الدوران حول مركز الالتباس – تداعيات على ضفاف رواية ميس إيجبت للروائية سهير المصادفة"
بقلم: غريب عسقلاني
- 1 -
1 .. عند عتبة السؤال.
في روايتها الثانية "ميس
إيجبت", تشتبك الشاعرة والروائية سهير المصادفة مع الراهن المصري في محاولة
جادة ومعمقة مع ما آلت إليه أحوال مصر في مطلع الألفية الثالثة,
باستقصاء أسباب النكوص عن
مشروع دولة محمد علي الذي نقل مصر من مجتمع زراعي بدائي قدري يلوذ بإيمانه
الفطري الضارب في تكونه منذ وجد على الأرض" رزح طويلا تحت وطأة العبودية
والجهل إلى دولة عصرية, تأخذ من التحديث وسيلة للارتقاء, يساعده على ذلك
ثلة من التنويريين الذين عاصروه ووافقوه على فض الاشتباك بين سلطة الدين
وسلطة الحكم, وكشفوا عن الطاقات الكامنة في الإنسان المصري ما سهل قيام
منظومة متكاملة ومتفاعلة أخذت مصر إلى نهضة حقيقية شاملة شهدت تكوين
الاقتصاد المصري"بنك مصر" وإرسال لبعثات التعليمية وتحديث شبكات وطرق الري
وتطوير طرق ووسائل المواصلات وتطوير مؤسسة الأزهر الشريف, وقيام حياة
نيابية مهدت لظهور الأحزاب السياسية التي شاركت في الحكم مشاركة فعالة
وتهيئة المناخ المعرفي والفكري الذي يدفع نحو التطور والمعاصرة..
ما الذي حدث والبدايات تقود إلى نهايات إيجابية؟
ما الذي شوه الصورة ووأد مفاعيل الحياة في مصر؟
وما الذي جعل من مصر بيئة استهلاكية ملحقة غير مشاركة في الانتاج؟
وعند أي المفاصل حدث الاختراق؟ ومتى حدث الاندفاع نحو الخلف؟
ومن غَبش الصورة وقلب المعايير؟
وهل تعيش مصر حالة من القهقرى, جعل الحاضر ابنا غير شرعي للماضي القريب؟!
أسئلة تطرحها الكاتبة/
الراوية بذكاء يصل ذروة الاشتعال, بحذر قد يدخل في حدود الغموض, وتوجس يقف
بين الشك واليقين, وتلتزم الصمت وترهف السمع عند مفارق التأويل, وتضع
الإشارات عند مفاصل الدروب وعلى نواصي التواريخ الفارقة, وكأني بها تمارس
بكاءً من نوع فريد, ليس تطهرا من دنس طارئ, وليس وسيلة للطهارة بالمعنى
القيميّ في زمن رُوضت فيه القيم تحت سياط السلفيات, والتي تتجلى في أبشع
حالاتها بالسلفية الدينية التي شطرت المجتمع إلى الأنا الحق والأنا العدو
المطلق, ولا سبيل بينهما غير الافتراس, والافتراس قد يطال كل "أنا" تستيقظ
على الذهول مما يحدث..
فهل ما حدث رجم غيب؟
أم هو نتيجة لما أصاب البنية من عطب وعيب؟
أم هو فعل مقدر لأخذ الحاضر
إلى غيبوبة الغياب/ الغيب, بعد أن تحولت مصر إلى مساحة الانكسارات
والانتصارات التي تأسست على جهل الطامعين وتجار التواريخ المكتسبة خارج
مسارات الزمن؟! ما يجعل أسئلة الرواية حول من قتل نفرت جاد " ميس إيجبت"..
حارقة لازمة
أعتقد أن الرواية أعادت تكييف الأسئلة في السؤال المضاد, والأهم وكأني بها تقول:
وهل هناك من يستطيع قتل روح مصر؟؟
- 2 -
2 - ملك كليل العينين
تقوم الرواية على بنية دائرية
مراوغة, تأخذ القارئ إلى مركز الدوران لتطرده بعيداً على قوس المحيط من
جديد, بفعل تبدل الأحداث والأمكنة التي تنقل القارئ من مدار إلى مدار..
تقترب تارة, وتبتعد تارة على لغة شعرية تسكن روح الكلام, وتشاغب على ظاهر
المنطوق منه,.. وتداعيات يتداخل فيها المنولوج مع البوح مع الاستشراف عند
الغامض من الأصوات الداخلية وتسلل الكاتبة /الراوية, بحذر حذق ,وعلى حين
غرة من القص, باستباقات زمنية نحو مستقبل يتجاوز اللحظة إلى مستقبل آتٍ,
فيقطع على القارئ بعض اتجاهات التأويل المضلل.. وقد تصل الاستباقات إلى زمن
سيأتي بعد زمن القراءة.. وكذا الهمس عند الضرورة بإستدراكاتٍ تفسر بعض
غامض الأمور.. فتقوم الراوية الكاتبة بدور المراقب الفاعل ما يجعل الدوران
حول المركز سمة الكتابة كما هي سمة القراءة لجذب القارئ إلى قناعات
المؤلف.. وذلك بحضور الضحية أكثر إلحاحا بعد غيابها المادي, وكأنها غادرت
مؤقتا لتعود وتقيم المحاكمة ضارية طازجة لما حدث وما زال يحدث في مصر
المحروسة..فيكون ضحاياها هم المناط بهم الكشف عن قاتلها, وفي مقدمتهم ملك
الكشف عن الجريمة اللواء شرطة تاج العريان الذي تعرى من قناعاته ومناعاته
في لحظة كشف خاطفة تأخذه الى نهايته ليصبح الحي الميت الذي يعيش الذهول حتى
الهذيان..
