[b]
الخطاب الأدبي ومقتضيات التلقي ـ سليمة محفوظي
السبت, 15 أكتوبر 2011 11:50
سليمة محفوظي
المشاهدات: 706
يتميز الخطاب الشفوي بفرص ليست متاحة للخطاب المكتوب.
فالشفوي
فيه حضور متحدثين ويمكن أن يستعان فيه بالحركات والاشارات ويمكن تبادل
الأدوار بين المتكلم ومستمع فضلا عن أنه يمكن التحقق من آثار الخطاب
وتصحيحها فورا إن وجب التصحيح.
بينما تعترض القارئ جملة من الصعوبات نحاول أن نتبينها لاحقا.
إن
الموضوع نظرية القراءة وآليات التلقي يجعلنا ننصرف مباشرة إلى الخطاب
الأدبي بسبب ما يميز الإنتاج الأدبي من خصوصية بلغت درجة من التعقيد تستدعي
البحث والمساءلة وقد ذهب "فيني جيرار"إلى أن العلاقة بين المنشئ والمتلقي
هي العلاقة مبنية على عدم اليقين، بحيث إن الكاتب وهو ليس متأكد من نوايا
القارئ، كما أن القارئ وهو يقرأ ليس متيقنا من مقاصد الكاتب، فالعلاقة بين
الطرفين تقوم على الشك والاحتمال أصلا وهذا يعود إلى طبيعة الخطاب الأدبي
من جهة ثانية إلى عملية التلقي.
إن الخطاب الأدبي من طبيعته، بل من شروط
أدبيته ان يجعل الأشياء المألوفة تبدو وكأنها غير مألوفة، وهذا الفعل الذي
يتجه نحو خرق المألوف هو ما يخلق الغرابة وما يغلف العمل الأدبي بهالة من
السر قد تستعصي على التفسير ولعل هذه الظاهرة هي التي جعلت قدماء اليونان
ينسبون الشعر إلى ألهةالأولمب وقدماء العرب ينسبونه إلى شياطين واد عبقر.
إن هؤلاء وأولئك جميعا كان يؤرقهم سؤال لا يخص الشعر وحده وإنما ينسحب على
كل مظاهر الكون الغريبة والمدهشة، السؤال الذي فحواه "من أين جاء؟".
ولعل
الانسان غير مسيرته التاريخية اهتدى إلى جواب يطمئن إليه وذلك بالتفكير في
خالق علوي، وربما يئس من تكرار سؤال يعجز أن يجيب عنه، لكنه في كلتا
الحالتين ألزم نفسه بطرح السؤال المصيري "لماذا جاء الذي جاء؟"
إن هذين
السؤالين المتعلقين بالخلقية جمعاء يصدقان على الظاهرة الأدبية أيضا سوى
أن الأمر بالنسبة للإنسان يكون من المنشأ إلى القيامة، بينما يكون بالنسبة
للأدب من مصدر غيبي أو ذاتي ملغز أو واقعي إلى غاية اجتماعية أو إلى
اللاغاية إطلاقا.
وإذا ما سلمنا ((أن الأديب أو المفكر هو أثره ثم أثره،
استمرار لا تأكيدا وتكرارا وساعات الانتاج هي أكثر الساعات التي يكون فيها
صاحب الأثر أدبه أو فكره)) فإن ذلك يعني أن المبدع قد يصبح انسانا أخر
خارج لحظة الكتابة.
والراي الذي يشرط الإبداع بالعفوية وحدها يبلغ حدا من التطرف يسلب الأنسان المبدع إحدى صفاته الجوهرية وهي حضور العقل.
ولعل
أدباء كثيرين قد أغراهم هذا النزوع فانسقوا وراءه ليرسموا حول أنفسهم هالة
من الغموض، ولا يترددون في أن يصرحوا أن حالة الإبداع لا يستطيعون أن
يفسروها لأنها في تقديرهم ضرب من الإلهام أو الإشراق أو الحدس في حين يكون
الغموض ظاهرة طبيعية مطلوبة إذا هو انطوى على خصوبة في معرفة وثراء في
الفكر والفن ولكنه لا يكون أبهاما إذا هو انطوى على ضحالة وعجز.
