الأسلوبية والتداولية : التجاور والتداخل
لقد ارتبطت الأسلوبية ارتباطا معقّدا بالبنيوية وبالإرث النظري الذي تركه الشكلانيون الروس فضلا عن ارتباطها باللسانيات في صيغتها السوسيرية (نسبة إلى دي سوسيرF.De Saussure ) فشارل بالي أحد اثنين جمعا محاضرات دي سوسير التي نُشرت إثر وفاته، وهو الذي أنشأ الأسلوبية التعبيرية [1] . ولقد تعددت مذاهب الأسلوبية، وكثر مزاولوها وتكاثر مع ذلك منتقدوها، بل والقائلون بجفافها وقرب زوالها .[2] ويصرّ المتمسكون بهذا المنهج أنه صالح للتطبيق على النصوص، وأنّه لا يتعارض مع الثورة المعرفية التي تشهدها علوم اللسان ما دام مسلكا إجرائيا في مقاربة الخطابات الأدبية خصوصا.
وقد تعددت العناوين التي تعتبر الأسلوبية مزوّدا منهجيا للمحلّل بقائمة من الأدوات والرؤى التي تسهّل على صاحب القراءة الوقوف على أدبية النص من خلال "دراسة شروطها الشكلية دراسةً فنية". [3]
إن المقاربة الأسلوبية بما هي تطبيقية إجرائية، تلغي الأبعاد التي تخرج عن البعد اللساني المحض للظاهرة الأدبية، وإن أقرّت بوجود نواحٍٍٍِِِِِِِِ اجتماعية ونفسية وثقافية واقتصادية تؤثر في "صناعة النص"، فإنها لا تهتم بها في تحليل النص لأنّ مثل ذلك الاهتمام يؤدي بالأسلوبية إلى إبداء حكم قيمة، وهو ما تعزف عنه عزوفا مبدئيا، وهو ميسمٌ فارق يميّزها عن النقد الأدبي الذي يعطي حكما على الأثر / النص المنقود.
بهذا المعنى نفهم الاتصال بين الأسلوبية والمنهج النصّاني والانفصال بينهما في الوقت ذاته. فهما متصلان لانكبابهما كليهما على النص إجراء وتطبيقا ولاشتراكه ما في اعتماد الوسائل اللغوية (الأصوات، المفردات، التراكيب، الصور، المجازات، الجُمَل (…في تحليل النص. وهما مختلفان من جهة الرؤية: فالنص في المنهج النصّاني هو مركز يستقطب التحليل أمّا منزلة النص في الأسلوبية فيُنظر إليه من جهة وقوعه ضمن ثنائية السُّنَّة والعدول (أو النمط والانزياح، أو الاستعمال المعياري والاستعمال الأدبي، أو اللغة العادية والكلام الأدبي...) لذلك قيل إنّ الدراسات النصية تنظر "إلى المنظور الأسلوبي بصورة هامشية. فالأسلوبية تضع قاعدة أو معيارا متحققا بالقوة (virtuellement réalisé) في اللغة العادية، وتقابلها مع الانحرافات في الأسلوب. ويتعارض هذا التصوّر مع فكرة مركزية النص. إن الشعرية المقارنة تلجأ إلى التحليلات الأسلوبية لكنها تضعها ضمن نظام حتى أنّ مصطلح النقد النصي ذاته لا يُستخدم إلا بشيء من التحفّظ" [4] ولعل هذه المفارقة التي تسم الممارسة الأسلوبية هي التي بوّأتها منزلة العلم المساعد الذي يقف في مفترق الطرق. فالشكلانيون الروس من جهة وشارل بالّي من جهة أخرى، قد حدّدوا - فيما يذكر مولينييه- وقوع الأسلوبية "في مفترق الأدب واللسانيات أي في تقاطع مجموعة محدّدة (النصوص الأدبية) مع جهاز من التصوّرات والمناهج المتدبرة بطريقة خصوصية (اللسانيات البنيوية). ومنذ ذلك الحين، لم توجد أسلوبية إلا وهي بنيوية" [5].
فالأسلوبية تحلل النصوص الأدبية خاصة: تصف أدبيتها وتبيّن الخواصّ الفنية الموجودة في الجماليات الكلامية"[6] لذلك فهي تقف عند حدود التشخيص والوصف الفني ولا تتجاوز ذلك إلى الحكم على الأثر (كما هو الحال في النقد الأدبي) ولا تقف على أغراض القائل المقامية ولا تتبيّن الاستراتيجية الخطابية للنصّ بما هو قول (كما تفعل ذلك التداولية/ البراغماتية). وليس تعيين حدود الأسلوبية هذه قولا يُنقص من قيمتها أو يدعو إلى هجرها، ولكن من المفيد – فيما نزعم- فهم سيرورة المناهج وأنماط التعالق الناتجة عن احتكاكها وتعايُشها. كما أنّ دعوى التفاضل بين المناهج هي دعوى مردودة لقيامها على مقارنة غير علمية. ثم انّه من الطريف أن نتذكّر أنّ لثورة المعرفية التي حصلت في اللسانيات منذ بداية القرن العشرين لم تُلغِ الأنحاء التقليدية ولكنها غيّرت النظر إليها وراجعت سلطة تلك الأنحاء على الألسنة، ببيان حدودها وتبيّن وجود منوالات كثيرة ممكنة لوصف الألسنة الطبيعية، وهو أمر ولّد وضع الأنحاء التقليدية بوصفها إحداثيات على شبكة تحليل كبرى وُضعت عليها كذلك الأنحاء الصورية واللغات (بما هي أنظمة من العلاقات اللسانية) وغير ذلك من الأنساق ذات القدرة التفسيرية الشاملة للظاهرة اللغوية (ولعلّ من المقترحات البارزة في هذا السياق مفهوم "النحو الكلّيّ" (grammaire universelle) كما صاغه نعّوم تشومسكي. غير أن مولينييه يقيم علاقة تواصل متين بين الأسلوبية والبراغماتية تجعل الأولى موجّهة - فيما بدا لنا- للثانية، وليس العكس كما هو منتظر.