" الملك كليل العينين.. له أذن واحدة وأنف يشم ما ترشحه له الكلاب..يدا
الملك مصطبغتان بدم الحقيقة وقامته المهيبة بلا ظل وقلبه يهيم وحيداً في
عراء الليل. يتحول تدريجياً إلى حوت أبيض ليس له أعداء على الإطلاق حيث
تخافه كل الحيوانات البحرية حتى الحيتان القاتلة الأخرى.. "
هذا الملك يصحو فجأة على عجزه
وفشله أمام "نفرت" جاد بعد تشوبه لحمها وسرقة جزء من عضوها الجنسي وحرق
بؤرة وردتها.. ولكنها تبقى امرأة نابضة تعلن عن ذاتها كما الحقيقه..
" تقترب من الثامنة عشرة من عمرها،
خمرية اللون، بلا شك كانت تتورد عند أية لمسة أو نظرة أو ارتفاع طفيف في
درجة حرارة الجو فلا ينام بسببها عدد لا بأس به من الرجال، عارية تماماً
إلا من زغبها. . خصر يستطيع المرء إحاطته بذراع واحدة، فخذان
مصقولان ومهيآن لطيران غامض ما، ساقان مخروطيان كما أنزل بكتاب نسى الآن
اسمه واسم مؤلفه، فم شهواني ورومانسي في آن واحد ، مفتوحقليلاً كما لو كان في انتظار قبلة من عاشق.."
هذا للجسد الباذخ يضع "تاج
العريان" وجها لوجه أمام موته قبل الموت, ويحرمه من سلاحه الوحيد وسره
العجيب في الوصول إلى القاتل الحقيقي, باستعادة مشهد القتل على مرايا عيني
الضحية والمفتوحتين على ذهول الذهاب.. حيث يتحول" تاج العريان" إلى جثة
قرين تنقل الرسائل من الجثة المغدورة.. لكنهم هذه المرة, وتحت سطوة
التقاليد, أغلقوا عيني "نفرت جاد" قبل وصوله, وأسدلوا الستار عن مرايا
عينيها ما جعله يهبط إلى قرار الفقد, ويتعرى حتى من اسمه أمام الغياب..
يندب حظه الذي هو مقدمة موته الأخير..
"..
لماذا سمحت لهم بأن يغلقوا عينيك؟ ولماذا قتلوك أيتها الجميلة ؟ هل أرادوا
التخلص منكِ لأنك زائدة عن حاجة حياتنا القبيحة ؟ أم أرادوا تخليدك على
هذه الصورة - جثة فاتنة – كي لا ينساك قط رجل مثلي يخطو أولى خطواته نحو
العجز والشيخوخة؟! "
فهل يدرك تاج العريان
وبشفافية لم يدركها أنه يعيد توصيف الملكة "نفرتيتي" أجمل جميلات العالم
والتي توجت ملكة جمال الكون وتجلت أيقونة خالدة وما تزال.؟
ولكن من يكون الملك تاج العريان..؟
رجل من الجيل الثاني لسلالة
ملوك ثورة يوليو تناسل عن مجد أبيه اللواء المتقاعد محمد العريان, الذي
ينحدر من سلالة خدم تحولوا إلى ملاك صغار بكدهم وجهدهم الذاتي وفطرتهم
البيضاء, محمد العريان أخذته مواصفات الكفاءة ليصبح ضابطا في العهد الملكي,
تأخذه أقداره ليكون من سلم الملك فاروق قرار مجلس الثورة بقرار خلعه عن
عرش مص, ومغادرته البلاد وتولية ابنه الأمير الرضيع احمد فؤاد ملكا تحت
الوصاية.. هذا الضابط يشهد كيف تقلع الباخرة بالملك إلى غير رجعة, ويشهد
رجفة بدنه عند مغادرة الملوك عروشهم, وهو ما لاقى استهجان أبيه الفلاح
القنوع الذي فضل استنبات الصحراء عن هبات الأموال المسروقة, وها هو تاج
العريان الوريث الشرعي لمحمد العريان لواء المدرعات الذي شهد انكسارات مصر
وشهد انتصارات اكتوبر, اختار مغادرة مؤسسة الجيش ,1985 وفي جعبته القليل من
الأسرار العسكرية, والكثير من الفضائح ليقيم امبورطوريته المالية مستثمرا,
ويقيم في قصر العريان المنيف مستفيدا من منجزات العصر..
تاج العريان وفي لحظة كشف يقف
حائرا أمام علاقته بأبيه الذي يعيش آخر أيامه حالة بين الموت والحياة..
بين الصحو والغيبوبة..يلوك شيئا غامضا.. يسقط في الهياج لدرجة الهمود
,ويغرق في البكاء لدرجة العويل, ويمارس السطوة حتى حدود الدعة والاستكانة..
يشف كملاك, ويجأر مثل أسد جائع في غابة قفر, تتناثر من هذيانه حقائق
وتقديرات تضع النقاط على الحروف..
ما الذي فعلته "نفرت جاد"
بالملك تاج العريان إلذي فاق وزنه المائة كيلوجرام من لحم رجراج على وجه
تركي يميل إلى الاحمرار.. وانف دائم التقطيب حتى لا يصير مثل وجه امرأة
سمينة حلوة..
" واضح أنني أودع اليوم قدرتي الجنسية وإلى الأبد .. لماذا أنا متأكد أن عيني نفرت جاد المغلقتين لو تركتا مفتوحتين لما استطعت رؤية شيء ؟ هل فقد بصيرتي مرتبط بفقد قدرتي الجنسية؟ "
وهو الذي ضاجع مختلف الألوان
من النساء من مختلف الطبقات والشرائح, لم تخذله طاقته عن الفحش يوما يعيش
حالة تناقض عجيب, ويكشف هروبه إلى لحم الأخريات, لأنه لم يكن يوما سعيدا
بزوجته الدمية "نسل شاة " المنحدرة من أصول تركية, والتي لقنتها أمها أن من
ضرورات الشرف أن تكون تحته هامدة كحشية, وأن العملية الجنسية نوع من العار
المحلل والدنس المشروع, وأن عليها التخلص من آثاره فور وقوعه, وتعود إلى
شئونها الأسرية والأنثوية الأخرى, لتثبت له على مدار العلاقة أنها القطة
المغمضة الجاهلة, وليست الأنثى الهائجة على رجل حتى لو كان زوجها, فلم تفرح
به مرة واحدة حتى لو كلفها ذلك اتهامه لها بالعهر..
