[center]مستويات السرد عند.. جيرار جينيت ـــ د.عمر عيلان
ـ جيرار جينيت Gèrard Genette (1930)
I . 1 ـ مستويات السرد: الحكاية والقصة والسرد
تشكل كتابات جيرار جينيت ثالث المرتكزات التي تمحور حولها النقد الجديد في فرنسا، في مقاربة النصوص السردية، ولعل هذا الحكم الجازم يملك مشروعيته اعتباراً لما تميزت به هذه الكتابات من عمق وتنوع في محاور النصوص السردية، بهدف البحث عن قواعد ثابتة لبنية مجردة تتحكم في تشكيلها. وإذا كان رولان بارت قد فتح المجال للتأسيس لشعرية جديدة، سالكاً دروب التنوع التنظيري من مكونات النص إلى تفاعل القارئ، وساير تودوروف نفس الخطوات،
فإن جيرار جينيت ـ بما يملكه من خصوصية أكاديمية وتنوع في المدارك الثقافية والنقدية ـ أسس للنظرية البنائية كأطروحة نظرية، وكمنهج يركز على الخصوصيات الجمالية والبلاغية لمكونات شعرية النص، من خلال سعيه "لإقامة نظرية عامة في الأشكال الأدبية تستكشف إمكانات الخطاب... وبهذه الصفة يمثل التيار النقدي الطامح إلى توضيح فعل الكتابة ذاته"(1).
ويؤكد جيرار جينيت نزعته "الشعرية" (poètique)، الهادفة إلى البحث في مقومات النص الداخلية، بعيداً عن الإكراهات الخارجية مهما كانت اجتماعية أو تاريخية، حين يقول: "إن اللوم الموجه للنقد الجديد (الموضوعاتي والشكلاني) بأنه يهمل ولا يبالي بالتاريخ مردود، لأننا نضع التاريخ بين قوسين ونؤجله لأسباب منهجية. والنقد الشكلاني غايته البحث في نظرية الأشكال الأدبية، أو بشكل مختصر يبحث في الشعرية"(2).
فالمصطلحات الجديدة لا تعني أن النقد الجديد يرسي قطيعة مع ما سبقه من قراءات، ومحاولات تقييم جمالية، وجيرار جينيت يراهن على مثولية النص، أ ي ذلك الذي يتلاقى مع نصوص أخرى من النوع ذاته، ويتغاير في أنساقه الأسلوبية والدرامية معها. والناقد يشدد على تواصلية الكتابة منذ الإلياذة والأوديسة إلى اليوم(3).
وتعد كتب جينيت من الانجازات المركزية للاتجاه البنيوي والنقد الجديد، في البحث عن سياقات تكشف بناء النص الأدبي، وطرائقه الإبلاغية ومكوناته وأنساقه التكوينية، وخاصة سلسلة كتبه "أشكال" (Figures) التي توحي باهتمامه الخاص بالبلاغة الأدبية. لأن الأشكال (Figures) لفظة مأخوذة من التسمية التقليدية للبلاغة، التي كانت تسمى "نظام الأشكال"(4) وتتضمن الاستعارة والكناية والمجاز.
ولعل مترجمي كتاب "خطاب الحكاية" قد استلهموا ذلك في ترجمة عناوين الكتب (Figures) باستعمال لفظة "محسنات"، وهو مصطلح بلاغي أساساً(5). وتتضمن سلسلة كتب "أشكال" مرحلة أساسية في محاورة الكتابة الأدبية ومناقشتها، بهدف وضع ضوابط منهجية لاستكشافها، وهكذا كانت أول كتاب صدر لـ جينت عام 1996، بعنوان (Figures) ضمنه دراسات أدبية، تسعى لتحديد الم فاهيم وتوضيح الأبعاد الجمالية في المقاربة النقدية للنص الأدبي. ثم تتالت السلسلة بصدور "أشكال 1" عام 1966، و"أشكال II" عام 1969، و"أشكال III" عام 1972، ومؤخراً صدر كتاب "أشكال IV" عام 1999.
ففي الكتاب الأول قام بمسح شامل لما يقدر بخمسة قرون من الكتابة الأدبية، لأدباء مختلفين منهم سانت أمون (saint Amand)، بروست (Proust)، آلان روب غربية (Robbe-Grillet)، مالارميه (Mallarmè)، فلوبير (Flaubert)، رولان بارت (R.Barthes)، والكتاب جمع لمقالات نشرت بين عامي 1959 و 1965. أما في الكتاب الثاني فقد وجه بحثه نحو الإشكاليات النقدية الكبرى؛ كمفهوم البلاغة، القضاء في النص، حدود السرد، وما إلى ذلك.
وخصص الكتاب الثالث لدراسة الأشكال الأدبية السردية، باحثاً في حدودها وممكناتها ومغامرتها، وقواعدها، وبهذا يكون جنيت قد بحث في حدود النص الأدبي وصيغ تنظيمه، وأشكاله، وشبكة دلالته، وأنظمته العلامية. أما الكتاب الأخير فهو عبارة عن حوصلة لأكثر من ثلاثين سنة من الجهد النظري في م يدان الأدب والفن، تعكس انسجاماً في المسار المنهجي من خلال الخلاصات العامة المقدمة.
وينتقل جينيت في آخر كتبه الصادرة عام 2004 بعنوان (Mètalepse) "من الشكل إلى التخيل" (de la Figure a la fiction) ، ويركز فيه على وظيفة السرد في تفعيل متخيل القارئ. و"الميتاليبس" يهتم بالجانب والعنصر العجائبي للمتخيل. وبين كتب "الأشكال" و"المتخيل" أصدر جينيت مجموعة هامة من الدراسات التي تبحث دائماً في سر الكينونة الأدبية وأبعادها ومقوماتها،ومن بين هذه الكتب:
ـ إيمائيات (Mimologies 1976) ويطرح من خلاله أسئلة الماهية التي انطلق فيها أفلاطون حول النظام الأنظولوجي المعرفي للغة، مركزاً الاهتمام لعلاقة الكلمات بالأشياء.
ـ مدخل لجامع النص (النص الجامع) (1979 ـ Introduction a l architexte)، يناقش جينيت في هذه الدراسة المبدأ الأفلاطوني في مقاربة الشعر، ومفهوم المحاكاة التي ثم بموجبها تقسيم الشعر إ لى غنائي وملحمي. ويعيد تشكيل قراءة أفلاطون للشعر، ليحدد في النهاية أن موضوع اهتمام الشعرية ليس النص، وإنما محددات النص (I architexte) أي مجموع القواعد والمقولات العامة التي تتأسس منها ووفقها خصوصية كل نص.
ـ الرق الممسوح (Palimpsestes): يتعرض جنيت في هذه الدراسة لما كان قد أشار إليه بارت حول مفهوم تاريخ النص والذاكرة الثقافية للغة. ويسعى من خلال ذلك، لإقامة نظرية توضح مختلف الأشكال التي يمكن للعمل الأدبي أن ينبني وفقها، من خلال استناده لأعمال أخرى عبر مجاورتها أو مماثلتها أو محاورتها ساخرة، أو ما يسميه الأدب من الدرجة الثانية أو النصية المفرطة. وتناول فيها كتابات: أسترى، يورخيص، فلوبير، بروست، روب غربية.
ـ خطاب الحكاية الجديد (Nouveau discours du roman-1983): يعد الكتاب إعادة قراءة ومراجعة للمفاهيم العامة التي قدمها في كتب الأشكال، خاصة ما تعلق بالمسارات الإجرائية لمقاربة النص السردي، حيث ضمنه الملاحظات التي وجهت للكتاب من طرف النقاد، وسعى على مراج عتها.
ـ عتبات (Seuils-1987): تشكل هذه الدراسة مرحلة أخرى في النقد البنيوي، لأن جنيت انتقل لدراسة ما يسميه "عتبات النص"، وهي عناصر لا تدخل مباشرة في النص، ولكنها تؤطره من الخارج، وتؤثر في الملتقى بصورة أساسية، مما يسهم في توجيه منظوره وفقاً للتقاليد الممارسة في تلقي الكتاب الأدبي. ومن بين العتبات المدروسة العرض التقديمي أو المقدمة، الإهداء، اسم المؤلف، كلمة الناشر، العنوان، الملاحظات المثبتة، الحوارات، اللقاءات، وهذه المعطيات تمثل بدورها مثيلاً و/أو شبيهاً، له أثره في تلقي النص الأصلي (para texte).
نتبين من خلال العرض المختصر السابق لأهم كتب جيرار جينيت، مدى الاهتمام والحرص على المناقشة الدائمة للمفاهيم والإجراءات المنهجية، قصد تحسين مفعولها على مستوى الاشتغال النصي، ولعل مراجعته لكتاب خطاب الحكاية لدليل واضح على ذلك.
كما تركيز جينيت على كتابات مارسيل بروست في كتبه "أ شكال"، يعكس عدم البحث عن التنوع بقدر ما يهدف إلى الارتكاز على مدونه ذات بعد شعري (Poètique) متميز، يمكن أن تستجيب لسؤال الـ "كيف" الذي يقدم الإجابة عن البعد المعرفي والإبستمولوجي، لتكون البنيات النصية وتطورها واشتغالها.
وكما يعتقد جينيت "فإنه من غير المعقول معالجة نص فردي من دون نظرية أدبية، تماماً كما أن من المستحيل امتلاك نظرية دون تأسيسها على نصوص نوعية"(6). ولعل النتائج المحققة في مجال الدراسات السردية تؤكد هذا الموقف، حيث إنه لا يمكن أن تخلو دراسة سردية من الاستناد إلى مقترحات جينيت المختلفة. وفي مجال بحثنا فإن التركيز على القضايا المتعلقة بمفاهيم السرد عند جينيت، تتخذ بعداً مميزاً في مجال التحديد المنهجي للمقاربة السردية للغة والخطاب على حد سواء. ونبين فيما يلي أهم هذه المفاهيم.
يحدد جيرار جينيت في مقالة "حدود القصة/ الحكي". (Fronteères du Rècit-1966) الذي أعاد نشره في كتابة "أشكال II" سنة 1969ن ثلاثة محاور للبحث في مكونات النص السردي، هي:
ـ المحاكاة والحكي التام.
ـ السرد والوصف.
ـ القصة والخطاب.
ففي المحور الأول يعرض لأراء أفلاطون وأرسطو حول المحاكاة، حيث يشير إلى أن أرسطو حين تحدث في كتابه "الشعرية" (Poètique) عن القصة (Diègèsis) صنفها إلى مظهرين: هما: المحاكاة الشعرية (mimesis)، والعرض المباشر للأحداث من طرف الممثلين، أي أنه من بين الشعر السردي القصصي (الملحمي) (Poèsie narrative)، والشعر التمثيلي (Dramatique) وهذه التصورات كانت موجودة عند أفلاطون الذي يميز في القسم الثالث من كتاب "الجمهورية" بين طريقتين للقراءة (Lexies) هما: المحاكاة التامة (mimesis)، والحكي البسيط (Diègèsis)، وهو في نظر أفلاطون كل ما يرويه الشاعر بنفسه. وهناك شكل مزدوج يتجاور فيه السرد مع التمثيل هو الشكل الملمحي، لم يصنفه أي منهما (أفلاطون وأرسطو). وه ذا يعني أن الخلاف بينهما هو إخلاف لأنهما يتفقان في تصنيفهما بين تشكيلين هما السرد والتمثيل(7). وإن كان أرسطو يقلل من أهمية شعر المحاكاة لأنه منقول، وهذا الحساب شكل أكثر تمثيلية هو المأساة، التي صنفها في أعلى مراتب الشعر، ويأتي بعدها الشعر الملحمي.
وحين يناقش جينيت هذه الأطروحات، يخلص إلى نتيجة أن الشكل الأمثل لتقديم الأحداث هو القصة، سواء اشتملت على مقاطع أدائية أم لا، لأن العنصر الأساسي هو السرد(. ومن هنا فإن أحكام القيمة حول المحاكاة الأفلاطونية تتماهى مع الحكي التام، لأن عنصر المفاضلة لا يمكن إقامته في هذا المجال.
I . 2 ـ السرد والوصف:
يقدم نقد المنظور الأفلاطوني والأرسطي للمحاكاة حدوداً جديدة للقصة، تتعلق بالكون الحكائي (Diegese)، الذي تتعاصر فيه مستويات لعرض وسرد الأحداث والأفعال، وهي ما يكون السرد (Narration)، وصيغ لتقديم الشخصيات والأشياء، وهو ما نسميه اليوم "الوصف". ومن هنا فإن السرد والوصف يقدمان صورة للتكامل الذي يمكن أن يكون عليه النص السردي عموماً، إذا لا يمكن أن نقيم بينها حواجز للتقييم الجمالي، كما ذهبت إلى ذلك البلاغة القديمة.
فالنصوص السردية للقرن التاسع عشر كانت تستهل بمقاطع وصفية طويلة، دون أن يختل النظام العام للنص، لأنه من غير الممكن العثور على نص سردي دون وصف، مهما كان طابعه الإخباري انتقائياً؛ لأن الوصف قيمة ثابتة مع أشكال الحضور القائمة والمكنة لكل فعل أو حدث أو شيء، بل قد نقول إن الوصف أكثر أهمية حتى عندما يتعلق الأمر بالتقييم العام، حيث إنه بإمكاننا أن نصف دون أن نسرد، غير أنه من غير الممكن القيام بالسرد دون أن نصف(9). وبالتالي فإن الوصف يملك وظيفتين أساسيتين في السرد هما:
أ ـ الوظيفة التزيينية: هذه الوظيفة تتطلبها البلاغة القديمة، التي ترتب الوصف ضمن أهم العناصر الأسلوبية. فالوظيفة التزينية (Dècoratif) في حقيقتها ذات بعد جمالي زخرفي، وهو ما يمكن تسميته "الوصف الخالص".
