تجليات الأسلوب والأسلوبية في النقد الأدبي ـــ
أ.بن يحيى فتيحة / الجزائر
أ.بن يحيى فتيحة / الجزائر
مقدمة:
إن اطراد الدراسات اللغوية والاهتمام بها في الوقت الحاضر ولا سيما المناهج
اللغوية في دراسة الأدب أو في الدراسات الأدبية، قد مهّد السبيل إلى ظهور
النظرية اللغوية الحديثة بوصفها نظاماً مساعداً في النقد الأدبي.
وثمة مناهج أو مداخل كثيرة، متباينة في نظرتها إلى النص الأدبي تحليلاً
وتقديراً وتقويماً، ومنها على سبيل المثال المدخل اللغوي أو المنهج اللساني
الذي لا يستغني عنه الناقد الأدبي. فعلم اللغة يمنح النقد الأدبي سنداً
نظرياً بوصفه ضرورة كضرورة الرياضيات للفيزياء، فالناقد الجيد بحكم
اهتماماته في تحليل النص وكشف جمالياته البلاغية والفنية هو لغوي جيد،
علماً أن لا وجود لأي نص أدبي خارج حدود لغته، الإثارية أو الانفعالية
شريطة أن يكون التعبير عن عناصر النص سليماً ومقبولاً عند المتلقي الذي لا
يقل شأناً عن مبدع النص، بمنظور النقد الفني التحليلي.
1 ــ علم الأسلوب:
إذا كان الأسلوب ظاهرة تتمثل في النصوص المنطوقة أو المكتوبة، أو هو الطبقة
العليا لهذه الظاهرة، فإنه يبرز خلال عملية التلقي بشكل لا تستطيع مناهج
علم اللغة التقليدية، من نحوية ودلالية، أن تلم به أو تحلل مقاصده
وتأثيراته. كما أن الوصول إلى تعريف دقيق لمقولة الأسلوب لا يتم إلا بتحديد
نظريته، ومعرفة طبيعة العلم الذي يكرس له بوصفه فرعاً لعلم آخر أو قائماً
بنفسه.
ففي نظرية الأسلوب يتحدد مجال الظاهرة المدروسة ومكانها العلمي الدقيق،
وعلى هذا فإنه إذا تصوّرنا علم الأسلوب جزءاً من علم اللغة، كان علينا أن
نحلل نظريته إلى عناصرها المختلفة، فنجعل أسلوب النصوص الأدبية تطبيقاً
جزئياً لمقولة أسلوبية عامة، وحينئذ تعتمد النظرية الأسلوبية على علاقة
النظام اللغوي العام بمفهوم "سوسير" بأسلوب نص معين كمظهر للكلام، ويتعين
عليها أن توضح بعض التصورات المهمة في الأدب، مثل أسلوب مؤلف معين، أو جنس
أدبي بأكمله، وما يعتريه من تطور أو تغير على مر العصور.
فالنظرية الأسلوبية تستمد معاييرها من النظرية العلمية، أو من العلم الذي
تنتمي إليه تفرع جزئي منه، وتخضع لشروطه العامة في التحقيق والتزييف، وهي
في معظم الدراسات العلمية المعاصرة للأسلوب تعد جزءاً من نظرية تقف إلى
جوار النظرية النحوية وتماثلها لهذا فإنه في مقابل "علم اللغة" تقوم عملية
"البحث الأسلوبي" التي تعتمد على أسس النظرية الأسلوبية، وتستمد منها منهج
دراسة وتنظيم المواد، بالتضافر مع العلوم الأخرى في مناطق تلاقيها. وفي
البحوث الأسلوبية للنصوص الأدبية وهي التي تعنينا هنا ــ ينبغي أن تستكمل
دراسة الأسلوب في مستوياته اللغوية باستخدام المقولات المتصلة بالأدب
والعلوم الفلسفية والاجتماعية والتاريخية.
2 ــ مفهوم الأسلوب:
لعل المعضلة الأكبر من تحديد معيار اللغة تعريف مفهوم الأسلوب، بل لعلها
المعضلة الأكثر إثارة للجدل في دراسة اللغة. يصف إنكفيست الأسلوب على "أنه
مألوف بقدر ما هو مخادع، فمعظمنا يتحدث عنه برقة وحنان مع أن لدى القليل
منا الاستعداد لتحديد معناه بدقة"(1).
وقد جرت محاولات عدة لتعريفه، فتدرّجت من رؤيته كوعاء للمعنى، مروراً
بمطابقته مع شخصية المؤلف، وإنكاره جملة وتفصيلاً، ووصولاً إلى اعتباره
خياراً لغوياً وظيفياً ومقرراً ومكوناً وجوهرياً للمعنى. وهذه أهم محاولات
تعريف مفهوم الأسلوب.
2 ــ 1 الأسلوب كوعاء للمعنى:
من أهم وجهات النظر القديمة الحديثة اعتبار الأسلوب وعاء لاحتواء المعنى
المراد بداخله، فاللغة ثوب المعنى، والأسلوب زي هذا الثوب. يعبر الشاعر
والناقد الإنجليزي الشهير دريدان" Dryden" عن هذه باعتبار الأسلوب..." فن
خطابة، أو فن إلباس الفكرة وتزيينها". كما يشير الشاعر المعروف كوليريدج
(Coleridge)
إن هذا المعنى بقوله "إن الأسلوب ما هو إلا فن نقل المعنى بشكل ملائم وواضح أياً ما كان هذا المعنى.."(2)
الأسلوب كانحراف:
ارتأى الشكلانيون ونقاد آخرون أن الأدب انحراف عن معيار اللغة، وقد نبذه
معظم الأسلوبيين المعاصرين نذكر على سبيل المثال، ساندل (Sandel) الذي
يوافق بيزلي (1969) (Paisely) في قوله إنه "من الصعب قبول أن يكون الأسلوب
هو الطريقة اللاتقليدية وغير المعتادة في الاستعمال"(3).
2 ــ 2 الأسلوب كلسان حال صاحبه:
قوام هذه الرؤية المعروفة للأسلوب أنها تطابق بين الأسلوب وصاحبه، من
أنصارها المتشددين (ميدلتون مري) الذي يعتبر الأسلوب لسان حال الكاتب
ومواقفه ومشاعره. إذ يقول (ويذيل): "الأسلوب خصيصة من خصائص اللغة تنقل
بدقة عواطف وأفكار خاصة بالمؤول"(4).
في الواقع لا يسعنا إلا أن نقول إن هذا المفهوم للأسلوب أخفق في إقناع
القراء لأنه مجحف. إذ كيف لنا أن نحكم على شخصية الكاتب بهذه الطريقة؟ فكم
من كاتب تعارضت شخصيته تماماً مع صورة في عمله. وكم من كاتب تناول أعمالاً
واتجاهات متناقضة أشد التناقض، ولكنهم لم يتهموا بانفصام الشخصية.
2 ــ 3 الأسلوب هو المعنى:
رفض أصحاب هذا الرأي عن مفهوم الأسلوب فكرة الثنائيين بالفصل بين الشكل
والمضمون، من قبل في عام (1857) قالها (فلوبيرت): "كالروح والجسد، الشكل
والمضمون بالنسبة إلى شيء واحد". كما أن النقاد الجدد قد تبنوا هذه الفكرة
برفضهم الفصل بين المعنى والمبنى وحسب أصحاب هذا الرأي، الأسلوب نتاج الدمج
بين الشكل والمضمون، وأي تغيير في الأول يستدعي تغييراً في الثاني.
2 ــ 4 الأسلوب كاختيار مفهوم وظيفي:
لم يستطع أي من المفاهيم السابقة عن الأسلوب إقناعنا، لذلك نحن بحاجة إلى
مفهوم أكثر فائدة وشمولية ودقة ينفعنا في وضعه موضع التطبيق في دراستنا
للنصوص الأدبية فيما بعد في هذا العمل. ولعل هذا متاح من خلال رؤية الأسلوب
كاختيار أساسه نحوي /قواعدي ودلالي/ معجمي بشكل رئيسي. هذا وإن كثيراً من
الأسلوبين المعاصرين يرونه هكذا بشكل أو بآخر. وحسب هذا المفهوم كل
الخيارات اللغوية أسلوبية من حيث المبدأ، فلكل منها وظيفة (أو أكثر) تختلف
من نص على آخر ومن سياق على آخر.
ويعرّف كارتر الأسلوب بقوله: "يتأتى الأسلوب من التداخل المتزامن للتأثيرات
(الأسلوبية) في عدد من مستويات اللغة". وهكذا يمكن إعطاء التعريف التالي
الشامل والمبسط للأسلوب: "الأسلوب مجموعة الوظائف الأسلوبية/ اللغوية
المنتقاة من المخزون القواعدي والمعجمي والصوتي والشكلي للغة العامة".
3 ــ ماهية الأسلوب والأسلوبية:
الأسلوب والأسلوبية مصطلحان يكثر ترددهما في الدراسات الأدبية واللغوية
الحديثة، وعلى نحو خالص في علوم النقد الأدبي والبلاغة وعلم اللغة.
ــ ودائرة المصطلح الأول أكثر سعة من دائرة المصطلح الثاني على المستويين
الأفقي والرأسي. ونعني بالمستوى الأفقي، الاستخدام المتزامن للمصطلح في
حقول متعددة متجاوزة أو متباعدة، وبالمستوى الرأسي، الاستخدام المتعاقب في
فترات زمنية متتابعة داخل حقل واحد. فكلمة الأسلوب من حيث المعنى اللغوي
العام يمكن أن تعني "النظام والقواعد العامة، حين نتحدث عن "أسلوب المعيشة"
ويمكن أن تعني كذلك "الخصائص الفردية" حين نتحدث عن "أسلوب كاتب معين".
وعن طريق هذين التصورين الكبيرين دخل استخدام مصطلح "الأسلوب" في الدراسات
الكلاسيكية المعيارية التي تسعى إلى إيجاد المبادئ العامة لطبقة من طبقات
الأسلوب، أو للتعبير في جنس أدبي معين.