"..
لم تجرب أن تتذوقنى للنهاية فكان عقابها أن تتحول تدريجيا إلى تلك الكتلة
الهلامية الجيلاتينية التي أصبحت عليها الآن. أنا أيضاً حيوان فلطالما
تمنيت أن أسبها وأنا فوقها ولم أفعل، تمنيت أن أجعلها عاهرتي وعشيقتي التي
ارتكب معها الإثم، ولكنني كنت أبحث عن ذلك فوق أسرة نساء أخريات محتفظاً
بها كما شاءت وشئت – أبو الهول – الذي يحرس بيتي وأولادي وشرفي.. شرفي ؟!.."
- 3 -
3 - ماذا يلوك.. ماذا يخفي؟!
يلوك محمد العريان شيئا مبهما
يخجل منه أمام الممرضات والدكتور الكاشف وأمام كمالة على وجه الخصوص.. هل
يلوك نفرت جاد هو الآخر؟ هل تسللت إليه في غفلة منه وسكنته وصارت ضحيته,
كما كانت أمها اخلاص وأمثالها من ضحاياه؟..هل يعود العريان القهقرى
ويراودها على لحمها..؟
نفرت جاد ما زالت بؤرة الحكاية ومركز القص.
"..
فتاة في الثامنة عشرة استطاعت أن تجيد لغتين، وركوب الخيل، وتكون بطلة
تنس، وقارئة نهمة، وفى الوقت نفسه هي ابنة داعرة، قضت طفولتها وهى تلعب على
أرض كوافير ربما شاهدت فيه إبرام صفقات بيع اللحم الأنثوي بما فيه لحم
أمها شخصياً، بل ربما تكون قد شاهدت كادرات لأمها وهى تمارس مهنتها.."
يدور القص بتأثير قوة الطرد
المركزي, يقفز بالحالة من مدار إلى مدار أوسع, ثم يعود بقوة جذب المركز
الذي يسحب الأحداث والشخوص إلى مدارات أقرب إلى البداية.. والبداية حضور
اشد في غياب ضحية فجرت الأسئلة فأصبحت أكثر ألقا .. وها هو محمد العريان
يصعد من غيبوبته إلى منتهى الحضور, ومنتهى العقل ومنتهى الصلف منذ كان
ضابطا صغيرا في تشكيلات الضباط الأحرار.. وما زال..
" يقف على رصيف رأس التين يتأمل الملك ببزته
البحرية البيضاء وقامته المهيبة، ما الذي جعل بدنه يقشعر برغم أن الملك لم
يعد ملكا، سار أمام قرقول الشرف، والبيرق يتم تنكيسه ببطء من الصاري، تقدم
إليه حاملاً البيرق فأخذه الملك ووضعه مطوياً على ذراعه، والتقت أعينهم
لثوان فابتلع نظرة ازدراء ذى الجسد الضخم حتى أخذ صوت المركب يعلو على صوت
السلام الوطني، كادت دموعه تطفر من عينيه وهو يستمع إلى
موسيقى "فيردى"، هيئ له أنه يستمع لسلام بلاده لأول مرة، لم يتصور أبداً
إنه إلى هذا الحد رائع ويكاد لا ينتهي، ظل يتابع المركب وهو يصغر شيئا فشيئا حتى ابتلعته المياه الزرقاء ، ما الذي جعل عينيه تدمعان قليلاً ؟ ويعود وهو يجر قدميه جراً، لقد كان يكره هذا الملك ويؤمن بأن "فاروق" هذا خمورجى ونسوانجى ومن أعوان الاستعمار وأنه حامى حمى الفساد .."
وعندما أبلغ أباه عن طرد الملك الخائن العميل رد علية أبوه بجفاء:
- عمرك شفت واحد بيسرق أملاكه.. دي أملاكه يا عويل.. الحرامي هاتكون أنتَ إن شاء الله..
فهل استوعب محمد العريان؟
وهل استوعب لماذا رفض أبوه
ارض الإصلاح الزراعي, وباع خمسة فدادين من أملاكه, واشترى أرضا في صحراء
الصالحية, ظل يصارعها حتى فرح باخضرارها قبل وفاته.. أما هو فقد ظل على
قناعة أن مصر عاشت يومين كاملين بدون رئيس ولا حكومة ولا جيش ولا بوليس
وكان لا بد من منقذ يستولي على السلطة, ويعلن بيان الثورة المجيدة والمبادئ
الستة, ويكتسب الشرعية من فراغ اليومين العجيبين.. ولأنه الابن الشرعي
للثورة.. والثورة كما يفهم الابن الشرعي للوطن, قد جاءت بالاستقلال والمد
القومي العربي والسد العالي وكسرت احتكار السلاح وباندونج والعدالة
الاجتماعية ومجانية التعليم واستيعاب الفقراء في المناصب العليا ووقفت
بالمرصاد للعابثين أمثال عبد الرحمن الكاشف الذي لا يتوقف عن خلخلة منظومة
معتقداته التي مارسها حتى ذروة القناعة والرضى..
" .. لماذا لم ترجعوا إلى ثكناتكم العسكرية بعدالثوره؟
تاركين السلطة لأصحابها الحقيقيين من قوى الشعب، أنتم لصوص يا " باشا" ،
لقد سرقتم البلد في يوم وليلة وكان يجدر بكم تسليمه إلى أصحابه "
محمد العريان يرفض الموت,
يراوح بين الغفوة والغياب, يدخل في الهذيان, فيصبح أشد حضوراً.. يمتطي
شبابه الغابر فيغدو فارسا صلفا.. يزيح الرصاص عن جسده ويحيك المؤامرات ويهش
النساء بعد فضهن.. دانت له الحياة.. لم يستغرق في النوم, ولم تزره
الأحلام..وها هو يبكي عاجزا أمام منطق الكاشف الذي لا يتوقف عن استنطاقه
واستفزازه..
