمة أو تلك).‏


    ج ـ عن طريق الوصل: (وصل الجمل ببعضها لاتحادها في المعنى، وإن كان الشكل النحوي مختلفاً وذلك لتحقيق انسجام الخطاب واتساقه).‏

    ب ـ الخطاب المسهب:‏

    هو
    خطاب يلاحق المعنى للقبض على الدلالة، أو ليضع القرائن اللفظية والعقلية
    ليتسع الخطاب إلى أصناف أخرى من النصوص المستنبطة حسب حاجيات السياق
    الاجتماعي العام. ويغدو الخطاب المسهب، سلسلة من الأجزاء الكلامية
    المتصلة، بحيث لا يمكن إحداث فصل بينهما وإلا أخلّ ذلك بانسجام النص، بل
    لا يمكن تغيير موضع جزء من أجزائه إذ من الضروري حتى يحتفظ الخطاب
    بأنساقه، مراعاة وصل أجزائه وترتيبها، ويوظف الخطاب المسهب ما توافر في
    حقل المجاز من صور التعبير والتخييل.‏


    يقول
    تعالى: (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات
    الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن
    أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً، فجعلناها حصيداً
    كأن لم تغن بالأمس((6).‏


    إن
    ارتكاز كل جملة ـ في خطاب الآية السابقة ـ على جملة سبقتها، ارتكاز السبب
    على المسبب، والنتيجة على العلّة، وهو ما يؤكد على انسجام أجزاء الخطاب
    القرآني في هذه الآية بل إن الانسجام مردّه إلى الترتيب المنتظم لجمل
    الآية، وهو داخل في تحديد الدلالة وحصر المعنى. وقد وثَّق من أواصر تركيب
    الخطاب هاهنا، أدوات الوصل وهي (الكاف في كماء) والفاء في (فاختلط) والهاء
    في (به) و(حتّى). يقول محمد خطابي معلقاً على خطاب الآية السابقة
    ومستلهماً من عبد القاهر الجرجاني بعض أدواته في النظم والمجاز: "إنه (أي
    خطاب الآية السابقة)، مشكّل من جمل متداخلة متعلق بعضها ببعض حتى إنه
    يستحيل حذف إحداها دون الإخلال بتمام المعنى، كما أنه طريقة إخراج الخطاب،
    من حيث التركيب، يجعل كل مرحلة متعلقة بالأخرى: "فاختلط"، "حتى إذا"، "وظن
    أهلها (...) بحيث تقتضي الجمل المفتتحة بهذه الأدوات (الحروف) ما يتمم
    المعنى...(7) فعماد التركيب المسهب هو الموضوع الواحد المتجزئ إلى عناصر
    دلالية صغيرة اقتضى التعبير عنها استعمال وسائل الوصل والربط، لتغدو مرتبة
    منسجمة، ويغدو معها الترتيب جزءاً من الدلالة العامة.‏


    كما
    أن الخطاب القرآني المتزايد في الطول يحتاج إلى روابط لكي يوثق دلالياً
    وتركيبياً بين جمله المتوالية، كذلك قد يستخدم للحفاظ على تواتر صوره
    ومنطقية ترتيب عبارته على ما سماه الزمخشري (بالبيان) حيث يتم ربط
    العبارات ضمن الخطاب المسهب بأن يكون اللاحق بياناً للسابق، أو الأثر
    متولداً عن المؤثر، فحين يأتي إلى تفسير آية الكرسي الواردة في سورة
    البقرة، يحاول أن يقف على إعجازها البياني في تراصف متوليات من الجمل ليس
    بينها رابط أو صيغة علائقية ظاهرة، إلا أن ثمة رابطاً معنوياً يتمثل في
    العلاقة السببية الموجودة بين أجزاء الآية الكريمة، يقول محمود بن عمر
    الزمخشري، شارحاً هذه الظاهرة البيانية المسؤولة عن إسهاب الخطاب: "فإن
    قلت: كيف ترتبت الجمل في آية الكرسي من غير عطف؟ قلت: ما منها جملة إلا
    وهي واردة على سبيل المثال لما ترتب عليه، والبيان متحد بالمبيّن (...)
    فالأولى بيان لقيامه بتدبير الخلق وكونه مهيمناً عليه غير ساه عنه،
    والثانية لكونه مالكاً لما يدبره. والثالثة لكبرياء شأنه، والرابعة
    لإحاطته بأحوال الخلق وعلمه بالمرتضى عنهم المستوجب للشفاعة، وغير
    المرتضى، والخامسة لسعة علمه وتعلقه بالمعلومات كلّها أو لجلاله وعظم
    قدره"(Cool.‏