ينطلق صاحب كتاب "الأسلوبية" من أن البراغماتية تدرس نظرية الأعمال اللغوية كما ظهرت مع أوستين وسورل، فهي تنظر إلى الأقوال بما هي مسرح تظهر عليه ثلاثة مستويات من العمل اللغوي:
- العمل اللغوي.
- العمل المتضمن في اللغة (أو اللاقولي).
- عمل أثر القول.
ويعود مولينييه إلى برّوندونير "الذي يرى أن كل فعل كلامي هو تحقيقي لذاته ولمجرد كونه إنتاجا كلاما، في حين أن القيمة التأثيرية تختص بتحقيق موقف ملموس تحقيقا فعليا بواسطة التكلم وحده" [7].
ويرى الباحث الفرنسي أ، قيمة العمل الفني هي شيء إضافي، فهي "لا توجد في أي مكون من مكوناته "وهي - مع ذلك- " تنتمي إلى طبيعة لغوية- وهذا هو واقعها المادي- وتنتمي في الوقت نفسه إلى طبيعة الحدث غير اللغوي بقدر ما يصبح الفعل اللغوي نفسه إلى طبيعة الحدث غير اللغوي بقدر ما يصبح الفعل اللغوي نفسه حدثا في العالم، تماما مثل اللوحة الفنية، أو السيمفونية، أو المنحوتة في عالم الأشكال الجمالية، ومثل الطاولة أو المحرك في العالم الاجتماعي- الاقتصادي. هذه القيمة علامة الرهان البراغماتي للفن الكلامي، وهي هدفه ونتيجة له" [8]. ويفسر موليني تصوره للقيمة البراغماتية/ التداولية للعمل اللغوي ذي الطبيعة الأدبية، فهذه القيمة البراغماتية" تقوم بعملية إبدال وتحويل وتصعيد بحيث تجعل من العمل الكتابي شيئا فنيا. وتضع هذه القيمة النشاط الكتابي على أساس كونه ممارسة للمرجعية الذاتية في العمل اللغوي. إن الفعل الكلامي الذي يتسم بكونه أدبيا هو "تأثيري" أولا يكون شيئا. فالأدبية هي انجازية performativité مطلقة للغة إذ تتحول إلى وظيفة شعرية، أي إن الفعل الخلاق لشيء لغوي يكون هو نفسه مرجع هذا الشيء" [9].
يبدو لنا هذا التوجيه الذي عمد إليه مولينييه لكل من التداولية والأسلوبية محكوما بمحاولة إخراج الأسلوبية من المضيق الذي آلت إليه ولا سيما "أسلوبية الأثر" كما يقول هو [10]. ثم إن إمكانية تلاقي هذين المنهجين على صعيد واحد، لا يمكن أن تتم إلا إذا صادق التداوليين والأسلوبيون معا على تصور موحد في نظرية المعنى: فإذا اقتصر التداوليون على المعنى المقامي واعتبروه عمدة التفسير، وانكب الأسلوبيون على المعنى اللغوي (الحرفي المجازي على حدّ تعبيره فقط فإن هذا الافتراق الجوهري في تصور المعنى لا يسمح بتلاقي المنهجيْن إلا إذا عدّلَ كل منهما من منظوره إلى هذه المسألة المركزية.
وثمة مَشابِهُ كثيرةٌ للخلط بين منهج الأسلوبية ومنهج التداولية (مع تسليمنا بوجود أسلوبيات شتى وتداوليات مختلفة) لعل من بينها علاقة المنهجين كليهما بالبلاغة. فضلا عن الرأي القائل بوراثة الأسلوبية للبلاغة. فقد شاع أن "الأسلوبية مرتبطة تاريخيا بالبلاغة/ الخطابة" [11] فضلا عن الرأي القائل، بوراثة الأسلوبية للبلاغة، ثم ما تشهده الوسائل والوجوه البلاغية من استثمار واستغلال في إطار للأسلوبية المطبقة على النص الأدبي. ويقوم التصور الأسلوبي للبلاغة- من منظور مولينييه - على اعتبار البلاغة ثلاث بلاغات:
1- البلاغة الإقناعية وهي "التيار الأكثر ذيوعا وهو المتصل بفن الإقناع إذ يعمد باثّ (خطيب)
إلى فعل أمر أو تفكير بأمر أو التفكير بأمر لا يوجد مبدئيا ما يدعوهم أو يرغبهم في فعله أو التفكير فيه، نصل هكذا إلى التفريق بين ثلاثة أصناف كبيرة من الفصاحة اعتبارا لما نريد أن نقنع به وهي:
- أ - الإقناع بالصحيح أو بالخطأ
- ب - الإقناع بالعادل أو بالظالم
- ج - الإقناع بالنافع ( المشرف) أو بالضارّ (المخزي) " [12] ولا يخفي أ، هذا التصور قادم رأسا من الإرث الأرسطي في "الخطابة" و "الشعر".