"..
بعد أن أفرجتم عن الأصوليين المسلمين, ورحتم تشجعون الاتجاهات الدينية
المتعصبة، وترسمون علامات الصلاة وسط جباهكم لتساعدوا أمريكا في حربها
الضروس على عدوها الأول – المعسكر الشيوعى- هل فكرتم أنتم وأمريكا في مصير
هذا الوحش الذي أخرجتموه من القفص؟الوحش يرتع الآن فى الشوارع يا " باشا "
يأكل الأخضر واليابس ، لا يفرق بين أمريكي أوهندي. هل رأيت يا "باشا " كيف
دخلت الطائرات في البرجين كما تدخل السكاكين الفضية فى تورتة عرس ناعمة ؟!
تكلم يا "باشا " كيف يتم حبس هذا الوحش مرة ثانية ؟!
هذا السؤال لم يؤرق العريان
الكبير قبل أن يدركه المرض, ويأخذه بعيدا عن امبرطوريته المالية, فهل عاد
يؤرقه بعد مقتل نفرت جاد؟ وهل يقف العريان أمام سر موتها كما وقف حائرا
أمام محبته لكمالة ورفضها الزواج منه رغم أنها لم تحب رجلا غيره, وترفض
مباهج الدنيا أمام رؤيته؟.. تلك الفلاحة النحيفة ذات الضفيرتين السمينتين
الطويلتين, جلست طول عمرها مع آثاره المتعفنة.. نالت كل ما تمنت بعد أن فرغ
جسدها وجسده من العنفوان.. يلتقيان روحان شفافتان يشبع كل منهما من الآخر
ويكتفيان.. كيف يشبع العريان من المرأة الوحيدة في حياته والتي لم يرها
عارية يوما..؟
أي علاقة معقدة وملتبسة تربطه
بهذه المخلوقة الأثيرية,..وأي طاقة كامنة في نفس قامت على البطش والسطوة,
فهل تحمل نفرت جاد بعضا من سجايا كمالة التي لم ير العريان فيها أكثر من
حيوان محبوب أخرس.. يغيب عنها سنة ليجدها في انتظاره.. يخيل له أنه لو لم
يشتر لها ملابس لاستغنت عنها, ولو لم يحضر لها طعاما لكفت عن الأكل واستمرت
بطاقة الصيام, فهل كان ما بينه وكمالة ضربا فريدا من ضروب العشق, أم هو
وسيلة من وسائل الطهارة والبراءة؟
لعل ذلك ما ظل ملتبسا على ابنه تاج العريان.؟!
- 4 -
3 - مكابدات عارف الحفيد
" امنح نفسك لصاحب حلم كبير في محبتك وجرب أن يبتلعك تماماً..فحتى لو قذفكمجرد جثة فحسبك أنك رأيت ما لا عين رأت.. وافتح عينيك على اتساعهما ، وكما يليق بحالم عظيم حاول أن تقبض على "شقفة" من وهج الحقيقة."
ما الذي زلزل عارف تاج
العريان؟.. ما الذي أخذه إلى هذيان الجنون ؟ هل هو سؤال أبيه عن مقتل نفرت
جاد..فجأة يقذفه بكل ما خرج به من مسرح الجريمة, ورقة مكتوب عليها عدة
أسماء فقط.. فجأة ينكشف له كادر تحوم فيه كائنات غير مرئية, يحاول القبض
عليها أو الإحاطة بها في فيلمه الجديد الذي سيأخذه إلى مجد غير مسبوق..
فجأة يقع في حيرة السؤال..أين كان في الساعة التي قتلت فيها نفرت جاد؟..
فجأة تسقط ساعتين من ذاكرته إلى مساحة الفراغ.. مساحة قاتلة تقف عند الساعة
الثامنة مساءً عندما ترك ميرنا قبل أن يجيبها على موافقته إعلان خطبتهما.. سقط
ذلك المساء, وأصبح قطعة من زمن غائب ومحير, يأخذه إلى ارتكاب الجريمة,
يدفعه إلى ذلك تحريات الشرطة التي توصلت أن القاتل شخص يشبهه.. فهل وضعت
القتيلة قاتلها في طريقه؟.. هل عبرته قبل الموت دون أن يدري وجعلته مثل
الدولفين لا ينام مطلقا, لأن نصف مخه ينام بينما النصف الآخر يبقى يقظا
بانتظار قتيلة تنام على صدره, وتمنحه من صنوف الحب ما لا يخطر على بال..
ولم يشاهد من قبل على شاشة السينما..
"يداهمه
حزن لم يذق طعمه طوال حياته، يشعر بأنه كبر فجأة عشرات السنين ، يدهس جسده
كل ليلة جسد فتاة قتيلة لا يستطيع الإحساس بالرعب من نظراتها بل إنه
يستمتع بثقل جسدها ويكاد يؤلمه صدره، إذ أنها تحب أن تنظر في عينيه وهى
مستندة بكوعها إلي صدره، ساقاها بين ساقيه وشعرها هائج حول وجهها ووجهه،
يحتضنها بيأس من يعرف أنها ستموت الآن أو أنها ميتة بالفعل ، يخمش عريها
كله كغريق استيقظ فجأة في قاع بحر، ويكاد يجن ليقينه أن من عمدته رجلاً حقيقياً هي في الحقيقة مجرد فتاة مقتولة."
تأخذه الحيرة على هذيان أسود.. يضربه فراغ الذاكرة بالعدم..أين كان الساعة العاشرة من مساء يوم الاثنين الذي قتلت فيه "نفرت جاد"؟
هل كان هو قاتلها؟ متى وكيف؟!
