صورة الشهيد في شعر مفدي زكريا 2/2
بقلم: أ. العربي حمدوش
2010.11.12
إنها عظمة الثورة ، وقوتها المعنوية، ونجاحها في توحيد الصف، ورأب
الصدع، وزرع الأمل. هذا النجاح الأعظم الذي تجلى في إعادة صيـاغة الذهنيـة
الجــزائرية لتتحمل كل تبعات الجهاد المقدس بصبر ورباطة جأش . وما أحوجنا
إلى هذه القيـم النفيــسة في لحظات التيه والضيــاع التي أخذت تعصف بكثير
منا.
هذه القيم التي استقرت في حنايا جيل نوفمبر العظيم، هي التي جعلته
يستقبل تحديات الحياة بهذا الصبر الجميل،والاحتساب الجليل. وهي التي جعلت
قصيدة مفدي زكريا ترفل في دمقس التحدي، وتتسربل بعباءة الأمل،وتزرع في
المتلقي بذور الثورة والتضحية وإتقان العمل.
وهذا ما تجلى في المقطع الثاني من قصيدة مفدي زكريا الذي يقول فيه:
مصطفى! أشـرقْ على الشعب سنى واغمـر الأرواح عطـرا ومُنى!
كن رمــادا .. وتوزّع في الحمى إن ذراتـــك من طين البنآ !!
كن شظـايا .. وتنــزّل كالقضآ نقـمة فــوق رؤوس الجبنآ !!
كن سفـيرا حيثما شئت..!! تجـدْ في السمآ .. أو في الثرى ..أنصارنا!
وابنِ في عليـــاك للشعب ،كما كنت تبــني .. منذ حين هاهنا!
وارْوِ للأفــلاك عنا قصـــة كنتَ من أبطــالها في حربنا!
واحْكِ عن ثــورة شعب ، مارد عبقـريٍّ يتحدى الزمــــنا!
قــام بالأكبــاد ، يبني عزة ومضــى بالروح ، يبني وطـنا!
أسفيرا نحو أملاك السمـآ
أم(لبيكين) بعثتم مصطفى؟ (7)
إنها التنشئة الأسرية والاجتماعية ، إنه الموروث الحضاري العربي
الإسلامي ، كل ذلك يجعل الشاعر في سكينة وطمأنينة ، فلا يتزعزع لريب الدهر
ما دام يعلم علم اليقين أن الشهــداء أحياء عند ربهم يرزقون ، وأن في نيلهم
الشهادة حياةَ الوطن ، وعزّةَ الشعب.
فإذا بالوطن يزداد جمالا وجلالا بتفاني أبنائه في افتدائه والتضحية في
سبيله:يُكسبونه الخلود، والذكر الطيب ، ويُمِدّونه بالطاقة الضرورية للصمود
والتصدي.
وإذا الشهيد يحمل مصباح الهداية واليقين ليـــزداد المؤمنون إيمانا، وإذا
هو شظايا تتنـزّل على رؤوس الجبناء هزيمة وخزيا إلى يوم الدين.وإذا هو سفير
لهذه الثورة المباركة ذات الأنصار في السماء والأرض، يروي أمجادها
للعالمين:
واروِ للأفــلاك عنا قصـــة كنتَ من أبطــالها في حربنا!
واحْـكِ عن ثــورة شعب ، مارد عبقـريٍّ يتحدى الزمــــنا!
قــام بالأكبــاد ، يبني عـزة ومضــى بالروح ، يبني وطـنا!
وها هو الشهيد يعلن للدنيا مبادئ هذه الثورة المجيدة ،وأهدافَها التحريرية
الإنسانية، ويفضح دسائس العدوان الفرنسي الغاشم ومناوراتِه ، ويُجلّي رد
الثورة الوحيد على العدو:
خبـّرِ الدنيا ، عسى أن تسمـعا : إننا في حربنا ، لن نرجعــا!
نحـن روَّينـــا الثرى من دمــنا وغرسنا في ذراهـا الأضلعـا!
وزرعنـــا في رباهـــا مهجـا وسقينا الــزرع حتى أينـعا !