ب ـ الوظيفة التفسيرية الرمزية Explicatif et symbolique
يضطلع الوصف بهذه الوظيفة، في الحالات التي يكون التعبير الوصفي يهدف إلى تقديم ملامح الشخصيات ونفسياتها أو تعيين اللباس، والمنازل والقصور، أو الأماكن المختلفة بهدف الإسهام في تشكيل انطباع محدد لدى المتلقي؛ وبالتالي يؤدي الوصف دور العرض الذي تكون غايته تشخيصية(10)، وقد أسهم الوصف الرمزي والتفسيري في تقوية الأشكال السردية، مما يتيح إمكانات تشغيل الديناميكية الحكائية، مما يزيد من بلاغة التعبير عن الموقف السردي.
والاختلاف الذي يمكن تحديده بين السرد والوصف، يكمن فقط في محتوى كل منهما وعلاقته بالزمن؛ فاتصال السرد بالأفعال والأحداث يجعله أكثر ارتباطاً بالمقولة الزمنية، في حين أن الوصف نظراً لخصوصيته اللازمنية ـ في القصة ـ يمكنه أن يتغلب على العنصر الزمني من خلال تواقت عرضه للأشياء والشخصيات. وهكذا فإننا نحصل على خطابين متمايزين ومتكام لين أحدهما عملي (السرد)، والثاني تأملي (الوصف)(11). ولا يعني تنوعهما تعارضهما في البناء السردي، بل هما صيغتان لبناء القصة.
I . 3 ـ القصة والخطاب Rècit et discours
من أهم الإنجازات التي قدمها الشكلانيون الروس للنظرية البنيوية في ميدان السرد، هو التمييز الذي أقاموه بين المتن الحكائي والمبنى الحكائي، والذي حدده توماشفسكي في أن المتن هو مجموعة الأحداث المتصلة فيما بينها، والتي يقع إخبارنا بها من خلال النص.
أما المبنى الحكائي فهو الطريقة والنظام الذي تقدم به هذه الأحداث في العمل، مع ما يتبعها من معلومات وإشارات بعينها(12). وهذا التمييز ـ الذي تمت استعادته من تودوروف، وجينيت بتنويعات ـ تبين مدى الأهمية التي تكتسبها التحديدات المنهجية للخطاب السردي. بالإضافة على هذا فإن جينيت يستفيد من اقتراحات اللساني البنيوي إميل بنفنيست (E.Benveneste)، الذي يعد من أبرز الذين أسسوا لمصطلح الخطاب بعد هاريس.
وتتمثل هذه الأهمية في التمييز الذي أقامه بين السرد (أو الحكاية) والخطاب، وهذا في سياق التمييز الذي أقامه بين أزمنة الفعل في اللغة الفرنسية، حيث فرق بين مستويين هما: زمن الحكاية (Histoire) وزمن الخطاب (Discours). وعرف الخطاب على أنه ملحوظ موجه من مرسل إلى ملتقى، يسعى فيه المرسل للتأثير في المتلقي بشكل من الأشكال(13).
ويحدد بنفنيست تمييزه لأزمنة الأفعال، مع ظروف الزمان إلى فئتين: إحداهما يتمثلها الخطاب، والأخرى تختص بالقصة؛ حيث جعل الضمائر أنا (Je) وأنت (Tu)، وظروف الزمان مثل اليوم، البارحة، الآن، غدا، والصيغة الزمنية لأفعال الحاضر والمستقبل، مخصصة للخطاب.
أما بالنسبة للقصة فإنها تختص بالضمير "هو" (il)، وفي المستوى الزمني تختص القصة بالماضي المطلق (Aoriste). ومهما كانت التنويعات الممكنة والحاصلة، فإن النتيجة التي نصل إليها هي أن الصيغ اللسانية تجعل ا لقصة تتسم بالموضوعية، على عكس ذاتية الخطاب.
ومستوى آخر من يميز القصة عن الخطاب، نستنتجه من الطرح السابق؛ هو أن الخطاب بحكم طابعه الخصوصي، بإمكانه أن يتضمن المقاطع السردية؛ على عكس السرد الذي يتميز بخصوصية القص، فالقصة لا تعتمد صيغة الزمن الحاضر وضمير المتكلم
(14).
غير أن صعوبة الفصل في الحدود البينية تبقى قائمة، لأن الكاتب يتعامل مع صيغة السرد بأساليب شتى؛ قد تكون عن طريق تكليف شخصية رئيسية تتكلم وتقوم بوظيفة السرد والتعليق على الأحداث، مثل ما هي عليه القصص الشطارية، أو قد تكون عبر توزيع أدوار السرد على عدة شخصيات في العمل الروائي (إليوز الجديدة، العلاقات الخطيرة)، وقد تكون بصيغة أكثر مرونة من خلال الحديث النفسي للشخصيات الرئيسية للقصة، وهذه الحالة هي الوحيدة التي يحدث فيها توازن بين الخطاب والسرد.
وقد قامت أشكال سردية معاصرة على إلغاء دور الخطاب عبر متتالية من الجمل القصيرة، وهذا النقاء السردي نجده عند همنغواي، وآلان روب غربية، أو ألبير كامي في رواية الغريب(15). وإذا كانت هذه هي التحديدات التي يقدمها جينيت في بداية مساره النقدي، فإنه ـ كما أشرنا سابقاً ـ يعمل باستمرار على الاشتغال بالتحديد المنهجي لمختلف الأسئلة التي يطرحها تحليل الخطاب السردي من منظور الشعرية البنيوية، ولذلك نجده في مقالته "خطاب القصة" (Discours du rècit) المنشور ضمن مقالات كتابه "أشكال III"، يراجع مصطلحاته حول السردية، ويقدم جملة أفكار يستفيد فيها بالخصوص من مقولات تودوروف 1966 حول الزمن والصيغة والخطاب.
وقبل صياغة المراحل الإجرائية لمعالجة النصوص السردية، يقدم جينيت ثلاثة أنواع للسرد والحكاية أو لنقل ثلاثة معاني:
ـ المعنى و/أو النوع الأول: القصة الحكاية (histoire) وهو الملفوظ السردي منقولاً عبر الخطاب الشفوي أو المكتوب، والذي يضمن العلاقة بين مجموعة من الأحد اث، وهذا المعنى هو الأكثر شيوعاً، وهو ما دعاه القصة (histoier)
ـ المعنى و/أو النوع الثاني: وهو أقل انتشاراً، يستخدم عند المحللين ومنظري المضامين السردية، وتعني فيه لفظة "حكاية" (Rècit): تتالى مجموعة من الأحداث الواقعية أو المتخيلة وفق علاقات متعددة، كالتتالي أو التعارض أو التكرار؛ ومن ثم فإن تحليل الحكاية، يعني دراسة مجموع الأحداث والحالات دون اعتبار للوسيط اللساني(16)، وهذا ما دعاه حكاية (Rècit).
ـ المعنى و/أو النوع الثالث: فهو ذو بعد توصيفي لفعل الحكي، أي إنه يشير إلى وضعية يقوم فيها شخص بفعل القص(17)، ويدعو هذا النوع السرد (Narration).
واستناداً للتحديات بمفهومها "المتداول"، أي الخطاب السردي المتضمن في الأدب، أي إنه يركز على دراسة النص السردي من منظور العلاقة القائمة بين الخطاب والأحداث التي يسردها بالمعنى الثاني، وبين الخطاب وفعل الحكي بالمعنى الثالث. وبادر جينيت إلى تعيين مصطلحات للمعاني الثلاثة للحكاية، بحيث صار لدينا القصة (المعنى الأول Histoire)، الحكاية (المعنى الثاني Rècit)، والسرد (المعنى الثالث Narration). وفي هذا المستوى من الطرح يصبح تحليل الخطاب بالنسبة له هو دراسة العلاقة بين الحكاية والقصة من جهة، وبين القصة والسرد من جهة ثانية، وهذا حسب طبيعة العلاقة القائمة بينهما في مستوى النص، وبين الحكاية والسرد(18). ولتحقق هذا المسعى المنهجي يستند جينيت للتقسيم الذي اقترحه تودوروف، والذي يميز فيه بين ثلاثة مستويات هي:
أ) الزمن (Temps): حيث تتم دراسة العلاقة بين زمن السرد وزمن الخطاب.
ب) الرؤية أو الجهة (Aspect): وتتعلق بالطريقة التي يتمثل من خلالها الراوي الحكاية.
ج) الصيغة (Mode): وتتعلق بنوعية الخطاب الموظف من طرف السارد.
ويضيف جينيت إلى ال تصنيف السابق بعض التعديلات تتمثل في إدراج ما أسماه تودوروف زمن الكتابة وزمن القراءة، العلاقة بين الحكاية والسرد.
كما قام بالجمع بين الصيغة الثانية والثالثة (الجهة والصيغة) في مقولة كبرى هي أنماط الحكي، أو درجات المحاكاة.
أما المقولة الثالثة، التي تتعلق بأسلوب السرد نفسه، والتي تنبني على التعارض التقليدي بين الرواية بضمير المتكلم والحكاية بضمير الغائب، فإنه يقترح لها مصطلح الصوت (Voix)(19). وبذلك يصبح مجال البحث موزعاً على ثلاث مقولات هي: الزمن والصيغة؛ ويشتغل كلاهما في سياق العلاقة القائمة بين القصة والحكاية؛ في حين أن مقولة الصوت تتمثل في مستوى العلاقة بين الحكاية والسرد، وبين القصة والسرد، ويمكن أن نوضح هذه العلاقات بالشكل التالي:
ـ مقولة الزمن = الحكاية والقصة.
ـ مقولة الصيغة = القصة والحكاية
ـ مقولة الصوت السردي = الحكاية والسرد
ويتم تفكيك المقولات السابقة، خاص المقولة الأولى أي مقولة الزمن، لتتناول النظام والمدة والتواتر (Ordre-Durèe-Frèquence) ، وتضاف إليها مقولة الصيغة ومقولة الصوت.
وهكذا يكتمل اقتراح جينيت لتصبح دراسة النص السردي موزعة على خمسة مباحث؛ الأربعة الأولى تتعلق بدراسة العلاقة بين الحكاية والقصة؛ أما المبحث الخامس فينقسم إلى قسمين هما: دراسة علاقة كل من الحكاية والقصة بالسرد. وإذا حاولنا معرفة المستوى النظري والإجرائي لهذه المباحث وصلنا إلى التحديدات الآتية:
I .3 .1 ـ النظام Ordrd:
ينطلق جينيت في هذا المستوى من خلال القول بأن الحكاية هي نظام زمني مزدوج، حيث نصادف مظهرين لزمن الحكاية: الزمن الأول هو زمن الأحداث كما وقعت بالفعل (زمن الحكاية)، والزمن الثاني هو زمن يخضع لانتظامات الخطاب أو القصة.
ولدراسة هذه الوضعيات، التي تتخالف أو تتعاقب، يقترح دراستها ضمن ما يسميه المفارقات الزمنية (Anachronies)، والتي تتمظهر من خلال المدى والسعة، السوابق واللواحق، باعتبار أنها تشكل خرقاً للنظام بين مسار الحكاية ومسار القصة. وهذه الخاصية تتميز بها الكتابات المعاصرة، على عكس النصوص الفلكلورية التي تتابع فيها الأحداث وفق تسلسل كرونولوجي، وللإمساك بالسيرورة الزمنية يجب تجزئته على مقاطع محددة، وملاحظة تدلاتها وإعادة ترتيبها ضمن القصة، وفق تشديد يلح على تسجيل التمفصلات الزمنية الصغرى وبنائها، بما يتيح للدارس الإمساك بالبنية الزمنية الكبرى(20). ومراعاة المفارقات الزمنية وفق مسار منهجي، يقدمه جينيت كما يأتي:
I . 3. 2 ـ المدى والسعة:
إن طبيعة النص السردي في مستوى العلاقة بين الحكاية والقصة، يتيح مجالاً واسعاً لحركة الزمن وانتظامه وفق مفارقة تتطلبها القصة، وفي مستوى المدى والسعة يتم التركيز على المدى الذي تستغرقه المفارقة الزمنية باتجاه الماضي أو المستقبل. بعيداً عن حاضر القصة أو الحكاية(21). ومدى المقارنة قد يستغرق مدة تطول أو تقصر من الحكاية ذاتها، وهذه المدة المستهلكة في مجال المدى هي التي تسمى سعة المفارقة الزمنية. وبهذا يكون للمدى بعد ممتد في حقيقة الزمن، بالمقارنة مع زمن الحادثة في الحكاية، بحيث يتجه للماضي أو المستقبل، في حين تكون السعة تمثل درجة الاستغراق الزمني في مستوى المدى.
وبرغم الطابع "القياسي" الذي يمثله المدى والسعة فإنه يبقى متغيراً بحسب أهمية الموقف السردي، ويتضح بصورة أدق في محوريين أساسيين هما: السوابق واللواحق أو ما يعرف بالاستباقات والاستشراف، أو الاسترجاعات، والاستباقات.
I . 3 .3 ـ السوابق Analepses:
يقترح جينيت لدراسة المفارقات الزمنية، الاسترجاعات والاستشرافات، إعطاء مصطلح للحكاية التي وصفها، وتكون منطلقاً لتحديد نوع المفارقة. هذا المصطلح هو "الحكاية الأولى" (Rècit premier)، فالحكاية الأولى هي نقطة التمفصل الزمني الأساسية التي تحدد صيغة المفارقة باتجاه الماضي أو المستقبل.
يمكن للاسترجاعات أن تتخذ مظهراً داخلياً وآخر خارجياً.