هذا الاتساع الأفقي في دلالة معنى "الأسلوب" يقابله مجال أكثر تحديداً في
دلالة معنى "الأسلوبية"، حيث تكاد تقتصر في معناها على الدراسات الأدبية،
وإن كان بعض الدارسين، مثل جورج مونان، يحاول أن يمتد بها نظرياً لتشمل
مجالات مثل الفنون الجميلة والمعيار والموسيقى والرسم، مع أنه يعترف في
الوقت ذاته أن الحقل الذي أخصبت فيه علمياً حتى الآن هو حقل الدراسات
الأدبية.(5).
أما فيما يتصل بالمستوى الرأسي، الذي يقصد به التعاقب الزمني في حقل واحد
ــ وهو حقل دراسات اللغة والأدب في حالتنا ــ فإن مصطلح "الأسلوب" سبق
مصطلح "الأسلوبية" إلى الوجود والانتشار خلال فترة طويلة.
4 ــ تنوع المدارس الأسلوبية:
يمكن اللجوء إلى أشهر الخيوط العامة، وأشهر الاتجاهات التي يمكن أن يندرج
تحتها كثير من التفاصيل الدقيقة. ومن هذه الزاوية يمكن رصد اتجاهين كبيرين
في دراسة الأسلوب الحديث هما: الاتجاه الجماعي الوصفي، أو أسلوبية التعبير،
والاتجاه الفردي، أو الأسلوبية التأصيلية، وسوف نحاول إعطاء فكرة عن كل من
الاتجاهين.
أولاً: الأسلوبية التعبيرية:
يرتبط مصطلح الأسلوبية التعبيرية، وكذلك مصطلح الأسلوبية الوصفية، بعالم
اللغة السويسري شارل بالي (1865 ــ 1947). تلميذ اللغوي الشهير "فارديناند
دي سوسير" (1857 - 1913). وخليفته في كرسي الدراسات اللغوية بجامعة جنيف.
ويعد بالي مؤسس الأسلوبية التعبيرية، وقد كان سوسير يرى أن اللغة خلق
إنساني ونتاج للروح، وأنها اتصال ونظام رموز تحمل الأفكار، فجانب الفكر
الفردي فيها ليس أقل جوهرية من جانب الجذور الجماعية.
ومن ثم فإن الفرد والجماعة يسهمان في إعطاء قيمة تعبيرية متجددة للأسلوب،
ولا يكتفيان بتلقي القيم الجمالية عن السابقين، وهذه النقطة الأخيرة هي
التي حاول بالي التركيز عليها.
فقد كانت البلاغة القديمة في هذا الصدد تلجأ إلى فكرة "قوائم القيمة
الثابتة" التي تستند إلى كل شكل تعبيري "قيمة جمالية" محددة. ومن خلال هذا
التصور كان يتم تقسيم التصور إلى "صور زيادة"، مثل الإيجاز والحذف
والتلميح، والانطلاق من ذلك إلى تقسيم الأسلوب ذاته إلى طبقات: أسلوب سام،
وأسلوب متوسط، وأسلوب مبتذل.
لكن نظرية "القيمة الثابتة" تعرضت لألوان كثيرة من النقد، كان من أشهرها ما
أشار إليه "رينيه ويليك"(6) من أن "قيمة الأداة التعبيرية" تختلف من سياق
إلى سياق، ومن جنس أدبي إلى جنس أدبي آخر. فحرف العطف "الواو" عندما يتكرر
كثيراً في سياق قصة من قصص الكتاب المقدس، يعطي للتعبير معنى الاطراد،
والوقار. لكن هذه الواو لو تكررت في قصيدة رومانتيكية فإنها قد تعطي مشاعر
تعويق وإبطاء في وجه مشاعر ساخنة متدفقة.
الأسلوبية البنائية:
هي أكثر المذاهب الأسلوبية شيوعاً الآن، وعلى نحو خاص فيما يترجم إلى
العربية أو يكتب فيها عن الأسلوبية الحديثة، وهي تعد امتداد لآراء سوسير
الشهيرة، التي قامت على التفرقة بين ما يسمى اللغة وما يسمى الكلام. وقيمة
هذه التفرقة تكمن في التنبه إلى وجود فرق بين دراسة الأسلوب بوصفه طاقة
كامنة في اللغة بالقوة، يستطيع المؤلف استخراجها لتوجيهها إلى هدف معين،
ودراسة الأسلوب الفعلي في ذاته، أي أن هناك فرقاً بين مستوى اللغة ومستوى
النص، والبلاغة التقليدية لم تكن تعهد هذا التفريق وقد أخذ هذا التفريق
أسماء ومصطلحات مختلفة في فروع المدرسة البنائية، فجاكوبسون يدعو إلى
التفريق بين الثنائي (رمز ـ رسالة) وجيوم يطلق عليه (لغة ـ مقالة) أما
يمسليف فيجعل التقابل بين (نظام ـ نص)، ويتحول المصطلح عند تشومسكي إلى
ثنائية بين (قدرة بالقوة ـ ناتج بالفعل) وهذه المصطلحات على اختلافها تشف
عن مفهوم متقارب في دراسة اللغة والأسلوب، كان قد أطلق شرارته سوسير،
وطوّره بالي، وأكمله البنائيون المعاصرون.
ويركز جيوم على أثر هذه التفرقة في الأسلوب، حين يبين أن هناك فرقاً بين
المعنى وفاعلية المعنى في النص، وأن كل رمز يمر بمرحلة القيم الاحتمالية
على مستوى المعنى، ومرحلة القيمة المحددة المستحضرة على مستوى النص وقد
تقود هذه المبالغة في هذا التحليل إلى القول بأن الرمز اللغوي لا يوجد له
معنى قاموس، ولكن توجد له استعمالات سياقية(7).
أما رومان ياكبسون فقد ركز في تحليله للثنائي (رمز ــ رسالة) على الجزء
الثاني منهما ــ دون أن يهمل الأول ــ لأنه يعتقد أن الرسالة هي التجسيد
الفعلي للمزج بين أطراف هذا الثنائي، وهو مزج عبر عنه ياكبسون حين تسمى
إحدى دراساته حول هذه القضية: "قواعد الشعر وشعر القواعد" وهو يعني بقواعد
الشعر دراسته الوسائل التعبيرية الشعرية في اللغة، وبشعر القواعد دراسة
الفعالية الناتجة من وضع هذه الوسائل موضع التطبيق.
ثانياً: الأسلوبية التأصيلية:
إذا كانت السمة العامة للأسلوبية التعبيرية الوصفية هي طرح السؤال: "كيف"
حول النص المدروس، فإن الأسلوبية التأصيلية تهتم بأسئلة أخرى مثل "من أين"
و"لماذا" وهذا اللون من التساؤل يقود الباحث بحسب اتجاه المدرسة التي ينتمي
إليها، وبحسب لون اهتماماتنا التاريخية أو الاجتماعية أو النفسية أو
الأدبية..
ويمكن أن نقف سريعاً أمام اتجاهين من اتجاهات المدرسة التأصيلية:
الأسلوبية النفسية الاجتماعية:
في سنة 1959 كتب الباحث الفرنسي" هنري مورير "كتاباً عن سيكولوجية
الأسلوب"(. طرح فيه نظريته الخاصة التي حاول من خلالها استكشاف ما أسماه
"رؤية المؤلف الخاصة للعالم" من خلال أسلوبه. واكتشاف هذه الرؤية يقوم على
أن هناك خمسة تيارات كبرى تتحرك داخل "الأنا العميقة". وأن هذه التيارات
ذات أنماط مختلفة. والتيارات الخمسة الكبرى هي: القوة والإيقاع والرغبة
والحكم والتلاحم، وهي الأنماط التي تشكل نظام "الذات الداخلية".
وقد يظهر كل نمط منها في شكل إيجابي أو سلبي، فالقوة قد تكون قاعدتها
الشدّة أو الضعف، والإيقاع قد يكون متسقا أو ناشزاً، والرغبة قد تكون صريحة
أو مكبوتة، والالتحام قد يكون واثقاً أو متردداً، والحكم قد يكون متفائلاً
أو متشائماً.
5 ـ الأسلوبية الأدبية:
تعدّد الأسلوبية الأدبية أخصب ما تفرع عن فكرة "الأسلوبية التأصيلية"
أكثرها في تاريخ "التعبير" في القرن العشرين، ونبه كارل فسلر في أوائل
القرن إلى ضرورة بالغة بالاهتمام في التاريخ الأدبي: "لكي ندرس التاريخ
الأدبي لعصر ما، فإنه ينبغي على الأقل الاهتمام بالتحليل اللغوي بنفس القدر
الذي يهتم فيه بتحليل الاتجاهات السياسية والاجتماعية والدينية لبيئة
النص"(9). ولكن الذي طور هذا الاتجاه وحوله إلى نظرية متكاملة في النقد
اللغوي أو الأسلوبية الأدبية هو العالم النمساوي ليو سبيتزر وقد ألف كتاب
اللسانيات واللغة التاريخية قد عرض فيه للمنهج الذي اتبعه هو في دراسة
سرفانتس، وفيدر، وديدرو، وكلوديل. وتتلخص خطوات المنهج عند سبيتزر في
النقاط التالية:
1 ــ المنهج ينبع من الإنتاج وليس من مبادئ مسبقة. وكل عمل أدبي فهو مستقل بذاته كما قال برجسون.
2 ــ الإنتاج كل متكامل، وروح المؤلف هي المحور الشمسي الذي تدور حوله بقية كواكب العمل ونجومه، ولابد من البحث عن التلاحم الداخلي.
3 ــ ينبغي أن تقودنا التفاصيل إلى المحور "الأدبي"، ومن المحور نستطيع أن
نرى من جديد التفاصيل، ويمكن أن نجد مفتاح العمل، كله في واحدة من
التفاصيل.
4 ــ الدراسة الأسلوبية ينبغي أن تكون نقطة البدء فيها لغوية، ولكن يمكن
لجوانب أخرى من الدراسة أن تكون نقطة البدء فيها مختلفة: "إن دماء الخلق
الشعري واحدة، ولكننا يمكن أن نتناولها بدءاً من المنابع اللغوية، أو من
الأفكار، أو من العقدة، أو من التشكيل". ومن خلال هذه النقطة وضع سبيتزر
طريقاً بين اللغة وتاريخ الأدب.