    بهذه
    المسوّغات الشكلية والمعنوية، يكتسب الخطاب القرآني في عرف الأصوليين
    والمفسرين أسباب امتداده، وإن كان القارئ المتعجل يرى أن ثمّة فصلاً بين
    عبارات الخطاب، إلا أن النظر العميق لالتحام الدلالة مع التركيب، أبان
    بواسطته العلماء ذلك الوصل الممتد بين أجزاء الآيات، وللمفسر محمد الطاهر
    بن عاشور، التفاتات دقيقة لحضور الوصل داخل الآيات. التي أعتقد أن بينها
    فصلاً كما هو الشأن في أوائل آيات سورة البقرة، وقد استعان المفسر بقرائن
    نحوية لتأويل الدلالة الغائبة، فضلاً على استقراء واقع اللغة المحايث
    للتنزل الأول، يقول الطاهر بن عاشور في تخريج دلالة قوله تعالى: (أ لم ذلك
    الكتاب لا ريب فيه...(: "وعلى الأظهر تكون الإشارة إلى القرآن المعروف
    لديهم يومئذ، واسم الإشارة مبتدأ، والكتاب بدل وخبره ما بعده..."(9)،
    ويكون ابن عاشور بهذا التأويل قد خرج عن مألوف المفسرين في اعتبار وجود
    الفصل ما بين "أ لم ذلك الكتاب" و"لا ريب فيه..." بينما نزع إلى الإشارة
    في الآية إلى إيضاح الإحالة المقامية، وبالتالي إيجاد مسوّغ نحوي لتأكيد
    الوصل.‏


    ثم إن اختلاف البنى المعرفية في مجتمع التنزّل الأول أوجد اختلافاً في إدراك الدلالة واستنباط قرائن الفهم والتفسير.‏

    فالخطاب
    الموحّد الدلالة يقتضي متلقياً نموذجياً، لتفكيك رسالته واستنباط المعنى
    منها، ذلك أن المجتمع العربي الأوّل، قد اختلف من حيث قربه وبعده من مكان
    نزول الوحي، فإذا كان الصحابة يلمحون المعنى بالإيحاء، فإن البدو من
    الإعراب لا تكفيهم الإشارة، وإنما إسهاب الوصف والتصوير. يقول محمد مفتاح
    في هذا الموضوع: "إن المخاطبين بالقرآن لم يكونوا على مستوى واحد من الفهم
    والإدراك ولم يكونوا على درجة واحدة في اتصالهم بصاحب الرسالة، وعلى هذا،
    فلا يعقل أن يتساوى إدراك أقرب الصحابة إلى الرسول مع الإعراب الوافدين
    عليه من مناطق نائية، فالمقربون يفهمون مضمون الرسالة ومغزاها بالإيحاء
    والتلميح دون التفاصيل وضرب الأمثلة، إذ أطرهم المعرفية مشتركة، ومن ثمة
    كانت تكفي الإشارة عن العبارة، وأما من كانوا بعيدين ثقافياً وحضارياً،
    فإنهم كانوا محتاجين إلى الإطناب"(10). فاختلاف حيثيات التلقي أفضت إلى
    اختلاف نسق الخطاب وشكله.‏


    ج ـ الخطاب المعطى والممكن:‏

    يقوم
    التركيب اللغوي في الخطاب القرآني ببناء أنسجة تعبيرية تتشكل عبر واقع
    اللغة لتعيد تشكيل الواقع اللغوي الجديد، ومردّ هذا التشكل والتشكيل إلى
    حركية واقع الإحالة أو عالم المراجع وليس شرطاً أن يتغير البعد الدلالي
    للتركيب كلّه حتى تتغير الإحالة، وإنما قد يقود جملة التغيير في حقل
    الدلالة المتنوّع، عنصر مهيمن في الخطاب، يضطلع بتغيير وجهة التركيب
    المعطى، ويكون هذا التغيير مشروعاً بوسائل لغوية أو سياقية عامّة، أو
    مقامية أو منطقية. وفي ذلك حديث عن التشكيلات المستمرة التي يقوم بها
    الخطاب القرآني للفكر المعرفي لدى الناس، إذ تعمد القرائن إلى فتح التركيب
    المعطى على الممكن من الدلالات، بل قد يكون غياب القرينة الصارفة للدلالة
    الراجحة حاملاً على فتح التركيب القرآني على الاحتمالات الموضوعية وذلك
    لتعدد الإحالات، وتساوي المراجع في تخصيصها من قبل الدال، وهو العنصر الذي
    أخرج الخطاب من خطاب معطى إلى خطابات ممكنة، وقد أشار المفسر الفخر الرازي
    إلى هذه الفكرة حين قدم إلى تفسير قوله تعالى من سورة البقرة: (كان الناس
    أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق
    ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه...((11).‏


    يقول
    الفخر الرازي: "فاعلم أن قوله (ليحكم) فعل لابدّ من استناده إلى شيء تقدّم
    ذكره، وقد تقدم ذكر أمور ثلاثة، فأقربها إلى هذا اللفظ: "الكتب، ثم
    النبيّون، ثم الله، فلا جرم إن كان إضمار كل واحد من هذه الاحتمالات تخص
    بوجه ترجيح، أما الكتاب فلأنه أقرب المذكورات، وأما الله فلأنه سبحانه هو
    الحاكم في الحقيقة، لا الكتاب، وأما النبي فهو المظهر، فلا يبعد أن يقال:
    "حمله على الكتاب أولى، أقصى ما في الباب أن يقال: الحاكم هو الله، فإسناد
    الحكم إلى الكتاب مجاز إلا أن تقول: هذا المجاز يحسن تحمله لوجهين: (أنه
    مجاز مشهور يقال: حكم الكتاب بكذا، وقضى كتاب الله بكذا (...) وإذا جاز أن
    يكون هدى وشفاء جاز أن يكون حاكماً (...) و(الوجه الثاني) أنه يفيد تفخيم
    شأن القرآن وتعظيم حاله"(12).‏