أ ـ الاسترجاعات الداخلية (Hètèrodiègètiques): تتعلق بأن ندرج داخل سياق الحكاية الأولى الأساسية عناصر جديدة غير متأصلة فيها، كأن يضيف السارد شخصية جديدة، ويضيء حياتها السابقة عبر إعطاء معلومات متعلقة بها. أو أن تتم العودة إلى شخصية غيبت مدى عن سطح المسار السردي، وتقدم للقارئ ملاحظات بشأنها. أو أن تقوم شخصية داخل الحكاية الأولى بسرد حكاية تتعلق بموقف ما، وصيغ الاسترجاع الداخلي يمكن وصفها بالحكي الثاني (Rècit Second)(22)، أو القصة الغيرية(23).
ويؤكد جينيت أهمية وحساسية وخطورة الاسترجاع الداخلين لما يصيغه من غموض وتداخل بين هيكل الحكاية الأساسية، والعناصر الحكائية الشاردة الملتصقة به، إلا أنه بالإمكان تصنيف هذه العناصر إلى فئتين:
ـ الفئة الأولى: وهي عناصر يمكن أن تدرج في سياق "الحكي الأول" ويمكن تسميتها "الاسترجاعات المكملة (Analepses Complètives)، وهي استرجاعات تقوم بوظيفة سد الإغفالات والسهو والفجوات، التي أهملتها القصة عبر حركة الزمن السردي؛ كأن نذكر بعد تقدم مهم في الحكاية حادثة وقعت للشخصية، تساعدنا في فهم موقفنا الحالي.
ويمكن أن تتخذ هذه الاسترجاعات صفة تذكارات، وهذا عبر التكرار الذي يهدف إلى التذكير بمواقف، أو أقوال، أو أحداث (24). وقد تكون من بين أهم وظائف هذا النوع من الاسترجاع هو الوظيفة التأويلية.
ـ الفئة الثانية: هي الاسترجاعات الخارجية، فإنها تتصل أساساً بالمدى والسعة، وربما يكون للسعة الد ور الحاكم في ذلك. وهي من حيث صلتها "بالحكاية الأولى" لا تربطها أي علاقة من حيث تسلسل وقائعها الداخلية، بل يمكن أن تنطلق من مدى زمني ماضٍ، يتسلسل حتى يصل إلى نقطة انطلاق "الحكاية الأولى"، ويتجاوزها في المدى الزمني. ونصادف في الاسترجاعات الخارجية صنفين متميزين:
ـ الصنف الأول يتعلق بسرد حادثة ماضية، ثم يقفز السارد على ما تلاها ليعود إلى متابعة سرد وقائع الحكاية الأولى، وهي ما يسمى الاسترجاع الجزئي (Analepsies Partielles).
ـ أما الصنف الثاني من الاسترجاع الخارجي، فيتم من خلال سرد متسلسل لوقائع ممتدة زمنياً وفق تتابع متصل، يستمر حتى نقطة بداية "الحكاية الأولى". وهو ما يسمى الاسترجاع التام (Analepsie Complète)(25).
ونستطيع أن نبين أن الاسترجاعات الخارجية، يمكن أن تصنف في خانة الذكريات، لأن السارد و/أو الشخصية يقوم باستحضار مواقف زمنية ماضية لا صلة لها بجوهر الحكاية الأولى، وأنها غير ذات أهمية من حيث وظيفتها في التوضيح.
I . 3. 4 ـ الاستباقات والاستشراف Prolepses
تتميز الاستباقات والاستشرافات بطابعها المستقبلي التنبئي، وتتميز بضآلة حضورها في النصوص السردية المعاصرة، باستثناء ربما الكتابات السردية السير ـ ذاتية (Auto Biographique). ويشير جينيت إلى أن رواية "البحث عن الزمن الضائع" لمارسيل بروست (Marcel Proust) تشكل النموذج المعاصر الأكثر استعمالاً لهذه التقنية السردية، كما يضيف أن أفضل النصوص السردية التي تملك قابلية تمثل الاستشراف هي النصوص المسرودة بضمير المتكلم(26).
وتنقسم الاستباقات والاستشرافات إلى قسمين: استباقات داخلية وخارجية. وتخضع هذه الأصناف من الاستباقات لنفس التقسيم الخاص بالاسترجاع، فهي استباقات داخلية تتصل بالحكاية الأولى، وتكون إما استباقات تكميلية تنبئنا بما سيكون عليه مسار الشخصية مستقبلاً، و استباقات تكرارية تكون وظيفته ا عكس وظيفة الاسترجاعات التكرارية. فإذا كانت وظيفة هذه الأخيرة هي تذكير المتلقي بالموقف أو الحادثة، فإن وظيفة الاستباق الداخلي التكراري هي الإعلان (27) عن الموقف أو الحادثة، التي سيأتي ذكرها بالتفصيل لاحقاً. ويتصل الإعلان بإثارة التوقع لدى القارئ والمتلقي، ويخضع بدوره لمقولة المدى والسعة؛ حيث إن الإعلان قد تفصله عن تحققه مدة قصيرة أو طويلة، كأن يكون في نهاية فصل من الرواية ليقدم الفصل التالي، أو يكون الإعلان ذا سعة كبيرة بالمقارنة مع الفرع الأول.
ويشير جينيت إلى أن الإعلان قد يتخذ طابعاً إيجابياً غير مصرح به، وهذا ما يدعو (Amorce) أي بداءة، وهو إعلان لا نحس به على أنه كذلك، لأن السارد يلمح إلى شخصية أو موقف أو حادثة، دون أن يقول بأنها ستكون مستقبلاً ذات أثر، أو أنها ستغير مجرى الأحداث. فالإعلانات من هذا النوع تتعلق بفن التهيؤ الكلاسيكي تماماً، كأن تظهر منذ البداية شخصية لن تتدخل حتى إلا بعد ذلك بكثير(28).
وقد نصادف أخيراً في مجال البحث في المفارقا ت الزمنية صيغاً، يمكن أن تحدث تداخلاً في السياقات الاستباقية والاسترجاعية، كأن يكون الاستباق مبنياً على استرجاع أو العكس. وهذه الحالات الزمنية المتعالقة بين "الحكي الأول" و"الحكي الثاني" هو ما يمكن تسميته بحالات اللاتواقت (Anachronie)، وهي تراكبات زمنية يتعدد مداها ويتفاعل يصل إلى درجات مختلفة.
I .3 .5 ـ المدة Durèe:
يؤكد جينيت في هذا المستوى من دراسة العلاقة بين الحكاية والقصة، صعوبة البحث العملية، بالمقارنة مع دراسة النظام؛ فإذا كانت العلاقة بين نظام الأحداث في الحكاية، وتوقيت عرضها في القصة قابلة للمعاينة، من حيث إدراك زمن وتوقيت سردها. فإن علاقة المدة بين زمن الحكاية وزمن القصة لا تخلو من صعوبة، وذلك نظراً لاعتبارات تختلف عن الأولى، بحكم أن علاقة المدة ذات بعد ذاتي في إدراك قيمة وسعة المستوى الزمني للحكاية والقصة من جهة، كما أن السارد يتناوب بين عملية قص الأحداث الواقعية، وعرض الأبعاد النفسية، وتقديم أشكال متعددة من القص، منها الحوار والسرد وا لتأمل، وما إلى ذلك.
ويقترح جينيت لدراسة المدة أربعة مفاهيم وصيغ أساسية هي:
أ) الوقفة (Pause)(20): تتحقق هذه الصيغة عادة بإبطاء السرد من خلال الوصف، ويكون فيها زمن القصة أكبر من زمن الحكاية بصورة واضحة. وتكون الوقفة الوصفية ذات كتابة مطلقة، لأنها تستند لتعطيل فاعلية الزمن السردي، من خلال تعداد ملامح وخصائص الأشياء.
ب) المشهد (Scène): يعد المشهد مساحة زمنية نصية مناظرة للملخص، فإذا كان الملخص تسريعاً للسرد، فإن المشهد هو تفصيل وإبطاء له، وإن كانت العلاقة الزمنية القائمة في المشهد مساوية للقيمة الزمنية في الحكاية، فإن الإحساس العام للقارئ هو أن السرد يسير ببطء. خاصة إذا كان موقعاً للمفارقات الزمنية المتعددة، أو للحوار الداخلي للشخصيات؛ كما هو الشأن عند مارسيل بروست الذي يشكل المشهد عنده "بؤرة زمنية" تتداخل فيها الاستردادات والاستشرافات والترددات الوصفية وتدخلات السارد(3 0).
ج) التلخيص أو الملخص أو المجمل (Sommaire)(31): وهو أن يتم ذكر سرد عدة سنوات سابقة، في عدة فقرات أو عدة صفحات، ويتم هذا دون تفاصيل في ذكر الأحداث، أو نقل الأقوال. وهذا الشكل من العلاقات السردية قليل الحضور في النصوص السردية إجمالاً، ويمكن أن يتلاءم مع بنية الاسترجاع الزمني في بعض الحالات، وفيه يكون زمن القصة أقصر من زمن الحكاية.
د) الحذف (ellipse)(32): إن صفة الحذف تختلف عما سبق من حديث عن الملخص أو المجمل؛ لأن الحذف الزمني يعني القفز عن مراحل زمنية تطول أو تقصر متصلة بالحكاية، فيتم الإغفال الكلي والمطلق للأحداث والأقوال خلال هذه الفترة الزمنية. ويقسم جينيت الحذف إلى ثلاثة أشكال أو مظاهر، هي:
د.1 ـ الحذف الصريح (Explicite determine): وهو الحذف الذي يجد إشارات دالة عليه في ثنايا النص، كأن نقول، بعد عشر سنوات، خلال أسبوع.
د. 2 ـ الحذف الضمني (Implicite): وهو حذف مسكوت عنه في مستوى النص، وغير مصرح به أو بمدته، فهو حذف مغفل، نكتشفه ونحس به من خلال القراءة، حيث إن المقاطع الزمنية بين التحولات السردية، أو في ملامح وصفات الشخصيات، تجعل القارئ بربط هذه الفواصل والتغيرات الزمنية ليعيد للقصة تسلسلها الزمني.
د. 3 ـ الحذف الفرضي (Hypothètique): وهذا النوع من الحذف، الذي لم يوضحه جينيت بدقة، يمكن أن نحدده من خلال غياب الإشارة الزمنية في النص من البداية، لكن يتم استحضاره عرضاً عن طريق الاسترجاع، وهذا النوع من الحذف صعب الإدراك "لأنه من غير الممكن تحديده بدقة، بل أحياناً تستحيل موضعته في موقع ما"(33).
وتجعل الحديث في هذا الصدد للقول بأن الحذف على عكس الوقفة الوصفية يكون فيه زمن القص أصغر إلى ما لانهاية بالنظر إلى زمن الحكاية.
وهذه الصيغ جميعها تتحدد من خلال ال علاقة بين زمن القصة (زق) وزمن الحكاية (زح)، وفق التصور الآتي، الذي يتوزع بين إبطاء للسرد أو تسريع له:
ـ الوقفة: زق = زح ن = 0 إذن زق ? > زح
ـ المشهد: زق = زح
ـ الملخص: زق < زح
ـ الحذف:زق = 0 ، زح = ن إذن زح < ? زق (34)
I .3 . 6 ـ التواتر (Frèquence):
يعرف جينيت التواتر السردي بأنه درجة التواتر والتكرار القائمة بين الحكاية والقصة، ويشير إلى أن هذا العنصر الزمني بقي مجالاً مهملاً من طرف النقاد ومنظري الرواية. وتبرز قيمة التواتر من خلال تكرار الوحدات السردية، في مواقع مختلة من النص، وإن كنا قد لاحظنا ذلك سابقاً في مبحثي الاستباق والاستشراف، فإن درجة التواتر يمكن أن تتمظهر وفق أشكال هي أربعة متفرعة عن صيغتين أساسيتين، هما السرد المفرد والسرد التكراري:
ـ السرد المفرد أو التفردي (Singulafif) هو: أن يروى مرة واحدة ما حدث مرة واحدة، حيث أن ما حدث في الحكاية يعاد سرده في القصة ح1/ ق1. وقد يكون التكرار المفرد في صفة متعددة؛ كأن يروي عدة مرات ما حدث عدة مرات، وصيغته ح ن / ق ن.
ـ السرد التكراري (itèrafif) فيكون على مظهرين:
أ ـ أن يروى مرات لا متناهية ما وقع مرة واحدة، ح1 / ق ن. أي أن ما وقع مرة واحدة في الحكاية، يعاد تكراره في مستوى القصة.
ب ـ أن يروى مرة ما حدث عدة مرات، ح ن / ق 1. بمعنى أن الأحداث التي تكررت في مستوى الحكاية، تسرد مرة واحدة في القصة (35).
وهذه الصيغ الترددية للزمن السردي ذات بعد تكراري غايتها التأكيد أو الوصف، أو الاختصار. ويضيف جينيت إلى التقسيم الزمني السابق إشارة إلى المظاهر الزمنية التي يشتمل عليها السرد، هي التحديد والتخصيص والاستغراق الزمني. فمن خلال المثال الآتي: "أيام الأحد من صيف عام 1890"، فعناصر هذه السلسلة الزمنية تتوزع بصفات تجعل "أيام الأحد" تحديداً زمنياً (Dètermination)، وعبارة "من صيف عام 1890" تخصيصاً (specification)، لأنها متصلة بمرحلة من فصول السنة. وهناك صفة أخرى هي الاستغراق، وتتصل بمدة الحدث. فقد يكون الاستغراق لمدة يوم وهي 24 ساعة، وقد تتقلص إلى ساعات النهار فقط(36).