5 ــ النقد الأسلوبي ينبغي أن يكون نقداً تعاطفياً بالمعنى العام للمصطلح،
لأن العمل كل متكامل وينبغي التقاطه في "كليته" وفي جزئياته الداخلية. لقد
كان هذا المنهج التفصيلي الذي أورده سبيتزر في كتابه ذا أثر كبير في إخصاب
النقد الأدبي وتخليصه من بعض الآثار السلبية للاتجاه الوضعي الذي كان
لانسون يمثل قمّته في بدايات هذا القرن، وارتكزت في النقد الأدبي مبادئ لم
تكن شائعة من قبل.
أ ــ النقد الأدبي ينبغي أن يكون داخلياً، وأن يأخذ نقطة ارتكازه في محور العمل الأدبي لا خارجه.
ب ــ أن جوهر النص يوجد في روح مؤلفه، وليس في الظروف المادية الخارجية.
ج ــ على العمل الأدبي أن يمدّنا بمعاييره الخاصة لتحليله، وأن المبادئ المسبقة عند النقاد الذهنيين ليست إلا تجريدات تعسفية.
د ــ أن اللغة تعكس شخصية المؤلف، وتظل غير منفصلة عن بقية الوسائل الفنية الأخرى التي يملكها.
هـ ــ أن العمل الأدبي بوصفه حالة ذهنية لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال الحدس والتعاطف.
6 ــ الأسلوبية اللغوية:
يهتم هذا المنهج بشكل رئيسي بالوصف اللغوي للسمات الأسلوبية إنها بهذا
المعنى الشكل الصرف للأسلوبية. يستهدف مؤيدوها الإفادة من بحث اللغة
والأسلوب الأدبيين في إصلاح طرائق تحليلهم للغة، وذلك لتحقيق تقدم في تطوير
نظرية اللسانية.
وعليه فقد كان الوصف اللغوي للسمات الأسلوبية هدفاً للتحليل الأسلوبي الذي
اعتمده من يسمون بالأسلوبيين التوليديين أمثال: أومان وثورن، كما ظهر في
الحقبة نفسها (أي بين الخمسينيات وأوائل السبعينيات) فئة أخرى من الأسلوبين
اللغويين المعروفين بالأسلوبيين الحسابيين، منهم ما يليك (1967) الذي قام
بدراسة حسابية بالكومبيوتر لأسلوب جاناثان سويفت، وجيبسون (1966) و(دراسته
الإحصائية لأساليب النثر الأمريكي)، وأومان أيضاً (1962) و(دراسته لأسلوب
جورج برنارد شو)(10).
7 ـ الأسلوبية اللغوية المعاصرة:
من بين الأشكال الحديثة الأسلوبية اللغوية دراستان قامت بهما بيرتون للحوار الدرامي (1980) وبانفيلد للخطاب الروائي
(1982). على الرغم من أن طريقة بانفيلد المعتمدة على القواعد التوليدية
للجمل الروائية أكثر تطوّراً ودقّة من سابقاتها، فهي في حقيقة الأمر عودة
إلى طريقة الأسلوبية التوليدية، لأنها تركز بشكل صرف على الصيغ اللغوية
للجمل الروائية لا أكثر ولا أقل.
8 ــ المحاسن والمساوئ:
لا عجب في أن يتعرض هذا المنهج إلى هجوم شديد وانتقادات حادة من داخل معسكر
الأسلوبية وخارجه. ولعله المنهج الذي أساء إلى سمعة الأسلوبية في أروقة
الدراسات الأكاديمية.
لكن هذا لا يمنع من أن له بضع محاسن نذكرها أولا قبل التعريج على المساوئ.
ــ تقدم الأسلوبية اللغوية طرائق علمية ومنظمة في تحليل اللغة ووصفها.
ويعدّ هذا إسهاماً جيّداً في تطوير مداركنا ومعرفتنا للغة، خاصة بالنسبة
للقراء والطلبة الأجانب.
ــ الميزة الأخرى لهذا المنهج كامنة في تزويدنا في أكثر من مناسبة بمعايير
يعول عليها في وضع أيدينا على السمات الأسلوبية الهامة في النصوص (كما فعلت
طريقتا بيرتون وبانفيلد).
ــ الحسنة الثالثة تقديم هذا المنهج فرصة للسانيين والقراء والطلبة
للاضطلاع باكتشافات جديدة في التحليلات اللغوية التي تسهم بدورها في تطوير
نظرية اللسانية، وقد يمكن اعتبار الأسلوبية اللغوية خطوة أولية في "دراسة
بنيوية وأدبية وتاريخية أوسع لنص لغوي ما"، كما يشير إينكيفست.(11).
أما عن عيوب هذا المنهج فتتمثل:
* أولاً: بشحه في الإسهام في التحليل الأدبي إسهاماً كبيراً. إذ يقوم
بأعباء قدر من التحليل، لكنه قدر غير كاف، بل أقل أهمية من القدر الأكبر
الأساسي منه، وهو الوظائف الأسلوبية وعلاقتها بالمعنى وتأثيرها عليه.
* في واقع الأمر هذا الجانب الأدبي من النصوص واقع خارج نطاق هذا المنهج.
يحمل هاليداي ذات الرأي بقوله: "اللسانية غير كافية وحدها في التحليل
الأدبي، والمحلل الأدبي ــ لا اللساني ــ هو وحده الذي يحدد مكان اللسانية
في الدراسة الأدبية"(12).
من جهة أخرى، لا تهتم الأسلوبية اللغوية بالتأويل، ولا تتخذه كغاية من
غاياتها. بل غايتها القصوى تقديم وصف لغوي دقيق لنص ما. على الرغم من أن
الوصف وجه من وجوه التأويل فإنه ليس تأويلاً. بل هو تمهيد وأرضية أساسية
ينطلق منها التأويل.
وهذا سر وجود علاقة غير رسمية بين اللسانية والنقد الأدبي يبرزها هذا
المنهج الأسلوبي. وهكذا يتضح لنا مما سبق أن الأسلوبية اللغوية نافعة جداً
على صعيد الوصف اللغوي وتوسيع مداركنا اللغوية وحسب، لكنها لا تجدي نفعاً
في تغطية الجوانب الهامة الحساسة للنصوص الأدبية. بعبارة أخرى، تجيب على
مادة "لماذا" فقط.
إننا في حاجة إلى منهج بديل يستطيع الإجابة على "كيف" و"لماذا"، منهج قادر
على إبلاغنا ما الذي يجعل النص الأدبي أدبياً، إذ حسب منهج الأسلوبية
اللغوية "من السهل جداً إزاغة البصر عما يجعل الأدب أدباً" كما عبر عن ذلك
كارتر (1979).
ولما كان النقد في بعض معانيه، فن التمييز بين الأساليب الأدبية صارت
العلاقة بينه وبين الأسلوب والأسلوبية وعلم الدلالة وكلها تنضوي تحت مصطلح
واحد هو علم اللغة، أو الألسنية أو اللسانيات.
إن اطّراد الدراسات اللغوية والاهتمام بها في الوقت الحاضر ولاسيما المناهج
اللغوية في دراسة الأدب أو في الدراسات الأدبية، قد مهد السبيل إلى ظهور
النظرية اللغوية الحديثة بوصفها نظاماً مساعداً في النقد الأدبي.
وثمة مناهج أو مداخل كثيرة، متباينة في نظرتها إلى النص الأدبي تحليلاً
وتقديراً وتقويماً، ومنها على سبيل المثال المدخل اللغوي أو المنهج اللساني
الذي لا يستغني عنه الناقد الأدبي، فالناقد الجيد بحكم اهتماماته في تحليل
النص وكشف جمالياته البلاغية والفنية هو لغوي جيد، علماً أن لا وجود لأي
نص أدبي خارج حدود لغته الإشارية أو الانفعالية شريطة أن يكون التعبير عن
عناصر النص سليماً ومقبولاً عند المتلقي الذي لا يقل شأناً عن مبدع النص.
وإذا كانت المناهج اللغوية مختلفة ومتباينة في مدى علاقتها بدراسة "النص
الشعري"، على سبيل المثال فإن المناهج النقدية مختلفة ومتباينة أيضاً، فقد
تتوازى وتتقاطع وتتعاون وتتصارع وهي دائماً تدّعي لنفسها أنها تهدف إلى
تنوير النص وتعلن اهتداءها إلى فهم أفضل بطبيعة هذا النص.(13).
وقد أدى التركيز على تحليل النص وتروضه بوصفه لغة لا يقوى على شرعيتها
ومرجعيتها الأدائية والتعبيرية إلى بروز اتجاهات مرتبطة بالتحليل الأسلوبي
ــ البلاغي مهّدت السبيل إلى استحداث مهم. سمّي فيما بعد "بفلسفة الأسلوب"
و"فلسفة البلاغة" في النقد الأدبي الحديث. وتُعنى هذه المداخل النقدية بصلب
"البنية الأدبية" و"المجاز" و"مماثلة الواقع" والمعجم "والسياق"
و"السخرية" و"بناء الجملة" و"موسيقى اللغة" و"التوازن"(14). وكلها سمات
لغوية تسعى إلى تحليل النص الأدبي وتقديمه كلاّفنيا جديراً بتحقيق
الاستجابة العفوية عند متلقيه.
ــ تحاول اللغة الأدبية في تعاملها مع النص الأدبي من خلال مناهجها
المختلفة، استيعاب التوازن الحاصل بين "المبدع ــ النص" و"النص ــ
المتلقي"(15) وهي سلطة فنية تبتعد فيها اللغة عن مرجعياتها القواعدية
والإعرابية والنحوية لتزويد آفاق الدلالة حيث يصير "النص" يتمتع بحركته
الفنية ــ الإبداعية وحركته التوصيلية عند المتلقي.
فالعلاقة بين النص والمتلقي هي جوهر العملية النقدية الحديثة والمعاصرة،
تلك العملية التي ترى في النص الأدبي ــ الشعري بفنونه وأنواعه
إن مهمة علم اللغة هي الاستفسار واستقراء ما سمّاه "تشومسكي" بالعلاقة
الحميمية بين الخصائص الداخلية للعقل وبين سمات البناء اللغوي(16). في حين
تكون مهمة النقد الأدبي واحدة من رؤاه العصرية، هي البحث في العلاقة بين
تنظيم الحس الجمالي الإنساني وبين خصائص البناء الأدبي واللغة.
