الاتجاهات الجديدة المتصلة بالبنيوية وما بعدها
انتشرت الاتجاهات الجديدة المتصلة بالبنيوية وما بعدها انتشاراً كبيراً في الثمانينيات، وكانت طلائعها البنيوية منظورة في نقد الشعر، على الرغم من محاصرة النقد الواقعي والإيديولوجي، إذ ترجم كتاب غارودي «البنيوية: فلسفة موت الإنسان، «1969 وظهرت ترجمته بالعربية عام 1979، وقد أخذ غالبية النقاد والباحثين بهذه الاتجاهات الجديدة، منشغلين على صياغة منهجية، على تفاوت فيما بينهم، ارتباكاً أو انبهارا ورصانة وتركيباً جديداً ، وهذا عائد للموقف من هذه الاتجاهات الجديدة في الفكر الأدبي التي تبدو متطرفة ومغالية في فهم الظاهرة الأدبية، وفي كشف المعنى الأدبي، فقد أصبحنا نقرأ نقداً أدبياً يستعير أدوات العلوم الأخرى غير الإنسانية كالرياضيات والهندسة وسوى ذلك حتى غدت الأبحاث النقدية ميداناً للأشكال الهندسية والرموز والإشارات التي تنتمي إلى طبيعة غير أدبية كما هو الحال مع الاتجاهات الحداثية كالبنيوية واللسانية والتفكيكية، ثم لازم هذه الاتجاهات نزوع إلى التباس المصطلح بحكم قلقلته وعدم الاتفاق عليه، ونزوع إلى الاستهانة بالدلالة المعبرة عن حكمة التجربة الإنسانية، ونزوع إلى خطاب نخبوي يبتعد عن القارئ العادي ليستغرق في معنى خاص هو أشبه بالأسرار والطلاسم من خلال الإلحاح على فهم استعاري أو كنائي للمعنى الأدبي. ولا شك أنها ظاهرة عالمية جعلت دعاة التقاليد الأدبية يتوجسون خيفة من انتشار هذه الاتجاهات المهددة للمعنى الأدبي. فقد التفت الكثيرون إلى مأزق الفكر الأدبي الجديد مع مطلع الخمسينيات، ولاحظ بعضهم أن التفكير الأدبي منذ أوائل الخمسينيات يتصف بصفتين سائدتين، أولاهما أنه تخلى عن زعمه أن مكانه في مركز الدراسات الإنسانية أو قريباً منه، وقنع فيما يبدو إلى مكان جانبي. أما الصفة الثانية، وهي وثيقة الصلة بالأولى فهي أنه توقف عامداً عن أن يظهر بمظهر الذي يضيف حقائق هامة عن الطبيعة البشرية، فهو في تحمسه لعلاقاته بفروع المعرفة الأخرى تحول ذاته إلى لون من اللعب، وهذه نتيجة تكاد تكون ضرورية لتخليه عن زعمه بأن منزلته هي المركز بالنسبة إلى الأشياء، فحين فقد ثقته بمركزه من حيث هو معرفة تحول إلى ضرب، على الأقل، رأي المناهضين لها، وهذا من التسلية. إن هاتين الصفتين اللتين جرى تمحيصهما من قبل ناقد معتبر هو جورج واطسن، ألحقهما بخلاصة لا ترضي دعاة هذه الاتجاهات الجديدة المتطرفة والمغالية، وهي أن حاجتنا الملحة العاجلة اليوم في ميدان الفكر الأدبي هي أن نهتم بما إذا كانت الحجج التي تقدم لنا سليمة أم فاسدة، وأن نظهر اهتمامنا بجدوى البحث في المعنى الأدبي. ولن يخشى ذلك سوى أولئك الذين يعدون التفكير في الأدب تسلية أساساً، فهم وحدهم الذين تثبط همتهم هذه الخواطر.
ويؤيد هذه المخاوف صدور أكثر من كتاب يتحسس مخاطر هذه الاتجاهات، وألفت النظر إلى ذلك، لاهتمام النقد الأدبي العربي الحديث بها، واستعجاله إلى ترجمتها، مثل كتاب «الفكر الأدبي المعاصر» (1978 ظهرت ترجمته العربية عام 1980)(1)، وفيه نقد واسع لهذه الاتجاهات حظيت بتأطير منهجي تأريخي لها في مقدمة المترجم محمد مصطفى بدوي (مصر)، وهو الناقد الحصيف العارف، ومثل كتاب «المعنى الأدبي من الظاهراتية إلى التفكيكية» (1984)، وظهرت ترجمته إلى العربية 1987)(2)، وهو أشمل وأوسع في تعريفه النقدي بهذه الاتجاهات، وفي تعريتها، بقصد التعرف إلى طبيعتها المتطرفة التي تهمش الظاهرة الأدبية باسم علمية دراستها مما يجعل الأدب مفهوماً محيراً مغلقاً إلا على نخبة من المشتغلين به. ومن المفيد أيضاً أن أشير بادئ ذي بدء إلى أن ما يجري في ساحة النقد الأدبي العربي حتى نهاية الثمانينيات إزاء هذه الاتجاهات هو أقرب إلى «التلقف» السريع غير الناجز منه إلى التمثل والوعي الذاتي والصدور عن مواقف متأصلة، وهذا يبدو جلياً في جهود دوريات وضعت نفسها في خدمة الترويج لهذه الاتجاهات، كما هو الحال مع «الفكر العربي المعاصر» (بيروت) و«العرب والفكر العالمي» (بيروت). أما دورية «فصول» فتسعى إلى التوازن بين التأصيل والمثاقفة في تلقي هذه الاتجاهات. وفي حديث مع عز الدين إسماعيل (أول رئيس تحرير لها)، وهو ناقد أدبي وأستاذ جامعي معروف، لاحظ أن النقد الأدبي العربي الحديث يتأصل اليوم في وعي المثاقفة، فالتواصل المباشر مع الاتجاهات النقدية الحديثة والفكر الأدبي العالمي عن طريق اختبارها في العملية الأدبية القومية سبيل ـ تلحظه «فصول» بعناية واهتمام واضحين، وعندما سألته(3) عن مخاطر الاستغراق النقدي في هذه الاتجاهات المتطرفة، رأى أن الشغل النقدي العربي يتطور إجابة على مثل هذه المخاطر. أجل، إن المشكلة قائمة، حتى غطت على المناخ النقدي العام، فقد غدا الناقد الذي يلتفت عن هذه الاتجاهات متجنباً أيضاً، ولعل قراءات متمعنة للنتاج الغالب على النقد الأدبي، كما لاحظنا، تكشف عن شهوة اللحاق بالحشد والانغمار فيه، فثمة نقاد من أقطار عربية مختلفة طوروا مسارهم النقدي واتخموا إجراءاتهم النقدية بالرسوم والأشكال والكلام والإشارات التي لا تنتمي إلى طبيعة النقد، أو تسعف في رؤية المعنى الأدبي، وغالباً ما يستطيع هؤلاء النقاد أن يصلوا إلى خلاصاتهم، ويعيّنوا استخلاصاتهم من العملية النقدية في كتاباتهم بمعزل عن هذه الرسوم والأشكال والكلام والإشارات التي لا تثير سوى الأسف أحياناً، ومفارقة التقليد غير الأصيل إزاء طبيعة النقد الأدبي والأدب، وإزاء جهود التطور الذاتي للنقد الأدبي العربي الحديث.
ومن جهة أخرى، هناك حشد كبير من النقاد والعرب التي ظهروا في الثمانينيات لاهّم لهم سوى تطبيق هذه الاتجاهات على الأدب العربي الحديث، ولن يجد المرء صعوبة في إيراد عشرات الأسماء من الدوريات العربية التي تحتفي بهذا النقد المغرق في شكلانيته وتطرفه الهندسي والإشاري واللغوي. إنهم يتقبلون اتجاهات ما بعد الحداثة ويمارسونها بجسارة فيما يصح وما لا يصح، حيث تحفل مئات الدراسات النقدية بالأشكال الهندسية والإحصاءات والجداول والأرقام والبيانات غير الأدبية(4).
لا شك، إن المشكلة تتعدى حدود القراءة الأدبية إلى الارتهان المطلق للمثاقفة حيث يصعب معها تأصيل النقد الأدبي العربي الحديث في تربته ومناخه، وضمن تقاليده القومية. أما عن بعد النقد في فهم «المعنى الأدبي» فالنتيجة هي استغلاقه أكثر على التواصل العام، ومن المفيد أن أوضح شيئاً من فحوى كتاب «المعنى الأدبي» بالنظر إلى انتشار هذه الاتجاهات في النقد الأدبي العربي الحديث. فقد عبّر فيه مؤلفه عن معاناة النقد الأدبي الحديث في بحثه عن المعنى الأدبي، فالقضية قائمة، ليس في الأدب العربي فحسب، بل في بلدان متقدمة ذهب النقد الأدبي فيها، ويذهب، مذاهب شتى، لا توافي دائماً طبيعة الأدب والنقد.