2- بلاغة الإنشائية "هي إجمالا دراسة التعبير البيانية" وأعلام هذا الصنف من البلاغة [13] قد أنشأوا نظرية المجازات ذات بنى صغرى وأخرى ذات بنى كبرى وهذه النظرية تشكل التفكيك الأسلوبي لبعض الآثار مهما كانت، إذ علينا أن نلاحظ جيدا ضرورة التفريق في الاستعمال اللغوي الأساسي للغة المجازية بين وجهة نظر الباث الذي يعمل على نقل مدلول ثابت إلى مجموعة من الدوال وبين وجهة نظر المتلقي الذي يتقبل دالا واحدا فيسعى إلى وضعه في تركيب المدلولات الصحيح، أو لا يسعى إلى ذلك".
3- البلاغة النمطية ويقصد بها فنون محاكمة مؤلفات الفكر محاكمة جيدة، وهي فنون لا تحصى، تتوجه للنقاد كما لممارسي اللغة الجميلة، وقد سيطرت بذلك على عالم الكتابة الرسمية منذ عصر لابرويار إلى زمن أناتول فرانس وأندريه جيد". ويشير موليني إلى أن هذا الضرب الأخير من البلاغة الذي ظهر على هامش الضربين الأولين وازدهر في فرنسا خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وتواصل في التعليم المؤسساتي حتى القرن التاسع عشر، قد لفظ أنفاسه الأخيرة وأصبح مسدود الأفق [14].
والملاحظ أنّ الأسلوبية المعاصرة قد استثمرت كلاّ من البلاغة الإقناعية وبلاغة الإنشائية بل أكثر من ذلك فمباحثهما – عند مولينييه – جزء لا يتجزأ من الأسلوبية. فالبلاغة الإقناعية هي التي تحلل "مجازات ذات بنى كبرى من الدرجة الثانية وهي نماذج منطقية مقالية خاصة بإثراء الاستراتيجيات البرهانية (...) هذا التوجه (...) يتفق مع الأبحاث الحالية في البراغماتية سواء بمحاولة سبر الأساليب البرهانية والفعّالة الراجعة إلى تلفّظ خيالي بالكلام داخل كون أدبي معطى أو بمحاولة قيس المحمل الثقافي في المنتجات الأدبية المعتبرة أعمالا لغوية مخصوصة" [15].
فهذا التصوّر النظري للأسلوبية يشير إلى أنّ البلاغة والتداولية تعدّان منجميْن تغرف الأسلوبية منهما ما تعتبره صالحا ليُثريَ مقاربتها للنص. إن رؤية الأسلوبية لهذين العلمين تتسم – فيما يبدو لنا – بالتجزيئية، بمعنى أنها تهمل "فلسفة" كل علم ومقوماته الإبستيمولوجية وتعتبره مادة خاما قابلة للاستغلال في إطار الأسلوبية المعرفي. وليس الأمر على القدر ذاته بالنسبة إلى البلاغة أو بالنسبة إلى التداولية. فالأسلوبية قد "استباحت" أدوات التحليل البلاغي بل وظّفتها يشكل يستأصلها من المحضن النظري التقليدي. أمّا التداولية – بما هي علم/ منهج حديث – فتستفيد منها الأسلوبية من جهة تعديل النظرة إلى العمل الأدبي باعتباره واقعا تحت طائلة نظرية الأعمال اللغوية (العمل القولي والعمل اللاقولي وعمل أثر القول، مع أن البعد الثالث المتصل بالقيمة غير اللسانية للقول ليست هدفا أدبيا، فالأسلوبية لا تهتم بها، ولكنها تقرأ لها حسابا. وتترك أمر تحليلها للتداولية. فالأسلوبية والتداولية كلتاهما منهج من مناهج تحليل الخطاب. وهما تتقاطعان من بعض الجهات نحو اهتمامهما بالكيان اللغوي الذي يتجلى فيه القول، غير أن كل واحدة منهما تتميز بخصوصية المقاربة: فإذا كانت الأسلوبية تقف عند حدود جمالية القول، فإن التداولية تنظر في قيمة القول خارج العالم اللساني، أي هي تنظر إلى البعد العملي للقول.
فإذا أخذنا بهذا التفريق القائم على التمييز بين المنظورين الأسلوبي والتداولي، أدى بنا ذلك إلى التساؤل عن وجاهة الربط بين التداولية والأسلوبية على أساس علاقة التضمن أو الاندراج أي أن تندرج التداولية في الأسلوبية- كما يقترح موليني- أو أن تندرج الأسلوبية في التداولية كما يمكن أن يقترح ذلك [16] . يبدو منطقيا، أ، نعتبر أن أولى المنهجين بالاندراج في الآخر هو أقلّهما شمولا على صعيد النظريات التي يقوم عليها المنهج أي لن أوسع المنهجين من حيث الطلقة التفسيرية هو الأقدر على أن يندمج المنهج الآخر فيه. فإذا نظرنا إلى أدوات التحليل التداولي ألفيناها أقرب إلى المنطق، والمنطق يتخذ من الأقوال العادية والأقوال المصطنعة مدونة له (يماثل في ذلك ما يأتيه النحاة التقليديون عند التمثيل بأمثلة لا صدى فيها للاستعمال أحيانا). أما الأسلوبية فتتناول - في أغلب اتجاهاتها- تحليل الخطاب الأدبي، ومن ثمة فإن التداولية والأسلوبية تتخذان مدونتين نصيتين متنافرتين عند التطبيق. ولما كانتا تنزعان منزعا "علميا" في المقاربة، فانه يعسر وصمهما أو أحداهما بالاتجاه نحو تعميم النتائج المتوصل إليها في مقاربة مدونة معينة على مدونة أخرى لم تؤخذ بعين الاعتبار عند تصميم المنهج ولا عند تطبيقه.