وعليه فالنقد الأدبي هو فن الحكم على التجارب الأدبية الحديثة والتراث
الأدبي والآثار الفنية(17). فبرزت على الساحة النقدية العالمية والعربية
ضروب من النقد كالنقد القياسي والنقد الأكاديمي والنقد الإيديولوجي
العقائدي، والنقد التاريخي والنقد الشخصي والنقد الفلسفي والنقد اللغوي
وغيرها، وكلّها ضروب نقدية تنطلق من النص الأدبي في علاقته بمبدعه من جهة
أو علاقته بمتلقيه من جهة أخرى أو علاقته ببيئته من جهة ثالثة، ومن هنا قيل
إن الإنتاج الأدبي يحكمه محوران، محور اللغة التي هي ملك للبيئة
الاجتماعية التي تنشأ عنها، ومحور الأسلوب الذي هو ملك الأديب أو الشاعر.
وما بين هذين المحورين، اللغة والأسلوب، يولد فن الإبداع في الكتابة
الأدبية أو في التجربة الشعرية، وقد أدى الاهتمام بهذا الجانب إلى ظهور ما
يسمى بـ: الأسلوبية ــ اللغوية التي ترى أن الأسلوب قد يكون انزياحاً أو
انحرافاً أو عدولاً عن السياق اللغوي المألوف في هذه اللغة أو تلك.
ــ والمنهج التفكيكي/ والنقد التفكيكي أو التشريحي الذي دعا إليه ديريدا
منذ سنة 1967. تستند مرجعياته إلى فكرة الأثر، أي أن الأثر هو محور تفكيك
النص أي أن الاهتمام بالنتيجة قبل التفكير بالسبب. فلولا وجود قرّاء لم
يكتب الكاتب نصه ولا ينظم الشاعر قصيدته، أي أن المتلقي هو سبب في الإبداع
وسبيل إلى دفع المبدع إلى الإبداع والخلق الفنيين، فضلاً عن أن هذا المنهج
النقدي التفكيكي أو التشريحي يلغي وجود حدود بين نص وآخر وتقوم هذه النظرية
على مبدأ الاقتباس ومن ثم تداخل النصوص أو التناص.
ــ فالقراءة التفكيكية أو التشريحية قراءة حرّة ولكنها نظامية وجادة وفيها
يتوحدّ القديم الموروث وكل معطياته مع الجديد المبتكر وكل موحياته من مفهوم
السياق حيث يكون التحول.
والتحول هو إماء بموت وفي اللحظة نفسها تبشير بحياة جديدة(18). والناقد
الأسلوبي ــ اللغوي يبدأ تحليلها للإصغاء إلى صوت الشاعر، وهذا يعني أنه
يبدأ قارئاً وحين يصير هذا القارئ ناقداً أسلوبياً، فإنه يهتم بما يحدث
للغة على يدي الشاعر مبدع النص الشعري. (19) من محاكاة وأصالة أو تسطح أو
عمق أو وضوح وغموض.
وعلى هذا الأساس فثورة علم اللغة الحديث والمعاصر اليوم هو ثورة في التحليل
والتعليل. كما هي ثورة المنهج أداة ومصطلحاً. وانعكاساتها في مناهج النقد
الأدبي المعاصر التي اهتمت بالأسلوب بوصفه سطح التعبير اللغوي ومنه إلى
أعماق التجربة الأدبية، تحليلاً وتعليلاً، إذ يفترض بالناقد التطبيقي أو
العملي الجيد أن يكون لغوياً جيداً، فالأدب أعلى تعبير لغوي وما يبتكره على
اللغة من سباقات جديدة تظهر إثارة في النقد الأدبي قبل أي فن من الفنون
الأدبية أو أي جنس من الأجناس الأدبية الأخرى، نظراً لأن التمييز بين الشكل
والمعنى في اللغة وبين الأثر أو الصورة والتأثير في الأسلوب ظاهرة طبيعية
لا شك فيها. فقد جرت العادة في وقت من الأوقات، في الدرس النقدي الأدبي
الأوروبي، إلى الاعتقاد بأن الأسلوب يقترن بالزخرفة أو الزينة، فهو "زينة
الأفكار" على حد تعبير الأديب الإنكليزي "اللورد جستر فيلد"، في حين عدّه
"فلوبير" مزاجاً فردياً عالياً وفريداً للرؤية.(20) فثمّة فرق بين العملية
الشعرية التي تعني كل الأنشطة والفعاليات التي من خلالها تولد القصيدة،
وتتكون بأسلوبها الشعري الخاص بها، في حين أن التحليل الأدبي محاولة تشريح
القصيدة. وإذا كان تشريح القصيدة ذا أبعاد لغوية وفنية برز أكثر من احتمال
في تفسير العلاقة القائمة بين الشعر واللغة وتعليلها، ومنها كون الشعر لغة
أي أن الشعر يكمن وراء ظاهرة نسميها ظاهرة اللغة وحينئذ يكون الشعر جزءاً
من هذه الظاهرة، وربما كان هذا المفهوم وراء مقولة "مالا رميه" الفرنسي"
الشعر لا يكتب بالأفكار، ولكن يكتب بالكلمات"(21) ويبدو أن هذه الثنائية
اللغوية ــ الفنية هي التي تبنّاها النقد الأدبي ولاسيما في نقد الشعر،
معياراً في التحليل النقدي. ففي الوقت الذي يهتم به علم اللغة في وصف النص،
فإن الأسلوبية، أو علم الأسلوب يهتم بالاختلافات والفروق التي تظهر في
النص أو الأصل وبعبارة أخرى فإن العلاقة بينهما: بين علم اللغة والأسلوبية
هي أن علم اللغة يتعامل مع الأنماط والأساليب في حين تتعامل الأسلوبية مع
النماذج والرموز ومن هنا صارت "الجملة" الوحدة العليا في علم النماذج
والرموز ومن هنا صار النص مجموع الجمل أي الوحدة الكبيرة في الأسلوبية
(22)، وهو أي النص الأساس الذي يقوم عليه التحليل الأسلوبي الذي مهّد إلى
التحليل النقدي الذي تحوّل إلى تحليل نقدي لغوي من خلال الجملة أو إلى
تحليل نقدي أسلوبي من خلال النص.
إن الجملة والنص هما عماد التحليل اللغوي الأدبي الذي وجد في الأسلوبية
التي تحلل الأشكال والأسلوبية الأدبية التي تحلل المضامين. (23).
9 ــ خاتمة:
من كل ذلك نخلص إلى أن التقدّم الذي حظي به الحقل اللساني أو اللسانيات في
العصر الحديث دراسة وتحليلاً وتعليلاً تقويماً ونقداً ذاتياً إيجابياً أو
سلبياً قد تسرّب إلى الحقل النقدي الأدبي الذي لم يكن بمعزل عن المناخ
العام الذي تمثله ثورة المعرفة الإنسانية بمصطلحاته الجديدة، ورؤاها
المتعددة في الربط بين الثقافة النقدية الأدبية والثقافة اللسانية تخصصاً
ومفهوماً ومنهجاً وإذا كان الأدب "أرضاً مالك لها" ــ على حد تعبير
الشكلانيين الروس ــ فإن التقدم الثقافي والحضاري الذي اتسمت به اللسانيات
في القرن العشرين ولاسيما بعد العقد الثاني منه، وتطور النقد الأدبي منهجاً
ودراسة وتحليلاً، قد هيأ المناخ لتحصين هذه الأرض وحمايتها وإعطائها شرعية
الامتلاك.
الهوامش:
1 ــ مجلة: كتاب الرياض العدد 60 ديسمبر 1998، مقال: الأسلوبية والتأويل
والتعلم، حسن غزالة، تصدر عن مؤسسة اليمامة الصحفية. السعودية. ص 38.
2 ــ مفهوم الأسلوب: حسن غزالة ص. 39.
3- Paisloy W. 1969 styding style as deviation from en coding norms. In
gerdner. G. et al (eds) the analysis of communication content. n k. p.
11
4- Wetherill. P m 1974 the literary text. An examination of critical methodology. Oxford. P. 133.
5- Mounin; stylistique encyclopedia univer. P 466.
6 ــ الأسلوب والأسلوبية أحمد درويش، مجلة النقد الأدبي مجلد 5 عدد 1
أكتوبر نوفمبر ديسمبر 1984 مطابع الهيئة المصرية العربية للكتاب ص 60 ــ
64.
7 ــ المرجع نفسه، ص: 65.
8 ــ المرجع نفسه، ص 66.
9 ــ المرجع نفسه، ص: 67.
10 ــ المرجع نفسه، ص: 51.
11- Enkvist. N 1973 linguistic stylistic. Paris p. 68.
12- Halliday. M. a. k and Mcintosh. A. 1966 patter ns of language London. P.67
13 ــ ترويض النص وسلطة اللغة، عناد غزوان، محاضرة ألقيت سنة 1998 اتحاد الكتاب والأدباء العراق بغداد.
14 ــ مداخل نقدية معاصرة إلى دراسة النص الأدبي، محمود الربيعي، عالم الفكر، مجلد 23 العددان 1 ــ 2، 1994 ص، 299.
15 ــ في العلاقة بين المبدع والنص والمتلقي، فؤاد المرعي، عالم الفكر، مجلد 23، العددان 1 و2 الكويت 1994 ص 336 ــ 337.
16 ــ علم اللغة والأسلوب الأدبي، دونالد سي، فريمار، الولايات المتحدة الأمريكية، 1970 ص 4. 3.
17 ــ النقد الجمالي، أندره ريشار، ترجمة هنري زغيب، منشورات عويدات، بيروت، لبنان ط 1974. ص 9.
18 ــ الخطيئة والتفكير من البنيوية إلى التشريحية قراءة نقدية لنموذج
إنساني معاصر، عبد الله الغذامي، النادي الثقافي، جدة 1405هـ ــ 1985. ص 20
ــ 22 ــ 49 ــ 50.
19 ــ اللغة والشاعر ماري بوروف شيكاغو، لندن 1979 ص 5.