قال مؤلف الكتاب بصريح العبارة في مقدمته: «لقد أبدى النقد الأدبي دائماً قدراً من الألم لما يقوم به وللوجهة التي يقصدها. ولعل لكّل جيل غروراً يجعله يعتقد أنه على عتبة عصر جديد يسلك سلوك خاتم أو قاهر كلّ ما سبقه. لذا فقد كرس جزء من طاقة النقد الأدبي لتحديد الأهمية التاريخية للتطورات النقدية الجديدة، فظهر في العقد الماضي جدل عنيف بين أولئك الذين بشّروا بالحركتين البنيوية والتفكيكية Deconstruction، على أنهما فجر عصر جديد يزيل الغموض عن تأويل النصوص وتفسيرها، وبين الذين شجبوا الحركتين على أنهما هدم لكّل ما هو قيم وثمين في الميادين الخاصة بالدراسات الإنسانية. ومع ذلك فالفريقان يستندان إلى فرضية تاريخية واحدة هي أن التطورات الحديثة في النقد لا تمت بصلة إلى التقليد السائد. وكّل بدعة جديدة في الأسلوب تظهر وكأنها تستمد وجودها من مجموعة من الفرضيات الأساسية، جديدة، وكأن ميدان المعرفة هذا قد فقد أرضيته المشتركة، فعصرنا هذا إنما هو، للرجعيين والثوريين، عصر الخروج الجذري عن المعتقدات السابقة عن المعنى والقراءة والنقد الأدبي، ولابدّ للمرء أن يعتنق الثورة، أو أن يدافع عن التقليد السائد ضدها»(5).
إن هذا الاستشهاد يوضح المشكلة، فكان هدف الكتاب المتواضع، كما يشير مؤلفه، هو إثارة الشك في الادعاء الذي يستند إليه كلا الفريقين والذي يؤكد الانقطاع التاريخي. والحق، أن محاولة المؤلف في تبيان التطورات النظرية والنقدية التي سادت في الثلاثين أو الأربعين سنة الأخيرة قد تكشف عن الأرضية المشتركة التي استندت إليها المناهج الحداثية في البحث عن المعنى الأدبي منذ الظاهراتية إلى اليوم، ولكن هذه الأرضية المشتركة قد شاهت ملامحها في تلك الإجراءات غير الأدبية التي تجافي طبيعة النقد الأدبي.
انطلقت المشكلة حول المعنى الخاص بالأدب، الذي يبدو كأن له معنيين، بتعبير المؤلف، ينطوي كل منهما على نظرية للنتاج الأدبي تختلف عن الأخرى، وقد تكون نقيضتها، وعلى تطبيق للنقد يختلف عن الآخر. ويمكن أن نجد أوضح مثال لذلك في الصراع بين بدهيتين مألوفتين عندنا للمعنى: المعنى على أنه مرتبط بالتاريخ يتحكم به قصد معين في لحظة معينة، والمعنى حقيقة ثابتة للنص، تتجسم في كلمة أو مجموعة من الكلمات يتجاوز معناها قصداً معيناً، ويمكن أن يفهمها في بنيتها كلّ فرد يحسن تلك اللغة. ويظهر الصراع بين هاتين الفكرتين المتناقضتين الموجودتين معاً، بين «ما أعنيه أنا» و«ما تعنيه الكلمة»، ويتخذ أشكالاً متنوعة في النظريات التي مهدت لهذه الاتجاهات،أو رافقتها، فيظهر الصراع عادة في هيئة طرفي نقيض، كما في الفاعل ضد الموضوع، أو المثال ضد النظام، أو الأداء ضد القدرة، أو الكلام ضد اللغة، أو اللفظي ضد المعنوي، أو الحدث ضد البنية.
إن المسألة تدور حول القارئ والقصد، فثمة التباس قديم حول حجم القراءات التأويلية لكل نص في استخراج معناه الأدبي، وثمة التباس قديم حول مغالطة القصد في القراءة، هل هو قصد المؤلف أم قصد النص أم قصد القارئ؟ إن كّل قراءة تؤول قصدها بمعزل عن قصد المؤلف أو قصد النص أو بالاستناد إليهما معاً، وليس هناك قراءاتان متطابقتان بلا شك، ولا ينبغي أن نكرر القول حول طبيعة النقد التي ترى، فيما تراه، أنه ميدان من ميادين المعرفة يقوم على نظام متراكم للقواعد والقوانين تقع فيه جميع أمثلة التفسير، بما في ذلك تلك التي تعد نفسها خارجه. على أنّ المشكلة في بحث المعنى الأدبي لا تتوجه مباشرة إلى نسقها المعرفي والتاريخي لتهتم بالمعنى الأدبي كما يتولد من خلال القراءة، بل تلجأ إلى إجراءات نقدية هي ضد لغة النقد وإجراءاته، فلا تعنى بعد ذلك بكيفية ظهور المعنى الأدبي من خلال القراءة إلى الوجود، أو مظاهر تجسيمه، أو صلته بالأشكال الأخرى للفعالية العقلية، أو قابليات امتلاكه معرفياً وجمالياً، أو إمكانيات تقديره وتثمينه، بل تنهك نفسها بطرائق وأدوات وإجراءات أبعدت الشغل النقدي عن طبيعته وعن قيم القارئ العادي لصالح «نخبة» مختلفة فيما بينها أيضاً، وفي إجراءاتها العصية على الإيصال غالباً.
1- تطور الاهتمام بهذه الاتجاهات:
1-1 الدراسة الأدبية:
كانت ترجمة كتاب رولان بارت «الكتابة في درجة الصفر L’Ecriture Dans Le Dégre Ziro» (ظهرت ترجمته في العربية عام 1970) إيذاناً بإقبال النخب الثقافية والنقدية العربية على الاتجاهات النقدية الحداثية، وقد اكتفى مترجمه نعيم الحمصي (سورية) آنذاك، بإيراد كلمة في المؤلف، الذي يدير معهد التدريب لعلم اجتماع الدلالات والرموز والرسوم، وقدم في الوقت نفسه المقالات الأولى الأساسية عن روب غرييه والرواية الجديدة، بينما رأى ناشر الكتاب، المحرر من وزارة الثقافة، أن المراحل الثلاث: نظرة إنسانية وتأدب فكتابة، هي التي مرت بها قراءة التراث في فرنسا منذ عصر النهضة إلى أيامنا. وآخرها، الكتابة، ووضع مفهومها ده سوسير مؤسس علم اللغة الحديث، ثم وسعه البنيويون، وجعلوا من التعارض بين الكلام والكتابة الأساس الذي أنشأوا عليه فهمهم للثقافة. وهذا الكتيب وضعه أحد أشهر نقاد الأدب من هذه المدرسة، يلخص وجهة نظرهم، بأسلوب يجمع بين دقة العالم وشاعرية الأديب المبدع. وهو يرى أن الكلاسيكية قد تحطمت بتفكك البورجوازية، وبذلك بلغت الكتابة درجة الصفر، فهي تتوقع كاتباً يسمع الكلام الاجتماعي كاملاً، ويسجله كتابة كلاسيكية جديدة(6).
ثم أعاد محمد برادة (المغرب) ترجمة الكتاب نفسه بعنوان «درجة الصفر للكتابة» (1981) إشارة إلى توكيد الانتقال إلى الاتجاهات النقدية الحداثية، مما سمح للمترجم أن يصدر ترجمته بضرورة «البحث عن معرفة ممكنة للكتابة»:
«إن الكتابة باللغة ـ الموضوع، وباللغة الواصفة تأخذ، أكثر فأكثر، حجماً متسعاً في المجتمعات الحديثة، وبذلك تصبح مجالاً لتناسل الإيديولوجيات واختلاط المفاهيم، وإحكام طوق الاستلاب على القراء والمستمعين والمتفرجين. ومن ثم فإن الطموح إلى تشييد معرفة ممكنة للكتابات، وهو المشروع الذي أسهم بارت في بلورة بعض معالمه، يظل أفقاً مفتوحاً على العطاءات التي من شأنها أن ترصد التحولات الاجتماعية العميقة المندرجة أيضاً في مختلف أنواع الخطاب، وفي الكتابة الأدبية بصورة أعمق»(7).
ثم شرع الباحثون والنقاد في ترجمة نصوص الاتجاهات الحداثية أو الجديدة وتقديمها، كما في أعمال أعلامها أمثال رولان بارت وتزفيتان تودوروف وميشيل فوكو وميخائيل باختين وروبرت شولز على وجه الخصوص. وتكاد تكون أعمال هؤلاء النقاد جميعها مترجمة إلى العربية. فقد ترجم من أعمال بارت، وبعضها لأكثر من مرة، «النقد البنيوي للحكاية Introduction a l’Analyse Structurale des Recits» (ظهرت ترجمته في العربية عام 1988 بترجمة انطون أبو زيد (لبنان)، وتضم ترجمته نص كتاب آخر هو «نقد وحقيقةCritique et Verite »)، وترجم منذر عياشي الكتابين ثانية «مدخل إلى التحليل البنيوي للقصص» (1993) و«نقد وحقيقة» (1994)، وكان سبق إلى ترجمة الكتاب الأخير إبراهيم الخطيب أيضاً، مثلما سبق منذر عياشي أيضاً إلى ترجمة كتاب «لذة النص» (1992)، مضافاً إليه مقالته «هسهسة اللغة»، ومقالة «موت المؤلف» إلى «نقد وحقيقة»، وهي المقالة التي مارست تأثيراً كبيراً في تنمية الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية.