إن الذي نقف عليه في هذه المماثلة العامة بين التداولية والأسلوبية أنهما تتوازيان توازيا يشاكل ذاك الذي شهده تاريخ البلاغة بين ضربي البلاغة الكبيريْن:
البلاغة الإقناعية / الخطابية.
البلاغة الإنشائية / الجمالية.
فالتجاور بينهما قد استُعيد في هذا العصر بين التداولية (بما هي وريثة الضرب الأوّل من البلاغة) والأسلوبية (بما هي وريثة الضرب الثاني). ولعل مبحث أصنافيات النصوص (typologie de textes) يُفيد في تدبُّر وجوه التجاور والتقاطع بين ما هو من مشمولات التداولية وما هو من مشمولات الأسلوبية.
وثمة خطر آخر قد ينساق إليه الباحث إذا انجر وراء التعميم "السهل" عندما يقرأ تاريخ البلاغة العربية بوصفه- في نظره- مثيلا لتاريخ البلاغة الغربية. طبعا لا ننفي المشابه الكثيرة بين التاريخين، بيد أن تبين خصوصيات كل بلاغة ولا سيما الخصوصيات الثقافية، تسهم في تصويب الحكم على تاريخها تصويبا سديدا، وإلاّ فإن إرسال الحكم بإطلاق اعتمادا فقط على النتائج التي تم الإطلاع عليها انطلاقا من البحث في تاريخ البلاغة الغربية، قد يؤدي إلى ضرب من سوء الفهم أو التعسف في التأويل، مما من شأنه حجب رقائق الاختلاف بين السيرورات المتباينة التي اتخذتها
كل منظومة لغوية، وما وجهها من إطار أبستيمولوجي حاف تراوح بين الجمود والحراك خلال التاريخ بفعل عوامل ذاتية وأخرى خارجية معقدة ومتداخلة.
_________
*الهوامش:
[1] يقول جورج مولينييه عن مدرسة بالّي الأسلوبية:" فأسلوبية بالي ليست إنجازا أدبيا ولا فرديا. (انه) يستعمل العمل الأدبي كسند وكإطارأو كذريعة تتيح تحليل أفعال اللغة الشعورية، وتكتسي هذه العلاقة الأخيرة أهميتها انطلاقا من هذه النظرية واعتبارا لعموميتها ولتمثيليتها البنيوية بالنظر إلى النسق الشامل للغة ما (مثلا الفرنسية في النصف الأول من القرن العشرين)". تاريخ الأسلوبية: جورج مولينييه، تعريب عز الدين العامري وعبد المنعم الشنتوف، مجلة الفكر العربي، معهد الإنماء العربي، بيروت، لبنان- طرابلس ليبيا، صيف- خريف 1996، العددان85- 86، السنة17، ص146.
[2] يقول جورج مولينييه:" كان يظن سنتي 1968 و 1974 أن الأسلوبية قد ماتت، إذ إن للعلوم أعمارا (...) وابتداء من سنة 1987 عشنا عودة الأسلوبية" لجورج مولينييه تعريب صابر الحباشة، جريدة الصحافة، الورقات الثقافية، العدد 243- 29 أكتوبر 1999.
[3] المرجع نفسه.
[4] جيزيل فالانسي Gisèle Valency: "النقد النصي"، ضمن كتاب:"مدخل إلى مناهج النقد الأدبي"، ترجمة د. رضوان ظاظا، مراجعة د. المنصف الشنوفي، عالم المعرفة، الكويت، العدد221، مايو/ أيار 1997، ص 216.
[5] جورج مولينييه:" الأسلوبية"، تعريب صابر الحباشة، جريدة الصحافة، الورقات الثقافية، العدد 243، 29 أكتوبر 1999.
[6] جورج مولينييه: 3 دراسة الأسلوب والبحث، وأدوات الفن الأدبي"، ترجمة د. بسام بركة، مجلة الفكر العربي، معهد الإنماء العربي، بيروت لبنان- طرابلس ليبيا، شتاء 1998 العدد94، السنة 19، ص 231.
[7] المرجع نفسه، ص232.
[8] المرجع نفسه، ص234.
[9] المرجع نفسه، الصفحة ذاتها.
[10] المرجع نفسه، الصفحة.235.
[11] جورج مولينييه:" الأسلوبية" مقال في E.U ترجمة صابر الحباشة، الصحافة، الورقات الثقافية، العدد 243، 29 أكتوبر 1999.
[12] المرجع نفسه.
[13] من أعلام هذا الصنف من البلاغة الذين نظروا له دي مارسيه (Du Marsais) وفونتانيي (Fontanier) و بون أوم (Bonhomme) ولوغارن (Le Guern) وفريق مو
[14] المرجع نفسه.
[15] المرجع نفسه.
[16] هذا مبحث شديد الأهمية- فيما نرى- خصوصا إذا انتبهنا إلى إن المتحدثين عن "التداولية المندمجة" نحو أوزفالد ديكرو، لا يربطون بينها وبين الأسلوبية، بل يعودون إلى الأصل الجامع أي إلى المنظومة اللغوية عموما، وفي ذلك تجاوز لإشكاليات خصوصية المدونة التي تشتغل عليها الأسلوبية: هذا المنهج الذي سماه مولينييه "الدلائلية الأدبية" (sémiotique littéraire).