إن اطراد الدراسات اللغوية والاهتمام بها في الوقت الحاضر ولا سيما المناهج
اللغوية في دراسة الأدب أو في الدراسات الأدبية، قد مهّد السبيل إلى ظهور
النظرية اللغوية الحديثة بوصفها نظاماً مساعداً في النقد الأدبي.
وثمة مناهج أو مداخل كثيرة، متباينة في نظرتها إلى النص الأدبي تحليلاً
وتقديراً وتقويماً، ومنها على سبيل المثال المدخل اللغوي أو المنهج اللساني
الذي لا يستغني عنه الناقد الأدبي. فعلم اللغة يمنح النقد الأدبي سنداً
نظرياً بوصفه ضرورة كضرورة الرياضيات للفيزياء، فالناقد الجيد بحكم
اهتماماته في تحليل النص وكشف جمالياته البلاغية والفنية هو لغوي جيد،
علماً أن لا وجود لأي نص أدبي خارج حدود لغته، الإثارية أو الانفعالية
شريطة أن يكون التعبير عن عناصر النص سليماً ومقبولاً عند المتلقي الذي لا
يقل شأناً عن مبدع النص، بمنظور النقد الفني التحليلي.
1 ــ علم الأسلوب:
إذا كان الأسلوب ظاهرة تتمثل في النصوص المنطوقة أو المكتوبة، أو هو الطبقة
العليا لهذه الظاهرة، فإنه يبرز خلال عملية التلقي بشكل لا تستطيع مناهج
علم اللغة التقليدية، من نحوية ودلالية، أن تلم به أو تحلل مقاصده
وتأثيراته. كما أن الوصول إلى تعريف دقيق لمقولة الأسلوب لا يتم إلا بتحديد
نظريته، ومعرفة طبيعة العلم الذي يكرس له بوصفه فرعاً لعلم آخر أو قائماً
بنفسه.
ففي نظرية الأسلوب يتحدد مجال الظاهرة المدروسة ومكانها العلمي الدقيق،
وعلى هذا فإنه إذا تصوّرنا علم الأسلوب جزءاً من علم اللغة، كان علينا أن
نحلل نظريته إلى عناصرها المختلفة، فنجعل أسلوب النصوص الأدبية تطبيقاً
جزئياً لمقولة أسلوبية عامة، وحينئذ تعتمد النظرية الأسلوبية على علاقة
النظام اللغوي العام بمفهوم "سوسير" بأسلوب نص معين كمظهر للكلام، ويتعين
عليها أن توضح بعض التصورات المهمة في الأدب، مثل أسلوب مؤلف معين، أو جنس
أدبي بأكمله، وما يعتريه من تطور أو تغير على مر العصور.
فالنظرية الأسلوبية تستمد معاييرها من النظرية العلمية، أو من العلم الذي
تنتمي إليه تفرع جزئي منه، وتخضع لشروطه العامة في التحقيق والتزييف، وهي
في معظم الدراسات العلمية المعاصرة للأسلوب تعد جزءاً من نظرية تقف إلى
جوار النظرية النحوية وتماثلها لهذا فإنه في مقابل "علم اللغة" تقوم عملية
"البحث الأسلوبي" التي تعتمد على أسس النظرية الأسلوبية، وتستمد منها منهج
دراسة وتنظيم المواد، بالتضافر مع العلوم الأخرى في مناطق تلاقيها. وفي
البحوث الأسلوبية للنصوص الأدبية وهي التي تعنينا هنا ــ ينبغي أن تستكمل
دراسة الأسلوب في مستوياته اللغوية باستخدام المقولات المتصلة بالأدب
والعلوم الفلسفية والاجتماعية والتاريخية.
2 ــ مفهوم الأسلوب:
لعل المعضلة الأكبر من تحديد معيار اللغة تعريف مفهوم الأسلوب، بل لعلها
المعضلة الأكثر إثارة للجدل في دراسة اللغة. يصف إنكفيست الأسلوب على "أنه
مألوف بقدر ما هو مخادع، فمعظمنا يتحدث عنه برقة وحنان مع أن لدى القليل
منا الاستعداد لتحديد معناه بدقة"(1).
وقد جرت محاولات عدة لتعريفه، فتدرّجت من رؤيته كوعاء للمعنى، مروراً
بمطابقته مع شخصية المؤلف، وإنكاره جملة وتفصيلاً، ووصولاً إلى اعتباره
خياراً لغوياً وظيفياً ومقرراً ومكوناً وجوهرياً للمعنى. وهذه أهم محاولات
تعريف مفهوم الأسلوب.
2 ــ 1 الأسلوب كوعاء للمعنى:
من أهم وجهات النظر القديمة الحديثة اعتبار الأسلوب وعاء لاحتواء المعنى
المراد بداخله، فاللغة ثوب المعنى، والأسلوب زي هذا الثوب. يعبر الشاعر
والناقد الإنجليزي الشهير دريدان" Dryden" عن هذه باعتبار الأسلوب..." فن
خطابة، أو فن إلباس الفكرة وتزيينها". كما يشير الشاعر المعروف كوليريدج
(Coleridge)
إن هذا المعنى بقوله "إن الأسلوب ما هو إلا فن نقل المعنى بشكل ملائم وواضح أياً ما كان هذا المعنى.."(2)
الأسلوب كانحراف:
ارتأى الشكلانيون ونقاد آخرون أن الأدب انحراف عن معيار اللغة، وقد نبذه
معظم الأسلوبيين المعاصرين نذكر على سبيل المثال، ساندل (Sandel) الذي
يوافق بيزلي (1969) (Paisely) في قوله إنه "من الصعب قبول أن يكون الأسلوب
هو الطريقة اللاتقليدية وغير المعتادة في الاستعمال"(3).
2 ــ 2 الأسلوب كلسان حال صاحبه:
قوام هذه الرؤية المعروفة للأسلوب أنها تطابق بين الأسلوب وصاحبه، من
أنصارها المتشددين (ميدلتون مري) الذي يعتبر الأسلوب لسان حال الكاتب
ومواقفه ومشاعره. إذ يقول (ويذيل): "الأسلوب خصيصة من خصائص اللغة تنقل
بدقة عواطف وأفكار خاصة بالمؤول"(4).
في الواقع لا يسعنا إلا أن نقول إن هذا المفهوم للأسلوب أخفق في إقناع
القراء لأنه مجحف. إذ كيف لنا أن نحكم على شخصية الكاتب بهذه الطريقة؟ فكم
من كاتب تعارضت شخصيته تماماً مع صورة في عمله. وكم من كاتب تناول أعمالاً
واتجاهات متناقضة أشد التناقض، ولكنهم لم يتهموا بانفصام الشخصية.
2 ــ 3 الأسلوب هو المعنى:
رفض أصحاب هذا الرأي عن مفهوم الأسلوب فكرة الثنائيين بالفصل بين الشكل
والمضمون، من قبل في عام (1857) قالها (فلوبيرت): "كالروح والجسد، الشكل
والمضمون بالنسبة إلى شيء واحد". كما أن النقاد الجدد قد تبنوا هذه الفكرة
برفضهم الفصل بين المعنى والمبنى وحسب أصحاب هذا الرأي، الأسلوب نتاج الدمج
بين الشكل والمضمون، وأي تغيير في الأول يستدعي تغييراً في الثاني.
2 ــ 4 الأسلوب كاختيار مفهوم وظيفي:
لم يستطع أي من المفاهيم السابقة عن الأسلوب إقناعنا، لذلك نحن بحاجة إلى
مفهوم أكثر فائدة وشمولية ودقة ينفعنا في وضعه موضع التطبيق في دراستنا
للنصوص الأدبية فيما بعد في هذا العمل. ولعل هذا متاح من خلال رؤية الأسلوب
كاختيار أساسه نحوي /قواعدي ودلالي/ معجمي بشكل رئيسي. هذا وإن كثيراً من
الأسلوبين المعاصرين يرونه هكذا بشكل أو بآخر. وحسب هذا المفهوم كل
الخيارات اللغوية أسلوبية من حيث المبدأ، فلكل منها وظيفة (أو أكثر) تختلف
من نص على آخر ومن سياق على آخر.
ويعرّف كارتر الأسلوب بقوله: "يتأتى الأسلوب من التداخل المتزامن للتأثيرات
(الأسلوبية) في عدد من مستويات اللغة". وهكذا يمكن إعطاء التعريف التالي
الشامل والمبسط للأسلوب: "الأسلوب مجموعة الوظائف الأسلوبية/ اللغوية
المنتقاة من المخزون القواعدي والمعجمي والصوتي والشكلي للغة العامة".
3 ــ ماهية الأسلوب والأسلوبية:
الأسلوب والأسلوبية مصطلحان يكثر ترددهما في الدراسات الأدبية واللغوية
الحديثة، وعلى نحو خالص في علوم النقد الأدبي والبلاغة وعلم اللغة.
ــ ودائرة المصطلح الأول أكثر سعة من دائرة المصطلح الثاني على المستويين
الأفقي والرأسي. ونعني بالمستوى الأفقي، الاستخدام المتزامن للمصطلح في
حقول متعددة متجاوزة أو متباعدة، وبالمستوى الرأسي، الاستخدام المتعاقب في
فترات زمنية متتابعة داخل حقل واحد. فكلمة الأسلوب من حيث المعنى اللغوي
العام يمكن أن تعني "النظام والقواعد العامة، حين نتحدث عن "أسلوب المعيشة"
ويمكن أن تعني كذلك "الخصائص الفردية" حين نتحدث عن "أسلوب كاتب معين".
وعن طريق هذين التصورين الكبيرين دخل استخدام مصطلح "الأسلوب" في الدراسات
الكلاسيكية المعيارية التي تسعى إلى إيجاد المبادئ العامة لطبقة من طبقات
الأسلوب، أو للتعبير في جنس أدبي معين.
هذا الاتساع الأفقي في دلالة معنى "الأسلوب" يقابله مجال أكثر تحديداً في
دلالة معنى "الأسلوبية"، حيث تكاد تقتصر في معناها على الدراسات الأدبية،
وإن كان بعض الدارسين، مثل جورج مونان، يحاول أن يمتد بها نظرياً لتشمل
مجالات مثل الفنون الجميلة والمعيار والموسيقى والرسم، مع أنه يعترف في
الوقت ذاته أن الحقل الذي أخصبت فيه علمياً حتى الآن هو حقل الدراسات
الأدبية.(5).