    إن
    القرينة اللغوية المتعلّقة بالقرينة المنطقية، جعلت خطاب الآية الكريمة
    متعدّد المراجع، وأن الذي عضّد من هذا التعدد في الإحالات، هو وقوع عناصر
    من الفئة نفسها التي ينتمي إليها العنصر (يحكم)، وهي (بعث، أنزل، اختلف)
    في نفس السياق الخطابي إلا أن هذه العناصر لها إحالات واحدة كونها جاءت
    معها قرائن واضحة لا تقبل التأويل.‏


    وقد
    خاض الزمخشري كذلك في مسألة تعدد الإحالات وفتح مجال الخطاب القرآني على
    الممكن من الاحتمالات التي يقتضيها سياق التركيب، وإن كان ظاهر الخطاب
    يوحي بعود (الضمير)، على القريب من الصيغ شريطة وجود تطابق في العدد
    والجنس، إلا أن كثرة تأمل في سياق الآية اللغوي يقود إلى صعوبة رد
    (الضمير) على أحد العناصر السابقة له. يقول تعالى في سياق حديثه عن بني
    إسرائيل وحثّهم على ذكر النعمة التي أسبغها عليهم: (واستعينوا بالصبر
    والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين((13). يذهب الإمام الزمخشري إلى
    عقد احتمالات ثلاثة لعود الضمير (ها) إما إلى لفظ (الصلاة) أو (الاستعانة)
    أو إلى ما سبق من خطاب الله لبني إسرائيل(14). ويقوم الضمير هاهنا بوظيفة
    ربط أجزاء الآيات وذلك باستحضار عنصر سابق في خطاب لاحق أو خطاب سابق في
    خطاب لاحق(15)، وذلك على أن التركيب يحتفظ بانسجام عناصره مع كل تأويل أو
    مع كل إحالة إلى أحد المراجع الثلاثة المذكورة في خطاب الآية، ويكون تحديد
    الدلالة المستنبطة من التركيب متساوقاً ومقام المتلقي العام، وبذلك
    فالخطاب القرآني يقسّم عالم الدلالة إلى قسمين: عالم دلالي مغلق يتمثل
    فيما ورد من الآيات محكم الإحالة، والتي تخص أساساً الأطر الثابتة في حياة
    الناس، والتي لا تقبل تبديلاً أو تغييراً إلا في حدود ما أشار إليه علماء
    أصول الفقه، من تأسيس الفروع على الأصول يسعى التأويل فيها إلى تضييق مجال
    سبب النزول وتخصيصه بالبحث عن قرائن شكلية ومنطقية يتحدّد عبرها حقل
    المراجع. أما العالم الدلالي الثاني الذي يشير إليه الخطاب القرآني عبر
    نصوصه فهو عالم مفتوح تنهض على فتحه الآيات التي عدّدت من القرائن
    المتشاكلة، أو أخفت أية قرينة لتحديد الدلالة وتخصيص الإحالة، وهي ذات نسق
    خطابي يتتبّع الدلالة في انفتاحها الدائم المشاكل لانفتاح عالم الإحالات
    والمراجع.‏


    الخطاب
    القرآني في كثير من وجوهه: خطاب لغة وليس خطاب معنى، وإن كان المعنى
    منوطاً باستخراج الحكم وبيانه، إلا أن اللغة تُحيل على نسقها الداخلي،
    وعلى ملفوظها الصوتي، لتنكفئ على وصف السلطة المعرفية المصدرة للخطاب وعلى
    الكيفية الصوتية التي قيل بها، وهو بذلك (أي الخطاب) يقع ضمن فعالية
    الكلام بين باث ومتلق، إذ كلّما اعتنى الباث بنسق خطابه، واعتنى الخطاب
    بروافد دلالية هي حصيلة تقاطع حقول من الإحالات المختلفة، التي تطلب
    قراءات متعددة تتأسس على رؤى خاصة، تأخذ أدواتها من أنساق معرفية مختلفة
    كالمنطق والنحو والبلاغة، واللغة في الخطاب القرآني، بمفهوم الأصوليين،
    ليست حاملة للمعنى بقدر ما هي حاملة للوعي بحصول المعنى ومظاهره المتعددة،
    فهي إذ تُحيل على المرجع في عالم الأشياء والأفكار والمفاهيم تحيل أيضاً
    على النسق التعبيري أو إن شئنا على الخلفية الفلسفية في التشكيل والإنشاء
    ولذلك فإن التعامل مع اللغة في هذا المجال من الدراسة، يقتضي الأخذ بالأطر
    العامة التي وقفت وراء اهتداء الناس ـ وقت النزول الأول ـ إلى صياغة
    عباراتهم على النحو الذي أضحى شائعاً لديهم، والذي غدا فيما بعد معجماً
    لخطاب القرآن الكريم.‏