* صابر الحباشة : باحث في اللسانيات وناقد أدبي تونسي
لقد ارتبطت الأسلوبية ارتباطا معقّدا بالبنيوية وبالإرث النظري الذي تركه الشكلانيون الروس فضلا عن ارتباطها باللسانيات في صيغتها السوسيرية (نسبة إلى دي سوسيرF.De Saussure ) فشارل بالي أحد اثنين جمعا محاضرات دي سوسير التي نُشرت إثر وفاته، وهو الذي أنشأ الأسلوبية التعبيرية [1] . ولقد تعددت مذاهب الأسلوبية، وكثر مزاولوها وتكاثر مع ذلك منتقدوها، بل والقائلون بجفافها وقرب زوالها .[2] ويصرّ المتمسكون بهذا المنهج أنه صالح للتطبيق على النصوص، وأنّه لا يتعارض مع الثورة المعرفية التي تشهدها علوم اللسان ما دام مسلكا إجرائيا في مقاربة الخطابات الأدبية خصوصا.
وقد تعددت العناوين التي تعتبر الأسلوبية مزوّدا منهجيا للمحلّل بقائمة من الأدوات والرؤى التي تسهّل على صاحب القراءة الوقوف على أدبية النص من خلال "دراسة شروطها الشكلية دراسةً فنية". [3]
إن المقاربة الأسلوبية بما هي تطبيقية إجرائية، تلغي الأبعاد التي تخرج عن البعد اللساني المحض للظاهرة الأدبية، وإن أقرّت بوجود نواحٍٍٍِِِِِِِِ اجتماعية ونفسية وثقافية واقتصادية تؤثر في "صناعة النص"، فإنها لا تهتم بها في تحليل النص لأنّ مثل ذلك الاهتمام يؤدي بالأسلوبية إلى إبداء حكم قيمة، وهو ما تعزف عنه عزوفا مبدئيا، وهو ميسمٌ فارق يميّزها عن النقد الأدبي الذي يعطي حكما على الأثر / النص المنقود.
بهذا المعنى نفهم الاتصال بين الأسلوبية والمنهج النصّاني والانفصال بينهما في الوقت ذاته. فهما متصلان لانكبابهما كليهما على النص إجراء وتطبيقا ولاشتراكه ما في اعتماد الوسائل اللغوية (الأصوات، المفردات، التراكيب، الصور، المجازات، الجُمَل (…في تحليل النص. وهما مختلفان من جهة الرؤية: فالنص في المنهج النصّاني هو مركز يستقطب التحليل أمّا منزلة النص في الأسلوبية فيُنظر إليه من جهة وقوعه ضمن ثنائية السُّنَّة والعدول (أو النمط والانزياح، أو الاستعمال المعياري والاستعمال الأدبي، أو اللغة العادية والكلام الأدبي...) لذلك قيل إنّ الدراسات النصية تنظر "إلى المنظور الأسلوبي بصورة هامشية. فالأسلوبية تضع قاعدة أو معيارا متحققا بالقوة (virtuellement réalisé) في اللغة العادية، وتقابلها مع الانحرافات في الأسلوب. ويتعارض هذا التصوّر مع فكرة مركزية النص. إن الشعرية المقارنة تلجأ إلى التحليلات الأسلوبية لكنها تضعها ضمن نظام حتى أنّ مصطلح النقد النصي ذاته لا يُستخدم إلا بشيء من التحفّظ" [4] ولعل هذه المفارقة التي تسم الممارسة الأسلوبية هي التي بوّأتها منزلة العلم المساعد الذي يقف في مفترق الطرق. فالشكلانيون الروس من جهة وشارل بالّي من جهة أخرى، قد حدّدوا - فيما يذكر مولينييه- وقوع الأسلوبية "في مفترق الأدب واللسانيات أي في تقاطع مجموعة محدّدة (النصوص الأدبية) مع جهاز من التصوّرات والمناهج المتدبرة بطريقة خصوصية (اللسانيات البنيوية). ومنذ ذلك الحين، لم توجد أسلوبية إلا وهي بنيوية" [5].
فالأسلوبية تحلل النصوص الأدبية خاصة: تصف أدبيتها وتبيّن الخواصّ الفنية الموجودة في الجماليات الكلامية"[6] لذلك فهي تقف عند حدود التشخيص والوصف الفني ولا تتجاوز ذلك إلى الحكم على الأثر (كما هو الحال في النقد الأدبي) ولا تقف على أغراض القائل المقامية ولا تتبيّن الاستراتيجية الخطابية للنصّ بما هو قول (كما تفعل ذلك التداولية/ البراغماتية). وليس تعيين حدود الأسلوبية هذه قولا يُنقص من قيمتها أو يدعو إلى هجرها، ولكن من المفيد – فيما نزعم- فهم سيرورة المناهج وأنماط التعالق الناتجة عن احتكاكها وتعايُشها. كما أنّ دعوى التفاضل بين المناهج هي دعوى مردودة لقيامها على مقارنة غير علمية. ثم انّه من الطريف أن نتذكّر أنّ لثورة المعرفية التي حصلت في اللسانيات منذ بداية القرن العشرين لم تُلغِ الأنحاء التقليدية ولكنها غيّرت النظر إليها وراجعت سلطة تلك الأنحاء على الألسنة، ببيان حدودها وتبيّن وجود منوالات كثيرة ممكنة لوصف الألسنة الطبيعية، وهو أمر ولّد وضع الأنحاء التقليدية بوصفها إحداثيات على شبكة تحليل كبرى وُضعت عليها كذلك الأنحاء الصورية واللغات (بما هي أنظمة من العلاقات اللسانية) وغير ذلك من الأنساق ذات القدرة التفسيرية الشاملة للظاهرة اللغوية (ولعلّ من المقترحات البارزة في هذا السياق مفهوم "النحو الكلّيّ" (grammaire universelle) كما صاغه نعّوم تشومسكي. غير أن مولينييه يقيم علاقة تواصل متين بين الأسلوبية والبراغماتية تجعل الأولى موجّهة - فيما بدا لنا- للثانية، وليس العكس كما هو منتظر.