لا شك
أن الغموض الأدبي يشكل أولى العقبات أمام المتلقي لأنه خطاب غير عادي
يستوقف المتلقي بثخونته وما تحمله من صور ونقوش والوان المتعامل معه من
عبوره او اختراقه يقول " عبد السلام المسدي":
((أن الخطاب الالسني
العادي هو خطاب شفاف يرى من خلاله معناه، ولا نكاد نراه هو في ذاته، فهو
منفذ بلوري لا يقوم حاجزا أمام أشعة البصر، بينما يتميز عنه الخطاب الأدبي
بكونه شفاف يستوقفك هو نفسه قبل أن يمكنك من عبوره أو اختراقه، فهو حاجز
بلوري طلى صورا ونقوشا وألوانا فصد أشعة البصر أن تتجاوزه))وهذا ما شأنه
أعن يضع المتلقي أمام جملة من المقتضيات:
أولا:
أن يتوفر على دربة
كافية في مجال اللغة، ليس بمعناها المعجمي ، لكن بظلالها الأدبية
فالسياق-كما هو معروف-يعطي الكلمة أبعادا لا تطالها الدلالة المعجمية
أحيانا وقد يستحيل أن يوجد المعنى المعجمي نفسه أحيانا أخرى.
ومن ذلك أن
المتلقي الذي لم يسمع بالنحت اللغوي أو لا يعرف دلالة السعد والنحس قد
يصعب عليه أن يعرف أو يتقبل لفظة "متشائل" في رواية" إميل حبيبي "أو لفظة
"الأصدقاء التي استعملها الشاعر الفلسطيني " عز الدين المناصرة" أو عوانا
مثل " الصعود نحو الأسفل" ل "الحبيب السائح "، على الرغم من أن البلاغيين
القدامى يستشهدون على الذم في معرض المدح بقول الشاعر:
((يا له من عمل صالح رفعه الله إلى الأسفل))
ولا
يبقى الأمر في حدود الألفاظ، بل يتعداها إلى التراكيب مما يقتضي ألفة
ومرانا لا تأتيان إلا بعد معاشرة طويلة للإنتاج الأدبي شعرا ونثرا.
ثانيا:
إن
أي نص لابد وأن يتركز على نقطة انطلاق معينة، وهي تمثل الخيط الذي إذا لم
يقبض المتلقي على رأسه تاه وخرج بلا نتيجة، ومن ثم تحتم أن يمارس المتلقي
عمليتي الاندماج ثم الانسحاب أو ما يسميه "محمد عابد الجابري" الوصل والفصل
عندما يتحدث عن قراءة التراث يقول:
(( اندماج الذات في التراث شيء آخر
أن يحتوينا التراث شيء، وأن نحتوي التراث شيء آخر ... أن القطيعة التي ندعو
إليها ليست القطيعة مع التراث بل القطيعة مع نوع من العلاقة مع التراث،
القطيعة التي تحولنا من "كائنات تراثية" إلى كائنات لها تراث))
بمعنى ان
يكون المتلقي قادرا على الاندماج في النص ليعيش أجواءه وأعن يكون قادرا-
بعد ذلك على الانسحاب منه بمسافة فاصلة تسمح له بان يحركه في رحابة ذهنية
في حالة الأولى/للاتصال يكون تحت مظلة النص وفي الحالة الثانية /الانفصال
يطوي تلك المظلة ليعينها عن بعد
إن النص ظاهر وباطن، ونقطة الارتكاز قد
تكون باطنية فلا ينخدع المتلقي بما هو ظاهر، وقد يكون ظاهرية فلا ينخدع
بمطاردة سر كامن وهو غير موجود أصلا إن بعض نصوص "طرفة بن العبد" توهم
بانغماسه في اللهو المجون ظاهريا لكن القراءة المتأنية تجعلك ترى الموت
ماثلاً أمامك في كل زاوية من زوايا النص إلى درجة أن المحرك الحقيقي للشعور
وللشعر عنده الاحساس بالموت في كل لحظة، وما مظاهر اللهو والمجون إلا
تجليات تعمق الاحساس بالموت وتؤكده، كما أن الموت يصير مبرراً لتعاطي اللهو
والمجون قبل فوات الأوان، وكأنه يسبق الخيام إذ قال:
((وأغنم من الحاضر لذاته فوات الأوان))
ثالثاً:
إن
المتلقي لا يقبل على النصوص وهو صفحة بيضاء، وإن مخزونه من الأحكام
المسبقة قد يكون مدعاة للإقبال كما قد يكون مدعاة للنفور ويكفي أن يجد في
افتتاحية "عرس بغل" للطاهر وطار إهداءه الرواية لـ"حسن طبري" عضو المكتب
السياسي لحزب تودة، ويكفي أن يدرك أن حزبتودةإنما هو الحزب الشيوعي
الايراني ليتخذ موقف رفض أو قبول.