    د ـ الخطاب الموازي:‏

    ويكتسب
    الخطاب المفتوح، دلالته في إخراج النص من ظاهر دلالته إلى تأويل صيغته
    اللغوية، بحيث يشمل الجلالة المستنبطة من دلالة ظاهر النص. يقول تعالى:
    (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله
    ورضواناً((16). فالدلالة التي أشار إليها الخطاب الجديد هو أن الفقراء
    المهاجرين، أو الذين صاروا فقراء من المهاجرين لهم نصيب من الفيء. كما أن
    الأموال التي تركوها خرجت عن ملكهم فلم تعد مستلزمة لهم. كما أن الخطاب
    المتضمن ضمن النص القرآني أو الحديث النبوي، يحدد دلالات مصاحبة غير
    مقصودة لذاتها، ولكنها امتداد للدلالات المحمولة ضمن هذا الخطاب وهي إمّا
    أن تكون دلالات موازية لدلالة محمول الخطاب في توازِ إيجابي، وترتفع إلى
    أن تزاحم الدلالة النصية لتكون المقصودة في الحكم، أو موازية له في توازِ
    سلبي، وفي الحالتين كلتيهما قد يتصدر الخطاب الموازي تأويل الأصوليين بحسب
    قوة القرائن المتوفرة حول النص، ولتداخل الوقائع في العلل، يقول عبد
    القادر عودة وهو يشرح دلالة الموافقة: "هي المعنى الذي يفهم من روح النص
    ومنطقه، فإذا دلّت عبارة نص على حكم في واقعة ما لعلّة استوجبت هذا الحكم،
    فكل واقعة أخرى من جنسها تدخل تحت مفهوم النص إذا توفرت فيها علّة الحكم،
    وكانت مساوية للواقعة التي جاء بها النص أو أولى منها بالحكم، على أن تكون
    المساواة أو الأولوية متبادرة إلى الفهم دون حاجة لقياس أو اجتهاد"(17).
    ويرسم اللفظ في الخطاب القرآني حقلاً آخر من الدلالات تخرج عن ظاهره لتدفع
    خطاباً آخر إلى السطح لكونه هو الأقرب إلى التأويل والمقتضى من النص، يقول
    تعالى: (حرّمت عليكم أمهاتكم((18)، فالخطاب الذي يقتضيه النص هو: "حرم
    عليكم الزواج من أمهاتكم "وهي صيغة لا يصح الخطاب الأول دونها، يقول عبد
    القادر عودة كذلك: "فهذه الصيغة (أي صيغة الآية) قد يفهم منها معانٍ كثيرة
    ولكن لا يمكن أن تصح وتستقيم إلا إذا فهمت على أن التحريم المقصود منه
    الزواج"(19). وقد أضمر لفظ (الزواج). الذي أوّل في الخطاب الموازي للدلالة
    على أن الزواج من الأمهات شديد التحريم إلى درجة أن الله تعالى ترفّع عن
    ذكره وأومأ إليه إيماء. وثمة لطائف أخرى تقتضي إضمار الخطاب المنوط به
    الحكم كالدلالة على عموم اللفظ، من ذلك قوله(: "لا صيام لمن لم يبيّت
    الصيام" وقد تناوله علماء أصول الفقه لبيان وجه العموم في الحديث، إذ:
    "ظاهرة (أي ظاهر الحديث)، ينفي صورة الصيام حساً، لكن وجب ردّه إلى الحكم
    وهو نفي الإجزاء أي لا يجزي صوم من صام بدون أن يبيّت النيّة بالصوم...
    وقيل: إنه عام ينفي الإجزاء والكمال..."(20).‏


    فالخطاب
    الموازي يشتمل على بلاغة اللغة وقدرتها في التعبير على دلالتين معاً:
    دلالة ظاهرة يحملها سطح الخطاب، ودلالة خفية يحملها خطاب موازٍ، اقتضت
    ضرورات تشريعية وعرفية لغوية أن يعبر باللفظ، ويقصد بدلالته السياقية لفظ
    آخر.‏


    ويظل
    الخطاب القرآني وـ الخطاب النبوي ـ يكيف أدواته بحسب متطلبات القراءة، على
    أن الإطار العام للفهم والتأويل لن يغيّر من كون الألفاظ هي مفاتيح
    استنباط الدلالة والحكم ولن يغير من صيغها المعجمية، إلا أن السياق اللغوي
    المحمولة ضمنه هو الذي يدفع بها إلى تغيير حقولها الدلالية مع كل قراءة
    واعية تأخذ بمعطيات النص ونظامه الخطابي الدقيق وحيثيات الإسقاط وظروف
    القارئ المعرفية والعلمية، ذلك أن القارئ يهتدي إلى استنباط أحكام هي من
    النص الديني تستجيب لمقتضيات معرفية وعلمية يؤمن بها ويعتقد في وجاهتها
    ونجاعتها. ولذلك رأينا الاختلاف البيّن بين جمهور علماء الأصول والتفسير
    في فهم النص وتأويل المقاصد منه، بدءاً من أبي حامد الغزالي ذي الرواسب
    العلمية المعرفية إلى الزمخشري ذي الرواسب البلاغية اللغوية، وهكذا يبقى
    النص في إنتاج مستديم للدلالات والأحكام.‏