و(بِـوادينا) عقـــدنا (نـــدوة) – بمباديها - صدعنا (المجمـعا )
ــــــــــــــــــــ
7- اللهب المقدس:ص193.
موثق (الصـومــام ) أقـوى عندنا من مواثيـــقَ ، تُـلاقي المصرعا!
نحــق قـوم حرّروا إفريقِيـَا ..! من لصــوص .. قسّمـوها سلعا!
وشعــوبُ الأرض من ثورتنــا ترقب النـــور.. وترجو المطلعا !
إعبثـــوا ما شئتمُ ، واستهتـروا نحــن فوّضْنا علينا المدفـعا ! !
أسفيرا نحـو أمــلاك السمآ
أم ( لبيكينَ ) بعثتم مصطفى ؟ (
وبعد أن يستوفي الشاعر ( عقده الاجتماعي ) الذي يربطه بأمته وتاريخه
وشعبه ، يتفــرغ – في ختام قصيدته – إلى ذكرياته الخاصة التي جمعته بالشهيد
مصطفى فروخي، فيفيـض رقة وعــذوبة ووفــاء على درب الشهــداء :
مصطفى!.. نَـمْ في حمى الله شهــيدا واعتنق في الخلد ( أُمًّا ووليـــدا ) !
لستُ أنسى ، ذكــريات خـالدات جمعتْـنا .. فحسبنا العمـر عيــدا !
لستُ أنسى ، ليلةً ودعْـتنا فيـــ ـها .. وقد كنتَ تغنينا النشيــدا !
والأمــاني ، صـارخات في حنـايا كَ .. وقد كنتَ رضــيًّا وسعيدا !
فلماذا ، كانت الدمــعة حيــرى بمآقيكَ .؟ وقد رُمــت الصـعودا !
ولمــاذا تطلب الصفـح ؟ . فهـلا كنت تدري ( مصطفى ) أن لا تعودا ؟
أنت فينا ( مصطفى ) لا زلت حيــّاً جئتَ من صُنع السمآ .. خلقاً جديـدا !
إنّ شعباً أنت من وحي دمــــاهُ ليس يشـقى! ليس يبلى! لن يبـــيدا!
أسفيرا نحـو أمــلاك السمآ
أم ( لبيكينَ ) بعثتم مصطفى ؟ (9 )
ـــــــــــــــــ
8- اللهب المقدس:ص194.
9- اللهب المقدس:ص ص 194، 195.
صورة الشهــيد في شعره بعد الاستقــلال
* الشهيد رمز العزة والانتصار ،وهو حزين لما آلت إليه أحوال البلاد
لكل ثورة مرجعية فكرية ، ولها منطلقات وأهداف ، يحملها الثوار
،ويحملون معها أحلاما عظيمة ، وآمالا عريضة، تصطدم بعوامل موضوعية حينا،
وأخرى مفتعلة تحول دون تحقيقها في ظل الدولة الوطنية.مما ينجم عنه حالات من
الاستياء والتذمر ، ومشاعر الغضب والتوتر، تدخل أصحاب النفوس الثورية
الصادقة في حالة صراع ناتج عن الواقـع بتحدياته وسلبياته من جهة ، وبين ما
كان يحلم به الشهداء من جهة أخرى.
وهذا ما نجده عند الشاعر مفدي زكريا وهو يستحضر ذكرياته مع الشهداء في
أيام الثورة المباركة ، وما تحمله من صور العفة والطهارة والنقاء ، وبين ما
يعيشه من تحــــولات بعد الاستقلال أوقعت بعض الناس في آفة التسابق على
مغانم الدنيا وما تجر إليه من التطاحن على الكراسي ، والانغماس في الشهوات
والملذات.
لذلك نجد شعره في هذه المرحلة يقدم صورة للشهداء مغايرة تماما لتلك
الصورة التي سبق التطرق إليها.وسيتجلى ذلك في مقطع من ” إلياذة الجزائر ”
ناجى فيه مفدي صديقه الشهيد مصطفى فروخي متقمصا شخصيته ، ومعبرا عن مشـاعره
، والذي سنخصه بدراسة تحليلية محاورين نصه في ” اللهب المقدس ” عن الشهيد
نفسه.