وترجم قاسم المقداد (سورية) كتابه الكبير نسبياً «أسطوريات Mythes» (ظهرت ترجمته في العربية عام 1996). ويلاحظ أن هذه الكتب حظيت بمقدمات نقدية ضافية عن الانعطافات المعرفية النقدية التي مثلتها هذه الكتب، كما في مقدمة منذر عياشي عن «بارت والقصة» تؤشر إلى نهاجية بارت، وهي مشكلة تبدت في التعدد والتبدل فيها كالمنهج الاستقرائي Inductif ومنهج الاستنباط Deductif، و«إذا كانت الأنماط متعددة، فإن بارت يرى في الوضع الراهن للبحث، أنه من الحكمة أن نجعل اللسانيات نفسها نمطاً أساسياً للتحليل البنيوي للسرد»(. وبين عبد الله الغذامي (السعودية) في مقدمته لكتاب «نقد وحقيقة» أن المترجم عياشي يتصدى لمهمة جليلة تتمثل في مسعاه الحثيث لترجمة نصوص النقد الألسني من مصادره الحديثة، خاصة الفرنسي منها. «وهو بذلك يؤسس لمرجعية علمية تتشكل مع ما يماثلها لتكون مكتبة نقدية للباحث العربي. ولا ريب في أن النقد الألسني، أو اللساني لمن شاء أن يفضل ذلك، قد بدأ يأخذ موقعه الصحيح في قراءة النصوص الإبداعية والنقدية واللغوية، وفي تشريحها. ولعل الأولى بي والأحرى أن أقول: إن النقد الألسني قد بدأ يستعيد موقعه في الدراسات التحليلية والنظرية العربية»(9).
وأوضح قاسم المقداد، في مقدمته لكتاب «أسطوريات»، «أن أكثر ما يسجل لبارت هو قيامه بإدخال الأدب في ميدان العلوم الإنسانية، لأن بارت أولاً أديب، فمن «الدرجة صفر في الكتابة»، وحتى «الغرفة المضيئة» قدم بارت أشياء كثيرة إلى السيميولوجيا، وللتحليل النصي، وللسانيات ولعلم الاجتماع. ولكنه في هذا كله لم يطرح نظرية، إنما نظرة وحدساً. لكن هذه النظرة علمت آلاف القراء أن بهارج المجتمع، والحوادث المتفرقة والصور والملصقات والممارسات اليومية كانت كلها عبارة عن علامات. وبالتالي، فقط أيقظ القارئ على قضية المعنى»(10).
وكان عبد الرحيم حزل (المغرب) ترجم كتاب رولان بارت «الكتابة والقراءة Le Bruissement de la Langue» (1984 وظهرت ترجمته في العربية عام 1993)، والكتاب يكمل سعي بارت للتشييد النقدي لمفهومي الأدب الرئيسين: الكتابة والقراءة، اتصالاً بصور مصدريهما التاريخيين: الكاتب والقارئ، والأدوار (ونوعيتها: تناسباً وتفاوتاً) التي أسندت إليهما، على مر العصور الأدبية: عبر مراجعة لمعانيهما في كتبه السابقة، ولا سيما: «درجة الصفر» و«نقد وحقيقة»، وهي تسبق مرحلة القراءة الدلائلية في كتابه س/ ز: حيث اتصال وتداخل صيغ وطرائق: ناظمها النص واشتغال متنوعاته(11).
وترجم لميخائيل باختين غالبية مؤلفاته، وهي «الملحمة والرواية» (بترجمة جمال شحيد سورية) (1981)، و«الأيديولوجية وفلسفة اللغة» (وهما الفصلان الأول والثاني من كتابه «الماركسية وفلسفة اللغة» بترجمة فيصل دراج (فلسطين) ـ في «الكرمل» 1982، و«الماركسية وفلسفة اللغة» كاملة (بترجمة محمد البكري ـ المغرب ويمنى العيد من لبنان1985)، و«النسيج اللفظي في الرواية» (بترجمة صبحي حديدي (سورية) من كتاب «مشكلات الأدب وعلم الجمال» في الكرمل 1985)، و«شعرية دوستويفسكي» (بترجمة جميل نصيف التكريتي ومراجعة حياة شرارة ـ 1986)، و«الخطاب الروائي» (بترجمة محمد برادة 1987)، وأعاد يوسف حلاق (سورية) ترجمته عن اللغة الروسية مباشرة بعنوان «الكلمة في الرواية» (1988)، و«أشكال الزمان والمكان في الرواية» (بترجمة يوسف حلاق عن الروسية أيضاً 1990)، بينما كانت ترجمات باختين السابقة عن الفرنسية أو الإنكليزية. وكانت مقدمة محمد برادة «موقع باختين في مجال نظرية الرواية» هي التعريف الأول الشامل لهذا المنظر والناقد الذي مارس تأثيراً ما يزال متزايداً في الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية، فرأى برادة «أن معظم النقاد الذين يهتمون اليوم بتحليل الرواية وتطبيقاتها، من أمثال كريستيفا، وتودوروف، وجينيت، وزيرافا، وفيليب هامون، وفلاد مير كريزنسكي، يتخذون أفقاً لتحليلاتهم مجاوزة الفصل بين بنية الرواية ودلالاتها عبر اللسانية، بين عناصر خطابها، والأبعاد السوسيولوجية لشعريتها وسيميائيتها، وهو نفس الأفق الذي كان ميخائيل باختين، منذ ثلاثينيات هذا القرن، رائداً في الدعوة إليه، ووضع أسسه الأولى»(12).
وكشف برادة في وقت عن الأهمية المستمرة والراهنة لباختين، و«نحن لا نقصد بالراهنية الصلاحة المطلقة لنظرية باختين ولمقولاته ومصطلحاته، وإنما توفر أطروحاته ومنهجيته على عناصر حيوية صالحة لأن تخصب البحث والتحليل في مجال نظرية الرواية. وتمشياً مع جوهر منهجية باختين، فإن نتائجه لا يمكن أن تكون محدودة ومتطلبة لمتابعة التحليل والتفكير والتعديل، على ضوء ما استجد من إنتاج روائي ومن تنظيرات معرفية خاصة، وأن باختين لم يتناول بالتحليل روايات أساسية كتبت في القرن العشرين. ومن شأن تطور الإنتاج الروائي أن ينسب المصطلحات والمفهومات النظرية»(13).
يتجلى إنجاز باختين، كما أوضح في مقدمة «الكلمة في الرواية»، في محاولته «تجاوز القطيعة بين الشكلية المجردة، والنزعة الأيديولوجية، التي لا تقل عنها تجريداً في دراسة الكلمة الفنية. إن الشكل والمضمون واحد في الكلمة، مفهومة على أنها ظاهرة اجتماعية ـ اجتماعية في كل دوائر حياتها، وفي كل لحظاتها: من الصورة الصوتية حتى أشد طبقات معانيها تجريداً»(14).
وترجمت أيضاً غالبية كتب تودوروف، مثل «الشعريةLa Poetique » (بترجمة شكري المبخوت ورجاء بن سلامة من تونس1987)، و«مفهوم الأدب La Notion literaire» (بترجمة منذر عياشي 1990)، و«نقد النقد» (بترجمة سامي سويدان من لبنان 1991)، و«المبدأ الحواري ـ دراسة في فكر ميخائيل باختين Mikhail Bakhtin: Le Princpe Dialogique» (1981 بترجمة فخري صالح من فلسطين 1992)، و«مدخل إلى الأدب العجائبيIntroduction a la Literature Fantastique » (1970 بترجمة الصديق بوعلام ومراجعة محمد برادة 1994).
وقد عبر منذر عياشي عن أهمية تودوروف المنهجية والنقدية في تكون الاتجاهات الجديدة لنقد لقصة والرواية، في مقدمة «مفهوم الأدب»:
«يعتبر تودوروف معلماً من معالم التحول في الفكر النقدي في العالم. هذا إلى جانب شخصيات أخرى، وهي تقف معه، على ما بينها من تفاوت وتمايز، شاهدة على هذا التحول أو صانعة، نحد منهم مثلاً رولان بارت أستاذ تودوروف، وغريماس، وجيرارا جينيت، وجوليا كريستيفا وغيرهم. أما تودوروف نفسه، فقد ساهم بنصيب وافر من لكتب والدراسات والمحاضرات. ونكاد لا نجد مهتماً واحداً بالدراسات الأدبية والنقدية أو الإنسانية إلا وقد قرأ لهذا العقل الفذ»(15).