    كما
    أن الاهتمام بالنص الشرعي لم يتوقف على الجانب الدلالي والقيمي فيه، وإنما
    قاد الوعي اللغوي العلماء إلى الاهتمام بشكلية النص ولغته، وأكدوا ـ على
    دور النسق التعبيري في تيسير الاهتداء إلى الحكم، ولذلك وظفوا علوم اللغة
    جميعها لخدمة النص وبيان تعلقات البنية التعبيرية مع البنية الدلالية، كما
    أنهم شدّدوا على ضرورة الإلمام بالمداخل الكلامية من علم ومنطق، بل
    وجعلوها في مقدمات مصنّفاتهم الأصولية"(21)، لوعيهم أن هذه العلوم قد نشأت
    في حضن النص وتشكّلت ضمن متونه الشرعية، وهي الآن ترتد إلى نفس النص لتخدم
    جوانبه الشكلية والمعنوية.‏


    إن
    الخطاب القرآني ـ على وجه التخصيص ـ نوّع من أنساقه التعبيرية بحسب تنوّع
    الموضوع أو الحكم، فقد يكون الخطاب موجزاً، فيأتي بصيغ قليلة للتعبير عن
    الدلالات الكثيرة والعميقة، ويسوق لطائف بلاغية في حسن التعبير والإنشاء
    والإحاطة بالمعنى والقبض على الدلالة، كما يكون الخطاب مسهباً في تعداد
    الصور، فيأتي حافلاً بالصيغ المتوالية عن طريق الروابط اللفظية والمعنوية
    وأدوات الوصل التي تعمل على ربط السابق باللاحق من الآيات.‏


    أما
    الخطاب المعطى والممكن: فهو خطاب القرائن التي تحول النص إلى نص آخر،
    بمعنى أن وجود القرائن أو انعدامها يطلق من قيد الحقل المرجعي للخطاب،
    وذلك بفتح حقول أخرى لإحالات إضافية ممكنة. وقريب من الخطاب الموازي الذي
    يطلب وعياً لغوياً ببنية النص التعبيرية، ومعرفة لطائف أسلوب العربية التي
    توظف جميع إمكانيات الكلام للتعبير عن المعنى، بدءاً بملاحظة الحرف كصوت
    مفرد إلى ملاحظة النص كنسق منسجم ومتسق، بمعنى أن الوحدة الدلالية ـ في
    الخطاب الموازي ـ تنطلق من (أصغر فونيم) إلى أكبر تركيب (النص)، كما أن
    التوازي في الخطاب هو استدعاء لخطابات أخرى. عبر إعمال النظر في صيغة
    اللفظ (الألفاظ) وهمينته في قيادة السياق اللغوي إلى نحو معين من خطاب
    المعنى أو خطاب الدلالة.‏


    2 ـ الخطاب القرآني والدلالة:‏

    إن
    النص القرآني هو نص مجتمع بكل وضعياته الدقيقة، والمجتمع في حركيته
    المستديمة ينبني على أمور ثابتة تشكل المجرى الواحد الذي يحدّ تلك الحركية
    أن تنحرف يميناً أو شمالاً، وأمور متغيّرة يعبّر فيها المجتمع عن سنة
    التطور التي هي سنة كونية تسري على جميع الكائنات والموجودات، ولقد ساق
    القرآن الكريم ضمن آياته مصطلح "الآيات المحكمات" و"الآيات المتشابهات"
    وشرح بشكل بياني دلالة كل مصطلح. كما قرن مصطلح "المتشابهات" بحركية ذهنية
    هي أس كل تطور ونعني بها "التأويل" قال تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب
    منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ
    فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا
    الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكّر إلا
    أولوا الألباب((22).‏