ويمكن أن نشير إلى قصيدته العصماء ( ألا أين الرجولة … يا لقومي ) التي
ألقاها بمناسبة تدشين المــركز الإسـلامي التابع لوزارة التعليم الأصلي
والشؤون الدينية في جويلية1975 والتي يذكر الدكتور محمد ناصر أنها أثارت
غضب المسؤولين “فنظروا بعين شزراء إلى مفدي. وكانت مقدمة لما وقع له في
ملتقى تلمسان من حصار غادر بعده الجـزائر إلى أن توفي غريبا بتونس في
أوت1977.”(10)
ـــــــــــــــــ
10- محمد ناصر:مفدي زكريا،ص 232.
وهي قصيدة تقع في بضعة وثلاثين بيتا ، بدأها بالدعوة إلى رعاية الشباب ،
وربطه بتاريخه وماضيه المجيد ، وتحصينه بمكارم الأخلاق ، وتجنيبه المذاهب
الهدامة ،وتحذيره من تجار الأوهام. ثم أشار إلى بعض الآفات الاجتماعية ،
إلى أن قال:
أمِلْيـونٌ من الشهــدآ بأرض … لتنسكب الخمـورُ بها انسـكابا
أأرض الثـورة الكبرى ؟ وحشــدٌ إلى الآثــام ينْصبّ انصبــابا
وينحــدر الضمـير إلى حضيض ويكشـف عن مباذله النقـابا …
مهـازلُ … تضحـك الأحجار منها وينتحب (الشهيـد) لها انتحـابا
ألاَ … أين الرجـولة … يا لَقومي ؟ ألا أين الضمير ؟؟ وأين غــابا (11)
هاهي قوافل الشهداء التي رددت – ذات مرة – على لسان مفدي:
نحـن روَّينـــا الثرى من دمــنا وغرسنا في ذراهـا الأضلعـا !
تُوَلِّي وجهها شطر هذا الثرى الطاهر الذي تحرر بفضل الله عز وجل، ثم
بالــــدم الغالي الذي انسكب مدرارا من المهج الغاليات ، هذه القوافل
المباركة تُوَلّي وجهها متطلعة إلى جيل الاستقلال والحرية وهو يعمر البلاد ،
ويشكر رب العباد ، هذا أقل ما تتوقع. فإذا بها تـرى ما يجعل البصر خاسئا
وهو حسير ، فيعبث الدمـع بكبرياء الشهيـد لهول ما يرى .
هذا الشهيد الذي جاد بنفسه : والجـود بالنفـس أقصى غاية الجود! ، كان ينتظر
التفاتة تجسد الشكر ، وعملا يعــزّز الوفاء ، فإذا به يُفاجَأ بسلـوك
يُرضي عدو الأمس وأتباعه من الخشب المُسنَّدة، وإذا الأرض المسقية – أمس –
بالدم الطهور، تستحيل – اليوم – مرتعا تنسكب فيه الخمور وألوان العبث
والفجور:
أمِلْيـونٌ من الشهــدآ بأرض … لتنسكب الخمـورُ بها انسـكابا
أأرض الثـورة الكبرى ؟ وحشــدٌ إلى الآثــام ينْصبّ انصبــابا
مهـازلُ … تضحـك الأحجار منها وينتحب (الشهيـد) لها انتحـابا
ــــــــــــــــــــــــــــــ
11- محمد ناصر: مفدي زكريا،ص ص 227، 228.
تأمّلْ هذا التكثيـفَ في الصــورة ، وقِـفْ على هـذه الثنائيات
التضــــادية، وغُصْ في هذه المفارقات العجيبة، تُـدركْ حينها فظاعة الصراع
النفسي الذي يقُضُّ مضجع الشاعر ، ويحرمه من أسباب الراحة النفسية ،
ويدفعه إلى تفريغ شحنات التــوتر والغضب صارخا في وجه الخيانة والتنكر
للعهود ، ورافضا سياسة الأمر الواقع ، ومنددا بالصـمت الذي يفسح المجال
لتزوير التاريخ ، ونسيان الحقائق.