رابعاً:
ولم تبق الكتابة الأدبية
في حدود الدائرة التقليدية المعهودة، فالشعر بطبيعته لغة اختزال وتكثيف بما
يستتبع ذلك من تقديم وتأخير وذكر وحذف وإضمار... كما أن الكتابة النثرية
لم تعد خطية معروفة البداية والوسط والنهاية، بل أصبحت بترهينها الحكاية
الأصلية تكسر التسلسل الزمني الخطي وتخلق من التداخل ما يقضي أكثر من قراءة
للنص الواحد، وما يستلزم إعادة الترتيب وفق ما يعين على الفهم.
خامساً:
وإذا كان لا ينتج من فراغ، وإنما يسبح في بنية نصية منتجة قبلا، وفي محيط ثقافي واجتماعي وكما يقول "سعيد يقطين":
((النص بنية دلالية تنتجها ذات (فردية أو جماعية) ضمن بنية منتجة، وفي إطار بنيات ثقافية واجتماعية محددة))
إذا
كان الأمر كذلك فإنه يقضي من المتلقي أن يكون ذا زاد أدبي/ثقافي وأن يكون
على دراية بخصوصيات الحركية الاجتماعية بوعي حاد، إذ لا يمكن فهم النص
فضلاً عن التمتع به كما لا يتحقق أثر إيجابا إلا إذا حضر البعد المعرفي في
القراءة فما كان لقصيدة "عبد الله البردوني" (أبو تمام وعروبة اليوم) لتحدث
أثرها المعروف لولا في تقاطعها مع أبيات أخرى تمام، بحيث استطاع
"البردوني" أن ينسج من ذلك التقاطع نصاً تأسس على التجاور والتجاوز بقوله:
((ما أصدق السيف إن لم ينضه الكذب وأكذب السيف إن لم يصدق الغضب))
بينما كتن الأصل عند أبي تمام قوله:
((السيف أصدق إنباء من الكتب في حده الحد الجد واللعب))
وقوله أيضاً:
((صبرا على المطل ما لم يتله الكذب فللخطوب إذا سامحتها عقب
ليس الحجاب بمقص عنك لي أملاً إن السماء ترجى حين تحتجب))
على
أن الصعوبة التي تعترض القارئ عندنا مصدرها تدريس اللغة العربية وآدابها
منهاجاً وطريقة، سواء بسبب أن التلميذ في ما قبل الطور الجامعي يظل مشدوداً
إلى الامتحان، أو لأن طريقة التدريس هي من العقم بحيث لا تؤهل الدارس
لمعالجة النص الأدبي على الوجه المطلوب فمن مظاهر العقم:
1- الجري وراء
وهم الاصلاح بالقفز من وضعية إلى أخرى بلا تقييم (الانتقال من الطريقة
التقليدية إلى التدريس بواسطة الأهداف إلى التدريس بالكفاءات) من غير تحكم
عملي في نموذج محدد.