    ولقد
    خاض علماء الأصول مسألة "التأويل" وبحثوا فيما ورد من النصوص متشابهاً،
    فنفى جوازها بعضهم وذلك بأن وقف في قراءة الآية عند (ما يعلم تأويله إلا
    الله( واعتبر (الواو) بعدها استئنافية، بينما يذهب جماعة من المتأخرين من
    العلماء إلى اعتبار (الواو) واو عطف وبالتالي فهم يثبتون أن للراسخين في
    العلم حظاً في معرفة المتشابه وتأويله، وخاصة أصحاب التفسير بالرأي من
    المعتزلة. وينقل صاحب كتاب: كشف الأسرار، قول الإمام القتيبي: "لم ينزل
    الله تعالى شيئاً من القرآن إلا لينتفع به عباده ويدل به على معنى أراده
    فلو كان المتشابه لا يعمله غيره للزم للطاعن فيه مقال ولزم منه الخطاب بما
    لا يفهم ولم يبق فيه فائدة..."(23). والحقيقة، أن النص القرآني، هو نص
    تصوير وتجاوز في الوقت نفسه، فهو إذ ينقل وضعيات المجتمعات قبل الإسلام،
    فهو يدعو إلى تجاوز ما نبا في هذه المجتمعات عن الفطرة السليمة، ويترك في
    الوقت ذاته صياغة خطاب يحتفظ بفحوى الدلالة النصية للمجتمعات التي ستأتي
    لقراءة النص، بما بثّه من قرائن تقف إلى جانب ما عن في بنية اللغة من تطور
    وفي تراكيبها من جدة، بل إن محمول أحكام القرآن ودلالاته إنما هي اللغة
    التي تحدد ما ورد من الآيات محكماً، فهي تبسط المعنى تبسيطاً واضحاً
    ظاهراً لكونه جاء ليعبر عن حالات ثابتة في المجتمع أو في النفس.‏


    كما
    أن اللغة، تتطلب إمعاناً وتأملاً في نسقها التعبيري، عندما تعبر عن حالات
    تجاوز إذ تخلق وضعيات جديدة، فيأتي الخطاب يحمل تبايناً في التشكيل اللغوي
    لتباين الوضعيات المعبّر عنها بآلية التأويل، وإذا جئنا لتحديد المتحصل
    عليه من فعل التأويل في اقترانه مع النص القرآني، فإن ثمة أصنافاً من
    الخطاب باعتبار وجه الدلالة المعبّر عنها، لا باعتبار نسق التركيب الموضوع
    ضمنه، من تلك الأصناف التي تناولها علماء أصول الفقه: الخطاب المحكم أو
    خطاب المعنى، والخطاب المقيد أو خطاب المعنى والدلالة. والخطاب المتباين
    أو خطاب خلق "الوضعيات، والخطاب المركب أو خطاب الدلالات، وفي حقيقة الأمر
    فإن مرد هذه الأصناف جميعها إلى صنفين هما: الخطاب المحكم، وآخر في الخطاب
    المتشابه، وبعد كثرة تأمل وترداد نظر، بدا لنا آن الخطاب القرآني يصنف
    باعتبار أدائه للدلالة إلى تلك الأصناف التي سنبسط فيها القول، ونسوق
    أمثلة من نصوص القرآن الكريم لتوضيح الجزئيات التي تميز تلك الأصناف
    جميعها وهي لا تخرج عن إطار ما وضعه علماء أصول الفقه في طريق استنباطهم
    للأحكام، وتعيينهم لأشكال مختلفة من أصناف الخطاب القرآني.‏


    أ ـ الخطاب المحكم:‏

    لعلّ
    مقصد النص القرآني، الإرشادي والتبييني، لتشكيل مجتمع قرآني، هي التي أوحت
    إلى كثير من المفسرين والأصوليين إلى اعتبار النص القرآني نصاً محكماً
    وليس فيه متشابه، بل إن علّة التكليف بالفهم الواضح والدلالة الظاهرة من
    النصوص الشرعية أفضت منطقياً إلى أن النص القرآني محكم الآيات واضح
    الدلالات لا مكان للتأويل فيه، ينقل أحمد حجازي السقا رأي الزمخشري، في
    هذا الموضوع حيث قال: "لو كان كله (أي القرآن الكريم) محكماً لتعلّق الناس
    به لسهولة مأخذه، ولأعرضوا عمّا يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمل من النظر
    والاستدلال، ولو فعلوا ذلك لعطلوا الطريق التي لا يتوصّل إلى معرفة الله
    وتوحيده إلا به، ولما في المتشابه من الابتلاء، والتمييز بين الثابت على
    الحق والمتزلزل فيه"(24).‏


    إن
    وجهة النظر هذه، وإن كانت تنبني على أدلة من خارج النص، إلا أن الواضح
    فيها أن القول بالنص المحكم فقط لم يكن ليحتل وحده مساحة الفكر الديني
    العربي القديم، بل إن النص القرآني في وضوح آياته قد أبان عن وجود المحكم
    والمتشابه من التراكيب اللغوية الحاملة للأحكام والدلالات، والخطاب المحكم
    في عموم مفهومه، هو خطاب معنى لا يقبل التأويل أو احتمال أكثر من حكم واحد
    لأنه متعلّق بقضية لا تقبل التبديل أو التغيير. يقول عبد القادر عودة وهو
    يشرح الخطاب المحكم: "هو ما دلّت صيغته دلالة واضحة على معنى لا يقبل
    إبطالاً ولا تبديلاً، ولا يبقى معها احتمال التأويل. والمحكم لا يقبل
    الإبطال والتبديل، لأن الحكم المستفاد منه حكم أساسي من قواعد الدين
    كعابدة الله وحده، والإيمان بكتبه ورسله أو لأنه من أمهات الفضائل لا
    تختلف باختلاف الأحوال، كبر الوالدين والعدل، أو لأنه حكم فرعي جزئي أيده
    الشارع، كقوله تعالى في قاذفي المحصنات: (ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً(،
    والمحكم لا يقبل التأويل لأنه مفصل ومفسر لا مجال معه للتأويل"(25).‏