لذلك يستنفر الشاعر كل طاقاته الفنية ، ليحدث الأثــر المنشود في
المتلـقي ، موظـفا في قصيدته شتى الأساليب من أمر ، واستفهام ، وتعجب
،وسخرية …إلخ.. عازفا على وتـر الشهيد الذي يهز النفوس ، ويحرك المشاعر ،
ويُذكّـر بالأمجاد .
ومَن مِنّا يقبل أن ينتحب الشهيد في أرض الشهداء الأبرار ، ومهد الثائرين الأحـرار؟!
فإذا انتقلنا إلى مقطع الإلياذة الذي خاطب فيه الشهيد مصطفى فروخي ،
لمسنا مدى المرارة التي يتجرعها الشاعر،وأحسسنا بهول الفجيعة،ووقفنا – مع
ذلك – على طاقة الشاعر التعبيرية والتصويرية.
إن الشاعر يوظف في مقطعه ذاك تقنية”القناع”. والقناع رمز يتخذه الشاعر
العربي المعاصر ليضفي على صوته نبرة موضوعيّة شبه محــايدة ، تنأى به عن
التــدفق المبـاشر للذات، دون أن يخفي الرمز المنظور الذي يحدد موقف الشاعر
من عصره. وغالباً ما يتمثل رمز القناع في شخصيّة من الشخصيّات، تنطق
القصيدة صوتها، وتقدّمها تقديماً متميّزاً، يكشــف عالم هذه الشخصيّة في
مواقفها أو هواجسها أو تأملاتها أو علاقاتها بغيرها، فتسيطر هذه الشخصيّة
على “قصيدة القناع” وتتحدث بضمير المتكلم، إلى درجة يخيل إلينا – معها-
أننا نستمــع إلى صوت الشخصيّة، ولكننا نــدرك – شيئاً فشيئاً- أن الشخصيّة
في القصيـــــدة ليست سوى “قناع” ينطق الشاعر من خلاله ، فيتجاوب صوت
الشخصيّة المباشر ، مع صوت الشاعر الضمني، تجاوباً يصل بنا إلى معنى القناع
في القصيدة. إن توترات الخصائص التي قدمها بعض الدارسين في قصيــدة القناع
حدّدت علاقة الشاعر بواقعه المحيط به، وحددت وظيفة القناع الرئيسة، في
كونه وسيطاً “يتيح للشاعر أن يتأمل – من خلاله- ذاته في علاقاتها بالعالم،
في محاولة يسعى من خــــلالها إلى خلق الـنِّدِّيـَّة بينه وبين هذا
العالم، بكل ما ينطوي عليه مفهوم “العــالم المحيــط” من شمـول، أي: عالمه
الواقعـي الكبير، بكل ما ينطوي عليه من أشياء ومخلوقات، يكوّن عالمه
المحـدود الذي يدخل معه في علاقات مباشرة اجتماعيّة تنطوي على المجاذبة،
تصل إلى درجة التوتر، كعلاقة الشاعر بالسلطة السياسيّة، أو بتفاعله
الإيجابي مع “المضطهدين”، و”المقموعين” مثلاً. المهم أن يفــــرّغ شحنات
التوتر الناتجة عن هذه العلاقة في النص، بقناعه الذي يعكس كل توابع علاقة
الشاعر مع عالمه المحيط. (12)
ولنتأمل مقطع الإلياذة المتميز لنحس نبض قلب الشهيد في عهد الحرية والاستقلال:
أناجيــك يا مصطفى في سَـماك ويومَ عرجـتَ تشـق السِّـماك
بُعثـتَ سفــيرا لبيكين لكن ذهبـتَ ســفيرا لأُفْـق عُلاك
وفضَّلْتَ – لمـّّا سئمتَ الدُّنــا وآدمَهــــا – أن تكون الملاك
وأضنـاك في الأرض مكر وغـدر وقـبر النبـوغ ، ونصـب الشباك
فطلقتَ أصنامها دون رجــعى وسِـرتَ إلى حيثُ تلقى رضـاك
وهالك عُـقْـمُ الشباب المسـجَّى فخَلَّفتَ تحنيـــــطَـه لسواك
وعِفْتَ من البعض، حُمَّى الكراسي وما بلغـــوا في الوفـآ مستواك
فحطّـمْتَ أخشـــابَها طائرا مع الريح ، تُـغْـرِقُهـا في دمـاك
وكنتَ لروح النضــالِ لهيـباً شعـاليلُه ، من شظــايا هـواك
وكنتَ لصــدق الضمير مثـالا فيَـَا ليتـهـم يتـْـبعون خـطاك
شَغَـلْنا الورى ، وملأْنا الدنــا
بشعــــر نرتـله كالصلاة
تسـابيحـه مــن حنايا الجزائر (13)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
12- ينظر،جابر عصفور: أقنعة الشعر العربي المعاصر،مجلة “فصول”،القاهرة،الهيئة المصرية العامة للكتاب،يوليو1981.