2- إن النصوص المقررة لا تخرج عن الدائرة الكلاسيكية فضلاً عما يشوبها من نقص الجانب الجمالي.
3-
إن المقدمات التاريخية سواء أتعلقت بالأديب أم بالظروف التي عاشها تحتم أن
يقرأ النص الأدبي من خارجه، فلا يعود أن يصبح جسراً لتأكيد المقولات
التاريخية المسبقة بصرف النظر عن حظها من الموضوعية.
4- الطريقة
المعتمدة في تدريس النص الأدبي وخاصة في الطور الثانوي، محصورة في قوالب
جاهزة عن الأفكار والعاطفة يحفظها التلميذ ليلصقها بكل النصوص مهما تمايزت.
5-
إن الاقتصار على شذرات من البلاغة القديمة وتدريسها في حصة مستقلة،
بالإضافة إلى معالجة الأسلوب في خطوة تالية لأفكار من شأنه أن يكرس وهماً
بانفصال الشكل عن المضمون، وهي مغالطة مازالت تعاني منها الممارسة النقدية
إلى اليوم وهماً بانفصال الشكل عن المضمون، وهي مغالطة مازالت تعاني منها
الممارسة النقدية إلى اليوم
الهوامش
VIGNIER (Gérard) : lire - du texte au sens, éléments pour un apprentissage et un enseignement de la
فالشفوي
فيه حضور متحدثين ويمكن أن يستعان فيه بالحركات والاشارات ويمكن تبادل
الأدوار بين المتكلم ومستمع فضلا عن أنه يمكن التحقق من آثار الخطاب
وتصحيحها فورا إن وجب التصحيح.
بينما تعترض القارئ جملة من الصعوبات نحاول أن نتبينها لاحقا.
إن
الموضوع نظرية القراءة وآليات التلقي يجعلنا ننصرف مباشرة إلى الخطاب
الأدبي بسبب ما يميز الإنتاج الأدبي من خصوصية بلغت درجة من التعقيد تستدعي
البحث والمساءلة وقد ذهب "فيني جيرار"إلى أن العلاقة بين المنشئ والمتلقي
هي العلاقة مبنية على عدم اليقين، بحيث إن الكاتب وهو ليس متأكد من نوايا
القارئ، كما أن القارئ وهو يقرأ ليس متيقنا من مقاصد الكاتب، فالعلاقة بين
الطرفين تقوم على الشك والاحتمال أصلا وهذا يعود إلى طبيعة الخطاب الأدبي
من جهة ثانية إلى عملية التلقي.
إن الخطاب الأدبي من طبيعته، بل من شروط
أدبيته ان يجعل الأشياء المألوفة تبدو وكأنها غير مألوفة، وهذا الفعل الذي
يتجه نحو خرق المألوف هو ما يخلق الغرابة وما يغلف العمل الأدبي بهالة من
السر قد تستعصي على التفسير ولعل هذه الظاهرة هي التي جعلت قدماء اليونان
ينسبون الشعر إلى ألهةالأولمب وقدماء العرب ينسبونه إلى شياطين واد عبقر.
إن هؤلاء وأولئك جميعا كان يؤرقهم سؤال لا يخص الشعر وحده وإنما ينسحب على
كل مظاهر الكون الغريبة والمدهشة، السؤال الذي فحواه "من أين جاء؟".
ولعل
الانسان غير مسيرته التاريخية اهتدى إلى جواب يطمئن إليه وذلك بالتفكير في
خالق علوي، وربما يئس من تكرار سؤال يعجز أن يجيب عنه، لكنه في كلتا
الحالتين ألزم نفسه بطرح السؤال المصيري "لماذا جاء الذي جاء؟"
إن هذين
السؤالين المتعلقين بالخلقية جمعاء يصدقان على الظاهرة الأدبية أيضا سوى
أن الأمر بالنسبة للإنسان يكون من المنشأ إلى القيامة، بينما يكون بالنسبة
للأدب من مصدر غيبي أو ذاتي ملغز أو واقعي إلى غاية اجتماعية أو إلى
اللاغاية إطلاقا.