    فالخطاب المحكم اكتسب وضوح دلالته في شكله التعبيري بالأساس وهو يتعلّق بـ:‏

    أ
    ـ النسق التركيبي: إذ يخلو هذا النسق من القراءات النحوية المتباينة، ومن
    غرابة العناصر اللفظية المشكلة له، كما أن الإرجاع الإحالي دقيق.‏


    ب
    ـ الدلالة النسقية: دلالة على وضع ثابت أشبه بالقانون الذي لا يتغبر أو
    ينتهي، ولذلك كان المحكم دالاً على الأطر الثابتة في حياة الناس
    ومعتقداتهم.‏


    ج
    ـ الإسهاب في التعبير: الخطاب المحكم يتجاوز دائرة التأويل إلى دائرة
    الإسهاب في إبداء الحكم وإيضاح الدلالة، ولذلك يأتي معنياً بالتفصيل
    والشرح.‏


    ويبقى
    الخطاب المحكم، يعنى بصياغة ألفاظه على النحو الذي يقدم من خلاله المعنى
    إلى المتلقي غير النموذجي، ذلك أن النص القرآني يحافظ على القدر الذي
    يتوصل من خلاله القارئ إلى الفهم ومعرفة الدلالة، خاصة ما تعلّق بأمور
    العقيدة وأمور العبادات، وإن كان النص النبوي الشريف الصحيح، يقوم في كثير
    من المواضع بتعضيد حكم النص القرآني، وإسناد مقصديته الدلالية، وذلك بما
    يقدمه من تخصيص أو توضيح أو تفسير.‏


    ب ـ الخطاب المقيّد:‏

    وهو
    خطاب القرائن إذ لا يبين عن المعنى إلا بعد ضم القرائن لبعضها، فهو مقيّد
    الدلالة، ويسوق علماء الأصول مثال مدّة الحمل عند الأم، فهي قد تكون ستة
    أشهر، إذ نص القرآن الكريم أن حمل الولد وفصاله ثلاثون شهراً، وفي موضع
    آخر نص أن الوالدات يرضعن أولادهم حولين كاملين، وكما تكون القرينة من
    داخل النصوص القرآنية، قد تكون كذلك من خارجها، ويطلق الأصوليون على هذا
    النوع من الخطاب "المفسر" ويعرف بأنه ما دلّت صيغته دلالة واضحة على معنى
    مفصل لا يكون معه تأويل.‏


    فالخطاب
    المقيّد بالقرائن هو خطاب محكم إلا أن إخراج الحكم وبيان دلالته يحتاجان
    إلى خطاب قرائن شارحة، مثل قوله تعالى: (ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله
    إلا بالحق(، فهو خطاب تضمن لفظ "الحق" الذي به أخرج طائفة من الجرائم
    يستحق أصحابها عقوبة "القتل"، ليأتي الحديث الشريف كقرينة نصية ليفصل ما
    أجمل في خطاب الآية، فيقول عليه الصلاة والسلام: "لا يحل قتل امرئ مسلم
    إلا بإحدى ثلاث: زنا بعد إحصان، وكفر بعد إيمان، وقتل نفس بغير نفس".‏


    والخطاب
    المقيد هو خطاب مسند ـ في توضيح دلالته ـ إلى خطاب آخر يمثل جملة القرائن
    التي تجعل خطاب الآية مقيداً بها، ومن حيث قوّة الحكم المحمول ضمن الخطاب
    المقيد إذا اجتمع مع الخطاب المحكم في سياق نصي واحد، يرجح الخطاب المحكم
    لخلوّه من القرائن الصارفة لوجه الدلالة، يقول أحمد الحصري: "... وإذا
    تعارض المفسر (المقيد) مع المحكم كان المحكم هو الراجح"(26).‏


    وعلى
    العموم فإن النص القرآني هو نص منسجم التراكيب والدلالات، ينطق فحواه
    الوضع المحايث لفعل القراءة والتفسير، وهو في الوقت ذاته نص منفتح على
    النصوص الشرعية الأخرى، كون تلك النصوص (النبوية) نصوصاً شارحة، ومقدمة
    للقرائن التي تنحسم معها وجوه الاختلاف، ويتضح بها الظاهر من الخطاب
    القرآني.‏


    كما
    أن الخطاب المقيّد أو المفسر بمفهوم الأصوليين، هو خطاب متداول بين النص
    الواحد (القرآن الكريم) أو بين النصين (نص القرآن ونص الحديث) فلا نصوص
    أخرى تدخل لتقديم القرائن إلا جهد العالم في تقريب النصوص من بعضها، أو
    تعضيد النصوص بعضها لبعض، واستخلاص الحكم والدلالة، من ذلك التقريب أو
    التعضيد. يقول أحمد الحصري في هذا الموضوع: "الأدلة المفسرة تكون كما
    بيّنا من القرآن والسنة فلا تفسير يقطع التخصيص والتأويل إلا مع عهد
    الرسول("(27).‏