وأضاف فخري صالح في توطئته أن لتودوروف فضل التعريف بباختين في فرنسا، مع جوليا كريستيف، وبسبب أهميته، وجد «في تصوره للأنا والآخر والتناص ونظريته اللغوية، التي تبحث في التلفظ مجاوزة السوسيرية إلى حقول جديدة من البحث، محرضات فعلية للفكر النقدي المعاصر»(16).
ووجد الصديق بوعلام في منهجية تودوروف سيرورة التفاعل النقدي الغربي، و«ثمرة لتفاعل عميق وناضج مع أصوات عديدة، وعلى مستويات علائقية مختلفة:
أ- الحضور المتميز لنتائج بحوث الشكلانيين الروس.
ب- التعضيد البديهي لأصوات حركة النقد الجديد: جينيت، بلانشو، ويبلغ تبني طروحات هذا الاتجاه ـ الأم درجة الاستنساخ أحياناً.
جـ- المزاوجة بين التحليل النفسي التقليدي، فرويد، وعلم النفس التكويني، بياجيه.
د- الاستناد إلى ستراوس وبوبر في شأن ابستمولوجية التفكير العلمي وأسس البنيوية: الكلي/ الجزئي ـ البنية/ النموذج ـ الظاهرة الواقعية ـ الفرضية/ الاستقراء.. الخ.
هـ- مناقضة نورثروب فراي في بنائية التصنيف ونظرية الجنس الأدبي.
و- دحض دعائم النقد الموضوعاتي ـ الفرضية الحسية ـ والفرضية التعبيرية، متمثلاً في جان بيير ريشار على الخصوص»(17).
وترجم لروبرت شولز ثلاثة كتب، هي «البنيوية في الأدب Structuralism in Literature:
An Introduction» (1974 وظهرت ترجمته بالعربية عام 1984)، بترجمة حنا عبود (سورية)، و«عناصر القصة Elements of Fiction» (1986 وظهرت ترجمته بالعربية عام 1988)، بترجمة محمود منقذ الهاشمي (سورية)، و«السيمياء والتأويل Semiotics and Interperetion» (1982 وظهرت ترجمته بالعربية عام 1994)، بترجمة سعيد الغانمي (العراق).
وقد عني شولز بالتأويل في نقده وفي تأليفه النقدي حول الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية، فضم كتابه عن البنيوية في الأدب معالجات معمقة واستبصارات حاذقة لقضية المعنى في الاتجاهات البنيوية من الألسنية إلى تبسيط الشكل إلى الشعرية البنيوية، إلى التحليل البنيوي للنصوص الأدبية، إلى الخيال البنيوي بوصفه مثار الرؤية البنيوية في الرواية المعاصرة، وإن غلب على نظرته نوع من الحتمية أو العدمية الإنسانية، ربما بتأثير حديثه عن البنيوية بالذات:
«فإذا خدعنا الخيال، فإذا خدعتنا أنفسنا، فإن البنيوية تقدم لنا عزاءها البارد.إن الإنسان جزء من نظام مرتب ملموس. ومع ذلك فإنه ليس مخصصاً للإنسان، وليس من صنع الإنسان وهذه حقيقة واضحة ومنتشرة، فإن لم يتمكن من متابعة التوافق مع هذا النظام، فإن النظام سوف يستمر من دون الإنسان. يستطيع أن يدرسه، وأن يحبه، وأن يقبل عمله كشيء جميل لا يحتاج إلى موافقة، ولا حتى إلى وجود إنساني لتبريره»(18).
وقد أشاد سعيد الغانمي بكتاب «السيمياء والتأويل» على أنه «محاولة للمزاوجة بين السيمياء الموضوعية والتأويل الذاتي، وبين علمية المقروء وفاعلية القارئ. إنه مراجعة للمدارس النقدية الحديثة في ضوء اهتمامها بهذين الحقلين، ومحاولة لتلمس الحدود المشتركة بينهما»(19).
1-2- الشكلانية وموروثها:
ربما كانت ترجمة إبراهيم الخطيب (المغرب) لنصوص الشكلانيين الروس في كتابه «نظرية المنهج الشكليTheorie de la Litterature: Textes des Formalistes Russe » (1965 وظهرت ترجمته بالعربية عام 1982) الحدث الأكثر أهمية في تنمية الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية، وقد ضم الكتاب نصوصاً مترجمة عن كتاب «نظرية الأدب» الذي كان أعده بالفرنسية تزفيتان تودوروف، وشمل كتابات مختارة وضعت بين 1915 و1930. وأضاف المترجم نصاً لجاكوبسون، إلى نصوص بوريس ايخنباوم «نظرية المنهج الشكلي» «وحول نظرية النثر» و«كيف صيغ معطف غوغول»، يوري تينيانوف «مفهوم البناء»، وجاكوبسون «القيمة المهيمنة» و«عن الواقعية في الفن» ومشكلات الدراسات الأدبية واللسانية (مع تينيانوف)، وشكلوفسكي «بناء القصة القصيرة والرواية»، وتوماشفسكي «نظرية الأغراض».
وأكمل إبراهيم الخطيب تعريفه بأعمال الشكلانيين الروس، فترجم كتاب فلاديمير بروب الشهير «مورفولوجية الخرافة Morphologie du Conte» (ظهرت ترجمته بالعربية عام 1986)، وهو الكتاب الذي أعاد ترجمته أبو بكر أحمد باقادر (السعودية) وأحمد عبد الرحيم نصر (السودان) بعنوان «مورفولوجيا الحكاية الخرافية Morphology of the Folktale» (1929 بالروسية وظهرت ترجمته بالعربية عام 1989)، وقد مالت الترجمة الأولى إلى النقد الأدبي، بينما حرصت الثانية على الطوابع الفولكلورية.
وترجم محمد معتصم «المغرب» كتاباً مهماً في هذا المجال هو «مساجلة بصدد علم تشكل الحكاية L’etude Structurale et Typelogique du conte» (1970 وظهرت ترجمته بالعربية عام 1988) لكلود لفي ستروس وفلاديمير بروب، والمساجلة حصيلة البحث النقدي «البنية والشكل: تأملات في مؤلف فلاديمير بروب» الذي كتبه ستروس لكتاب بروب بعد صدوره بالفرنسية بعامين عام 1960، ثم طلب الناشر الإيطالي من بروب أن يرد على ستروس، فكان المقال الثاني «البنية والتاريخ في دراسة الحكاية»، ثم طلب من ستروس أن يرد على بروب فكانت الحاشية، وتتألف من أقل من صفحة واحدة. واختار معتصم مقتطفات من دراسة إجمالية للباحث الروسي أفكيني ملتنسكي عن الاستقبال العالمي لكتاب بروب، بعنوان «الدراسة البنيوية والتنميطية للحكاية».
وتومئ حاشية ستروس إلى انقطاع الحوار بين العالمين حين رأى بروب في نقد ستروس مكراً، بينما رأى ستروس أن «عمل بروب، على الرغم من كل شيء، سيحتفظ، في نظرهم كما في نظري، بالفضل الخالد بأن كان حائز قصب السبق»(20).
1-3- اشتغال النقد الجديد على النظرية:
شهدت سنوات التسعينيات وجوهاً مختلفة من الترجمة والتأليف لاشتغال النقد الجديد على النظرية الأدبية تأثراً بالاتجاهات الجديدة. ولعل من طلائع هذا الاشتغال صدور ترجمة عز الدين إسماعيل (مصر) لكتاب روبرت هولب Robert Houb «نظرية التلقي Reception Theory: A Critical Introduction» (ظهرت ترجمته بالعربية عام 1994)، وقد مهد له بمقدمة طويلة عن نظرية تلقي الأدب، أي العملية المقابلة لإبداعه أو إنشائه أو كتابته. و«عندئذ قد يختلط مفهوم التلقي ومفهوم الفاعلية التي يحدثها العمل، وإن كان الفرق بينهما كبيراً، حيث يرتبط التلقي بالقارئ، والفاعلية بالعمل نفسه. ومن هنا يختلف تاريخ التلقي عن تاريخ الفاعلية، كما تختلف جماليات التلقي عن جماليات التأثير. ونظرية التلقي ـ كما يعرضها المؤلف ـ تشير إجمالاً إلى ذلك التحول، في الاهتمام، إلى النص والقارئ»(21).
ولم يغفل عز الدين إسماعيل عن ذكر فائدة هذه النظرية في تفاعلها مع الفكر النقدي العربي الذي ينطوي في جملته قديماً وحديثاً «على رؤى وأفكار يمكن أن تنتظم حول نشاط التلقي الأدبي أو الفني، وأن تنمّي لتصنع في النهاية إطاراً نظرياً خالصاً، يكون بمثابة تطوير أو إضافة إلى النظرية العامة»(22).