وإذا ما سلمنا ((أن الأديب أو المفكر هو أثره ثم أثره،
استمرار لا تأكيدا وتكرارا وساعات الانتاج هي أكثر الساعات التي يكون فيها
صاحب الأثر أدبه أو فكره)) فإن ذلك يعني أن المبدع قد يصبح انسانا أخر
خارج لحظة الكتابة.
والراي الذي يشرط الإبداع بالعفوية وحدها يبلغ حدا من التطرف يسلب الأنسان المبدع إحدى صفاته الجوهرية وهي حضور العقل.
ولعل
أدباء كثيرين قد أغراهم هذا النزوع فانسقوا وراءه ليرسموا حول أنفسهم هالة
من الغموض، ولا يترددون في أن يصرحوا أن حالة الإبداع لا يستطيعون أن
يفسروها لأنها في تقديرهم ضرب من الإلهام أو الإشراق أو الحدس في حين يكون
الغموض ظاهرة طبيعية مطلوبة إذا هو انطوى على خصوبة في معرفة وثراء في
الفكر والفن ولكنه لا يكون أبهاما إذا هو انطوى على ضحالة وعجز.
لا شك
أن الغموض الأدبي يشكل أولى العقبات أمام المتلقي لأنه خطاب غير عادي
يستوقف المتلقي بثخونته وما تحمله من صور ونقوش والوان المتعامل معه من
عبوره او اختراقه يقول " عبد السلام المسدي":
((أن الخطاب الالسني
العادي هو خطاب شفاف يرى من خلاله معناه، ولا نكاد نراه هو في ذاته، فهو
منفذ بلوري لا يقوم حاجزا أمام أشعة البصر، بينما يتميز عنه الخطاب الأدبي
بكونه شفاف يستوقفك هو نفسه قبل أن يمكنك من عبوره أو اختراقه، فهو حاجز
بلوري طلى صورا ونقوشا وألوانا فصد أشعة البصر أن تتجاوزه))وهذا ما شأنه
أعن يضع المتلقي أمام جملة من المقتضيات:
أولا:
أن يتوفر على دربة
كافية في مجال اللغة، ليس بمعناها المعجمي ، لكن بظلالها الأدبية
فالسياق-كما هو معروف-يعطي الكلمة أبعادا لا تطالها الدلالة المعجمية
أحيانا وقد يستحيل أن يوجد المعنى المعجمي نفسه أحيانا أخرى.
ومن ذلك أن
المتلقي الذي لم يسمع بالنحت اللغوي أو لا يعرف دلالة السعد والنحس قد
يصعب عليه أن يعرف أو يتقبل لفظة "متشائل" في رواية" إميل حبيبي "أو لفظة
"الأصدقاء التي استعملها الشاعر الفلسطيني " عز الدين المناصرة" أو عوانا
مثل " الصعود نحو الأسفل" ل "الحبيب السائح "، على الرغم من أن البلاغيين
القدامى يستشهدون على الذم في معرض المدح بقول الشاعر:
((يا له من عمل صالح رفعه الله إلى الأسفل))
ولا
يبقى الأمر في حدود الألفاظ، بل يتعداها إلى التراكيب مما يقتضي ألفة
ومرانا لا تأتيان إلا بعد معاشرة طويلة للإنتاج الأدبي شعرا ونثرا.