ويمكننا أن ندرج في سياق البحث في التواتر التفاعلات الزمنية الممكنة؛ كالزمن الداخلي والخارجي (Diachronie interne et externe)، المتعلقة بكل صيغ القبل والبعد، والتي تعبر عنها ظروف الزمان (أحياناً، غالباً، تارة، أو، مرات... بعد نصف ساعة، ثم شيئاً فشيئاً..). كما يمكن للترددات أن تكون ذات بعد وظيفي في سيرورة السرد، يتحدد من خلال التناوب (Alternance)، وا لانتقال الزمني (Transition)(37).
I . 3 . 7 ـ الصيغة Mode:
إن مقولة الصيغة تحدد في مستوى العلاقة بين القصة والسرد أو الخطاب، وذلك من موقع كمية الإخبار المنقولة وفق رؤية معينة، وضمن أشكال مختلفة تتعلق بالسارد أو الراوي وما يرويه، وكيفية روايته. ويعد الموقف الذي يتخذه السارد من الأحداث، من حيث قربه أو بعده عنها، وكذلك الموقع الذي يتخذه للتعامل مع الأحداث والشخصيات، الشكلان الأساسيان لتنظيم الخبر السردي، ويعرفان على التوالي بالمسافة (Distance)، والمنظور (Perspective) (38). وإذا حاولنا فهم خصوصية كل منهما نجد أن ذلك يتوضح كما يلي:
أ) المسافة (Distance):
ميز أفلاطون ـ كما أسلفنا في حديثنا عن الحكاية التامة والمحاكاة ـ بين راو يسرد الأحداث مباشرة بنفسه، وآخر يقدمها عن طريق الشخصيات (39). وميزت الدراسات الإنجلو ـ ساكسونية مع هنري جيمس بين صفتين هم العرض (Showing) والسرد أو القول (Telling)، ومناقشة لهذه التصورات السابقة يميز جينيت بين مظهرين للسرد هما: "سرد الأفعال"، وسرد الأقوال".
ـ فسرد الأفعال أو الأحداث (Rècit dèvènements) تتظافر عناصر السارد مع طريقة سرده، وفق علاقة كمية بين المشهد الحدثي الفعلي، والخطاب المعبر عنهن بما تحدده سرعة النص السردي. وهو ما يجعل المقام السردي أو الصيغة مرتبطة بقضايا بعيدة عنها؛ إن سرد الأفعال يمثل مستوى تحدده مسافة الراوي، مما يعرضه من أحداث في النص.
ـ أما سرد الأقوال (Rècit de paroles) (40) في هذا المستوى من العلاقة بين القصة والسرد أو الخطاب، يبدو المظهر الأساسي لكل فعل سردي هو التعامل مع أقوال وخطابات الشخصيات، وهذه الخطابات، و كلام الشخصيات يتم التعامل معه من قبل السارد، بحسب مسافته من هذه الشخصيات أو تلك. ولذلك فإن نقله للأقوال محكوم بصيغة تقديمها للمتلقي، سواء عبر كلام الشخصية المباشرة، أو من خلال تخ طيب أقوال الشخصيات ضمن كلام السارد. ويميز جينيت في هذا المجال ثلاث حالات هي:
أ. 1 ـ الخطاب المسرود أو المروي (Discours Narrativisè ou racontè) وهو خطاب يقوله السارد، وينقل فيه كلام الشخصية ويحلله.
أ . 2 ـ الخطاب المحول بأسلوب غير مباشر (Discours transpose au style indirecte) وفيه لا يكتفي السارد بنقل خطاب الشخصيات وأقوالها، بل يكثفها ويدمجها في خطابه الخاص، ومن ثم فتتخذ تلوينات خطابه. وهذا الشكل يختلف عن الأسلوب غير المباشر الحر، الذي يتداخل فيه خطاب الشخصية المصرح به أو الداخلي مع خطاب السارد.
أ . 3 ـ الخطاب المنقول (Discours rapportè): ويتميز بأن السارد يفسح المجال لأقوال الشخصية بالبروز بكل خصائصه الأسلوبية والدلالية، فيتخذ طابعاً مسموحاً يتسم بالمباشرة في الظهور. ويرى جينيت أن الصيغة الأخيرة قد ميزت الرواية الحديثة، فدفعت هذا النوع من المحاكاة إلى منتهاه، وحاصرت مواقع المقام السردي أو السارد، ليتحول لمجرد ناقل للأقوال(41).
I . 3. 8 ـ المنظور:
يتعلق المنظور في ما اصطلح على تسميته بوجهة النظر، ويؤكد جينيت أن كل الدراسات التي تناولت هذا الموضوع وقعت في اضطراب وخلط كبيرين، وهو يقترح لذلك التمييز بين الصيغة والصوت. أي بين "من يرى" و"من يتكلم" (Qui voit qui parle)، وبعدما يعرض مجمل التصورات السابقة التي تناولت المنظور منذ سنة 1943 على يد كلينين بروكس وروبرتن بن وارين مروراً بـ شتانزل 1955، وصولاً إلى تورمان فريدمان وواين بوث 1961، وأخيراً تصنيفات تودوروف حول الحالات الثلاثة لعلاقة الراوي بالشخصية (42)، بعد كل هذا يقترح جينيت مصطلح "التبئير" (Focalisation)، الذي يتحاشى فيه التركيز على الجانب البصري، الذي اعتمده سابقوه عندما اقترحوا مصطلحات بديلة مثل المنظور والرؤية. ويستلهم مصطلح البؤرة السردية من كلينث بروكسن ووارين. وانطلاقاً من هذا يميز جينيت بين ثلاث حالات من التبئير هي:
ـ التبئير صفر (Focalisation Zèro): هو التبئير الذي يشمل مجمل الكتابة الكلاسيكية ويهيمن فيه الراوي العليم (Narrateur omniscient)
ـ التبئير الداخلي (Focalisation Interne): وهو تبئير تتضح فيه وجهات نظر الشخصيات إزاء موقف واحد، كما أن السارد لا يصف الشخصية البؤرية ولا يشير إليها من الخارج.
ـ التبئير الخارجي (Focalisation Externe): وهو تبئير يقوم به شاهد خارج عن الأحداث(43).
وهكذا نصل إلى التقسيم الثلاثي الشبيه لما قدمه تودوروف كما رأينا سابقاً، إلا أن ما يميز جينيت هو الحيوية التي تختص بها هذه التبئيرات. من حيث إنها لا تختص بالنص، بمعنى أن التبئير الداخلي قد يكون في مقطع يليه تبئير خارجي والعكس بالعكس.
كما أن جينيت يقدم في سياق حديثه عن التئبير م ا يسميه التعددية الصيغية، التي يمكن أن تتقاطع أو تتناوب داخل السرد. وهذا التعدد يتيح للقارئ حرية الحركة، كما يمكنه من التفاعل المتنوع مع الأبعاد الخارجية والداخلية، سواء بالنسبة للشخصيات أو للسارد.
I . 3 . 9 ـ الصوت السردي (Voix Narrative):
يكمل جينيت القسم الثاني من مقولته المتعلقة بـ "من يرى؟" و "من يتكلم؟"، بطرح إجراء منهجي يخص المقام السردي أو الهيئة السردية (Instance Narrative)، التي يمثلها شخص السارد؛ وبحثنا هنا يتجاوز السارد المحدد بوجهة النظر، لأن الوضعية السردية هي شيء آخر، هي مجموع معقد يتجاوز التحليل والوصف، إنه يكمن في العلاقة الوطيدة التي تربط الفعل السردي بعناصره المتعارضة، والمتفاعلة المحددة في الزمان والمكان، وعلاقته بأوضاع سردية أخرى، متضمنة داخل القصة نفسها، ويتصل المقام السردي ببعد زمني يحدد موقعه من القصة. وهكذا نجد أن السرد من منظور زمني، يكون في الأغلب فعلاً لاحقاً لما يقوم به المقام السردي. غير أن هناك علاقات أخرى يكون فيها المقام لاحقاً، أو متواقتاً، أو متعدداً. ويميز جينيت في هذا الصدد أربع حالات مبنية على أساس العلاقة بين المقام السردي والزمن، هي:
ـ السرد اللاحق على الحدث (Ultèrieure): مثله الرواية الكلاسيكية التي يقع زمنها في صيغة الماضي.
ـ السرد السابق (antèrieure): ومثله الرواية المبنية على التنبؤ وزمنها المستقبل.
ـ السرد المتواقت (Simultanèe): ومثله الرواية المبنية على الزمن المضارع، كما في حالات البث المباشر عبر الراديو أو التلفزيون.
ـ السرد المتعدد المقامات (Complexe)(44): ومثله الرواية الرسائلية، حيث يتم الجمع بين القصص والحوار الداخلي والتذكر والرؤية الحاضرة والمستقبلية.
كما يتضمن الصوت السردي، بالإضافة للمقام السر دي والزمن، عنصراً آخر هو الشخص المتكلم في القصة، وعلاقته بهذه القصة، وهذا ليس عن منظور الرؤية أو المسافة، بل من خلال وضع السارد داخل القصة أو خارجها، ومن خلال مستواه السردي أيضاً. ويحدد جينيت أربع حالات لنظام السارد، هي:
أ ـ سارد خارج القصة (غيري القصة): ونموذجه هوميروس، فهو سارد من الدرجة الأولى، يروي قصة هو خارج عنها ـ وظيفة توجيه.
ب ـ سارد خارج القصة (مثلي القصة): ونموذجه سارد من الدرجة الأولى، يروي قصته الخاصة الذاتية ـ وظيفة الشرح.
ج ـ سارد داخل القصة (غيري القصة): ونموذجه شهرزاد ساردة من الدرجة الثانية، تروي قصصاً هي غائبة عنها عموماً ـ وظيفة شعرية.
د ـ سارد داخل القصة (مثلي القصة): ونموذجه عوليس في إلياذة هوميروس، حيث إن سارداً من الدرجة الثانية يروي قصته الخاصة (45) ـ وظيفة توثي قية.
كما يشير جينيت إلى عنصر آخر هو مستوى الصوت السردي، هو شكل البطل السارد، الذي تتميز به النصوص السردية ذات الخصوصية السيرية. بالإضافة إلى عنصر أخير يتشكل منه الصوت السردي هو المسرود له (Le narrataire)، وقد يكون هذا العنصر إما داخلياً في الحكاية أو خارجاً عنها، وفي هذه الحال قد يلتبس مع القارئ الضمني (46).
ولعل هذا الاهتمام بالقارئ لم تتم الإشارة إليه بصورة كافية في البحث المنهجي الدقيق الذي صاغه جينيت للوضعيات السردية المختلفة، إلا أنه سعى لتصحيح ذلك لاحقاً.
وإذا كنا قد أطلنا في تقديم مقترحات جيرار جينيت في مقاربة النص السردي، فلأن ذلك يعود بالتأكيد بالفائدة على المستوى الثاني من هذا الباب، المتعلق بتلقي النقد البنيوي للنص السردي في الفضاء الثقافي العربي، والذي لا تخلو أي دراسة فيه من الملاحظات والتحديدات المنهجية للنقاد والباحث جيرار جينيت.
وتأتي أهمية مقترحات هذا الناقد في كونها تلبي الحاجة إلى نظرية منهجية للرواية، تتناول المصطلحات الأساسية، مثل وجهة النظر، والراوي العليم، والسرد بضمير الغائب.
وفكرة وجهة النظر وتحويلها إلى مفهوم البؤرة، الذي يفرق بين الراوي والرائي، وبين البؤرة والقص، يعد أحد الإنجازات الكبرى التي قام بها على صعيد مراجعة موضوع وجهة النظر(47).
ويعد هذا الجهد المعرفي التنظيري والمنهجي والإجرائي الذي قدمه جينيت، حلقة ضمن سلسلة المسار البنيوي لمقاربة النص السردي.
الهوامش:
1 ـ عبد الجليل الأزدي محمد معتصم: مقدمة ترجمة خطاب الحكاية، منشورات الاختلاف ط3 الجزائر 2003.
2- G èrard Genette: Figurelll editions du Seuil. 1972. page 13.
3 ـ فؤاد أبو منصور النقد البنيوي، ص 186.
4 ـ روبرت شولز: البنيوية في الأدب: ترجمة من عيود. اتحاد الكتاب العرب 1984
ص 181.
5 ـ جبرار جينيت: خطاب الحكاية: ترجمة محمد معتصم وآخرون. منشورات الاختلاف
ص 14.
6 ـ روبير شولز: البنيوية في الأدب ص 183.
7- Gèrard Genette: Frontière du rècit in Communication n 08 ed 1966. Page 160.
8- Gèrard Genette: Frontière du rècit in Communication n 08 ed 1966. Page 162.
9- Gèrard Genette: Figure 2 Seuil 1969 page 57.
10 ـ عمر عيلان: والإيديولوجيا وبنية الخطاب الروائي منشورات جامعة قسنطينة 2001 ص 220.
11- Gerard Genette: Frontières du Rècit Page 164.
12 ـ إبراهيم الخطيب: نظرية المنهج الشكلي نصوص الشكلانيين الروس الشركة المغربية للناشرين 1982، ص 1980.
13- Emile Benveniste: Problèmes de linguistique Gènèrale. Gallimard paris 1966 Page 201-202.
14- G.Genette: Figure ll. Page 66.
15- G.Genette: Frontière du Rècit Communication n 08. Page 169.
16- G.Genette: Figures 03p:71.
17- G.Genette: Figures iii p: 71.
18- Ibid: p: 74.
19- Ibid: page 76.
20- Ibid: p:85.
21- Ibid: p: 89.
22- Figures 02: D’un rècit Baroque, Seuil 1969. Page 202.
23 ـ في كتابه أشكال 02 يقترح جينيت مصطلح Mètadiègètique وهو ما يوائمه مصطلح القصة الغيرية الذي صاغه مترجمو كتاب خطاب الحكاية (ورد ذكره سابقاً).