13- مفدي زكريا : إلياذة الجزائر،ط2 ، موفم للنشر- الجزائر،2001،ص82.
ولنقم بإجراء هذه الوقفة الحوارية بين قصيدة ” اللهب المقدس ” ومقطع ”
الإلياذة ” لنرى صورة الشهيد بين عهد وعهد. ولا بأس أن نعيد التذكير
بالمقطع الأول من القصيـدة الواردة في “اللهب المقدس”:
أيّ صـقر ، في السماوات اختفى؟ أيّ نجـم ، في النهايات انطفى ؟
أسفـيرا ، نحو أمـلاك السـمآ أم (لبيكين) بعثتـم مصطفى
أم رأى في الأفـق ما قد راعـه؟ في بلاد (الصين) ى نبلا .. فهفا ؟
أم هما ، في ناظريــه اشتبهـا ؟ ظن أن الأفق (صينا) فاكتفى ؟
أم رأى الخلـــد قريبا فدنا ؟ ورأى (أمثــالـه) فانعطفا ..؟
راود العزة في الأرض ، فهـل واعدتــه في السمآ ، فانصرفا ؟
أم رآه الشهــدآ نحوهـمُ يتســامى .. فدعوه للوفـا ؟
لم يشأ أن يتفانى وحــده في الوفآ ..فاختـار آل المصطفى!
ولقد أطلنا الوقوف عنده في القسم الأول من هذه المداخلة، فلا داعي
لتكرار ما قد قيل.وإنما أعدنا ذكره لنواجه به نص الإلياذة ، ونقف على
البواعث التي جعلت الشهيد يُـؤْثِر لقاء الله، ويترك هذه الدنيا غير مأسوف
عليها.ومن ذلك:
01- تدهور العلاقات الإنسانية، وانتشار ثقافة الحقد والمكر والغدر:
وفضَّلْتَ – لمـّّا سئمتَ الدُّنــا وآدمَهــــا – أن تكون الملاك
وأضنـاك في الأرض مكر وغـدر وقـبر النبـوغ ، ونصـب الشباك
02- توسيد الأمور إلى غير أهلها ، واندسـاس عناصر خبيثة في مختلف
المواقع الحساسة، حيث راحت تمارس الإقصـــاء والتهميش للطاقات المبدعة التي
من شأنها أن تحقق للبلاد الازدهار والرقي، وتخرجها من إسار التبعية
للخارج بكل أصنافها.وهو ما عبر عنه الشــاعر بـ ” قـبر النبوغ “.
03- إهمال الشبـاب- وهو مستقبل البلاد- وعدم الاهتمام بتنمية مواهبه، ورسـم
سياسة واضحة المعالم ترعى طاقاته، وتعرف انشغالاته، وتوجهه في معركة
البناء الوطني،مما جعله طاقة معطلة في مهب الريح:
وهالك عُـقْـمُ الشباب المسـجَّى فخَلَّفتَ تحنيـــــطَـه لسواك
04- السعي وراء الماديات، والتنافس على المناصـب لتكون مطية للنفــوذ
والاستيلاء على خيرات الشعب، عوض خدمته وترقيته وفاء لأرواح الشهداء :
وعِفْتَ من البعض، حُمَّى الكراسي وما بلغـــوا في الوفـآ مستواك
فحطّـمْتَ أخشـــابَها طائرا مع الريح ، تُـغْـرِقُهـا في دمـاك
فتأمل هذه البراعة الفنية التي مكنت الشاعر من التعبير عن مواقفه وآرائه
من خلال صوت الشهيد. وكيف تنوعت هذه المواقف وتباينت بتنوع اللحظات
الإبداعية وتباينها في نفـس الشاعر.