ولماذا تتسلط عليه وتطمس ما على أيامه من شموس وما في صحاريه من أنجم,
ترعى في جسده ولا تتركه إلا أشلاء.. يكورها تحته حتى تجأر بالشكوى ولكنها
تخبئ عينيها في صدره العاري بخجل, وتنيخ جمال حضوره عند عتباته فتنفرط
ساعاته في سديم كابوس لا ينقشع, فيجأر بالشكوى من الوهم إلى المستحيل..
"
من هجرته حبيبته لديه أمل ما.. ومن لم تحبه حبيبته لديه أخريات .. ومن
ماتت حبيبته فلديه حفنة ذكريات.. أما أنا فليس لي ملاذ.. قتيلة تجثم على
صدري وتلون أيامي بصمتها الأخاذ ولا أستطيع إلا حبها "
أي حال وصل إليه المخرج الطموح عارف تاج؟
الذي يروم الحقيقة وتجاوز المألوف وتقديم ما لم تقدمه السينما,عدته في ذلك وعيه وميرنا التي يرى فيها حبيبته وبطلة أفلامه..
أي كادر أصبح يحلم به؟ وأي
كادر مستحيل يعيشه.؟ هل يجد الإجابة عند ميرنا التي تراقبه ذاوية شاحبة لا
تدر شيئا مما يعانيه..؟ وهل يجد عند الدكتور الكاشف ما قد يريحه ويكشف
حالاته, وهل يكون الأقرب إلى تصديق أنه بالفعل قاتلها.؟!
أي جنون أن يقتل فتاة خرجت
عليه من الغياب, ولم تحضر في حياته لحظة من قبل, ولم يلتق بها.. كل ما
بينهما عذابات أبيه تاج العريان الذي وقف عاجزا عن اكتشاف القاتل.. وإصرار
عمر الجواهري على تقديم القاتل أي قاتل حتى هروبا من الرأي العام وإغلاق
السؤال المفتوح..
من قتل ميس إيجبت؟؟
وهل الأمر بانتظار تأويلات
جديدة تسحبه إلى هذيان جديد؟ أم أن حالته توهجت بأقصى طاقات العذاب في
محرقة الأرق؟..لذا تتدخل الراوية /الكاتبة؟ وبحذر حاذق وتقفز عن زمن
القص/الآن إلى زمن الآتي/ المستقبل الذي سيأتي بعد سبعة أشهر من الحادث,
ليكتشف أن نفرت جاد وضعت في طريقه قاتلها الحقيقي في محل كوافير الرجال..
وبعد سنتين ستصبح ميرنا زوجته, وسيسوى شعرها بيد حانية, ويقبلها قبلة
اعتذار طويلة لم تفهم سببها أبدا, وبعد ست سنوات ستدمع عيناه وهو يتسلم
جائزة أحسن فيلم في مهرجان القاهرة الدولي.. وسيمني نفسه أن يكون الدكتور
الكاشف حاضرا روحا هائمة أو ساكنا في أحد الحضور, ليعرف أن الفيلم استفاد
كثيرا من الحالة النفسية التي أحدثتها مقتل نفرت جاد.. وأن ملاحظاته لعبت
دورا هاما في نجاح الفيلم.. وأنه سيجلس بعد عشرين سنة" زمن لم يأتِ بعد"
تحت شجرة في نادي الجزيرة ليستمع إلى امرأة عجوز وهي تحدث ميرنا عن شعر
زوجها الأبيض...وكيف كان أكثر وسامة من نجوم السينما, وأنها..
"
تابعته منذ ما يقرب من عشرين عاماً عبر نافذة الاسكواج من هذا المكان
وأشارت بأصبعها نحو الأشجار, وأنها انتبهت لفتاة جميلة تقف إلى جوارها
وتتابعه بوله وهى غائبة عن الوجود حتى أنها لو كانت في يدها برتقالة وسكين
لأغرقت النافذة بدمها, ولكنها بعد أيام بالضبط قتلت. هل تتذكرونها إنها.."
مس إيجيبت"
- 5 –
5 - الكاشف/وهم امتلاك القين
هل يمكن فهم الحاضر بمعزل عن
الماضي?..وكيف يكون الحاضر عتبة نحو المستقبل؟ وهل يكفي الاستبصار للوصول
إلى يقين راسخ؟ أم لا بد من المعرفة للوقوف على مفاعلات الحياة.. وهل
استطاع الدكتور عبد الرحمن عبد الرحيم الكاشف ذلك, وهو العالم في مجال
التحليل النفسي, والمطلع على آخر انجازات العلم والتكنولوجيا في سيدة دول
العالم امريكاوتوصل إلى:
" الحضارة .. أية حضارة تصدق أن مسيرة الإنسانية مجرد سهم منطلق فى الزمن .. فقط حتى تطمئن روحها .."
هذا العالم يقتحم عالم الرواية, ويطلق لصراحته العنان ويرى:
" اننا في العالم العربي ومنذ القرن الثانى عشر ونحن نجأر .. أغيثونا نحن هنا عالقون..ونحن نتدثر بوهم امتلاك اليقين ونحاول الصعود إلى ما لسنا ندرى, ونشاهد كيفكلما اعتلت مجموعة من البشر ذروة الدرج تحاول القضاء على من يحاولون الصعود خلفها حتى لا يزاحموها فوق القمة أو يزعجوها من القاع"
هذا المثقف الشامل يملك بصيرة نافذة تأسست على علم غزير وعميق تتجلى قدراته في التشخيص ويعكس حضوره في تشكيل خلقته.