_____
المصدر
°ˆ~*¤§(مستويات السرد عند.. جيرار جينيت ـــ د.عمر عيلان)§¤*~ˆ°
ـ جيرار جينيت Gèrard Genette (1930)
I . 1 ـ مستويات السرد: الحكاية والقصة والسرد
تشكل كتابات جيرار جينيت ثالث المرتكزات التي تمحور حولها النقد الجديد في فرنسا، في مقاربة النصوص السردية، ولعل هذا الحكم الجازم يملك مشروعيته اعتباراً لما تميزت به هذه الكتابات من عمق وتنوع في محاور النصوص السردية، بهدف البحث عن قواعد ثابتة لبنية مجردة تتحكم في تشكيلها. وإذا كان رولان بارت قد فتح المجال للتأسيس لشعرية جديدة، سالكاً دروب التنوع التنظيري من مكونات النص إلى تفاعل القارئ، وساير تودوروف نفس الخطوات،
فإن جيرار جينيت ـ بما يملكه من خصوصية أكاديمية وتنوع في المدارك الثقافية والنقدية ـ أسس للنظرية البنائية كأطروحة نظرية، وكمنهج يركز على الخصوصيات الجمالية والبلاغية لمكونات شعرية النص، من خلال سعيه "لإقامة نظرية عامة في الأشكال الأدبية تستكشف إمكانات الخطاب... وبهذه الصفة يمثل التيار النقدي الطامح إلى توضيح فعل الكتابة ذاته"(1).
ويؤكد جيرار جينيت نزعته "الشعرية" (poètique)، الهادفة إلى البحث في مقومات النص الداخلية، بعيداً عن الإكراهات الخارجية مهما كانت اجتماعية أو تاريخية، حين يقول: "إن اللوم الموجه للنقد الجديد (الموضوعاتي والشكلاني) بأنه يهمل ولا يبالي بالتاريخ مردود، لأننا نضع التاريخ بين قوسين ونؤجله لأسباب منهجية. والنقد الشكلاني غايته البحث في نظرية الأشكال الأدبية، أو بشكل مختصر يبحث في الشعرية"(2).
فالمصطلحات الجديدة لا تعني أن النقد الجديد يرسي قطيعة مع ما سبقه من قراءات، ومحاولات تقييم جمالية، وجيرار جينيت يراهن على مثولية النص، أ ي ذلك الذي يتلاقى مع نصوص أخرى من النوع ذاته، ويتغاير في أنساقه الأسلوبية والدرامية معها. والناقد يشدد على تواصلية الكتابة منذ الإلياذة والأوديسة إلى اليوم(3).
وتعد كتب جينيت من الانجازات المركزية للاتجاه البنيوي والنقد الجديد، في البحث عن سياقات تكشف بناء النص الأدبي، وطرائقه الإبلاغية ومكوناته وأنساقه التكوينية، وخاصة سلسلة كتبه "أشكال" (Figures) التي توحي باهتمامه الخاص بالبلاغة الأدبية. لأن الأشكال (Figures) لفظة مأخوذة من التسمية التقليدية للبلاغة، التي كانت تسمى "نظام الأشكال"(4) وتتضمن الاستعارة والكناية والمجاز.
ولعل مترجمي كتاب "خطاب الحكاية" قد استلهموا ذلك في ترجمة عناوين الكتب (Figures) باستعمال لفظة "محسنات"، وهو مصطلح بلاغي أساساً(5). وتتضمن سلسلة كتب "أشكال" مرحلة أساسية في محاورة الكتابة الأدبية ومناقشتها، بهدف وضع ضوابط منهجية لاستكشافها، وهكذا كانت أول كتاب صدر لـ جينت عام 1996، بعنوان (Figures) ضمنه دراسات أدبية، تسعى لتحديد الم فاهيم وتوضيح الأبعاد الجمالية في المقاربة النقدية للنص الأدبي. ثم تتالت السلسلة بصدور "أشكال 1" عام 1966، و"أشكال II" عام 1969، و"أشكال III" عام 1972، ومؤخراً صدر كتاب "أشكال IV" عام 1999.
ففي الكتاب الأول قام بمسح شامل لما يقدر بخمسة قرون من الكتابة الأدبية، لأدباء مختلفين منهم سانت أمون (saint Amand)، بروست (Proust)، آلان روب غربية (Robbe-Grillet)، مالارميه (Mallarmè)، فلوبير (Flaubert)، رولان بارت (R.Barthes)، والكتاب جمع لمقالات نشرت بين عامي 1959 و 1965. أما في الكتاب الثاني فقد وجه بحثه نحو الإشكاليات النقدية الكبرى؛ كمفهوم البلاغة، القضاء في النص، حدود السرد، وما إلى ذلك.
وخصص الكتاب الثالث لدراسة الأشكال الأدبية السردية، باحثاً في حدودها وممكناتها ومغامرتها، وقواعدها، وبهذا يكون جنيت قد بحث في حدود النص الأدبي وصيغ تنظيمه، وأشكاله، وشبكة دلالته، وأنظمته العلامية. أما الكتاب الأخير فهو عبارة عن حوصلة لأكثر من ثلاثين سنة من الجهد النظري في م يدان الأدب والفن، تعكس انسجاماً في المسار المنهجي من خلال الخلاصات العامة المقدمة.
وينتقل جينيت في آخر كتبه الصادرة عام 2004 بعنوان (Mètalepse) "من الشكل إلى التخيل" (de la Figure a la fiction) ، ويركز فيه على وظيفة السرد في تفعيل متخيل القارئ. و"الميتاليبس" يهتم بالجانب والعنصر العجائبي للمتخيل. وبين كتب "الأشكال" و"المتخيل" أصدر جينيت مجموعة هامة من الدراسات التي تبحث دائماً في سر الكينونة الأدبية وأبعادها ومقوماتها،ومن بين هذه الكتب:
ـ إيمائيات (Mimologies 1976) ويطرح من خلاله أسئلة الماهية التي انطلق فيها أفلاطون حول النظام الأنظولوجي المعرفي للغة، مركزاً الاهتمام لعلاقة الكلمات بالأشياء.
ـ مدخل لجامع النص (النص الجامع) (1979 ـ Introduction a l architexte)، يناقش جينيت في هذه الدراسة المبدأ الأفلاطوني في مقاربة الشعر، ومفهوم المحاكاة التي ثم بموجبها تقسيم الشعر إ لى غنائي وملحمي. ويعيد تشكيل قراءة أفلاطون للشعر، ليحدد في النهاية أن موضوع اهتمام الشعرية ليس النص، وإنما محددات النص (I architexte) أي مجموع القواعد والمقولات العامة التي تتأسس منها ووفقها خصوصية كل نص.
ـ الرق الممسوح (Palimpsestes): يتعرض جنيت في هذه الدراسة لما كان قد أشار إليه بارت حول مفهوم تاريخ النص والذاكرة الثقافية للغة. ويسعى من خلال ذلك، لإقامة نظرية توضح مختلف الأشكال التي يمكن للعمل الأدبي أن ينبني وفقها، من خلال استناده لأعمال أخرى عبر مجاورتها أو مماثلتها أو محاورتها ساخرة، أو ما يسميه الأدب من الدرجة الثانية أو النصية المفرطة. وتناول فيها كتابات: أسترى، يورخيص، فلوبير، بروست، روب غربية.
ـ خطاب الحكاية الجديد (Nouveau discours du roman-1983): يعد الكتاب إعادة قراءة ومراجعة للمفاهيم العامة التي قدمها في كتب الأشكال، خاصة ما تعلق بالمسارات الإجرائية لمقاربة النص السردي، حيث ضمنه الملاحظات التي وجهت للكتاب من طرف النقاد، وسعى على مراج عتها.
ـ عتبات (Seuils-1987): تشكل هذه الدراسة مرحلة أخرى في النقد البنيوي، لأن جنيت انتقل لدراسة ما يسميه "عتبات النص"، وهي عناصر لا تدخل مباشرة في النص، ولكنها تؤطره من الخارج، وتؤثر في الملتقى بصورة أساسية، مما يسهم في توجيه منظوره وفقاً للتقاليد الممارسة في تلقي الكتاب الأدبي. ومن بين العتبات المدروسة العرض التقديمي أو المقدمة، الإهداء، اسم المؤلف، كلمة الناشر، العنوان، الملاحظات المثبتة، الحوارات، اللقاءات، وهذه المعطيات تمثل بدورها مثيلاً و/أو شبيهاً، له أثره في تلقي النص الأصلي (para texte).
نتبين من خلال العرض المختصر السابق لأهم كتب جيرار جينيت، مدى الاهتمام والحرص على المناقشة الدائمة للمفاهيم والإجراءات المنهجية، قصد تحسين مفعولها على مستوى الاشتغال النصي، ولعل مراجعته لكتاب خطاب الحكاية لدليل واضح على ذلك.
كما تركيز جينيت على كتابات مارسيل بروست في كتبه "أ شكال"، يعكس عدم البحث عن التنوع بقدر ما يهدف إلى الارتكاز على مدونه ذات بعد شعري (Poètique) متميز، يمكن أن تستجيب لسؤال الـ "كيف" الذي يقدم الإجابة عن البعد المعرفي والإبستمولوجي، لتكون البنيات النصية وتطورها واشتغالها.
وكما يعتقد جينيت "فإنه من غير المعقول معالجة نص فردي من دون نظرية أدبية، تماماً كما أن من المستحيل امتلاك نظرية دون تأسيسها على نصوص نوعية"(6). ولعل النتائج المحققة في مجال الدراسات السردية تؤكد هذا الموقف، حيث إنه لا يمكن أن تخلو دراسة سردية من الاستناد إلى مقترحات جينيت المختلفة. وفي مجال بحثنا فإن التركيز على القضايا المتعلقة بمفاهيم السرد عند جينيت، تتخذ بعداً مميزاً في مجال التحديد المنهجي للمقاربة السردية للغة والخطاب على حد سواء. ونبين فيما يلي أهم هذه المفاهيم.
يحدد جيرار جينيت في مقالة "حدود القصة/ الحكي". (Fronteères du Rècit-1966) الذي أعاد نشره في كتابة "أشكال II" سنة 1969ن ثلاثة محاور للبحث في مكونات النص السردي، هي:
ـ المحاكاة والحكي التام.
ـ السرد والوصف.
ـ القصة والخطاب.
ففي المحور الأول يعرض لأراء أفلاطون وأرسطو حول المحاكاة، حيث يشير إلى أن أرسطو حين تحدث في كتابه "الشعرية" (Poètique) عن القصة (Diègèsis) صنفها إلى مظهرين: هما: المحاكاة الشعرية (mimesis)، والعرض المباشر للأحداث من طرف الممثلين، أي أنه من بين الشعر السردي القصصي (الملحمي) (Poèsie narrative)، والشعر التمثيلي (Dramatique) وهذه التصورات كانت موجودة عند أفلاطون الذي يميز في القسم الثالث من كتاب "الجمهورية" بين طريقتين للقراءة (Lexies) هما: المحاكاة التامة (mimesis)، والحكي البسيط (Diègèsis)، وهو في نظر أفلاطون كل ما يرويه الشاعر بنفسه. وهناك شكل مزدوج يتجاور فيه السرد مع التمثيل هو الشكل الملمحي، لم يصنفه أي منهما (أفلاطون وأرسطو). وه ذا يعني أن الخلاف بينهما هو إخلاف لأنهما يتفقان في تصنيفهما بين تشكيلين هما السرد والتمثيل(7). وإن كان أرسطو يقلل من أهمية شعر المحاكاة لأنه منقول، وهذا الحساب شكل أكثر تمثيلية هو المأساة، التي صنفها في أعلى مراتب الشعر، ويأتي بعدها الشعر الملحمي.
وحين يناقش جينيت هذه الأطروحات، يخلص إلى نتيجة أن الشكل الأمثل لتقديم الأحداث هو القصة، سواء اشتملت على مقاطع أدائية أم لا، لأن العنصر الأساسي هو السرد(. ومن هنا فإن أحكام القيمة حول المحاكاة الأفلاطونية تتماهى مع الحكي التام، لأن عنصر المفاضلة لا يمكن إقامته في هذا المجال.
I . 2 ـ السرد والوصف:
يقدم نقد المنظور الأفلاطوني والأرسطي للمحاكاة حدوداً جديدة للقصة، تتعلق بالكون الحكائي (Diegese)، الذي تتعاصر فيه مستويات لعرض وسرد الأحداث والأفعال، وهي ما يكون السرد (Narration)، وصيغ لتقديم الشخصيات والأشياء، وهو ما نسميه اليوم "الوصف". ومن هنا فإن السرد والوصف يقدمان صورة للتكامل الذي يمكن أن يكون عليه النص السردي عموماً، إذا لا يمكن أن نقيم بينها حواجز للتقييم الجمالي، كما ذهبت إلى ذلك البلاغة القديمة.
فالنصوص السردية للقرن التاسع عشر كانت تستهل بمقاطع وصفية طويلة، دون أن يختل النظام العام للنص، لأنه من غير الممكن العثور على نص سردي دون وصف، مهما كان طابعه الإخباري انتقائياً؛ لأن الوصف قيمة ثابتة مع أشكال الحضور القائمة والمكنة لكل فعل أو حدث أو شيء، بل قد نقول إن الوصف أكثر أهمية حتى عندما يتعلق الأمر بالتقييم العام، حيث إنه بإمكاننا أن نصف دون أن نسرد، غير أنه من غير الممكن القيام بالسرد دون أن نصف(9). وبالتالي فإن الوصف يملك وظيفتين أساسيتين في السرد هما:
أ ـ الوظيفة التزيينية: هذه الوظيفة تتطلبها البلاغة القديمة، التي ترتب الوصف ضمن أهم العناصر الأسلوبية. فالوظيفة التزينية (Dècoratif) في حقيقتها ذات بعد جمالي زخرفي، وهو ما يمكن تسميته "الوصف الخالص".