أما فيما يتصل بالمستوى الرأسي، الذي يقصد به التعاقب الزمني في حقل واحد
ــ وهو حقل دراسات اللغة والأدب في حالتنا ــ فإن مصطلح "الأسلوب" سبق
مصطلح "الأسلوبية" إلى الوجود والانتشار خلال فترة طويلة.
4 ــ تنوع المدارس الأسلوبية:
يمكن اللجوء إلى أشهر الخيوط العامة، وأشهر الاتجاهات التي يمكن أن يندرج
تحتها كثير من التفاصيل الدقيقة. ومن هذه الزاوية يمكن رصد اتجاهين كبيرين
في دراسة الأسلوب الحديث هما: الاتجاه الجماعي الوصفي، أو أسلوبية التعبير،
والاتجاه الفردي، أو الأسلوبية التأصيلية، وسوف نحاول إعطاء فكرة عن كل من
الاتجاهين.
أولاً: الأسلوبية التعبيرية:
يرتبط مصطلح الأسلوبية التعبيرية، وكذلك مصطلح الأسلوبية الوصفية، بعالم
اللغة السويسري شارل بالي (1865 ــ 1947). تلميذ اللغوي الشهير "فارديناند
دي سوسير" (1857 - 1913). وخليفته في كرسي الدراسات اللغوية بجامعة جنيف.
ويعد بالي مؤسس الأسلوبية التعبيرية، وقد كان سوسير يرى أن اللغة خلق
إنساني ونتاج للروح، وأنها اتصال ونظام رموز تحمل الأفكار، فجانب الفكر
الفردي فيها ليس أقل جوهرية من جانب الجذور الجماعية.
ومن ثم فإن الفرد والجماعة يسهمان في إعطاء قيمة تعبيرية متجددة للأسلوب،
ولا يكتفيان بتلقي القيم الجمالية عن السابقين، وهذه النقطة الأخيرة هي
التي حاول بالي التركيز عليها.
فقد كانت البلاغة القديمة في هذا الصدد تلجأ إلى فكرة "قوائم القيمة
الثابتة" التي تستند إلى كل شكل تعبيري "قيمة جمالية" محددة. ومن خلال هذا
التصور كان يتم تقسيم التصور إلى "صور زيادة"، مثل الإيجاز والحذف
والتلميح، والانطلاق من ذلك إلى تقسيم الأسلوب ذاته إلى طبقات: أسلوب سام،
وأسلوب متوسط، وأسلوب مبتذل.
لكن نظرية "القيمة الثابتة" تعرضت لألوان كثيرة من النقد، كان من أشهرها ما
أشار إليه "رينيه ويليك"(6) من أن "قيمة الأداة التعبيرية" تختلف من سياق
إلى سياق، ومن جنس أدبي إلى جنس أدبي آخر. فحرف العطف "الواو" عندما يتكرر
كثيراً في سياق قصة من قصص الكتاب المقدس، يعطي للتعبير معنى الاطراد،
والوقار. لكن هذه الواو لو تكررت في قصيدة رومانتيكية فإنها قد تعطي مشاعر
تعويق وإبطاء في وجه مشاعر ساخنة متدفقة.
الأسلوبية البنائية:
هي أكثر المذاهب الأسلوبية شيوعاً الآن، وعلى نحو خاص فيما يترجم إلى
العربية أو يكتب فيها عن الأسلوبية الحديثة، وهي تعد امتداد لآراء سوسير
الشهيرة، التي قامت على التفرقة بين ما يسمى اللغة وما يسمى الكلام. وقيمة
هذه التفرقة تكمن في التنبه إلى وجود فرق بين دراسة الأسلوب بوصفه طاقة
كامنة في اللغة بالقوة، يستطيع المؤلف استخراجها لتوجيهها إلى هدف معين،
ودراسة الأسلوب الفعلي في ذاته، أي أن هناك فرقاً بين مستوى اللغة ومستوى
النص، والبلاغة التقليدية لم تكن تعهد هذا التفريق وقد أخذ هذا التفريق
أسماء ومصطلحات مختلفة في فروع المدرسة البنائية، فجاكوبسون يدعو إلى
التفريق بين الثنائي (رمز ـ رسالة) وجيوم يطلق عليه (لغة ـ مقالة) أما
يمسليف فيجعل التقابل بين (نظام ـ نص)، ويتحول المصطلح عند تشومسكي إلى
ثنائية بين (قدرة بالقوة ـ ناتج بالفعل) وهذه المصطلحات على اختلافها تشف
عن مفهوم متقارب في دراسة اللغة والأسلوب، كان قد أطلق شرارته سوسير،
وطوّره بالي، وأكمله البنائيون المعاصرون.
ويركز جيوم على أثر هذه التفرقة في الأسلوب، حين يبين أن هناك فرقاً بين
المعنى وفاعلية المعنى في النص، وأن كل رمز يمر بمرحلة القيم الاحتمالية
على مستوى المعنى، ومرحلة القيمة المحددة المستحضرة على مستوى النص وقد
تقود هذه المبالغة في هذا التحليل إلى القول بأن الرمز اللغوي لا يوجد له
معنى قاموس، ولكن توجد له استعمالات سياقية(7).
أما رومان ياكبسون فقد ركز في تحليله للثنائي (رمز ــ رسالة) على الجزء
الثاني منهما ــ دون أن يهمل الأول ــ لأنه يعتقد أن الرسالة هي التجسيد
الفعلي للمزج بين أطراف هذا الثنائي، وهو مزج عبر عنه ياكبسون حين تسمى
إحدى دراساته حول هذه القضية: "قواعد الشعر وشعر القواعد" وهو يعني بقواعد
الشعر دراسته الوسائل التعبيرية الشعرية في اللغة، وبشعر القواعد دراسة
الفعالية الناتجة من وضع هذه الوسائل موضع التطبيق.
ثانياً: الأسلوبية التأصيلية:
إذا كانت السمة العامة للأسلوبية التعبيرية الوصفية هي طرح السؤال: "كيف"
حول النص المدروس، فإن الأسلوبية التأصيلية تهتم بأسئلة أخرى مثل "من أين"
و"لماذا" وهذا اللون من التساؤل يقود الباحث بحسب اتجاه المدرسة التي ينتمي
إليها، وبحسب لون اهتماماتنا التاريخية أو الاجتماعية أو النفسية أو
الأدبية..
ويمكن أن نقف سريعاً أمام اتجاهين من اتجاهات المدرسة التأصيلية:
الأسلوبية النفسية الاجتماعية:
في سنة 1959 كتب الباحث الفرنسي" هنري مورير "كتاباً عن سيكولوجية
الأسلوب"(. طرح فيه نظريته الخاصة التي حاول من خلالها استكشاف ما أسماه
"رؤية المؤلف الخاصة للعالم" من خلال أسلوبه. واكتشاف هذه الرؤية يقوم على
أن هناك خمسة تيارات كبرى تتحرك داخل "الأنا العميقة". وأن هذه التيارات
ذات أنماط مختلفة. والتيارات الخمسة الكبرى هي: القوة والإيقاع والرغبة
والحكم والتلاحم، وهي الأنماط التي تشكل نظام "الذات الداخلية".
وقد يظهر كل نمط منها في شكل إيجابي أو سلبي، فالقوة قد تكون قاعدتها
الشدّة أو الضعف، والإيقاع قد يكون متسقا أو ناشزاً، والرغبة قد تكون صريحة
أو مكبوتة، والالتحام قد يكون واثقاً أو متردداً، والحكم قد يكون متفائلاً
أو متشائماً.
5 ـ الأسلوبية الأدبية:
تعدّد الأسلوبية الأدبية أخصب ما تفرع عن فكرة "الأسلوبية التأصيلية"
أكثرها في تاريخ "التعبير" في القرن العشرين، ونبه كارل فسلر في أوائل
القرن إلى ضرورة بالغة بالاهتمام في التاريخ الأدبي: "لكي ندرس التاريخ
الأدبي لعصر ما، فإنه ينبغي على الأقل الاهتمام بالتحليل اللغوي بنفس القدر
الذي يهتم فيه بتحليل الاتجاهات السياسية والاجتماعية والدينية لبيئة
النص"(9). ولكن الذي طور هذا الاتجاه وحوله إلى نظرية متكاملة في النقد
اللغوي أو الأسلوبية الأدبية هو العالم النمساوي ليو سبيتزر وقد ألف كتاب
اللسانيات واللغة التاريخية قد عرض فيه للمنهج الذي اتبعه هو في دراسة
سرفانتس، وفيدر، وديدرو، وكلوديل. وتتلخص خطوات المنهج عند سبيتزر في
النقاط التالية:
1 ــ المنهج ينبع من الإنتاج وليس من مبادئ مسبقة. وكل عمل أدبي فهو مستقل بذاته كما قال برجسون.
2 ــ الإنتاج كل متكامل، وروح المؤلف هي المحور الشمسي الذي تدور حوله بقية كواكب العمل ونجومه، ولابد من البحث عن التلاحم الداخلي.
3 ــ ينبغي أن تقودنا التفاصيل إلى المحور "الأدبي"، ومن المحور نستطيع أن
نرى من جديد التفاصيل، ويمكن أن نجد مفتاح العمل، كله في واحدة من
التفاصيل.
4 ــ الدراسة الأسلوبية ينبغي أن تكون نقطة البدء فيها لغوية، ولكن يمكن
لجوانب أخرى من الدراسة أن تكون نقطة البدء فيها مختلفة: "إن دماء الخلق
الشعري واحدة، ولكننا يمكن أن نتناولها بدءاً من المنابع اللغوية، أو من
الأفكار، أو من العقدة، أو من التشكيل". ومن خلال هذه النقطة وضع سبيتزر
طريقاً بين اللغة وتاريخ الأدب.
5 ــ النقد الأسلوبي ينبغي أن يكون نقداً تعاطفياً بالمعنى العام للمصطلح،
لأن العمل كل متكامل وينبغي التقاطه في "كليته" وفي جزئياته الداخلية. لقد
كان هذا المنهج التفصيلي الذي أورده سبيتزر في كتابه ذا أثر كبير في إخصاب
النقد الأدبي وتخليصه من بعض الآثار السلبية للاتجاه الوضعي الذي كان
لانسون يمثل قمّته في بدايات هذا القرن، وارتكزت في النقد الأدبي مبادئ لم
تكن شائعة من قبل.