ينطلق صاحب كتاب "الأسلوبية" من أن البراغماتية تدرس نظرية الأعمال اللغوية كما ظهرت مع أوستين وسورل، فهي تنظر إلى الأقوال بما هي مسرح تظهر عليه ثلاثة مستويات من العمل اللغوي:
- العمل اللغوي.
- العمل المتضمن في اللغة (أو اللاقولي).
- عمل أثر القول.
ويعود مولينييه إلى برّوندونير "الذي يرى أن كل فعل كلامي هو تحقيقي لذاته ولمجرد كونه إنتاجا كلاما، في حين أن القيمة التأثيرية تختص بتحقيق موقف ملموس تحقيقا فعليا بواسطة التكلم وحده" [7].
ويرى الباحث الفرنسي أ، قيمة العمل الفني هي شيء إضافي، فهي "لا توجد في أي مكون من مكوناته "وهي - مع ذلك- " تنتمي إلى طبيعة لغوية- وهذا هو واقعها المادي- وتنتمي في الوقت نفسه إلى طبيعة الحدث غير اللغوي بقدر ما يصبح الفعل اللغوي نفسه إلى طبيعة الحدث غير اللغوي بقدر ما يصبح الفعل اللغوي نفسه حدثا في العالم، تماما مثل اللوحة الفنية، أو السيمفونية، أو المنحوتة في عالم الأشكال الجمالية، ومثل الطاولة أو المحرك في العالم الاجتماعي- الاقتصادي. هذه القيمة علامة الرهان البراغماتي للفن الكلامي، وهي هدفه ونتيجة له" [8]. ويفسر موليني تصوره للقيمة البراغماتية/ التداولية للعمل اللغوي ذي الطبيعة الأدبية، فهذه القيمة البراغماتية" تقوم بعملية إبدال وتحويل وتصعيد بحيث تجعل من العمل الكتابي شيئا فنيا. وتضع هذه القيمة النشاط الكتابي على أساس كونه ممارسة للمرجعية الذاتية في العمل اللغوي. إن الفعل الكلامي الذي يتسم بكونه أدبيا هو "تأثيري" أولا يكون شيئا. فالأدبية هي انجازية performativité مطلقة للغة إذ تتحول إلى وظيفة شعرية، أي إن الفعل الخلاق لشيء لغوي يكون هو نفسه مرجع هذا الشيء" [9].
يبدو لنا هذا التوجيه الذي عمد إليه مولينييه لكل من التداولية والأسلوبية محكوما بمحاولة إخراج الأسلوبية من المضيق الذي آلت إليه ولا سيما "أسلوبية الأثر" كما يقول هو [10]. ثم إن إمكانية تلاقي هذين المنهجين على صعيد واحد، لا يمكن أن تتم إلا إذا صادق التداوليين والأسلوبيون معا على تصور موحد في نظرية المعنى: فإذا اقتصر التداوليون على المعنى المقامي واعتبروه عمدة التفسير، وانكب الأسلوبيون على المعنى اللغوي (الحرفي المجازي على حدّ تعبيره فقط فإن هذا الافتراق الجوهري في تصور المعنى لا يسمح بتلاقي المنهجيْن إلا إذا عدّلَ كل منهما من منظوره إلى هذه المسألة المركزية.
وثمة مَشابِهُ كثيرةٌ للخلط بين منهج الأسلوبية ومنهج التداولية (مع تسليمنا بوجود أسلوبيات شتى وتداوليات مختلفة) لعل من بينها علاقة المنهجين كليهما بالبلاغة. فضلا عن الرأي القائل بوراثة الأسلوبية للبلاغة. فقد شاع أن "الأسلوبية مرتبطة تاريخيا بالبلاغة/ الخطابة" [11] فضلا عن الرأي القائل، بوراثة الأسلوبية للبلاغة، ثم ما تشهده الوسائل والوجوه البلاغية من استثمار واستغلال في إطار للأسلوبية المطبقة على النص الأدبي. ويقوم التصور الأسلوبي للبلاغة- من منظور مولينييه - على اعتبار البلاغة ثلاث بلاغات:
1- البلاغة الإقناعية وهي "التيار الأكثر ذيوعا وهو المتصل بفن الإقناع إذ يعمد باثّ (خطيب)
إلى فعل أمر أو تفكير بأمر أو التفكير بأمر لا يوجد مبدئيا ما يدعوهم أو يرغبهم في فعله أو التفكير فيه، نصل هكذا إلى التفريق بين ثلاثة أصناف كبيرة من الفصاحة اعتبارا لما نريد أن نقنع به وهي:
- أ - الإقناع بالصحيح أو بالخطأ
- ب - الإقناع بالعادل أو بالظالم
- ج - الإقناع بالنافع ( المشرف) أو بالضارّ (المخزي) " [12] ولا يخفي أ، هذا التصور قادم رأسا من الإرث الأرسطي في "الخطابة" و "الشعر".