ثانيا:
إن
أي نص لابد وأن يتركز على نقطة انطلاق معينة، وهي تمثل الخيط الذي إذا لم
يقبض المتلقي على رأسه تاه وخرج بلا نتيجة، ومن ثم تحتم أن يمارس المتلقي
عمليتي الاندماج ثم الانسحاب أو ما يسميه "محمد عابد الجابري" الوصل والفصل
عندما يتحدث عن قراءة التراث يقول:
(( اندماج الذات في التراث شيء آخر
أن يحتوينا التراث شيء، وأن نحتوي التراث شيء آخر ... أن القطيعة التي ندعو
إليها ليست القطيعة مع التراث بل القطيعة مع نوع من العلاقة مع التراث،
القطيعة التي تحولنا من "كائنات تراثية" إلى كائنات لها تراث))
بمعنى ان
يكون المتلقي قادرا على الاندماج في النص ليعيش أجواءه وأعن يكون قادرا-
بعد ذلك على الانسحاب منه بمسافة فاصلة تسمح له بان يحركه في رحابة ذهنية
في حالة الأولى/للاتصال يكون تحت مظلة النص وفي الحالة الثانية /الانفصال
يطوي تلك المظلة ليعينها عن بعد
إن النص ظاهر وباطن، ونقطة الارتكاز قد
تكون باطنية فلا ينخدع المتلقي بما هو ظاهر، وقد يكون ظاهرية فلا ينخدع
بمطاردة سر كامن وهو غير موجود أصلا إن بعض نصوص "طرفة بن العبد" توهم
بانغماسه في اللهو المجون ظاهريا لكن القراءة المتأنية تجعلك ترى الموت
ماثلاً أمامك في كل زاوية من زوايا النص إلى درجة أن المحرك الحقيقي للشعور
وللشعر عنده الاحساس بالموت في كل لحظة، وما مظاهر اللهو والمجون إلا
تجليات تعمق الاحساس بالموت وتؤكده، كما أن الموت يصير مبرراً لتعاطي اللهو
والمجون قبل فوات الأوان، وكأنه يسبق الخيام إذ قال:
((وأغنم من الحاضر لذاته فوات الأوان))
ثالثاً:
إن
المتلقي لا يقبل على النصوص وهو صفحة بيضاء، وإن مخزونه من الأحكام
المسبقة قد يكون مدعاة للإقبال كما قد يكون مدعاة للنفور ويكفي أن يجد في
افتتاحية "عرس بغل" للطاهر وطار إهداءه الرواية لـ"حسن طبري" عضو المكتب
السياسي لحزب تودة، ويكفي أن يدرك أن حزبتودةإنما هو الحزب الشيوعي
الايراني ليتخذ موقف رفض أو قبول.
رابعاً:
ولم تبق الكتابة الأدبية
في حدود الدائرة التقليدية المعهودة، فالشعر بطبيعته لغة اختزال وتكثيف بما
يستتبع ذلك من تقديم وتأخير وذكر وحذف وإضمار... كما أن الكتابة النثرية
لم تعد خطية معروفة البداية والوسط والنهاية، بل أصبحت بترهينها الحكاية
الأصلية تكسر التسلسل الزمني الخطي وتخلق من التداخل ما يقضي أكثر من قراءة
للنص الواحد، وما يستلزم إعادة الترتيب وفق ما يعين على الفهم.