أ ــ النقد الأدبي ينبغي أن يكون داخلياً، وأن يأخذ نقطة ارتكازه في محور العمل الأدبي لا خارجه.
ب ــ أن جوهر النص يوجد في روح مؤلفه، وليس في الظروف المادية الخارجية.
ج ــ على العمل الأدبي أن يمدّنا بمعاييره الخاصة لتحليله، وأن المبادئ المسبقة عند النقاد الذهنيين ليست إلا تجريدات تعسفية.
د ــ أن اللغة تعكس شخصية المؤلف، وتظل غير منفصلة عن بقية الوسائل الفنية الأخرى التي يملكها.
هـ ــ أن العمل الأدبي بوصفه حالة ذهنية لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال الحدس والتعاطف.
6 ــ الأسلوبية اللغوية:
يهتم هذا المنهج بشكل رئيسي بالوصف اللغوي للسمات الأسلوبية إنها بهذا
المعنى الشكل الصرف للأسلوبية. يستهدف مؤيدوها الإفادة من بحث اللغة
والأسلوب الأدبيين في إصلاح طرائق تحليلهم للغة، وذلك لتحقيق تقدم في تطوير
نظرية اللسانية.
وعليه فقد كان الوصف اللغوي للسمات الأسلوبية هدفاً للتحليل الأسلوبي الذي
اعتمده من يسمون بالأسلوبيين التوليديين أمثال: أومان وثورن، كما ظهر في
الحقبة نفسها (أي بين الخمسينيات وأوائل السبعينيات) فئة أخرى من الأسلوبين
اللغويين المعروفين بالأسلوبيين الحسابيين، منهم ما يليك (1967) الذي قام
بدراسة حسابية بالكومبيوتر لأسلوب جاناثان سويفت، وجيبسون (1966) و(دراسته
الإحصائية لأساليب النثر الأمريكي)، وأومان أيضاً (1962) و(دراسته لأسلوب
جورج برنارد شو)(10).
7 ـ الأسلوبية اللغوية المعاصرة:
من بين الأشكال الحديثة الأسلوبية اللغوية دراستان قامت بهما بيرتون للحوار الدرامي (1980) وبانفيلد للخطاب الروائي
(1982). على الرغم من أن طريقة بانفيلد المعتمدة على القواعد التوليدية
للجمل الروائية أكثر تطوّراً ودقّة من سابقاتها، فهي في حقيقة الأمر عودة
إلى طريقة الأسلوبية التوليدية، لأنها تركز بشكل صرف على الصيغ اللغوية
للجمل الروائية لا أكثر ولا أقل.
8 ــ المحاسن والمساوئ:
لا عجب في أن يتعرض هذا المنهج إلى هجوم شديد وانتقادات حادة من داخل معسكر
الأسلوبية وخارجه. ولعله المنهج الذي أساء إلى سمعة الأسلوبية في أروقة
الدراسات الأكاديمية.
لكن هذا لا يمنع من أن له بضع محاسن نذكرها أولا قبل التعريج على المساوئ.
ــ تقدم الأسلوبية اللغوية طرائق علمية ومنظمة في تحليل اللغة ووصفها.
ويعدّ هذا إسهاماً جيّداً في تطوير مداركنا ومعرفتنا للغة، خاصة بالنسبة
للقراء والطلبة الأجانب.
ــ الميزة الأخرى لهذا المنهج كامنة في تزويدنا في أكثر من مناسبة بمعايير
يعول عليها في وضع أيدينا على السمات الأسلوبية الهامة في النصوص (كما فعلت
طريقتا بيرتون وبانفيلد).
ــ الحسنة الثالثة تقديم هذا المنهج فرصة للسانيين والقراء والطلبة
للاضطلاع باكتشافات جديدة في التحليلات اللغوية التي تسهم بدورها في تطوير
نظرية اللسانية، وقد يمكن اعتبار الأسلوبية اللغوية خطوة أولية في "دراسة
بنيوية وأدبية وتاريخية أوسع لنص لغوي ما"، كما يشير إينكيفست.(11).
أما عن عيوب هذا المنهج فتتمثل:
* أولاً: بشحه في الإسهام في التحليل الأدبي إسهاماً كبيراً. إذ يقوم
بأعباء قدر من التحليل، لكنه قدر غير كاف، بل أقل أهمية من القدر الأكبر
الأساسي منه، وهو الوظائف الأسلوبية وعلاقتها بالمعنى وتأثيرها عليه.
* في واقع الأمر هذا الجانب الأدبي من النصوص واقع خارج نطاق هذا المنهج.
يحمل هاليداي ذات الرأي بقوله: "اللسانية غير كافية وحدها في التحليل
الأدبي، والمحلل الأدبي ــ لا اللساني ــ هو وحده الذي يحدد مكان اللسانية
في الدراسة الأدبية"(12).
من جهة أخرى، لا تهتم الأسلوبية اللغوية بالتأويل، ولا تتخذه كغاية من
غاياتها. بل غايتها القصوى تقديم وصف لغوي دقيق لنص ما. على الرغم من أن
الوصف وجه من وجوه التأويل فإنه ليس تأويلاً. بل هو تمهيد وأرضية أساسية
ينطلق منها التأويل.
وهذا سر وجود علاقة غير رسمية بين اللسانية والنقد الأدبي يبرزها هذا
المنهج الأسلوبي. وهكذا يتضح لنا مما سبق أن الأسلوبية اللغوية نافعة جداً
على صعيد الوصف اللغوي وتوسيع مداركنا اللغوية وحسب، لكنها لا تجدي نفعاً
في تغطية الجوانب الهامة الحساسة للنصوص الأدبية. بعبارة أخرى، تجيب على
مادة "لماذا" فقط.
إننا في حاجة إلى منهج بديل يستطيع الإجابة على "كيف" و"لماذا"، منهج قادر
على إبلاغنا ما الذي يجعل النص الأدبي أدبياً، إذ حسب منهج الأسلوبية
اللغوية "من السهل جداً إزاغة البصر عما يجعل الأدب أدباً" كما عبر عن ذلك
كارتر (1979).
ولما كان النقد في بعض معانيه، فن التمييز بين الأساليب الأدبية صارت
العلاقة بينه وبين الأسلوب والأسلوبية وعلم الدلالة وكلها تنضوي تحت مصطلح
واحد هو علم اللغة، أو الألسنية أو اللسانيات.
إن اطّراد الدراسات اللغوية والاهتمام بها في الوقت الحاضر ولاسيما المناهج
اللغوية في دراسة الأدب أو في الدراسات الأدبية، قد مهد السبيل إلى ظهور
النظرية اللغوية الحديثة بوصفها نظاماً مساعداً في النقد الأدبي.
وثمة مناهج أو مداخل كثيرة، متباينة في نظرتها إلى النص الأدبي تحليلاً
وتقديراً وتقويماً، ومنها على سبيل المثال المدخل اللغوي أو المنهج اللساني
الذي لا يستغني عنه الناقد الأدبي، فالناقد الجيد بحكم اهتماماته في تحليل
النص وكشف جمالياته البلاغية والفنية هو لغوي جيد، علماً أن لا وجود لأي
نص أدبي خارج حدود لغته الإشارية أو الانفعالية شريطة أن يكون التعبير عن
عناصر النص سليماً ومقبولاً عند المتلقي الذي لا يقل شأناً عن مبدع النص.
وإذا كانت المناهج اللغوية مختلفة ومتباينة في مدى علاقتها بدراسة "النص
الشعري"، على سبيل المثال فإن المناهج النقدية مختلفة ومتباينة أيضاً، فقد
تتوازى وتتقاطع وتتعاون وتتصارع وهي دائماً تدّعي لنفسها أنها تهدف إلى
تنوير النص وتعلن اهتداءها إلى فهم أفضل بطبيعة هذا النص.(13).
وقد أدى التركيز على تحليل النص وتروضه بوصفه لغة لا يقوى على شرعيتها
ومرجعيتها الأدائية والتعبيرية إلى بروز اتجاهات مرتبطة بالتحليل الأسلوبي
ــ البلاغي مهّدت السبيل إلى استحداث مهم. سمّي فيما بعد "بفلسفة الأسلوب"
و"فلسفة البلاغة" في النقد الأدبي الحديث. وتُعنى هذه المداخل النقدية بصلب
"البنية الأدبية" و"المجاز" و"مماثلة الواقع" والمعجم "والسياق"
و"السخرية" و"بناء الجملة" و"موسيقى اللغة" و"التوازن"(14). وكلها سمات
لغوية تسعى إلى تحليل النص الأدبي وتقديمه كلاّفنيا جديراً بتحقيق
الاستجابة العفوية عند متلقيه.
ــ تحاول اللغة الأدبية في تعاملها مع النص الأدبي من خلال مناهجها
المختلفة، استيعاب التوازن الحاصل بين "المبدع ــ النص" و"النص ــ
المتلقي"(15) وهي سلطة فنية تبتعد فيها اللغة عن مرجعياتها القواعدية
والإعرابية والنحوية لتزويد آفاق الدلالة حيث يصير "النص" يتمتع بحركته
الفنية ــ الإبداعية وحركته التوصيلية عند المتلقي.
فالعلاقة بين النص والمتلقي هي جوهر العملية النقدية الحديثة والمعاصرة،
تلك العملية التي ترى في النص الأدبي ــ الشعري بفنونه وأنواعه
إن مهمة علم اللغة هي الاستفسار واستقراء ما سمّاه "تشومسكي" بالعلاقة
الحميمية بين الخصائص الداخلية للعقل وبين سمات البناء اللغوي(16). في حين
تكون مهمة النقد الأدبي واحدة من رؤاه العصرية، هي البحث في العلاقة بين
تنظيم الحس الجمالي الإنساني وبين خصائص البناء الأدبي واللغة.