ب ـ الوظيفة التفسيرية الرمزية Explicatif et symbolique
يضطلع الوصف بهذه الوظيفة، في الحالات التي يكون التعبير الوصفي يهدف إلى تقديم ملامح الشخصيات ونفسياتها أو تعيين اللباس، والمنازل والقصور، أو الأماكن المختلفة بهدف الإسهام في تشكيل انطباع محدد لدى المتلقي؛ وبالتالي يؤدي الوصف دور العرض الذي تكون غايته تشخيصية(10)، وقد أسهم الوصف الرمزي والتفسيري في تقوية الأشكال السردية، مما يتيح إمكانات تشغيل الديناميكية الحكائية، مما يزيد من بلاغة التعبير عن الموقف السردي.
والاختلاف الذي يمكن تحديده بين السرد والوصف، يكمن فقط في محتوى كل منهما وعلاقته بالزمن؛ فاتصال السرد بالأفعال والأحداث يجعله أكثر ارتباطاً بالمقولة الزمنية، في حين أن الوصف نظراً لخصوصيته اللازمنية ـ في القصة ـ يمكنه أن يتغلب على العنصر الزمني من خلال تواقت عرضه للأشياء والشخصيات. وهكذا فإننا نحصل على خطابين متمايزين ومتكام لين أحدهما عملي (السرد)، والثاني تأملي (الوصف)(11). ولا يعني تنوعهما تعارضهما في البناء السردي، بل هما صيغتان لبناء القصة.
I . 3 ـ القصة والخطاب Rècit et discours
من أهم الإنجازات التي قدمها الشكلانيون الروس للنظرية البنيوية في ميدان السرد، هو التمييز الذي أقاموه بين المتن الحكائي والمبنى الحكائي، والذي حدده توماشفسكي في أن المتن هو مجموعة الأحداث المتصلة فيما بينها، والتي يقع إخبارنا بها من خلال النص.
أما المبنى الحكائي فهو الطريقة والنظام الذي تقدم به هذه الأحداث في العمل، مع ما يتبعها من معلومات وإشارات بعينها(12). وهذا التمييز ـ الذي تمت استعادته من تودوروف، وجينيت بتنويعات ـ تبين مدى الأهمية التي تكتسبها التحديدات المنهجية للخطاب السردي. بالإضافة على هذا فإن جينيت يستفيد من اقتراحات اللساني البنيوي إميل بنفنيست (E.Benveneste)، الذي يعد من أبرز الذين أسسوا لمصطلح الخطاب بعد هاريس.
وتتمثل هذه الأهمية في التمييز الذي أقامه بين السرد (أو الحكاية) والخطاب، وهذا في سياق التمييز الذي أقامه بين أزمنة الفعل في اللغة الفرنسية، حيث فرق بين مستويين هما: زمن الحكاية (Histoire) وزمن الخطاب (Discours). وعرف الخطاب على أنه ملحوظ موجه من مرسل إلى ملتقى، يسعى فيه المرسل للتأثير في المتلقي بشكل من الأشكال(13).
ويحدد بنفنيست تمييزه لأزمنة الأفعال، مع ظروف الزمان إلى فئتين: إحداهما يتمثلها الخطاب، والأخرى تختص بالقصة؛ حيث جعل الضمائر أنا (Je) وأنت (Tu)، وظروف الزمان مثل اليوم، البارحة، الآن، غدا، والصيغة الزمنية لأفعال الحاضر والمستقبل، مخصصة للخطاب.
أما بالنسبة للقصة فإنها تختص بالضمير "هو" (il)، وفي المستوى الزمني تختص القصة بالماضي المطلق (Aoriste). ومهما كانت التنويعات الممكنة والحاصلة، فإن النتيجة التي نصل إليها هي أن الصيغ اللسانية تجعل ا لقصة تتسم بالموضوعية، على عكس ذاتية الخطاب.
ومستوى آخر من يميز القصة عن الخطاب، نستنتجه من الطرح السابق؛ هو أن الخطاب بحكم طابعه الخصوصي، بإمكانه أن يتضمن المقاطع السردية؛ على عكس السرد الذي يتميز بخصوصية القص، فالقصة لا تعتمد صيغة الزمن الحاضر وضمير المتكلم
(14).
غير أن صعوبة الفصل في الحدود البينية تبقى قائمة، لأن الكاتب يتعامل مع صيغة السرد بأساليب شتى؛ قد تكون عن طريق تكليف شخصية رئيسية تتكلم وتقوم بوظيفة السرد والتعليق على الأحداث، مثل ما هي عليه القصص الشطارية، أو قد تكون عبر توزيع أدوار السرد على عدة شخصيات في العمل الروائي (إليوز الجديدة، العلاقات الخطيرة)، وقد تكون بصيغة أكثر مرونة من خلال الحديث النفسي للشخصيات الرئيسية للقصة، وهذه الحالة هي الوحيدة التي يحدث فيها توازن بين الخطاب والسرد.
وقد قامت أشكال سردية معاصرة على إلغاء دور الخطاب عبر متتالية من الجمل القصيرة، وهذا النقاء السردي نجده عند همنغواي، وآلان روب غربية، أو ألبير كامي في رواية الغريب(15). وإذا كانت هذه هي التحديدات التي يقدمها جينيت في بداية مساره النقدي، فإنه ـ كما أشرنا سابقاً ـ يعمل باستمرار على الاشتغال بالتحديد المنهجي لمختلف الأسئلة التي يطرحها تحليل الخطاب السردي من منظور الشعرية البنيوية، ولذلك نجده في مقالته "خطاب القصة" (Discours du rècit) المنشور ضمن مقالات كتابه "أشكال III"، يراجع مصطلحاته حول السردية، ويقدم جملة أفكار يستفيد فيها بالخصوص من مقولات تودوروف 1966 حول الزمن والصيغة والخطاب.
وقبل صياغة المراحل الإجرائية لمعالجة النصوص السردية، يقدم جينيت ثلاثة أنواع للسرد والحكاية أو لنقل ثلاثة معاني:
ـ المعنى و/أو النوع الأول: القصة الحكاية (histoire) وهو الملفوظ السردي منقولاً عبر الخطاب الشفوي أو المكتوب، والذي يضمن العلاقة بين مجموعة من الأحد اث، وهذا المعنى هو الأكثر شيوعاً، وهو ما دعاه القصة (histoier)
ـ المعنى و/أو النوع الثاني: وهو أقل انتشاراً، يستخدم عند المحللين ومنظري المضامين السردية، وتعني فيه لفظة "حكاية" (Rècit): تتالى مجموعة من الأحداث الواقعية أو المتخيلة وفق علاقات متعددة، كالتتالي أو التعارض أو التكرار؛ ومن ثم فإن تحليل الحكاية، يعني دراسة مجموع الأحداث والحالات دون اعتبار للوسيط اللساني(16)، وهذا ما دعاه حكاية (Rècit).
ـ المعنى و/أو النوع الثالث: فهو ذو بعد توصيفي لفعل الحكي، أي إنه يشير إلى وضعية يقوم فيها شخص بفعل القص(17)، ويدعو هذا النوع السرد (Narration).
واستناداً للتحديات بمفهومها "المتداول"، أي الخطاب السردي المتضمن في الأدب، أي إنه يركز على دراسة النص السردي من منظور العلاقة القائمة بين الخطاب والأحداث التي يسردها بالمعنى الثاني، وبين الخطاب وفعل الحكي بالمعنى الثالث. وبادر جينيت إلى تعيين مصطلحات للمعاني الثلاثة للحكاية، بحيث صار لدينا القصة (المعنى الأول Histoire)، الحكاية (المعنى الثاني Rècit)، والسرد (المعنى الثالث Narration). وفي هذا المستوى من الطرح يصبح تحليل الخطاب بالنسبة له هو دراسة العلاقة بين الحكاية والقصة من جهة، وبين القصة والسرد من جهة ثانية، وهذا حسب طبيعة العلاقة القائمة بينهما في مستوى النص، وبين الحكاية والسرد(18). ولتحقق هذا المسعى المنهجي يستند جينيت للتقسيم الذي اقترحه تودوروف، والذي يميز فيه بين ثلاثة مستويات هي:
أ) الزمن (Temps): حيث تتم دراسة العلاقة بين زمن السرد وزمن الخطاب.
ب) الرؤية أو الجهة (Aspect): وتتعلق بالطريقة التي يتمثل من خلالها الراوي الحكاية.
ج) الصيغة (Mode): وتتعلق بنوعية الخطاب الموظف من طرف السارد.
ويضيف جينيت إلى ال تصنيف السابق بعض التعديلات تتمثل في إدراج ما أسماه تودوروف زمن الكتابة وزمن القراءة، العلاقة بين الحكاية والسرد.
كما قام بالجمع بين الصيغة الثانية والثالثة (الجهة والصيغة) في مقولة كبرى هي أنماط الحكي، أو درجات المحاكاة.
أما المقولة الثالثة، التي تتعلق بأسلوب السرد نفسه، والتي تنبني على التعارض التقليدي بين الرواية بضمير المتكلم والحكاية بضمير الغائب، فإنه يقترح لها مصطلح الصوت (Voix)(19). وبذلك يصبح مجال البحث موزعاً على ثلاث مقولات هي: الزمن والصيغة؛ ويشتغل كلاهما في سياق العلاقة القائمة بين القصة والحكاية؛ في حين أن مقولة الصوت تتمثل في مستوى العلاقة بين الحكاية والسرد، وبين القصة والسرد، ويمكن أن نوضح هذه العلاقات بالشكل التالي:
ـ مقولة الزمن = الحكاية والقصة.
ـ مقولة الصيغة = القصة والحكاية
ـ مقولة الصوت السردي = الحكاية والسرد
ويتم تفكيك المقولات السابقة، خاص المقولة الأولى أي مقولة الزمن، لتتناول النظام والمدة والتواتر (Ordre-Durèe-Frèquence) ، وتضاف إليها مقولة الصيغة ومقولة الصوت.
وهكذا يكتمل اقتراح جينيت لتصبح دراسة النص السردي موزعة على خمسة مباحث؛ الأربعة الأولى تتعلق بدراسة العلاقة بين الحكاية والقصة؛ أما المبحث الخامس فينقسم إلى قسمين هما: دراسة علاقة كل من الحكاية والقصة بالسرد. وإذا حاولنا معرفة المستوى النظري والإجرائي لهذه المباحث وصلنا إلى التحديدات الآتية:
I .3 .1 ـ النظام Ordrd:
ينطلق جينيت في هذا المستوى من خلال القول بأن الحكاية هي نظام زمني مزدوج، حيث نصادف مظهرين لزمن الحكاية: الزمن الأول هو زمن الأحداث كما وقعت بالفعل (زمن الحكاية)، والزمن الثاني هو زمن يخضع لانتظامات الخطاب أو القصة.
ولدراسة هذه الوضعيات، التي تتخالف أو تتعاقب، يقترح دراستها ضمن ما يسميه المفارقات الزمنية (Anachronies)، والتي تتمظهر من خلال المدى والسعة، السوابق واللواحق، باعتبار أنها تشكل خرقاً للنظام بين مسار الحكاية ومسار القصة. وهذه الخاصية تتميز بها الكتابات المعاصرة، على عكس النصوص الفلكلورية التي تتابع فيها الأحداث وفق تسلسل كرونولوجي، وللإمساك بالسيرورة الزمنية يجب تجزئته على مقاطع محددة، وملاحظة تدلاتها وإعادة ترتيبها ضمن القصة، وفق تشديد يلح على تسجيل التمفصلات الزمنية الصغرى وبنائها، بما يتيح للدارس الإمساك بالبنية الزمنية الكبرى(20). ومراعاة المفارقات الزمنية وفق مسار منهجي، يقدمه جينيت كما يأتي:
I . 3. 2 ـ المدى والسعة:
إن طبيعة النص السردي في مستوى العلاقة بين الحكاية والقصة، يتيح مجالاً واسعاً لحركة الزمن وانتظامه وفق مفارقة تتطلبها القصة، وفي مستوى المدى والسعة يتم التركيز على المدى الذي تستغرقه المفارقة الزمنية باتجاه الماضي أو المستقبل. بعيداً عن حاضر القصة أو الحكاية(21). ومدى المقارنة قد يستغرق مدة تطول أو تقصر من الحكاية ذاتها، وهذه المدة المستهلكة في مجال المدى هي التي تسمى سعة المفارقة الزمنية. وبهذا يكون للمدى بعد ممتد في حقيقة الزمن، بالمقارنة مع زمن الحادثة في الحكاية، بحيث يتجه للماضي أو المستقبل، في حين تكون السعة تمثل درجة الاستغراق الزمني في مستوى المدى.
وبرغم الطابع "القياسي" الذي يمثله المدى والسعة فإنه يبقى متغيراً بحسب أهمية الموقف السردي، ويتضح بصورة أدق في محوريين أساسيين هما: السوابق واللواحق أو ما يعرف بالاستباقات والاستشراف، أو الاسترجاعات، والاستباقات.
I . 3 .3 ـ السوابق Analepses:
يقترح جينيت لدراسة المفارقات الزمنية، الاسترجاعات والاستشرافات، إعطاء مصطلح للحكاية التي وصفها، وتكون منطلقاً لتحديد نوع المفارقة. هذا المصطلح هو "الحكاية الأولى" (Rècit premier)، فالحكاية الأولى هي نقطة التمفصل الزمني الأساسية التي تحدد صيغة المفارقة باتجاه الماضي أو المستقبل.
يمكن للاسترجاعات أن تتخذ مظهراً داخلياً وآخر خارجياً.