"
وجهه المبتهج المبتسم مغتاظا، ابتسامته جذابة لحد يصعب وصفه، حاجبان
كثيفان، عينان واسعتان خلف نظارة طبية أنيقة ذات إطارات ذهبية، شفتان
رقيقتان داكنتان تناسبان شخصا إيروتيكيا، أنف خاص جداً معقوف بخفة وانسيابية، كل هذا على قامة تقترب من القصر، لتسمح له بهذه الخفة في تحركاته التي تشبه تحركات طفل يعبث"
حضور طاغ مُبلبل لرجل يعيش
وسط غابة من النساء, معظمهن من زبوناته وعشيقاته المتهافتات عليه الولهات
به, ولم يعد واحدة منهن بالزواج, وكأني به يعتبر كل نساء الأرض حالات خاصة
يصعب التعايش معهن, ويسهل الاستمتاع بهن, والتلذذ باكتشاف المزيد من
سجاياهن, وهو يهرب لدرجة الذعر من فكرة المشاركة في مؤسسة الأسرة, فهل هذا
يكشف فشله في وضع حلول للمؤسسة الكبرى/ المجتمع, لأن إدارة مؤسسة كبرت أم
صغرت تعني التعاطي مع الحاضر والمستقبل.. ترى هل يمثل الكاشف حالة عجز أم
حالة هروب؟ وهل يجيب على ذلك في مؤلفه الذي يسابق الزمن للانتهاء منه..؟
الكاشف, وبعد تأمل طويل, يرى
أن ثورة يوليو وما تداعى عنها قد كسرت زمن انطلاق مصر, وأخذت مصر إلى زمن
فقدت معه مقومات النمو الصحيح نحو التحديث والدولة العصرية, وهذا ما يقف
وراء..
" الناس غير مستريحة يا " عارف" ليس من الفقر والقذارة والزحام فقط..لا هناك شيء أعمق من كل ذلك، ربما كان اختباؤهم خلف حجاب وقفزهم من قطار الزمن قبل ألف عام إلى لحظة مجهولة لا يريحهم تماما.."
لذا, فإنه عندما يسافر إلى
أمريكا, ويعود يشعر انه لا يركب طائرة, وإنما عربة زمن يعود به لأكثر من
عشرة قرون إلى الوراء, وان الزمن قاسم مضاف إلى كل الأشياء, وهو عبارة عن
سهم منطلق إلى المالانهاية, هو ما يعزز لديه عدم وجود متشابهات,وأن الحياة
منذ الانفجار الكوني مجرد فيلم لا يعرف نهايته إلا خالقه, وأن الناس جميعا
يسعون في سباق محموم لانجاز ما لا يدرون.. ولعلة يلتقي مع الدكتور سيد الجيزاوي الذي رأى أن..
" إن العرب يقفون كالبلهاء على
أرض مطار أقلعت منه بالفعل طائرة الحضارة.. إنهم لا يريدون الاعتراف أمام
أنفسهم وأمام العالم بأنهم انتهوا منذ زمن طويل .. لماذا لا يريدون
الاعتراف ؟! أليس من النبل ان يتقبل المرء موته كما اعترف له العالم
بميلاده.. إن اعترافهم ربما كان البداية الصحيحة.. فكم من حضارات ماتت وبدأ أصحابها فى تشكيل ملامح جديدة لولادة حضارة أخرى !".
هل توصل الكاشف إلى ما توصل إليه الجيزاوي؟ أم تراه بقي مع مكابرته أمام الأسئلة فلم يطاله عقاب الأصوليين مباشرة!!
أي جبلة يشكل هذا العالم
الطارئ على فضاء الرواية؟ والطارئ على حياة سلالة العريان/ ثورة يوليو
بامتياز بأطيافها الثلاث الأب والابن والحفيد... وهو العلماني حتى منتهى
العقل, والعبثي حتى منتهى الجنون, والشهواني حتى منتهى الشبق, والسريالي
إلى ما فوق الفنتازيا, والعذري بتجليات متصوف يمارس الاتحاد والحلول بكامل
الرضى.. له قدرة مذهلة على التشخيص, وطاقة مقاوم عنيد, ومتأمل شفاف حتى
منتهى الرقة والدعة... يرى أن خلاص/لوسي ماتت منذ فقدت أيمن جودة الحقيقة
الوحيدة في حياتها, وحسم موتها دخولها محطة الخمسين, وأجهز عليها حبيبها
بمطاردته لابنتها نفرت جاد, فامتلأت بكراهية ابنتها الشاهد على فشلها
المريع..
يقف الكاشف عند شخصية لوسي,
فيرى كيف قتلت ابنتها بالتمني ليلة التقطت العامل من شارع الهرم, واغتصبته,
وارتوت منه قبل أن يرعش وهي فوقه, وعندما أفاقت لازمها اعتقاد جازم أن ذلك
العامل هو من قتل ابنتها, فتهيم على وجهها في محاولة يائسة للعثور عليه..
لماذا لم تنتحر مدام لوسي؟
ولماذا لم تنتحر سلمى العريان بعد أن لفظها عمر الجواهري؟
يرى الكاشف أن المرأة المحبة
لا تقدم على الانتحار, لأن محبتها تمنحها الأمل والرغبة في البقاء, وأن
المهزوم في الحب أفضل من المنتصر.. فهل يا ترى وصل إلى النتيجة النقيض
عندما أعلن أن أمثاله وأمثال لوسي رغم اختلافهم قد خلصوا حساباتهم مع الحب
والمستقبل والماضي والحاضر وكل الأشياء وأنهم يحملقون وجا لوجه في
نهاياتهم..? فهل كان يدرك نهايته, في الحمام وهل اختارها.؟
" كان منفوخأً ومشوهاً تماماً ومن الصعب رؤية ما إذا كانت عيناه مغلقتين أم كانتا مفتوحتين ، شورته البرتقالي ملقى على قدميه، وساقاه عاريتان ومتورمتان ولا شيء واضحا فيه أكثر من كلمات مطبوعة بالبرتقالي على الـ" التي شيرت" الأبيض الذي يرتديه ، ظلت تبحلق فيه :
" look at me " .
هل كانت آخر رسائل الكاشف هي
" انظر إليَّ أو انظر كيف كانت نهايتي.".