2- بلاغة الإنشائية "هي إجمالا دراسة التعبير البيانية" وأعلام هذا الصنف من البلاغة [13] قد أنشأوا نظرية المجازات ذات بنى صغرى وأخرى ذات بنى كبرى وهذه النظرية تشكل التفكيك الأسلوبي لبعض الآثار مهما كانت، إذ علينا أن نلاحظ جيدا ضرورة التفريق في الاستعمال اللغوي الأساسي للغة المجازية بين وجهة نظر الباث الذي يعمل على نقل مدلول ثابت إلى مجموعة من الدوال وبين وجهة نظر المتلقي الذي يتقبل دالا واحدا فيسعى إلى وضعه في تركيب المدلولات الصحيح، أو لا يسعى إلى ذلك".
3- البلاغة النمطية ويقصد بها فنون محاكمة مؤلفات الفكر محاكمة جيدة، وهي فنون لا تحصى، تتوجه للنقاد كما لممارسي اللغة الجميلة، وقد سيطرت بذلك على عالم الكتابة الرسمية منذ عصر لابرويار إلى زمن أناتول فرانس وأندريه جيد". ويشير موليني إلى أن هذا الضرب الأخير من البلاغة الذي ظهر على هامش الضربين الأولين وازدهر في فرنسا خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وتواصل في التعليم المؤسساتي حتى القرن التاسع عشر، قد لفظ أنفاسه الأخيرة وأصبح مسدود الأفق [14].
والملاحظ أنّ الأسلوبية المعاصرة قد استثمرت كلاّ من البلاغة الإقناعية وبلاغة الإنشائية بل أكثر من ذلك فمباحثهما – عند مولينييه – جزء لا يتجزأ من الأسلوبية. فالبلاغة الإقناعية هي التي تحلل "مجازات ذات بنى كبرى من الدرجة الثانية وهي نماذج منطقية مقالية خاصة بإثراء الاستراتيجيات البرهانية (...) هذا التوجه (...) يتفق مع الأبحاث الحالية في البراغماتية سواء بمحاولة سبر الأساليب البرهانية والفعّالة الراجعة إلى تلفّظ خيالي بالكلام داخل كون أدبي معطى أو بمحاولة قيس المحمل الثقافي في المنتجات الأدبية المعتبرة أعمالا لغوية مخصوصة" [15].
فهذا التصوّر النظري للأسلوبية يشير إلى أنّ البلاغة والتداولية تعدّان منجميْن تغرف الأسلوبية منهما ما تعتبره صالحا ليُثريَ مقاربتها للنص. إن رؤية الأسلوبية لهذين العلمين تتسم – فيما يبدو لنا – بالتجزيئية، بمعنى أنها تهمل "فلسفة" كل علم ومقوماته الإبستيمولوجية وتعتبره مادة خاما قابلة للاستغلال في إطار الأسلوبية المعرفي. وليس الأمر على القدر ذاته بالنسبة إلى البلاغة أو بالنسبة إلى التداولية. فالأسلوبية قد "استباحت" أدوات التحليل البلاغي بل وظّفتها يشكل يستأصلها من المحضن النظري التقليدي. أمّا التداولية – بما هي علم/ منهج حديث – فتستفيد منها الأسلوبية من جهة تعديل النظرة إلى العمل الأدبي باعتباره واقعا تحت طائلة نظرية الأعمال اللغوية (العمل القولي والعمل اللاقولي وعمل أثر القول، مع أن البعد الثالث المتصل بالقيمة غير اللسانية للقول ليست هدفا أدبيا، فالأسلوبية لا تهتم بها، ولكنها تقرأ لها حسابا. وتترك أمر تحليلها للتداولية. فالأسلوبية والتداولية كلتاهما منهج من مناهج تحليل الخطاب. وهما تتقاطعان من بعض الجهات نحو اهتمامهما بالكيان اللغوي الذي يتجلى فيه القول، غير أن كل واحدة منهما تتميز بخصوصية المقاربة: فإذا كانت الأسلوبية تقف عند حدود جمالية القول، فإن التداولية تنظر في قيمة القول خارج العالم اللساني، أي هي تنظر إلى البعد العملي للقول.
فإذا أخذنا بهذا التفريق القائم على التمييز بين المنظورين الأسلوبي والتداولي، أدى بنا ذلك إلى التساؤل عن وجاهة الربط بين التداولية والأسلوبية على أساس علاقة التضمن أو الاندراج أي أن تندرج التداولية في الأسلوبية- كما يقترح موليني- أو أن تندرج الأسلوبية في التداولية كما يمكن أن يقترح ذلك [16] . يبدو منطقيا، أ، نعتبر أن أولى المنهجين بالاندراج في الآخر هو أقلّهما شمولا على صعيد النظريات التي يقوم عليها المنهج أي لن أوسع المنهجين من حيث الطلقة التفسيرية هو الأقدر على أن يندمج المنهج الآخر فيه. فإذا نظرنا إلى أدوات التحليل التداولي ألفيناها أقرب إلى المنطق، والمنطق يتخذ من الأقوال العادية والأقوال المصطنعة مدونة له (يماثل في ذلك ما يأتيه النحاة التقليديون عند التمثيل بأمثلة لا صدى فيها للاستعمال أحيانا). أما الأسلوبية فتتناول - في أغلب اتجاهاتها- تحليل الخطاب الأدبي، ومن ثمة فإن التداولية والأسلوبية تتخذان مدونتين نصيتين متنافرتين عند التطبيق. ولما كانتا تنزعان منزعا "علميا" في المقاربة، فانه يعسر وصمهما أو أحداهما بالاتجاه نحو تعميم النتائج المتوصل إليها في مقاربة مدونة معينة على مدونة أخرى لم تؤخذ بعين الاعتبار عند تصميم المنهج ولا عند تطبيقه.