أ ـ الاسترجاعات الداخلية (Hètèrodiègètiques): تتعلق بأن ندرج داخل سياق الحكاية الأولى الأساسية عناصر جديدة غير متأصلة فيها، كأن يضيف السارد شخصية جديدة، ويضيء حياتها السابقة عبر إعطاء معلومات متعلقة بها. أو أن تتم العودة إلى شخصية غيبت مدى عن سطح المسار السردي، وتقدم للقارئ ملاحظات بشأنها. أو أن تقوم شخصية داخل الحكاية الأولى بسرد حكاية تتعلق بموقف ما، وصيغ الاسترجاع الداخلي يمكن وصفها بالحكي الثاني (Rècit Second)(22)، أو القصة الغيرية(23).
ويؤكد جينيت أهمية وحساسية وخطورة الاسترجاع الداخلين لما يصيغه من غموض وتداخل بين هيكل الحكاية الأساسية، والعناصر الحكائية الشاردة الملتصقة به، إلا أنه بالإمكان تصنيف هذه العناصر إلى فئتين:
ـ الفئة الأولى: وهي عناصر يمكن أن تدرج في سياق "الحكي الأول" ويمكن تسميتها "الاسترجاعات المكملة (Analepses Complètives)، وهي استرجاعات تقوم بوظيفة سد الإغفالات والسهو والفجوات، التي أهملتها القصة عبر حركة الزمن السردي؛ كأن نذكر بعد تقدم مهم في الحكاية حادثة وقعت للشخصية، تساعدنا في فهم موقفنا الحالي.
ويمكن أن تتخذ هذه الاسترجاعات صفة تذكارات، وهذا عبر التكرار الذي يهدف إلى التذكير بمواقف، أو أقوال، أو أحداث (24). وقد تكون من بين أهم وظائف هذا النوع من الاسترجاع هو الوظيفة التأويلية.
ـ الفئة الثانية: هي الاسترجاعات الخارجية، فإنها تتصل أساساً بالمدى والسعة، وربما يكون للسعة الد ور الحاكم في ذلك. وهي من حيث صلتها "بالحكاية الأولى" لا تربطها أي علاقة من حيث تسلسل وقائعها الداخلية، بل يمكن أن تنطلق من مدى زمني ماضٍ، يتسلسل حتى يصل إلى نقطة انطلاق "الحكاية الأولى"، ويتجاوزها في المدى الزمني. ونصادف في الاسترجاعات الخارجية صنفين متميزين:
ـ الصنف الأول يتعلق بسرد حادثة ماضية، ثم يقفز السارد على ما تلاها ليعود إلى متابعة سرد وقائع الحكاية الأولى، وهي ما يسمى الاسترجاع الجزئي (Analepsies Partielles).
ـ أما الصنف الثاني من الاسترجاع الخارجي، فيتم من خلال سرد متسلسل لوقائع ممتدة زمنياً وفق تتابع متصل، يستمر حتى نقطة بداية "الحكاية الأولى". وهو ما يسمى الاسترجاع التام (Analepsie Complète)(25).
ونستطيع أن نبين أن الاسترجاعات الخارجية، يمكن أن تصنف في خانة الذكريات، لأن السارد و/أو الشخصية يقوم باستحضار مواقف زمنية ماضية لا صلة لها بجوهر الحكاية الأولى، وأنها غير ذات أهمية من حيث وظيفتها في التوضيح.
I . 3. 4 ـ الاستباقات والاستشراف Prolepses
تتميز الاستباقات والاستشرافات بطابعها المستقبلي التنبئي، وتتميز بضآلة حضورها في النصوص السردية المعاصرة، باستثناء ربما الكتابات السردية السير ـ ذاتية (Auto Biographique). ويشير جينيت إلى أن رواية "البحث عن الزمن الضائع" لمارسيل بروست (Marcel Proust) تشكل النموذج المعاصر الأكثر استعمالاً لهذه التقنية السردية، كما يضيف أن أفضل النصوص السردية التي تملك قابلية تمثل الاستشراف هي النصوص المسرودة بضمير المتكلم(26).
وتنقسم الاستباقات والاستشرافات إلى قسمين: استباقات داخلية وخارجية. وتخضع هذه الأصناف من الاستباقات لنفس التقسيم الخاص بالاسترجاع، فهي استباقات داخلية تتصل بالحكاية الأولى، وتكون إما استباقات تكميلية تنبئنا بما سيكون عليه مسار الشخصية مستقبلاً، و استباقات تكرارية تكون وظيفته ا عكس وظيفة الاسترجاعات التكرارية. فإذا كانت وظيفة هذه الأخيرة هي تذكير المتلقي بالموقف أو الحادثة، فإن وظيفة الاستباق الداخلي التكراري هي الإعلان (27) عن الموقف أو الحادثة، التي سيأتي ذكرها بالتفصيل لاحقاً. ويتصل الإعلان بإثارة التوقع لدى القارئ والمتلقي، ويخضع بدوره لمقولة المدى والسعة؛ حيث إن الإعلان قد تفصله عن تحققه مدة قصيرة أو طويلة، كأن يكون في نهاية فصل من الرواية ليقدم الفصل التالي، أو يكون الإعلان ذا سعة كبيرة بالمقارنة مع الفرع الأول.
ويشير جينيت إلى أن الإعلان قد يتخذ طابعاً إيجابياً غير مصرح به، وهذا ما يدعو (Amorce) أي بداءة، وهو إعلان لا نحس به على أنه كذلك، لأن السارد يلمح إلى شخصية أو موقف أو حادثة، دون أن يقول بأنها ستكون مستقبلاً ذات أثر، أو أنها ستغير مجرى الأحداث. فالإعلانات من هذا النوع تتعلق بفن التهيؤ الكلاسيكي تماماً، كأن تظهر منذ البداية شخصية لن تتدخل حتى إلا بعد ذلك بكثير(28).
وقد نصادف أخيراً في مجال البحث في المفارقا ت الزمنية صيغاً، يمكن أن تحدث تداخلاً في السياقات الاستباقية والاسترجاعية، كأن يكون الاستباق مبنياً على استرجاع أو العكس. وهذه الحالات الزمنية المتعالقة بين "الحكي الأول" و"الحكي الثاني" هو ما يمكن تسميته بحالات اللاتواقت (Anachronie)، وهي تراكبات زمنية يتعدد مداها ويتفاعل يصل إلى درجات مختلفة.
I .3 .5 ـ المدة Durèe:
يؤكد جينيت في هذا المستوى من دراسة العلاقة بين الحكاية والقصة، صعوبة البحث العملية، بالمقارنة مع دراسة النظام؛ فإذا كانت العلاقة بين نظام الأحداث في الحكاية، وتوقيت عرضها في القصة قابلة للمعاينة، من حيث إدراك زمن وتوقيت سردها. فإن علاقة المدة بين زمن الحكاية وزمن القصة لا تخلو من صعوبة، وذلك نظراً لاعتبارات تختلف عن الأولى، بحكم أن علاقة المدة ذات بعد ذاتي في إدراك قيمة وسعة المستوى الزمني للحكاية والقصة من جهة، كما أن السارد يتناوب بين عملية قص الأحداث الواقعية، وعرض الأبعاد النفسية، وتقديم أشكال متعددة من القص، منها الحوار والسرد وا لتأمل، وما إلى ذلك.
ويقترح جينيت لدراسة المدة أربعة مفاهيم وصيغ أساسية هي:
أ) الوقفة (Pause)(20): تتحقق هذه الصيغة عادة بإبطاء السرد من خلال الوصف، ويكون فيها زمن القصة أكبر من زمن الحكاية بصورة واضحة. وتكون الوقفة الوصفية ذات كتابة مطلقة، لأنها تستند لتعطيل فاعلية الزمن السردي، من خلال تعداد ملامح وخصائص الأشياء.
ب) المشهد (Scène): يعد المشهد مساحة زمنية نصية مناظرة للملخص، فإذا كان الملخص تسريعاً للسرد، فإن المشهد هو تفصيل وإبطاء له، وإن كانت العلاقة الزمنية القائمة في المشهد مساوية للقيمة الزمنية في الحكاية، فإن الإحساس العام للقارئ هو أن السرد يسير ببطء. خاصة إذا كان موقعاً للمفارقات الزمنية المتعددة، أو للحوار الداخلي للشخصيات؛ كما هو الشأن عند مارسيل بروست الذي يشكل المشهد عنده "بؤرة زمنية" تتداخل فيها الاستردادات والاستشرافات والترددات الوصفية وتدخلات السارد(3 0).
ج) التلخيص أو الملخص أو المجمل (Sommaire)(31): وهو أن يتم ذكر سرد عدة سنوات سابقة، في عدة فقرات أو عدة صفحات، ويتم هذا دون تفاصيل في ذكر الأحداث، أو نقل الأقوال. وهذا الشكل من العلاقات السردية قليل الحضور في النصوص السردية إجمالاً، ويمكن أن يتلاءم مع بنية الاسترجاع الزمني في بعض الحالات، وفيه يكون زمن القصة أقصر من زمن الحكاية.
د) الحذف (ellipse)(32): إن صفة الحذف تختلف عما سبق من حديث عن الملخص أو المجمل؛ لأن الحذف الزمني يعني القفز عن مراحل زمنية تطول أو تقصر متصلة بالحكاية، فيتم الإغفال الكلي والمطلق للأحداث والأقوال خلال هذه الفترة الزمنية. ويقسم جينيت الحذف إلى ثلاثة أشكال أو مظاهر، هي:
د.1 ـ الحذف الصريح (Explicite determine): وهو الحذف الذي يجد إشارات دالة عليه في ثنايا النص، كأن نقول، بعد عشر سنوات، خلال أسبوع.
د. 2 ـ الحذف الضمني (Implicite): وهو حذف مسكوت عنه في مستوى النص، وغير مصرح به أو بمدته، فهو حذف مغفل، نكتشفه ونحس به من خلال القراءة، حيث إن المقاطع الزمنية بين التحولات السردية، أو في ملامح وصفات الشخصيات، تجعل القارئ بربط هذه الفواصل والتغيرات الزمنية ليعيد للقصة تسلسلها الزمني.
د. 3 ـ الحذف الفرضي (Hypothètique): وهذا النوع من الحذف، الذي لم يوضحه جينيت بدقة، يمكن أن نحدده من خلال غياب الإشارة الزمنية في النص من البداية، لكن يتم استحضاره عرضاً عن طريق الاسترجاع، وهذا النوع من الحذف صعب الإدراك "لأنه من غير الممكن تحديده بدقة، بل أحياناً تستحيل موضعته في موقع ما"(33).
وتجعل الحديث في هذا الصدد للقول بأن الحذف على عكس الوقفة الوصفية يكون فيه زمن القص أصغر إلى ما لانهاية بالنظر إلى زمن الحكاية.
وهذه الصيغ جميعها تتحدد من خلال ال علاقة بين زمن القصة (زق) وزمن الحكاية (زح)، وفق التصور الآتي، الذي يتوزع بين إبطاء للسرد أو تسريع له:
ـ الوقفة: زق = زح ن = 0 إذن زق ? > زح
ـ المشهد: زق = زح
ـ الملخص: زق < زح
ـ الحذف:زق = 0 ، زح = ن إذن زح < ? زق (34)
I .3 . 6 ـ التواتر (Frèquence):
يعرف جينيت التواتر السردي بأنه درجة التواتر والتكرار القائمة بين الحكاية والقصة، ويشير إلى أن هذا العنصر الزمني بقي مجالاً مهملاً من طرف النقاد ومنظري الرواية. وتبرز قيمة التواتر من خلال تكرار الوحدات السردية، في مواقع مختلة من النص، وإن كنا قد لاحظنا ذلك سابقاً في مبحثي الاستباق والاستشراف، فإن درجة التواتر يمكن أن تتمظهر وفق أشكال هي أربعة متفرعة عن صيغتين أساسيتين، هما السرد المفرد والسرد التكراري:
ـ السرد المفرد أو التفردي (Singulafif) هو: أن يروى مرة واحدة ما حدث مرة واحدة، حيث أن ما حدث في الحكاية يعاد سرده في القصة ح1/ ق1. وقد يكون التكرار المفرد في صفة متعددة؛ كأن يروي عدة مرات ما حدث عدة مرات، وصيغته ح ن / ق ن.
ـ السرد التكراري (itèrafif) فيكون على مظهرين:
أ ـ أن يروى مرات لا متناهية ما وقع مرة واحدة، ح1 / ق ن. أي أن ما وقع مرة واحدة في الحكاية، يعاد تكراره في مستوى القصة.
ب ـ أن يروى مرة ما حدث عدة مرات، ح ن / ق 1. بمعنى أن الأحداث التي تكررت في مستوى الحكاية، تسرد مرة واحدة في القصة (35).
وهذه الصيغ الترددية للزمن السردي ذات بعد تكراري غايتها التأكيد أو الوصف، أو الاختصار. ويضيف جينيت إلى التقسيم الزمني السابق إشارة إلى المظاهر الزمنية التي يشتمل عليها السرد، هي التحديد والتخصيص والاستغراق الزمني. فمن خلال المثال الآتي: "أيام الأحد من صيف عام 1890"، فعناصر هذه السلسلة الزمنية تتوزع بصفات تجعل "أيام الأحد" تحديداً زمنياً (Dètermination)، وعبارة "من صيف عام 1890" تخصيصاً (specification)، لأنها متصلة بمرحلة من فصول السنة. وهناك صفة أخرى هي الاستغراق، وتتصل بمدة الحدث. فقد يكون الاستغراق لمدة يوم وهي 24 ساعة، وقد تتقلص إلى ساعات النهار فقط(36).
ويمكننا أن ندرج في سياق البحث في التواتر التفاعلات الزمنية الممكنة؛ كالزمن الداخلي والخارجي (Diachronie interne et externe)، المتعلقة بكل صيغ القبل والبعد، والتي تعبر عنها ظروف الزمان (أحياناً، غالباً، تارة، أو، مرات... بعد نصف ساعة، ثم شيئاً فشيئاً..). كما يمكن للترددات أن تكون ذات بعد وظيفي في سيرورة السرد، يتحدد من خلال التناوب (Alternance)، وا لانتقال الزمني (Transition)(37).