خامساً:
وإذا كان لا ينتج من فراغ، وإنما يسبح في بنية نصية منتجة قبلا، وفي محيط ثقافي واجتماعي وكما يقول "سعيد يقطين":
((النص بنية دلالية تنتجها ذات (فردية أو جماعية) ضمن بنية منتجة، وفي إطار بنيات ثقافية واجتماعية محددة))
إذا
كان الأمر كذلك فإنه يقضي من المتلقي أن يكون ذا زاد أدبي/ثقافي وأن يكون
على دراية بخصوصيات الحركية الاجتماعية بوعي حاد، إذ لا يمكن فهم النص
فضلاً عن التمتع به كما لا يتحقق أثر إيجابا إلا إذا حضر البعد المعرفي في
القراءة فما كان لقصيدة "عبد الله البردوني" (أبو تمام وعروبة اليوم) لتحدث
أثرها المعروف لولا في تقاطعها مع أبيات أخرى تمام، بحيث استطاع
"البردوني" أن ينسج من ذلك التقاطع نصاً تأسس على التجاور والتجاوز بقوله:
((ما أصدق السيف إن لم ينضه الكذب وأكذب السيف إن لم يصدق الغضب))
بينما كتن الأصل عند أبي تمام قوله:
((السيف أصدق إنباء من الكتب في حده الحد الجد واللعب))
وقوله أيضاً:
((صبرا على المطل ما لم يتله الكذب فللخطوب إذا سامحتها عقب
ليس الحجاب بمقص عنك لي أملاً إن السماء ترجى حين تحتجب))
على
أن الصعوبة التي تعترض القارئ عندنا مصدرها تدريس اللغة العربية وآدابها
منهاجاً وطريقة، سواء بسبب أن التلميذ في ما قبل الطور الجامعي يظل مشدوداً
إلى الامتحان، أو لأن طريقة التدريس هي من العقم بحيث لا تؤهل الدارس
لمعالجة النص الأدبي على الوجه المطلوب فمن مظاهر العقم:
1- الجري وراء
وهم الاصلاح بالقفز من وضعية إلى أخرى بلا تقييم (الانتقال من الطريقة
التقليدية إلى التدريس بواسطة الأهداف إلى التدريس بالكفاءات) من غير تحكم
عملي في نموذج محدد.
2- إن النصوص المقررة لا تخرج عن الدائرة الكلاسيكية فضلاً عما يشوبها من نقص الجانب الجمالي.
3-
إن المقدمات التاريخية سواء أتعلقت بالأديب أم بالظروف التي عاشها تحتم أن
يقرأ النص الأدبي من خارجه، فلا يعود أن يصبح جسراً لتأكيد المقولات
التاريخية المسبقة بصرف النظر عن حظها من الموضوعية.
4- الطريقة
المعتمدة في تدريس النص الأدبي وخاصة في الطور الثانوي، محصورة في قوالب
جاهزة عن الأفكار والعاطفة يحفظها التلميذ ليلصقها بكل النصوص مهما تمايزت.
5-
إن الاقتصار على شذرات من البلاغة القديمة وتدريسها في حصة مستقلة،
بالإضافة إلى معالجة الأسلوب في خطوة تالية لأفكار من شأنه أن يكرس وهماً
بانفصال الشكل عن المضمون، وهي مغالطة مازالت تعاني منها الممارسة النقدية
إلى اليوم وهماً بانفصال الشكل عن المضمون، وهي مغالطة مازالت تعاني منها
الممارسة النقدية إلى اليوم
الهوامش
VIGNIER (Gérard) : lire - du texte au sens, éléments pour un apprentissage et un enseignement de la
lecture .collection dirigée par Robert
GALISSON ‘p
102
-2العيد(يمني): ممارسات في النقد الأدبي دار الفارابي، ص.9223المسدي (عبد
السلام): الأسلوبية والأسلوب، نحو بديل ألسني في نقد الأدب-الدار العربية
للكتاب، ليبيا-تونس ص 29
4الجابري (محمد عابد): نحن والتراث – قراءة
معاصرة في تراثنا الفلسفي، طبعة ثانية، المركز الثقافي العربي، الدار
البيضاء، دار بيروت ص 29. 5يقطين (سعيد) انفتاح النص الروائي، النص
السياق، المركز القافي العربي ط1/1989 ص 32
GALISSON ‘p
102
-2العيد(يمني): ممارسات في النقد الأدبي دار الفارابي، ص.9223المسدي (عبد
السلام): الأسلوبية والأسلوب، نحو بديل ألسني في نقد الأدب-الدار العربية
للكتاب، ليبيا-تونس ص 29
4الجابري (محمد عابد): نحن والتراث – قراءة
معاصرة في تراثنا الفلسفي، طبعة ثانية، المركز الثقافي العربي، الدار
البيضاء، دار بيروت ص 29. 5يقطين (سعيد) انفتاح النص الروائي، النص
السياق، المركز القافي العربي ط1/1989 ص 32