إن الذي نقف عليه في هذه المماثلة العامة بين التداولية والأسلوبية أنهما تتوازيان توازيا يشاكل ذاك الذي شهده تاريخ البلاغة بين ضربي البلاغة الكبيريْن:
البلاغة الإقناعية / الخطابية.
البلاغة الإنشائية / الجمالية.
فالتجاور بينهما قد استُعيد في هذا العصر بين التداولية (بما هي وريثة الضرب الأوّل من البلاغة) والأسلوبية (بما هي وريثة الضرب الثاني). ولعل مبحث أصنافيات النصوص (typologie de textes) يُفيد في تدبُّر وجوه التجاور والتقاطع بين ما هو من مشمولات التداولية وما هو من مشمولات الأسلوبية.
وثمة خطر آخر قد ينساق إليه الباحث إذا انجر وراء التعميم "السهل" عندما يقرأ تاريخ البلاغة العربية بوصفه- في نظره- مثيلا لتاريخ البلاغة الغربية. طبعا لا ننفي المشابه الكثيرة بين التاريخين، بيد أن تبين خصوصيات كل بلاغة ولا سيما الخصوصيات الثقافية، تسهم في تصويب الحكم على تاريخها تصويبا سديدا، وإلاّ فإن إرسال الحكم بإطلاق اعتمادا فقط على النتائج التي تم الإطلاع عليها انطلاقا من البحث في تاريخ البلاغة الغربية، قد يؤدي إلى ضرب من سوء الفهم أو التعسف في التأويل، مما من شأنه حجب رقائق الاختلاف بين السيرورات المتباينة التي اتخذتها
كل منظومة لغوية، وما وجهها من إطار أبستيمولوجي حاف تراوح بين الجمود والحراك خلال التاريخ بفعل عوامل ذاتية وأخرى خارجية معقدة ومتداخلة.
_________
*الهوامش:
[1] يقول جورج مولينييه عن مدرسة بالّي الأسلوبية:" فأسلوبية بالي ليست إنجازا أدبيا ولا فرديا. (انه) يستعمل العمل الأدبي كسند وكإطارأو كذريعة تتيح تحليل أفعال اللغة الشعورية، وتكتسي هذه العلاقة الأخيرة أهميتها انطلاقا من هذه النظرية واعتبارا لعموميتها ولتمثيليتها البنيوية بالنظر إلى النسق الشامل للغة ما (مثلا الفرنسية في النصف الأول من القرن العشرين)". تاريخ الأسلوبية: جورج مولينييه، تعريب عز الدين العامري وعبد المنعم الشنتوف، مجلة الفكر العربي، معهد الإنماء العربي، بيروت، لبنان- طرابلس ليبيا، صيف- خريف 1996، العددان85- 86، السنة17، ص146.
[2] يقول جورج مولينييه:" كان يظن سنتي 1968 و 1974 أن الأسلوبية قد ماتت، إذ إن للعلوم أعمارا (...) وابتداء من سنة 1987 عشنا عودة الأسلوبية" لجورج مولينييه تعريب صابر الحباشة، جريدة الصحافة، الورقات الثقافية، العدد 243- 29 أكتوبر 1999.
[3] المرجع نفسه.
[4] جيزيل فالانسي Gisèle Valency: "النقد النصي"، ضمن كتاب:"مدخل إلى مناهج النقد الأدبي"، ترجمة د. رضوان ظاظا، مراجعة د. المنصف الشنوفي، عالم المعرفة، الكويت، العدد221، مايو/ أيار 1997، ص 216.
[5] جورج مولينييه:" الأسلوبية"، تعريب صابر الحباشة، جريدة الصحافة، الورقات الثقافية، العدد 243، 29 أكتوبر 1999.
[6] جورج مولينييه: 3 دراسة الأسلوب والبحث، وأدوات الفن الأدبي"، ترجمة د. بسام بركة، مجلة الفكر العربي، معهد الإنماء العربي، بيروت لبنان- طرابلس ليبيا، شتاء 1998 العدد94، السنة 19، ص 231.
[7] المرجع نفسه، ص232.
[8] المرجع نفسه، ص234.
[9] المرجع نفسه، الصفحة ذاتها.
[10] المرجع نفسه، الصفحة.235.
[11] جورج مولينييه:" الأسلوبية" مقال في E.U ترجمة صابر الحباشة، الصحافة، الورقات الثقافية، العدد 243، 29 أكتوبر 1999.
[12] المرجع نفسه.
[13] من أعلام هذا الصنف من البلاغة الذين نظروا له دي مارسيه (Du Marsais) وفونتانيي (Fontanier) و بون أوم (Bonhomme) ولوغارن (Le Guern) وفريق مو
[14] المرجع نفسه.
[15] المرجع نفسه.
[16] هذا مبحث شديد الأهمية- فيما نرى- خصوصا إذا انتبهنا إلى إن المتحدثين عن "التداولية المندمجة" نحو أوزفالد ديكرو، لا يربطون بينها وبين الأسلوبية، بل يعودون إلى الأصل الجامع أي إلى المنظومة اللغوية عموما، وفي ذلك تجاوز لإشكاليات خصوصية المدونة التي تشتغل عليها الأسلوبية: هذا المنهج الذي سماه مولينييه "الدلائلية الأدبية" (sémiotique littéraire).
* صابر الحباشة : باحث في اللسانيات وناقد أدبي تونسي