I . 3 . 7 ـ الصيغة Mode:
إن مقولة الصيغة تحدد في مستوى العلاقة بين القصة والسرد أو الخطاب، وذلك من موقع كمية الإخبار المنقولة وفق رؤية معينة، وضمن أشكال مختلفة تتعلق بالسارد أو الراوي وما يرويه، وكيفية روايته. ويعد الموقف الذي يتخذه السارد من الأحداث، من حيث قربه أو بعده عنها، وكذلك الموقع الذي يتخذه للتعامل مع الأحداث والشخصيات، الشكلان الأساسيان لتنظيم الخبر السردي، ويعرفان على التوالي بالمسافة (Distance)، والمنظور (Perspective) (38). وإذا حاولنا فهم خصوصية كل منهما نجد أن ذلك يتوضح كما يلي:
أ) المسافة (Distance):
ميز أفلاطون ـ كما أسلفنا في حديثنا عن الحكاية التامة والمحاكاة ـ بين راو يسرد الأحداث مباشرة بنفسه، وآخر يقدمها عن طريق الشخصيات (39). وميزت الدراسات الإنجلو ـ ساكسونية مع هنري جيمس بين صفتين هم العرض (Showing) والسرد أو القول (Telling)، ومناقشة لهذه التصورات السابقة يميز جينيت بين مظهرين للسرد هما: "سرد الأفعال"، وسرد الأقوال".
ـ فسرد الأفعال أو الأحداث (Rècit dèvènements) تتظافر عناصر السارد مع طريقة سرده، وفق علاقة كمية بين المشهد الحدثي الفعلي، والخطاب المعبر عنهن بما تحدده سرعة النص السردي. وهو ما يجعل المقام السردي أو الصيغة مرتبطة بقضايا بعيدة عنها؛ إن سرد الأفعال يمثل مستوى تحدده مسافة الراوي، مما يعرضه من أحداث في النص.
ـ أما سرد الأقوال (Rècit de paroles) (40) في هذا المستوى من العلاقة بين القصة والسرد أو الخطاب، يبدو المظهر الأساسي لكل فعل سردي هو التعامل مع أقوال وخطابات الشخصيات، وهذه الخطابات، و كلام الشخصيات يتم التعامل معه من قبل السارد، بحسب مسافته من هذه الشخصيات أو تلك. ولذلك فإن نقله للأقوال محكوم بصيغة تقديمها للمتلقي، سواء عبر كلام الشخصية المباشرة، أو من خلال تخ طيب أقوال الشخصيات ضمن كلام السارد. ويميز جينيت في هذا المجال ثلاث حالات هي:
أ. 1 ـ الخطاب المسرود أو المروي (Discours Narrativisè ou racontè) وهو خطاب يقوله السارد، وينقل فيه كلام الشخصية ويحلله.
أ . 2 ـ الخطاب المحول بأسلوب غير مباشر (Discours transpose au style indirecte) وفيه لا يكتفي السارد بنقل خطاب الشخصيات وأقوالها، بل يكثفها ويدمجها في خطابه الخاص، ومن ثم فتتخذ تلوينات خطابه. وهذا الشكل يختلف عن الأسلوب غير المباشر الحر، الذي يتداخل فيه خطاب الشخصية المصرح به أو الداخلي مع خطاب السارد.
أ . 3 ـ الخطاب المنقول (Discours rapportè): ويتميز بأن السارد يفسح المجال لأقوال الشخصية بالبروز بكل خصائصه الأسلوبية والدلالية، فيتخذ طابعاً مسموحاً يتسم بالمباشرة في الظهور. ويرى جينيت أن الصيغة الأخيرة قد ميزت الرواية الحديثة، فدفعت هذا النوع من المحاكاة إلى منتهاه، وحاصرت مواقع المقام السردي أو السارد، ليتحول لمجرد ناقل للأقوال(41).
I . 3. 8 ـ المنظور:
يتعلق المنظور في ما اصطلح على تسميته بوجهة النظر، ويؤكد جينيت أن كل الدراسات التي تناولت هذا الموضوع وقعت في اضطراب وخلط كبيرين، وهو يقترح لذلك التمييز بين الصيغة والصوت. أي بين "من يرى" و"من يتكلم" (Qui voit qui parle)، وبعدما يعرض مجمل التصورات السابقة التي تناولت المنظور منذ سنة 1943 على يد كلينين بروكس وروبرتن بن وارين مروراً بـ شتانزل 1955، وصولاً إلى تورمان فريدمان وواين بوث 1961، وأخيراً تصنيفات تودوروف حول الحالات الثلاثة لعلاقة الراوي بالشخصية (42)، بعد كل هذا يقترح جينيت مصطلح "التبئير" (Focalisation)، الذي يتحاشى فيه التركيز على الجانب البصري، الذي اعتمده سابقوه عندما اقترحوا مصطلحات بديلة مثل المنظور والرؤية. ويستلهم مصطلح البؤرة السردية من كلينث بروكسن ووارين. وانطلاقاً من هذا يميز جينيت بين ثلاث حالات من التبئير هي:
ـ التبئير صفر (Focalisation Zèro): هو التبئير الذي يشمل مجمل الكتابة الكلاسيكية ويهيمن فيه الراوي العليم (Narrateur omniscient)
ـ التبئير الداخلي (Focalisation Interne): وهو تبئير تتضح فيه وجهات نظر الشخصيات إزاء موقف واحد، كما أن السارد لا يصف الشخصية البؤرية ولا يشير إليها من الخارج.
ـ التبئير الخارجي (Focalisation Externe): وهو تبئير يقوم به شاهد خارج عن الأحداث(43).
وهكذا نصل إلى التقسيم الثلاثي الشبيه لما قدمه تودوروف كما رأينا سابقاً، إلا أن ما يميز جينيت هو الحيوية التي تختص بها هذه التبئيرات. من حيث إنها لا تختص بالنص، بمعنى أن التبئير الداخلي قد يكون في مقطع يليه تبئير خارجي والعكس بالعكس.
كما أن جينيت يقدم في سياق حديثه عن التئبير م ا يسميه التعددية الصيغية، التي يمكن أن تتقاطع أو تتناوب داخل السرد. وهذا التعدد يتيح للقارئ حرية الحركة، كما يمكنه من التفاعل المتنوع مع الأبعاد الخارجية والداخلية، سواء بالنسبة للشخصيات أو للسارد.
I . 3 . 9 ـ الصوت السردي (Voix Narrative):
يكمل جينيت القسم الثاني من مقولته المتعلقة بـ "من يرى؟" و "من يتكلم؟"، بطرح إجراء منهجي يخص المقام السردي أو الهيئة السردية (Instance Narrative)، التي يمثلها شخص السارد؛ وبحثنا هنا يتجاوز السارد المحدد بوجهة النظر، لأن الوضعية السردية هي شيء آخر، هي مجموع معقد يتجاوز التحليل والوصف، إنه يكمن في العلاقة الوطيدة التي تربط الفعل السردي بعناصره المتعارضة، والمتفاعلة المحددة في الزمان والمكان، وعلاقته بأوضاع سردية أخرى، متضمنة داخل القصة نفسها، ويتصل المقام السردي ببعد زمني يحدد موقعه من القصة. وهكذا نجد أن السرد من منظور زمني، يكون في الأغلب فعلاً لاحقاً لما يقوم به المقام السردي. غير أن هناك علاقات أخرى يكون فيها المقام لاحقاً، أو متواقتاً، أو متعدداً. ويميز جينيت في هذا الصدد أربع حالات مبنية على أساس العلاقة بين المقام السردي والزمن، هي:
ـ السرد اللاحق على الحدث (Ultèrieure): مثله الرواية الكلاسيكية التي يقع زمنها في صيغة الماضي.
ـ السرد السابق (antèrieure): ومثله الرواية المبنية على التنبؤ وزمنها المستقبل.
ـ السرد المتواقت (Simultanèe): ومثله الرواية المبنية على الزمن المضارع، كما في حالات البث المباشر عبر الراديو أو التلفزيون.
ـ السرد المتعدد المقامات (Complexe)(44): ومثله الرواية الرسائلية، حيث يتم الجمع بين القصص والحوار الداخلي والتذكر والرؤية الحاضرة والمستقبلية.
كما يتضمن الصوت السردي، بالإضافة للمقام السر دي والزمن، عنصراً آخر هو الشخص المتكلم في القصة، وعلاقته بهذه القصة، وهذا ليس عن منظور الرؤية أو المسافة، بل من خلال وضع السارد داخل القصة أو خارجها، ومن خلال مستواه السردي أيضاً. ويحدد جينيت أربع حالات لنظام السارد، هي:
أ ـ سارد خارج القصة (غيري القصة): ونموذجه هوميروس، فهو سارد من الدرجة الأولى، يروي قصة هو خارج عنها ـ وظيفة توجيه.
ب ـ سارد خارج القصة (مثلي القصة): ونموذجه سارد من الدرجة الأولى، يروي قصته الخاصة الذاتية ـ وظيفة الشرح.
ج ـ سارد داخل القصة (غيري القصة): ونموذجه شهرزاد ساردة من الدرجة الثانية، تروي قصصاً هي غائبة عنها عموماً ـ وظيفة شعرية.
د ـ سارد داخل القصة (مثلي القصة): ونموذجه عوليس في إلياذة هوميروس، حيث إن سارداً من الدرجة الثانية يروي قصته الخاصة (45) ـ وظيفة توثي قية.
كما يشير جينيت إلى عنصر آخر هو مستوى الصوت السردي، هو شكل البطل السارد، الذي تتميز به النصوص السردية ذات الخصوصية السيرية. بالإضافة إلى عنصر أخير يتشكل منه الصوت السردي هو المسرود له (Le narrataire)، وقد يكون هذا العنصر إما داخلياً في الحكاية أو خارجاً عنها، وفي هذه الحال قد يلتبس مع القارئ الضمني (46).
ولعل هذا الاهتمام بالقارئ لم تتم الإشارة إليه بصورة كافية في البحث المنهجي الدقيق الذي صاغه جينيت للوضعيات السردية المختلفة، إلا أنه سعى لتصحيح ذلك لاحقاً.
وإذا كنا قد أطلنا في تقديم مقترحات جيرار جينيت في مقاربة النص السردي، فلأن ذلك يعود بالتأكيد بالفائدة على المستوى الثاني من هذا الباب، المتعلق بتلقي النقد البنيوي للنص السردي في الفضاء الثقافي العربي، والذي لا تخلو أي دراسة فيه من الملاحظات والتحديدات المنهجية للنقاد والباحث جيرار جينيت.
وتأتي أهمية مقترحات هذا الناقد في كونها تلبي الحاجة إلى نظرية منهجية للرواية، تتناول المصطلحات الأساسية، مثل وجهة النظر، والراوي العليم، والسرد بضمير الغائب.
وفكرة وجهة النظر وتحويلها إلى مفهوم البؤرة، الذي يفرق بين الراوي والرائي، وبين البؤرة والقص، يعد أحد الإنجازات الكبرى التي قام بها على صعيد مراجعة موضوع وجهة النظر(47).
ويعد هذا الجهد المعرفي التنظيري والمنهجي والإجرائي الذي قدمه جينيت، حلقة ضمن سلسلة المسار البنيوي لمقاربة النص السردي.
الهوامش:
1 ـ عبد الجليل الأزدي محمد معتصم: مقدمة ترجمة خطاب الحكاية، منشورات الاختلاف ط3 الجزائر 2003.
2- G èrard Genette: Figurelll editions du Seuil. 1972. page 13.
3 ـ فؤاد أبو منصور النقد البنيوي، ص 186.
4 ـ روبرت شولز: البنيوية في الأدب: ترجمة من عيود. اتحاد الكتاب العرب 1984
ص 181.
5 ـ جبرار جينيت: خطاب الحكاية: ترجمة محمد معتصم وآخرون. منشورات الاختلاف
ص 14.
6 ـ روبير شولز: البنيوية في الأدب ص 183.
7- Gèrard Genette: Frontière du rècit in Communication n 08 ed 1966. Page 160.
8- Gèrard Genette: Frontière du rècit in Communication n 08 ed 1966. Page 162.
9- Gèrard Genette: Figure 2 Seuil 1969 page 57.
10 ـ عمر عيلان: والإيديولوجيا وبنية الخطاب الروائي منشورات جامعة قسنطينة 2001 ص 220.
11- Gerard Genette: Frontières du Rècit Page 164.
12 ـ إبراهيم الخطيب: نظرية المنهج الشكلي نصوص الشكلانيين الروس الشركة المغربية للناشرين 1982، ص 1980.
13- Emile Benveniste: Problèmes de linguistique Gènèrale. Gallimard paris 1966 Page 201-202.
14- G.Genette: Figure ll. Page 66.
15- G.Genette: Frontière du Rècit Communication n 08. Page 169.
16- G.Genette: Figures 03p:71.
17- G.Genette: Figures iii p: 71.
18- Ibid: p: 74.
19- Ibid: page 76.
20- Ibid: p:85.
21- Ibid: p: 89.
22- Figures 02: D’un rècit Baroque, Seuil 1969. Page 202.
23 ـ في كتابه أشكال 02 يقترح جينيت مصطلح Mètadiègètique وهو ما يوائمه مصطلح القصة الغيرية الذي صاغه مترجمو كتاب خطاب الحكاية (ورد ذكره سابقاً).
_____
المصدر
°ˆ~*¤§(مستويات السرد عند.. جيرار جينيت ـــ د.عمر عيلان)§¤*~ˆ°