    والخطاب
    المقيّد في تصريف دلالته، بالقرائن، يحيل في بنيته التركيبية إلى أنساق
    القرائن التي يسوقها الأصولي لإيضاح الدلالة، وقد يكون عنصر واحد يمثل
    بؤرة القرائن المحيطة بالخطاب كما في لفظ "الحق" في الآية الكريمة التي
    سقناها للتدليل.‏


    ج ـ الخطاب المتشابه:‏

    وهو
    خطاب اللغة، ذلك أن التركيب النسقي هو الذي ينقل الخطاب من خطاب ظاهر
    الدلالة إلى خطاب مؤول للدلالة، وإن كان الخطاب القرآني يعتمد السياق
    اللغوي لفهم مقصديته، إلا أن الخطاب المتشابه ـ منه ـ يعتمد أساساً
    القراءة اللغوية العميقة لفحوى السياق التركيبي، مستثمراً في سبيل ذلك كل
    أدوات اللغة في التفكيك والتعليل، مقرناً القراءة اللغوية الإجرائية
    بقراءة ذهنية منطقية أساسها التأويل. وقد وضع علماء أصول الفقه الخطاب
    المتشابه تحت مصطلح عام هو الخطاب غير الواضح، ويتضمن "اللفظ الذي لا يتضح
    معناه مطلقاً أولاً يتضح معناه في بعض المدلولات التي تدخل في معناه، فغير
    الواضح قد يكون كذلك، لأنه غير بيّن في ذاته... وقد يكون عدم الوضوح ليس
    في ذاته بل من تطبيقه على بعض المدلولات..."(28).‏


    والحقيقة
    أن الخطاب المتشابه، لا يمكن أن يكون معناه خفياً مطلقاً إلا ما ورد من
    الحروف المقطعة في أواخر بعض السور وهي في اعتقادنا لا تتعلق بدلالة
    تكليفية، وإنما تعود لأمور أقرب إلى الإعجاز البلاغي والأسلوبي، ووجه
    التدليل على أن الخطاب المتشابه خطاب ظاهر لمن امتلك أدوات الإظهار، هو نص
    الآية الكريمة: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه...(،
    والقلب هو مصدر التشكيك والفتن ولم يقل الشارع تعالى: (فأما الذين في
    عقولهم زيغ...(، دلالة أن العقل أداة في حقل التأويل به يكتسب الخطاب
    منطقه وتعصم الدلالة من الانحراف والتشويه، ثم إن مناط التكليف من سوق
    الخطاب هو إيضاح الدلالة ووجود أدوات الوصول إليها وتوافرها عند من اجتهد
    في امتلاكها وتحصيلها، ويتنافى ذلك مع إخفاء دلالة بعض النصوص في الخطاب
    القرآني إخفاء مطلقاً.‏


    [b]إن
    أساس الخطاب هو وجود ثلاثة أطراف لتحقيق الفاعلية المقصودة وهذه الأطراف
    هي: المخاطب والمخاطب والسياق، وإذا جزمنا جدلاً أن المخاطب في النص
    القرآني هو الله تعالى متخذاً شخص الرسول(، لتبليغ الخطاب، عرفنا ما يعتري
    هذا الخطاب من توضيح وكشف وتأويل، لأن لغة المشافهة، وهي لغة التبليغ
    الأولى، يصحبها كثير من أدوات الإيضاح والقصد، كالإيماءات والعلامات
    الفيزيولوجية كتقطيب الجبين أو انشراح الأسارير...، ولذلك فإن مقصدية
    الخطاب القرآني تتغير من مخاطب عاصر التنزيل، إلى مخاطب لم يعاصره ولم
    يشاهده، لتحديد طبيعة الخطاب خاصة ما تعلّق منه بالمحكم والمتشابه؛ إذ أن
    التمييز بينهما يعود في الأساس إلى مقتضيات السياق، أو ما صاحب الخطاب من
    ظروف محيطة وهي ما تسمى في حقل علوم القرآن بـ"أسباب النزول". يقول أبو
    حامد الغزالي: "واعلم أن كل مقيد من كلام الشارع وفعله وسكوته واستبشاره،
    حيث يكون دليلاً وتنبيهه بفحوى الكلام على علّة الحكم، كل ذلك بيان"(29)،
    وهي إشارة دقيقة إلى قدرة النص على أن يتناسل مع داخله، فيفرز الخطاب
    المتشابه آليات داخلية، ينكشف ما فيه من غموض وترجح الدلالة المقصودة. وهو
    ما يقحم القارئ كطرف مساهم في استجلاء غوامض النص، ويعد "المحكم" رافداً
    مهماً في تأويل المتشابه من النصوص "وكأن القانون الذي اتفق عليه العلماء،
    هو ضرورة رد المتشابه إلى المحكم أي تفسير "الغامض" استناداً إلى
    "الواضح"، ومعنى هذا القانون أن العلماء ـ على خلافاتهم

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 21, 2024 8:16 am