وهل وقعت رسالته في منطقة الحيرة أو منطقة الالتباس؟!
وهل كان شاهداً على عصره؟ أم
ضحية من ضحاياه أو حتى نفاية من نفاياته ؟ فهل كان ابن العولمة كما توهم؟
أم أنه واحد من ضحاياها الذين لم يلتقطوا سهم الزمن, فوقفوا عن الرفض
والرفض دون تقديم البديل؟!
فهل ناوشته مطارق الأسئلة حتى صداع العجز بين المعرفة والفجيعة..؟؟
ماذا
نفعل ونحن لدينا عشرات المفكرين وليس لدينا " طه حسين" واحد.. لدينا مئات
الوعاظ يتربعون فى الفضائيات وليس لدينا " محمد عبده " واحد .. لدينا عشرات
المطربات وليس لدينا " أم كلثوم " واحدة, لدينا ملايين الدارسين بالمجان
ومتعلمون أقل.. لدينا وسائل راحة كثيرة ووقت أقل مما يجعلنا لا نلحق بأى
شىء.. لدينا فاترينات بها ما لا نستطيع إحصاءه..
نصلى أكثر ونصوم أكثر ونزكى أكثر ونحج لبيت الله كل عام وخراب أرواحنا يزداد أكثر
وهل كان موت الكاشف انتحارا مع سبق الإصرار؟ أم هو نتيجة محسوبة بدقة في زمن الخسارات..؟؟
- 6 -
6 - لعنة لوسي
هل تحمل نفرت جاد من أمها غير
اللعنة, والتناقض في الطموحات والاختلاف في السجايا وتجليات الروح, إخلاص
التي أصبحت تحت أوراك الطامحين مدام لوسي تعتمد على رصيدها في السقوط
والإسقاط لفتح بوابات الدنيا الأخرى ما تجعل رنة من تليفونها تجعل أعتى
باشاوات الوقت يلهث لخدمتها لنيل رضاها,ولكنها وعلى تجبرها تضعف أمام طلب
جار ضعيف أو محتاج يلوذ بها من العسف أو الجور, فتلوذ بلحمها المستباح
لراغبى اللذة حتى إذا ما أدركها الحب الحقيقي, سرعان ما ينكشف لها زيفه
وخداعه ممثلا بأيمن جودة, الذي يذكرها بعمرها,, وأنها عجوز أكلها الوقت رغم
سباقها المجنون للحفاظ على نضارتها, فيعاودها الشعور بالتقزز الذي طالما
انتابها عندما كانت في العشرينات تتمدد تحت أحدهم..
"..لا
تكل من تأمل كروشهم المستديرة وترهلات لحمهم.. أنفاسهم المتحشرجة اللاهثة
أكثر ما كان يرعبها أن يموت أحدهم وهو فوقها.. لمعة صلعاتهم ، وأيديهم
المرتعشة، شعر صدرهم الأبيض، تتأوه تحتهم حسب قواعد مهنتها لتشعرهم
بفحولتهم وهم لا يدرون أنها تساعدهم للوصول إلى ذروات خافتة وكريهة حتى
تتخلص منهم بأسرع ما يمكن لتظل رائحتهم الخاصة جداً وكأنها رائحة سترة
قديمة نسيت فى سندرة مغلقة لسنين.."
أي خذلان يصيبها وهي تبتكر
وسائل الاستمتاع واللذة, فلا تقنع أيمن جوده الذي لم يكتفِ بهجرها بل يطارد
ابنتها ليؤكد لها انه طلق الماضي للحاق بالمستقبل, وأنه يرى في لحم نفرت
الاستثمار الحقيقي, ما يحيلها إلى الذهول, ويحولها إلى لبوة ضارية تقاتل
الدنيا لاستعادته وممارسة اللذة معه حتى ذروة الانكسار.. فهل يفسر هذا
افتراسها للعامل الذي التقطته من شارع الهرم ورجعت به إلى فراشها وعلى بعد
سمك جدار من فراش نفرت,.. تعتليه فارسة مهاجمة تستدعي الذروة بكل طاقتها
على اللذة والتشفي, وتحبس عليه ذروته بكل المقت والازدراء. هل كانت تقتل
فيه الحبيب وتعطيه نقودها ثمن افتضاضها له..
"
رفعت جلبابه وغطت به رأسه وذراعيه، وجلست عليه وهى مازالت ممسكة بطرفي
الجلباب حتى لا يزيحه عن وجهه.. ظلت تمتطيه حتى استطاع سماع رجفتها الممتدة
الصاخبة وشعر بهمودها فوقه.. شعر أنها أشعلت سيجارتها الثانية ، ولكنها
ظلت تتأرجح فوقه حتى جعلته ينخر بقوة ، سدت فمه بجلبابه حتى خفت صوته
تماماً ، ونهضت ببطء من فوقه ، أنزل جلبابه الملوث ، مسح به بلله ،
واستيقظت عيناه الميتتان ، وظلتا تنظران إلى ظهرها العاري.."
هل مارست لوسي الجنس مع الرجل أم مارست القتل؟ وهل انتصرت؟
في اعتقادي أنها مارست
الخسارة, عندما استيقظت عيناه الميتتان ولعل ذلك ما جعلها تعتبره قاتل
ابنتها, رغم تأكيد التحريات أن اغتيال نفرت جاد حدث بعد اغتصابها للرجل..
قد يتوقف القارئ عند هذه
المفاصل وغيرها, ويعتبر الرواية مساحة أيروتيكية بامتياز, لاسيما وأن
الكاتبة أظهرت تميزا في توظيف الجنس في أفعال وردود أفعال الأفراد, لكن يجب
أن لا ننسى الصور المقابلة مثل نفرت جاد التي تمارس حياتها في الواقع
كفراشة واثقة من بهاء جمالها وشفافية حضورها وإمكاناتها على العطاء, ,
وكأني بسهير المصادفة تحذر من الانسياق خلف تأويلات قد تأخذ المتلقي بعيدا,
ًوبذلك ينضم دون أن يدري لمن اقترفوا لجريمة!!