وأصدر عبد العزيز شبيل (تونس) ترجمة لكتاب «نظرية الأجناس الأدبية» (ظهرت ترجمته بالعربية عام 1994)، ويتألف الكتاب من أبحاث بأقلام كارل فيتيور، وولف ديتر ستمبل، وروبرت شولس، وهانس روبرت ياوس، وجان ماري شافر. وجزم المترجم شبيل بأن نتائج هذه البحوث قد وقع تجاوزها، وما يطمح إليه هو القبس منها روح الفكر العربي وطريقة تعامله مع هذه القضية الشائكة: «إن غايتنا البعيدة أن تكون مثل هذه المقاربات المتنوعة، دافعاً للباحث العربي للتسلح بهذه الروح النقدية حتى ينكب على الأدب العربي ناظراً في ما خلفه الأجداد من مصطلحات ودراسات وآثار، محاولاً الوصول إلى نظرية للأجناس الأدبية في تراثنا العربي نابعة منه متجذرة فيه»(23).
وتقترب غالبية هذه الأبحاث من قضية التلقي، أو هي مكتوبة بحسبان هذه القضية، من بعض منظريها ودعاتها، والأبحاث هي: تاريخ الأجناس الأدبية، أدب العصور الوسطى ونظرية الأجناس، المظاهر الأجناسية للتلقي، من النص إلى الجنس: ملاحظات حول الإشكالية الأجناسية، صيغ التخييل.
غير أن حامد أبو أحمد (مصر) لم يكتف بالترجمة، بل وضع كتاباً في التفكير الأدبي والنقدي الحديث بالنظرية، هو «الخطاب والقارئ: نظريات التلقي وتحليل الخطاب وما بعد الحداثة» (1996).
وقد أهدى المؤلف كتابه، تعبيراً عن اتجاهه النقدي والفكري، «إلى كل الباحثين عن الجديد، مع الالتزام بشرط الأصالة»(24)، واعترف بأن مهمة الناقد العربي الآن عسيرة «لأسباب كثيرة من بينها أن مشكلة البحث عن منهج نقدي ما زالت غير واضحة وغير مستقرة لسبب بسيط هو أننا ما زلنا في مرحلة استيعاب للمناهج النقدية التي نشأت في الغرب خلال القرن العشرين، وقد كثرت هذه المناهج خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وتفرعت بصورة تجعل متابعتها في حدّ ذاتها أمراً شاقاً، فما بالك بالاستيعاب والتمثل ثم التأصيل!»(25).
عرض أبو أحمد لنظرية القراءة في جذورها وإرهاصاتها الأخرى، وتطورها في بلدها الأصلي، ألمانيا، من خلال جهود أبرز أعلامها، وهما ياوس وفولفجانغ أيزر. وخصص الفصل الثاني عن نظريات أخرى: علم تحليل الخطاب والبلاغة، ونظريات ما بعد الحداثة. والمقالة الأخيرة عرض نقدي لكتاب «ما بعد الحداثة ـ تحليل نقدي» (1994) لمارجريت روز وترجمة أحمد الشامي. و«تنبع أهمية هذا الكتاب من أنه يقدم تحليلاً نقدياً لكثير من الكتابات التي تناولت مفهوم ما بعد الحداثة، وما يتوازى معه، أو يرتبط به من مصطلحات ومفاهيم أخرى، وخاصة مصطلح ما بعد الصناعي»(26).
وألحق أبو أحمد كتابه بترجمة لمقالة تون فان ديك عن علم النص أو تحليل الخطاب، بوصفه علماً جديداً عبر التخصصات: اللسانيات والدراسات علم النفس الإدراكي، علم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع، علوم القانون والاقتصاد والسياسة، الدراسات التاريخية، علم الأنثروبولوجيا.
وأصدر خيري دومة ترجمته لكتاب هام في هذا السياق، هو «القصة ـ الرواية ـ المؤلف: دراسات في نظرية الأنواع الأدبية المعاصرة» (1997). وضم الكتاب أربعة أقسام هي: القسم الأول «نظرية النوع»، وفيه مقالات رالف كوهين «التاريخ والنوع»، وتودوروف «الأنواع الأدبية»، وتوماس كنت «تصنيف الأنواع»، والقسم الثاني «القصة القصيرة والرواية نوعين أدبيين»، وفيه مقالتان لشارلز ماي «التحفيز الاستعاري في القص القصير»، وروبرت لوشر «متوالية القصة القصيرة: كتاب مفتوح»، والقسم الثالث «عروض نقدية»، وفيه مقالات لوسيان جولدمان «مقدمة إلى مشكلات علم اجتماع الرواية»، ووالتر ريد «مشكلات بويطيقا الرواية»، وروبرت شولز «إسهامات المدرستين الشكلية والبنيوية في نظرية القص»، وتوني بينيت «سوسولوجيا الأنواع: عرض نقدي»، والقسم الرابع «ما بعد الحداثة»، وفيه مقالات جوناثان كلر «نحو نظرية لأدب الأنواع»، وميشيل فوكو «ما معنى مؤلف؟»، ورالف كوهين «هل توجد أنواع ما بعد حداثية؟».
لقد وجد المترجم خيري دومة في مقدمته «أن الخيط الرهيف والعميق، الذي يجمع بين مقالات هذا الكتاب جميعاً، حتى تلك المقالات التي تتفهم مقترحات ما بعد الحداثة، وتكشف عن وجاهتها أحياناً، هو الانطلاق من أرضية واحدة، تلخص فيما يمكن أن نسميه تجديد نظرية النوع، وبيان إمكانية تطويرها بدلاً من التخلي عنها»(27).
غير أن دومة يبالغ كثيراً في تقديراته لبعض المسائل التي أوردها عن نظرية الأنواع في التراث النقدي العربي، وفي النقد الأدبي الحديث، كمثل هذه التقديرات التي تمضي في الشطط: «تكاد المكتبة العربية تخلو من دراسة جادة، تتابع مظاهر التحولات النوعية التي اعترت مختلف الأنواع التقليدية، وتكشف عن مدى عمقها أو زيفها، وتقرأ دلالتها»(28)، بينما ثمة بعض مقالات الكتاب ترجمت مرات، وثمة تجاهل للكتاب الذي ترجمه شبيل، أما أراؤه فتفتقر إلى التعليل مثلما جاوزها النقد إقراراً بأهمية استمرار التقاليد السردية العربية، كمثل رأيه «أن التراث النقدي الذي يعالج الأنواع الأدبية الحديثة خصوصاً، القصة والرواية والمسرحية، تراث أوروبي في معظمه، لم يعرف النقد العربي الكثير منه. لقد قفزت أحاديث الكتاب والنقاد فجأة إلى النقد ما بعد الحداثة، وإلىرفض مقولة النوع ومحاولة تجاوزها بناء عليه، وغالبية هذه الأحاديث لا تستند إلى أرضية اجتماعية وأيديولوجية تبرر تجاوز النوع الأدبي في الواقع العربي، إنما هي الموضوعات المتوالية التي لا تتيح لشيء أن يأخذ مداه ، ويستقر عليه»(29)، ويفترض هذا الرأي انقطاع الواقع العربي عن تراث الإنسانية، فليس له أن يتفاعل معه، وليس له إلا أن يقلده على سبيل الموضات المتوالية.. الخ، ولعل التوقف، فيما بعد، عند الملامح الرئيسة لاشتغال النقد العربي باتجاه ما بعد الحداثة يوضح شيئاً من الإشكالية التي لا تخرج عن مدار المثاقفة، وتعزز في الوقت نفسه دوافع بحثنا عن الهوية في النقد الأدبي العربي الحديث بتمحيص انتشار الاتجاهات الجديدة لنقد لقصة والرواية وسيرورتها.
1-4- تحديث المناهج النقدية:
انطلقت عمليات تحديث النقد من البنيوية، ولأن البنيوية ذاتها لم تكن منهجاً صافياً، لاشتراكها بالموروث الشكلاني واللغوي واللساني، وبامتدادها إلى مناهج أخرى جاورتها، أو انبثقت عنها في منهجيات جديدة مثل سوسيولوجيا الأدب أو علامية الأدب أو شعرية السرد أو التفكيكية أو النقد الموضوعي وغيرها، فظهرت كتب كثيرة مترجمة ومؤلفة عن البنيوية(30)، ولعلنا نشير في متن البحث إلى الإسهامات المقاربة للبنيوية في النقد، وللمناهج التي جاورتها، أو آلت إليها فيما بعد.
وضعت باحثات جزائريات (دليلة مرسلي وكريستيان عاشور وزينب بن بو علي ونجاة خدّه وبوبا ثابتة) كتاباً متميزاً في سياقه، هو «مدخل إلى التحليل البنيوي للنصوص» (1985) سعين فيه إلى تقديم بعض الاقتراحات حول تحليل النصوص الأدبية ضمن قراءة ذات وظيفة نقدية، وترجع إلى نظريات علم الرواية Narratologie (والأصح أن تسمى سرديات) قيد التكوين، على المستويين البنيوي الأكبرمع البنيوي الأصغر، وعلى الرغم من حرص هؤلاء الكاتبات على الملاءمة التربوية، فإنهن نبهن إلى خطر إنتاج مقالات تقدم نفسها كوصفات. إن استخدام تقنيات معقدة لاستنباط Formalises أو استخدام مصطلحات جديدة لا يمكن أن يكون هدفاً في ذاته، ولا أن يطمح إلى نظام علمي(31).