وأختم كلمتي المتواضعة هذه في ملتقانا الكريم بأبيات لشاعـر الجـزائر محمد بن رقطان :
قـدَرُ الجـزائر أن تظل وفيـة لجهــادها لا أن تضل وتكفـرا
قـدَر الجـزائر أن تصون ثوابتا صيغت بأثمنِ ما يبـاع ويشتـرى
قـدَر الجـزائر أن تُعيـد لأمتي زمن العطــاء وأن تقـدم أكثرا
وطـني عشقتك ثورة عملاقة وعشقت شعبك ثائرا مستنــفرا
وغرست حبك في الفؤاد ولم أزل أهــواك دوما شامخا متجبــرا
وطـني عشقتك في الملاحم قصة صاغتْ روائعَـها حروفُ نفمبـرا
وتوارثتْـها أمـةٌ أزليـــة كانت لها قمم البطـولة مشعـرا
قدَّسـتُ فيك عقيدتي وعروبتي وشربت حبهما العظيمَ مُطهَّــرا
وظللت أنهل من جداول ثورتي حتى شربت من الأصـالة كوثـرا
لولاك يا وطني المقدسَ لانتهى زمنُ العطـاء من الوجـود وأقفرا
خـاتـمـة:
انطلاقا مما سبق يمكن ان نخلص إلى النتائج الآتية :
1- إن” مفدي زكريا ” شاعر مقاتل ، مَـثَّل الجــزائري والعـربي والمسلم
بكل القيـم التي تحملها العروبة والإسلام عبر الأزمان.وقد ساعدته خواصه
الذاتية الفـــريدة كالحدس و الذكاء الخارق والنفس الطويل والقدرة على
الإبانة وفهم الواقع، على تطوير آلته الاستقبالية وترجمة مطالب شعبه
وحاجاتهم النفسية والاجتماعية شعرا.
2- كانت الأزمات والمحـن التي مرّ بها الشعـب الجزائري اختباراتٍ
حقيقيةً شحذت همته وضبطت نفسيته وحدّدت لها مساراتها النضالية والإبداعية
أيضا.
3- لدى” مفدي” قدرة خارقة على التكثيـف ، ثم القيام بعملية تفاعلية بين
الكم الهائــل الذي ضغطه وركزه بحيث يستطيع نقله إلى كيف جديد.
4- إن العملية الإبداعية لا تتم في الواقـع الموضوعي ، بل تتم في دخيلة
المبدع أي في نفسيته وعقله ثم تجد لها ترجمة في الواقع الموضوعي .
5- اتسمت شخصية الشاعر بالتحـدي وحب المغامرة، بالثقة بالنفس وضوح
الرؤية ، بقوة الإرادة وإرادة القوة، بإرادة الإبداع ونقد الآخرين واكتشاف
العلاقات الدقيقة.
*أكاديمي ، أستاذ في جامعة منتوري ـ قسنطينة. الجزائر
المصــادر والمـــراجع
1- معجم لسان العرب لابن منظور.
2- مفدي زكريا : اللهب المقدس، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع ، الجزائر،1983.
3- مفدي زكريا : إلياذة الجزائر،ط2، موفم للنشر- الجزائر،2001.
4- محمد ناصر:مفدي زكريا شاعر النضال والثورة، ط2، جمعية التراث-العطف-غرداية ،1989.
5- مصطفى سويف: الأسس النفسية للإبداع الفني و تذوق الفنون الجميلة، دار المعارف، مصر،ط3، 1970.
6- جابر عصفور: أقنعة الشعر العربي المعاصر، مجلة “فصول”، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، يوليو1981.
احفظ المقالة على أحد المواقع التالية