نفرت جاد, بالإضافة لتفوقها العلمي, وتميزها في هواياتها كانت باذخة العطاء حتى في بيئة أمها في صالون لوسي..
"كانت
تتكلم قليلاً حتى أن اليوم قد يمر عليك بدون أن تسمع صوتها .. كانت تأتى
لنا بالجديد فى وصفات علاج الشعر المتساقط والثعلبة وآخر صيحات الموضة فى
المكياج والقصات الجديدة، آخر صيحة فى ألوان المانيكير وأحدث رسومات الوشم،
كانت تتفرج على بعض البرامج أو تقرأ ثم تكتب فى هذه الأجندة وتنصحنا أن
نتعلم الجديد في التجميل.. كانت تمر علينا في الكوافير وتتأمل وجه العروس
ثم تنادى أحد الصنايعية وتهمس له شارحة كيف يصغر أنفها بالمكياج أو كيف
يوسع عينيها أو ماذا يفعل لتطويل رقبتها إذا كانت قصيرة جداً ورأسها ملتصق
بكتفيها أو كيف يكبر شفتيها إذا كانت بلا شفاه وكيف يصغر فمها إذا كان
كبيراً وكيف يصنع رموشاً لمن لا رموش لها وكيف يستخدم الفرشاة لتكبير ذقن
الزبونة إذا كان صغيراً أو تصغير ذقنها إذا كان طويلاً.."
وكانت تنفر من الراقصات
وعاملات البارات الزبونات الدائمات للكوافير وكأنها تمارس نفورها من ميراث
أمها, وكانت ترى في علاقة أمها بأيمن جودة نموذجا للضعة والخسران والإذلال
غير المبرر واجتراء على زمن لم يعد له, ولا يحق لها التطاول على أحلام ليس
لها..
وهنا يكمن السؤال الصارم الذي
تستدركه الكاتبة قبل أن يأخذ الاسترسال القارئ نحو شهوات الإثارة الجنسية,
وتعود به للتفكير ملياً في طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة.. فيقف حائرا
في تأويل علاقة محمد العريان بالحاجة كمالة, ويتساءل حول علاقة لوسي وأيمن
جوده, ويتوقف حائرا أمام علاقة أحمد عواد وليلى طوسون معلمة اللغة
الانجليزية الصامتة الصائمة على ميراثها كونها حفيدة طوسون باشا.. تراقب ما
آلت إليه الأحوال.. فلن يلتقي بها بأحمد عواد بعد أن تحرر من قبضة عمر
الجواهري بعد الفضيحة التي أخرجها تاج انتقاما لعبث عمر بابنته سلمى..
" لن يلتقى بـ "ليلى طوسون " أبداً كنهاية تصلح لفيلم تجارى ناجح.. لن يغلق عليها باب حجرة ما فتخجل من سنوات عمرها ومن النور فتطفئه
فيفتحه بإصرار ليفرجها على جمال عريها جزءاً بعد جزء ويجعلها تحب حتى
عيوبها .. سيتركها تعيش فى إضاءة خافتة لن تتعدى نور لمبة خمسين وات حتى لا
تواجه في المرايا تجاعيدها وستروح تماماً فى حكايات أبيها عن جدها عن
جدتها.."
فهل تم قتل أحمد عواد ومن قتله؟
وهل ما زالت ليلي طوسون تنتظر عاشقا مثله؟ أم أنها لا زالت على سهومها يبلبلها دخول الشاب المسكين دائرة أفولها..؟
هنا تكمن أسئلة حارقة دستها
سهير المصادفة بذكاء في أتون الشبق الذي يتناثر في فضاء الرواية, لتطرح
سؤال الجنس بطريقة مغايرة تصل إلى حد الصراخ قبل انفجار مراجل المسكوت عنه
بتواطؤ الدين والحنس والسياسة.. بقرار يقف عند عتبة اللهاث, ويخجل من إعلان
الدخول في الذروة, ويحرم عند الضرورة الفيض المشروع ما يأخذ المشهد إلى
سريالية يصعب قتل بذور الانبعاث الكامنة فيها..
أما بعد :
فإن الشاعرة والروائية سهير
المصادفة, فتحت في رواية "ميس إيجبت "نوافذ للاشتباك مع العديد من القضايا,
ونثرت الأسئلة في السياسة والتاريخ وعلم النفس والاجتماع والجنس أيضا, ما
يدل أننا إزاء كاتبة مزحومة بالمعرفة والبحث عن اليقين, وهي في ذات الوقت
مشغولة بأسئلة الفن, حريصة كل الحرص أن تقدم بنية روائية بقدر ماتحافظ على
الشوط الواجبة بقدر ما تستفيد من تقنيات سيال الوعي, والبوح, والمنولوج,
وتوظيف حالات الحضور, والغياب عند التوهج والتحليق بجناح الشعر في ذروات
الصعود أو الهبوط وترك النفوس على سجاياها, وتجاوز القص بالقفز عن زمن
السرد إلى زمن لاحق لم يأتِ بعد.. كل ذلك يجعل القارئ /المتلقي شريكا في
النص, ولأنه كذلك عليه أن يتريث قبل إطلاق الأحكام, حتى لا يقع في وهم
امتلاك الحقيقة, ويقتل الرواية وبذلك ينضم إلى من اغتالوا نفرت جاد ولكنهم
لم لن يستطيعوا قتل روح مصر..
-----
* رواية ميس إيجبت, للكاتبة سهير المصادفة من منشورات الدار للطباعة والتوزيع- القاهرة 2008
** اعتمدت الدراسة على نص
الرواية المنشور في موقع الحوار المتمدن, ولذا تعذر الإشارة لأرقام الصفحات
التي تدل على المقتطفات في النسخة الورقية.