واختارت الباحثات وجوهاً منهجية كان اقترح تودوروف مثيلاً لها، وهذه الوجوه هي:
- العلم دلالي الذي تتعلق دراسته بالاستعارات والمسائل Themes (والأصح أن تترجم موضوعات) والرموز، الخ.. والذي يطرح مشكلة العلاقات بين النص والواقع.
- اللفظي الذي يسمح بدراسة الثوابت Parametres التي تتم وفقاً لها معالجة الأحداث والوقائع الخاصة بالتجربة، ضمن النص، من وجهة نظر أسلوبية (Mode)، ومن وجهة نظر زمنية Temps، ومن وجهة نظر موقف المؤلف Vision، ومن وجهة نظر درجة مشاركة المؤلف بما هو الذات الفاعلة للخطاب Voix.
- النحوي الذي ترجع دراسته إلى العلاقات التي تقوم بين الوحدات الأدنى الخاصة بالنص(32).
وهذه التقنيات مطورة عن بروب وناضجة في النحو السردي للأعمال والوظائف (بروب وبريمون وبارت، ولنظام الفاعلين Acteure (غريماس وتودوروف وهامون وتوماشفسكي)، وفي الفعلي للسرد والوصف (هامون وجينيت وبارت) وفي الزمن. وقد أرفقت الباحثات المفهومات النظريات بتطبيقات عملية على نصوص مغاربية.
وترجم أحمد المديني (المغرب) نصوصاً لتودوروف وامبرتو ايكو Umberto Ecoومارك انجينو Marc Angenot وستيفن نوردابل لاند Steffen Nordable Lund (وبحثه قراءة لرولان بارت) في كتاب ذي عنوان دال في سيرورة الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية «في أصول الخطاب النقدي الجديد» (ظهرت ترجمته بالعربية عام 1987)، والنصوص تبحث في الموضوعات التالية:
1- اختصاص بالأدب والمكونات الأصلية له في اللغة والكلام والعلامة، والعلائق التي تنتج من كل مكون على حدة، وبين الأطراف المختلفة التي تنتج النص، ثم النص داخل النص.
2- توقف عند الدوال الشكلية الأساس التي تلعب دور المنتج للنص بين الاختبارات اللسانية والمحددات السيميائية، مما يؤدي إلى وضع الكتابة في إطار الأدبية، ويساعد على استخلاص هذه القيمة بالدرجة الأولى.
3- نظرة إلى النص الأدبي لا كمرجع انعكاسي لأدبية خارجية، ولكن كمجال يمتلك دواله القادرة وحدها على ربط العلاقة مع المدلولات ثم مقدرة هذه الأخيرة، انطلاقاً من أسس لسانية باتت معروفة، على توظيف وصياغة الدوال(33). وغيرها من أسس وموضوعات. تناولت النصوص والموضوعات التالية: الأرث المنهجي للشكلانية، مغامرة الدال، تحليل اللغة الشعرية، مفهوم التناص في الخطاب النقدي الجديد.
وظهرت ترجمة صبار سعدون السعدون (العراق) ومراجعة جبرا إبراهيم جبرا (فلسطين) لكتاب بيتر مونز «حين ينكسر الغصن الذهبي ـ بنيوية أم طبولوجيا» (1987)، وفيه تفسير للميتولوجيا بوصفها مجموعة من الطبقات (الطبولوجيا هي الطبقات المكونة لأية بنية)، وهذه الطبقات قد تتألف من الميتافيزيقيا والرموز والإشارات وعلم النفس والصور المجازية. والكتاب، بهذا الإطار، نقد للبنيوية، وانطلاقة منها إلى العلامية والنقد الأساطيري الذي تطور مع نورثروب فراي والبنيوية الإناسية، «فثمة فرق هام وحيد بين حاجتنا إلى المجاز الاعتيادي والصور التي يعاد ترتيبها والتي تكشف عن نفسها في الأساطير والأحلام والحكايات والخرافات. إن المجاز الاعتيادي هو ظاهرة لغوية صرف، وبما أنه كذلك فإنه يكاد لا يتجاوز أية لغة معينة أو مجموعة لغوية. إنه كذلك مكيف بالثقافة، بمعنى أن التقاليد المجازية تستطيع في أية لغة أن تأتي وتذهب، غير أن منشأ الأسطورة وتناقلها يتجاوزان الحدود اللغوية على مساحات زمنية واسعة، ويشملان أكثر الشعوب تبايناً»(34).
وترجم يوئيل يوسف عزيز (العراق) كتاب وليم راي William Ray «المعنى الأدبي من الظاهراتية إلى التفكيكية Literary Meaning from Phenomenology to Deconstruction» (ظهرت ترجمته بالعربية عام 1987)، وتكمن قيمته في احتوائه على شرح واف للحركات الجديدة في النقد الأدبي، ولا سيما النقد القصصي والروائي.
وقد ابتدأ المؤلف بظاهراتية القراءة، ثم تناول المعنى في نظرية التحليل النفسي والنظرية التأويلية، واعتنى بالبنيوية والسيميولوجيا، وانتهى بثلاثة نماذج للنقد الجدلي: الإحلال والتخطي (ستانلي فيش)، وهدم التاريخ ـ تأجيل الذات (رولان بارت)، ومفارقة التفكيكية ـ تفكيكية المفارقة (بول دي مان). ويكاد هذا الكتاب أن ينفرد بإقرار القطيعة التاريخية والمعرفية بين الاتجاهات الجديدة والتقليد السائد.
وعرّبت هدى وصفي (مصر) كتاباً صغيراً هاماً في سياقه عن النقد الأدبي من منظورات الاتجاهات الجديدة نظرياً وتطبيقياً، وحمل الكتاب عنوان «النقد الأدبي» (1989، يخلو الكتاب من وثائق كتابته والتعريف بمؤلفيه، وإن كانت المترجمة قد أشارت إلى أنه يتوقف عند عام 1977)، أما المؤلفون فهم ب.برونل، ود.ماديلينا، ود.كوتي، وج.م.جليكسون. وضم الكتاب فصولاً حول الوصف والمعرفة والحكم والفهم والنقد في موضع التساؤل، غير أن الفصل الأهم هو «الفهم»، ويُستهدى فيه، أكثر من بقية الفصول بإنجازات علم الأدب، وقوامه النظام الألسني والشعرية وتحليل الخبر والبنية وزمن الخبر ومدار النص، وتتردد في ثنايا هذا الفصل نظرات جاكبسون وإيخنباوم وبروب وبارت وغريماس وبريمون وكريستيفا وجينيت وسواهم(35).
ووضع عبد الكريم حسن (سورية) كتاباً بعنوان «المنهج الموضوعي: نظرية وتطبيق La Thematique» (1990)، ويختلف هذا المصطلح عنه في النقد الأنجلوسكسوني، ولكن حسن أراد كتابه تعريفاً بالتجربة النقدية الريشارية (نسبة إلى الناقد الفرنسي المعروف جان بيير ريشار) من أجل الوصول إلى بناء المنهج الموضوعي الريشاري. ودافع عن تقديمه للمنهج الموضوعي بأنه إعادة خلق، وليس مجرد نقل من لغة إلى أخرى، «فناقدنا ريشار لم يقدم منهجه في يوم من الأيام على النحو الذي قدمناه. وهذا ما يجعل من دراستنا مرجعاً للمنهج الموضوعي لا في اللغة العربية وحسب، وإنما في اللغات الأخرى»(36).
وذكر حسن أن التيار النقدي الريشاري لم يولد من العدم. فهناك معلمون وفلاسفة كبار يشكلون بحق الجدار النظري الذي تستند إليه أعمال النقاد الموضوعيين، فتأثر ريشار بغاستون باشلار، وجان بول سارتر، وادموند هوسرل. ونوه بالجهود المعرفية والفلسفية والنقدية التي أسهمت في تكون النقد الموضوعي، مثل رولان بارت في كتابه «ميشليه يكتب عن نفسه بنفسه» الذي يعدّ نوعاً من التحقيق العملي لنمط القراءة الموضوعية، ومارسيل بروست في كتابه الشهير «بحثاً عن الزمن الضائع» (وهو رواية وليس بحثاً نقدياً، وربما يقصد حسن أنه كان مجالاً خصيباً لدراسات المنهج الموضوعي)، والبير بيغان في كتابه «الروح الرومانتيكية والحلم»، ومارسيل ريمون الذي حاول في كتابه «من بودلير إلى السريالية» أن يستعيد الحياة الداخلية للمبدعين الذين حلل أعمالهم، غير أن حسن اقتصر على باشلار وسارتر وهوسرل، «فهؤلاء يشكلون ما أسميناه بالجدار الفلسفي الذي يستند إليه ريشار»(37)، وهو ما يشكل مصادر النقد الموضوعي ثم شرح مفاهيم النقد الموضوعي: الموضوع ـ المعنى ـ الحسية ـ الخيال ـ العلاقة ـ التجانس ـ الدال والمدلول ـ شكل المضمون ـ البنية ـ العمق ـ المشروع والقصدية والوعي ـ المحالة، وترجم دراسة تطبيقية عن بول ايلوار، ثم عاين في الفصل الأخير المنهج الموضوعي ناقداً علاقاته بالتحليل النفسي والموضوعية البنيوية والبنيوية.