وعليه فالنقد الأدبي هو فن الحكم على التجارب الأدبية الحديثة والتراث
الأدبي والآثار الفنية(17). فبرزت على الساحة النقدية العالمية والعربية
ضروب من النقد كالنقد القياسي والنقد الأكاديمي والنقد الإيديولوجي
العقائدي، والنقد التاريخي والنقد الشخصي والنقد الفلسفي والنقد اللغوي
وغيرها، وكلّها ضروب نقدية تنطلق من النص الأدبي في علاقته بمبدعه من جهة
أو علاقته بمتلقيه من جهة أخرى أو علاقته ببيئته من جهة ثالثة، ومن هنا قيل
إن الإنتاج الأدبي يحكمه محوران، محور اللغة التي هي ملك للبيئة
الاجتماعية التي تنشأ عنها، ومحور الأسلوب الذي هو ملك الأديب أو الشاعر.
وما بين هذين المحورين، اللغة والأسلوب، يولد فن الإبداع في الكتابة
الأدبية أو في التجربة الشعرية، وقد أدى الاهتمام بهذا الجانب إلى ظهور ما
يسمى بـ: الأسلوبية ــ اللغوية التي ترى أن الأسلوب قد يكون انزياحاً أو
انحرافاً أو عدولاً عن السياق اللغوي المألوف في هذه اللغة أو تلك.
ــ والمنهج التفكيكي/ والنقد التفكيكي أو التشريحي الذي دعا إليه ديريدا
منذ سنة 1967. تستند مرجعياته إلى فكرة الأثر، أي أن الأثر هو محور تفكيك
النص أي أن الاهتمام بالنتيجة قبل التفكير بالسبب. فلولا وجود قرّاء لم
يكتب الكاتب نصه ولا ينظم الشاعر قصيدته، أي أن المتلقي هو سبب في الإبداع
وسبيل إلى دفع المبدع إلى الإبداع والخلق الفنيين، فضلاً عن أن هذا المنهج
النقدي التفكيكي أو التشريحي يلغي وجود حدود بين نص وآخر وتقوم هذه النظرية
على مبدأ الاقتباس ومن ثم تداخل النصوص أو التناص.
ــ فالقراءة التفكيكية أو التشريحية قراءة حرّة ولكنها نظامية وجادة وفيها
يتوحدّ القديم الموروث وكل معطياته مع الجديد المبتكر وكل موحياته من مفهوم
السياق حيث يكون التحول.
والتحول هو إماء بموت وفي اللحظة نفسها تبشير بحياة جديدة(18). والناقد
الأسلوبي ــ اللغوي يبدأ تحليلها للإصغاء إلى صوت الشاعر، وهذا يعني أنه
يبدأ قارئاً وحين يصير هذا القارئ ناقداً أسلوبياً، فإنه يهتم بما يحدث
للغة على يدي الشاعر مبدع النص الشعري. (19) من محاكاة وأصالة أو تسطح أو
عمق أو وضوح وغموض.
وعلى هذا الأساس فثورة علم اللغة الحديث والمعاصر اليوم هو ثورة في التحليل
والتعليل. كما هي ثورة المنهج أداة ومصطلحاً. وانعكاساتها في مناهج النقد
الأدبي المعاصر التي اهتمت بالأسلوب بوصفه سطح التعبير اللغوي ومنه إلى
أعماق التجربة الأدبية، تحليلاً وتعليلاً، إذ يفترض بالناقد التطبيقي أو
العملي الجيد أن يكون لغوياً جيداً، فالأدب أعلى تعبير لغوي وما يبتكره على
اللغة من سباقات جديدة تظهر إثارة في النقد الأدبي قبل أي فن من الفنون
الأدبية أو أي جنس من الأجناس الأدبية الأخرى، نظراً لأن التمييز بين الشكل
والمعنى في اللغة وبين الأثر أو الصورة والتأثير في الأسلوب ظاهرة طبيعية
لا شك فيها. فقد جرت العادة في وقت من الأوقات، في الدرس النقدي الأدبي
الأوروبي، إلى الاعتقاد بأن الأسلوب يقترن بالزخرفة أو الزينة، فهو "زينة
الأفكار" على حد تعبير الأديب الإنكليزي "اللورد جستر فيلد"، في حين عدّه
"فلوبير" مزاجاً فردياً عالياً وفريداً للرؤية.(20) فثمّة فرق بين العملية
الشعرية التي تعني كل الأنشطة والفعاليات التي من خلالها تولد القصيدة،
وتتكون بأسلوبها الشعري الخاص بها، في حين أن التحليل الأدبي محاولة تشريح
القصيدة. وإذا كان تشريح القصيدة ذا أبعاد لغوية وفنية برز أكثر من احتمال
في تفسير العلاقة القائمة بين الشعر واللغة وتعليلها، ومنها كون الشعر لغة
أي أن الشعر يكمن وراء ظاهرة نسميها ظاهرة اللغة وحينئذ يكون الشعر جزءاً
من هذه الظاهرة، وربما كان هذا المفهوم وراء مقولة "مالا رميه" الفرنسي"
الشعر لا يكتب بالأفكار، ولكن يكتب بالكلمات"(21) ويبدو أن هذه الثنائية
اللغوية ــ الفنية هي التي تبنّاها النقد الأدبي ولاسيما في نقد الشعر،
معياراً في التحليل النقدي. ففي الوقت الذي يهتم به علم اللغة في وصف النص،
فإن الأسلوبية، أو علم الأسلوب يهتم بالاختلافات والفروق التي تظهر في
النص أو الأصل وبعبارة أخرى فإن العلاقة بينهما: بين علم اللغة والأسلوبية
هي أن علم اللغة يتعامل مع الأنماط والأساليب في حين تتعامل الأسلوبية مع
النماذج والرموز ومن هنا صارت "الجملة" الوحدة العليا في علم النماذج
والرموز ومن هنا صار النص مجموع الجمل أي الوحدة الكبيرة في الأسلوبية
(22)، وهو أي النص الأساس الذي يقوم عليه التحليل الأسلوبي الذي مهّد إلى
التحليل النقدي الذي تحوّل إلى تحليل نقدي لغوي من خلال الجملة أو إلى
تحليل نقدي أسلوبي من خلال النص.
إن الجملة والنص هما عماد التحليل اللغوي الأدبي الذي وجد في الأسلوبية
التي تحلل الأشكال والأسلوبية الأدبية التي تحلل المضامين. (23).
9 ــ خاتمة:
من كل ذلك نخلص إلى أن التقدّم الذي حظي به الحقل اللساني أو اللسانيات في
العصر الحديث دراسة وتحليلاً وتعليلاً تقويماً ونقداً ذاتياً إيجابياً أو
سلبياً قد تسرّب إلى الحقل النقدي الأدبي الذي لم يكن بمعزل عن المناخ
العام الذي تمثله ثورة المعرفة الإنسانية بمصطلحاته الجديدة، ورؤاها
المتعددة في الربط بين الثقافة النقدية الأدبية والثقافة اللسانية تخصصاً
ومفهوماً ومنهجاً وإذا كان الأدب "أرضاً مالك لها" ــ على حد تعبير
الشكلانيين الروس ــ فإن التقدم الثقافي والحضاري الذي اتسمت به اللسانيات
في القرن العشرين ولاسيما بعد العقد الثاني منه، وتطور النقد الأدبي منهجاً
ودراسة وتحليلاً، قد هيأ المناخ لتحصين هذه الأرض وحمايتها وإعطائها شرعية
الامتلاك.
الهوامش:
1 ــ مجلة: كتاب الرياض العدد 60 ديسمبر 1998، مقال: الأسلوبية والتأويل
والتعلم، حسن غزالة، تصدر عن مؤسسة اليمامة الصحفية. السعودية. ص 38.
2 ــ مفهوم الأسلوب: حسن غزالة ص. 39.
3- Paisloy W. 1969 styding style as deviation from en coding norms. In
gerdner. G. et al (eds) the analysis of communication content. n k. p.
11
4- Wetherill. P m 1974 the literary text. An examination of critical methodology. Oxford. P. 133.
5- Mounin; stylistique encyclopedia univer. P 466.
6 ــ الأسلوب والأسلوبية أحمد درويش، مجلة النقد الأدبي مجلد 5 عدد 1
أكتوبر نوفمبر ديسمبر 1984 مطابع الهيئة المصرية العربية للكتاب ص 60 ــ
64.
7 ــ المرجع نفسه، ص: 65.
8 ــ المرجع نفسه، ص 66.
9 ــ المرجع نفسه، ص: 67.
10 ــ المرجع نفسه، ص: 51.
11- Enkvist. N 1973 linguistic stylistic. Paris p. 68.
12- Halliday. M. a. k and Mcintosh. A. 1966 patter ns of language London. P.67
13 ــ ترويض النص وسلطة اللغة، عناد غزوان، محاضرة ألقيت سنة 1998 اتحاد الكتاب والأدباء العراق بغداد.
14 ــ مداخل نقدية معاصرة إلى دراسة النص الأدبي، محمود الربيعي، عالم الفكر، مجلد 23 العددان 1 ــ 2، 1994 ص، 299.
15 ــ في العلاقة بين المبدع والنص والمتلقي، فؤاد المرعي، عالم الفكر، مجلد 23، العددان 1 و2 الكويت 1994 ص 336 ــ 337.
16 ــ علم اللغة والأسلوب الأدبي، دونالد سي، فريمار، الولايات المتحدة الأمريكية، 1970 ص 4. 3.
17 ــ النقد الجمالي، أندره ريشار، ترجمة هنري زغيب، منشورات عويدات، بيروت، لبنان ط 1974. ص 9.
18 ــ الخطيئة والتفكير من البنيوية إلى التشريحية قراءة نقدية لنموذج
إنساني معاصر، عبد الله الغذامي، النادي الثقافي، جدة 1405هـ ــ 1985. ص 20
ــ 22 ــ 49 ــ 50.
19 ــ اللغة والشاعر ماري بوروف شيكاغو، لندن 1979 ص 5.
20 ــ أنماط الأسلوب الأدبي، جوزيف سترياكا، لندن 1971 ص 233.
21 ــ منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق ــ 2000 مقال: اللسانيات والنقد الأدبي، أد، عنان غزوان.
22 ــ الأسلوب في اللغة، توماس، أي، سبيك، نيويورك ولندن ــ ص 9. 82. 87. 88.
23 ــ الأسلوب الأدبي، سيمور جاغان، مطبعة جامعة أوكسفورد 1971 ص 24. 43.
__________________