وترجم رعد عبد الجليل جواد (العراق) كتاب كريستوفر نورس «التفكيكية: النظرية والتطبيق Deconstruction: Theory and Practice» (ظهرت ترجمته بالعربية عام 1992)، ويحفل الكتاب، على صفحاته القليلة (138 صفحة من القطع المتوسط) بعروض نقدية معمقة لجذور البنيوية والنقد الجديد من كانط إلى ما وراء النقد الجديد، ولإسهام جاك دريدا، وللنقلة من الصوت إلى النص، وصولاً إلى نيتشه، وما بين ماركس ونيتشه فيما اسماه سياسات التفكيك، وإلى الاتصالات الأمريكية، حيث التفكيكية بوجهها المتطرف: جيوفري هارتمان، ج. هيليز ميلر. ويختمم الكتاب بأسئلة حدة: هل وصلت التفكيكية إلى حدودها النهائية؟ وما آلت إليه الأصوات المعارضة، ولا سيما علاقة اللغة والشك، غير أن المؤلف ما يلبث أن يعترف بتسرب التفكيكية منهجاً عقلانياً في التراث النقدي العالمي:
«لقد أرست التفكيكية هيمنة جديدة للمناقشات الدائرة منذ زمن طويل بين الأدب والفلسفة، ولم تكن دعاوى التحليل مطروحة من قبل البلاغيين المبدئيين كما طرحها بول دي مان، ولم يكن النقد قد امتلك مثل هذه الشجاعة والعقلانية والنمطية، كما طرحت كمنهج عقلاني في التفكيكية»(38).
وترجم جابر عصفور (مصر) أول كتاب شامل عن البنيوية «عصر البنيوية» (1992) لإديث كريزويل، وهو كتاب نقدي أشبه بتقييم لحصاد هذا المنهج من نشوئه إلى انتصاره، وتغلغله إلى ميادين متعددة: علوم اللغة، والإناسة، والفلسفة، والتحليل النففسي، والتاريخ، والاجتماع، والنقد الأدبي، إلى امتداده إلى مناهج أخرى، إلى أفوله وانكفاء بعض رموزه عنه. وبينت مؤلفة الكتاب أنها قصدت إلى تقديم نظرة شاملة إلى البنيوية الفرنسية. ولما كان للبنيوية أثرقوي في مجتمع المثقفين الفرنسيين، ولها توجهها نحو الأنساق الفلسفية الأخرى، من مثل حركة علم التأويل Hermenetics، والماركسية وفلسفة الظاهريات Phenomenology، والوجودية والعقلانية.. الخ، فقد خصصت المؤلفة فصولاً لأبرز ممثلي البنيوية في الأنثروبولوجيا والماركسية والتحليل النفسي والأدب والتاريخ، وأبرز خصومها في الماركسية وعلم التأويل وعلم الاجتماع. ووجه عصفور إشارة انتقادية للمؤلفة على استحياء تستدعيها واجبات العلم وموضوعتيه، ورصانة العالم، في أنه لن يتدخل بين المؤلفة والقارئ في مناقشة المضمون التأويلي لمنظورها، و«لكن من المفيد أن نلاحظ أن أغلب كتابات البنيويين الفرنسيين قد تغيرت بالفعل بعد عام 1968. ولا يقتصر الأمر في ذلك على ألتوسير وفوكو اللذين حرصا على نفي صلتهما ببنيوية ليفي شتراوس، بل بتجاوزهما إلى رولان بارت الذي أعلن عام 1970 أنه هجر الطريقة التي كان يتبعها عام 1966 عندما كتب مدخله الشهير إلى «التحليل البنيوي للقص». ومن المفيد، أيضاً، أن نضيف أن مطالع السبعينيات قد شهدت أفول البنيوية في فرنسا نفسها، بالقدر ال
انتشرت الاتجاهات الجديدة المتصلة بالبنيوية وما بعدها انتشاراً كبيراً في الثمانينيات، وكانت طلائعها البنيوية منظورة في نقد الشعر، على الرغم من محاصرة النقد الواقعي والإيديولوجي، إذ ترجم كتاب غارودي «البنيوية: فلسفة موت الإنسان، «1969 وظهرت ترجمته بالعربية عام 1979، وقد أخذ غالبية النقاد والباحثين بهذه الاتجاهات الجديدة، منشغلين على صياغة منهجية، على تفاوت فيما بينهم، ارتباكاً أو انبهارا ورصانة وتركيباً جديداً ، وهذا عائد للموقف من هذه الاتجاهات الجديدة في الفكر الأدبي التي تبدو متطرفة ومغالية في فهم الظاهرة الأدبية، وفي كشف المعنى الأدبي، فقد أصبحنا نقرأ نقداً أدبياً يستعير أدوات العلوم الأخرى غير الإنسانية كالرياضيات والهندسة وسوى ذلك حتى غدت الأبحاث النقدية ميداناً للأشكال الهندسية والرموز والإشارات التي تنتمي إلى طبيعة غير أدبية كما هو الحال مع الاتجاهات الحداثية كالبنيوية واللسانية والتفكيكية، ثم لازم هذه الاتجاهات نزوع إلى التباس المصطلح بحكم قلقلته وعدم الاتفاق عليه، ونزوع إلى الاستهانة بالدلالة المعبرة عن حكمة التجربة الإنسانية، ونزوع إلى خطاب نخبوي يبتعد عن القارئ العادي ليستغرق في معنى خاص هو أشبه بالأسرار والطلاسم من خلال الإلحاح على فهم استعاري أو كنائي للمعنى الأدبي. ولا شك أنها ظاهرة عالمية جعلت دعاة التقاليد الأدبية يتوجسون خيفة من انتشار هذه الاتجاهات المهددة للمعنى الأدبي. فقد التفت الكثيرون إلى مأزق الفكر الأدبي الجديد مع مطلع الخمسينيات، ولاحظ بعضهم أن التفكير الأدبي منذ أوائل الخمسينيات يتصف بصفتين سائدتين، أولاهما أنه تخلى عن زعمه أن مكانه في مركز الدراسات الإنسانية أو قريباً منه، وقنع فيما يبدو إلى مكان جانبي. أما الصفة الثانية، وهي وثيقة الصلة بالأولى فهي أنه توقف عامداً عن أن يظهر بمظهر الذي يضيف حقائق هامة عن الطبيعة البشرية، فهو في تحمسه لعلاقاته بفروع المعرفة الأخرى تحول ذاته إلى لون من اللعب، وهذه نتيجة تكاد تكون ضرورية لتخليه عن زعمه بأن منزلته هي المركز بالنسبة إلى الأشياء، فحين فقد ثقته بمركزه من حيث هو معرفة تحول إلى ضرب، على الأقل، رأي المناهضين لها، وهذا من التسلية. إن هاتين الصفتين اللتين جرى تمحيصهما من قبل ناقد معتبر هو جورج واطسن، ألحقهما بخلاصة لا ترضي دعاة هذه الاتجاهات الجديدة المتطرفة والمغالية، وهي أن حاجتنا الملحة العاجلة اليوم في ميدان الفكر الأدبي هي أن نهتم بما إذا كانت الحجج التي تقدم لنا سليمة أم فاسدة، وأن نظهر اهتمامنا بجدوى البحث في المعنى الأدبي. ولن يخشى ذلك سوى أولئك الذين يعدون التفكير في الأدب تسلية أساساً، فهم وحدهم الذين تثبط همتهم هذه الخواطر.
ويؤيد هذه المخاوف صدور أكثر من كتاب يتحسس مخاطر هذه الاتجاهات، وألفت النظر إلى ذلك، لاهتمام النقد الأدبي العربي الحديث بها، واستعجاله إلى ترجمتها، مثل كتاب «الفكر الأدبي المعاصر» (1978 ظهرت ترجمته العربية عام 1980)(1)، وفيه نقد واسع لهذه الاتجاهات حظيت بتأطير منهجي تأريخي لها في مقدمة المترجم محمد مصطفى بدوي (مصر)، وهو الناقد الحصيف العارف، ومثل كتاب «المعنى الأدبي من الظاهراتية إلى التفكيكية» (1984)، وظهرت ترجمته إلى العربية 1987)(2)، وهو أشمل وأوسع في تعريفه النقدي بهذه الاتجاهات، وفي تعريتها، بقصد التعرف إلى طبيعتها المتطرفة التي تهمش الظاهرة الأدبية باسم علمية دراستها مما يجعل الأدب مفهوماً محيراً مغلقاً إلا على نخبة من المشتغلين به. ومن المفيد أيضاً أن أشير بادئ ذي بدء إلى أن ما يجري في ساحة النقد الأدبي العربي حتى نهاية الثمانينيات إزاء هذه الاتجاهات هو أقرب إلى «التلقف» السريع غير الناجز منه إلى التمثل والوعي الذاتي والصدور عن مواقف متأصلة، وهذا يبدو جلياً في جهود دوريات وضعت نفسها في خدمة الترويج لهذه الاتجاهات، كما هو الحال مع «الفكر العربي المعاصر» (بيروت) و«العرب والفكر العالمي» (بيروت). أما دورية «فصول» فتسعى إلى التوازن بين التأصيل والمثاقفة في تلقي هذه الاتجاهات. وفي حديث مع عز الدين إسماعيل (أول رئيس تحرير لها)، وهو ناقد أدبي وأستاذ جامعي معروف، لاحظ أن النقد الأدبي العربي الحديث يتأصل اليوم في وعي المثاقفة، فالتواصل المباشر مع الاتجاهات النقدية الحديثة والفكر الأدبي العالمي عن طريق اختبارها في العملية الأدبية القومية سبيل ـ تلحظه «فصول» بعناية واهتمام واضحين، وعندما سألته(3) عن مخاطر الاستغراق النقدي في هذه الاتجاهات المتطرفة، رأى أن الشغل النقدي العربي يتطور إجابة على مثل هذه المخاطر. أجل، إن المشكلة قائمة، حتى غطت على المناخ النقدي العام، فقد غدا الناقد الذي يلتفت عن هذه الاتجاهات متجنباً أيضاً، ولعل قراءات متمعنة للنتاج الغالب على النقد الأدبي، كما لاحظنا، تكشف عن شهوة اللحاق بالحشد والانغمار فيه، فثمة نقاد من أقطار عربية مختلفة طوروا مسارهم النقدي واتخموا إجراءاتهم النقدية بالرسوم والأشكال والكلام والإشارات التي لا تنتمي إلى طبيعة النقد، أو تسعف في رؤية المعنى الأدبي، وغالباً ما يستطيع هؤلاء النقاد أن يصلوا إلى خلاصاتهم، ويعيّنوا استخلاصاتهم من العملية النقدية في كتاباتهم بمعزل عن هذه الرسوم والأشكال والكلام والإشارات التي لا تثير سوى الأسف أحياناً، ومفارقة التقليد غير الأصيل إزاء طبيعة النقد الأدبي والأدب، وإزاء جهود التطور الذاتي للنقد الأدبي العربي الحديث.
ومن جهة أخرى، هناك حشد كبير من النقاد والعرب التي ظهروا في الثمانينيات لاهّم لهم سوى تطبيق هذه الاتجاهات على الأدب العربي الحديث، ولن يجد المرء صعوبة في إيراد عشرات الأسماء من الدوريات العربية التي تحتفي بهذا النقد المغرق في شكلانيته وتطرفه الهندسي والإشاري واللغوي. إنهم يتقبلون اتجاهات ما بعد الحداثة ويمارسونها بجسارة فيما يصح وما لا يصح، حيث تحفل مئات الدراسات النقدية بالأشكال الهندسية والإحصاءات والجداول والأرقام والبيانات غير الأدبية(4).
لا شك، إن المشكلة تتعدى حدود القراءة الأدبية إلى الارتهان المطلق للمثاقفة حيث يصعب معها تأصيل النقد الأدبي العربي الحديث في تربته ومناخه، وضمن تقاليده القومية. أما عن بعد النقد في فهم «المعنى الأدبي» فالنتيجة هي استغلاقه أكثر على التواصل العام، ومن المفيد أن أوضح شيئاً من فحوى كتاب «المعنى الأدبي» بالنظر إلى انتشار هذه الاتجاهات في النقد الأدبي العربي الحديث. فقد عبّر فيه مؤلفه عن معاناة النقد الأدبي الحديث في بحثه عن المعنى الأدبي، فالقضية قائمة، ليس في الأدب العربي فحسب، بل في بلدان متقدمة ذهب النقد الأدبي فيها، ويذهب، مذاهب شتى، لا توافي دائماً طبيعة الأدب والنقد.
قال مؤلف الكتاب بصريح العبارة في مقدمته: «لقد أبدى النقد الأدبي دائماً قدراً من الألم لما يقوم به وللوجهة التي يقصدها. ولعل لكّل جيل غروراً يجعله يعتقد أنه على عتبة عصر جديد يسلك سلوك خاتم أو قاهر كلّ ما سبقه. لذا فقد كرس جزء من طاقة النقد الأدبي لتحديد الأهمية التاريخية للتطورات النقدية الجديدة، فظهر في العقد الماضي جدل عنيف بين أولئك الذين بشّروا بالحركتين البنيوية والتفكيكية Deconstruction، على أنهما فجر عصر جديد يزيل الغموض عن تأويل النصوص وتفسيرها، وبين الذين شجبوا الحركتين على أنهما هدم لكّل ما هو قيم وثمين في الميادين الخاصة بالدراسات الإنسانية. ومع ذلك فالفريقان يستندان إلى فرضية تاريخية واحدة هي أن التطورات الحديثة في النقد لا تمت بصلة إلى التقليد السائد. وكّل بدعة جديدة في الأسلوب تظهر وكأنها تستمد وجودها من مجموعة من الفرضيات الأساسية، جديدة، وكأن ميدان المعرفة هذا قد فقد أرضيته المشتركة، فعصرنا هذا إنما هو، للرجعيين والثوريين، عصر الخروج الجذري عن المعتقدات السابقة عن المعنى والقراءة والنقد الأدبي، ولابدّ للمرء أن يعتنق الثورة، أو أن يدافع عن التقليد السائد ضدها»(5).
إن هذا الاستشهاد يوضح المشكلة، فكان هدف الكتاب المتواضع، كما يشير مؤلفه، هو إثارة الشك في الادعاء الذي يستند إليه كلا الفريقين والذي يؤكد الانقطاع التاريخي. والحق، أن محاولة المؤلف في تبيان التطورات النظرية والنقدية التي سادت في الثلاثين أو الأربعين سنة الأخيرة قد تكشف عن الأرضية المشتركة التي استندت إليها المناهج الحداثية في البحث عن المعنى الأدبي منذ الظاهراتية إلى اليوم، ولكن هذه الأرضية المشتركة قد شاهت ملامحها في تلك الإجراءات غير الأدبية التي تجافي طبيعة النقد الأدبي.
انطلقت المشكلة حول المعنى الخاص بالأدب، الذي يبدو كأن له معنيين، بتعبير المؤلف، ينطوي كل منهما على نظرية للنتاج الأدبي تختلف عن الأخرى، وقد تكون نقيضتها، وعلى تطبيق للنقد يختلف عن الآخر. ويمكن أن نجد أوضح مثال لذلك في الصراع بين بدهيتين مألوفتين عندنا للمعنى: المعنى على أنه مرتبط بالتاريخ يتحكم به قصد معين في لحظة معينة، والمعنى حقيقة ثابتة للنص، تتجسم في كلمة أو مجموعة من الكلمات يتجاوز معناها قصداً معيناً، ويمكن أن يفهمها في بنيتها كلّ فرد يحسن تلك اللغة. ويظهر الصراع بين هاتين الفكرتين المتناقضتين الموجودتين معاً، بين «ما أعنيه أنا» و«ما تعنيه الكلمة»، ويتخذ أشكالاً متنوعة في النظريات التي مهدت لهذه الاتجاهات،أو رافقتها، فيظهر الصراع عادة في هيئة طرفي نقيض، كما في الفاعل ضد الموضوع، أو المثال ضد النظام، أو الأداء ضد القدرة، أو الكلام ضد اللغة، أو اللفظي ضد المعنوي، أو الحدث ضد البنية.
إن المسألة تدور حول القارئ والقصد، فثمة التباس قديم حول حجم القراءات التأويلية لكل نص في استخراج معناه الأدبي، وثمة التباس قديم حول مغالطة القصد في القراءة، هل هو قصد المؤلف أم قصد النص أم قصد القارئ؟ إن كّل قراءة تؤول قصدها بمعزل عن قصد المؤلف أو قصد النص أو بالاستناد إليهما معاً، وليس هناك قراءاتان متطابقتان بلا شك، ولا ينبغي أن نكرر القول حول طبيعة النقد التي ترى، فيما تراه، أنه ميدان من ميادين المعرفة يقوم على نظام متراكم للقواعد والقوانين تقع فيه جميع أمثلة التفسير، بما في ذلك تلك التي تعد نفسها خارجه. على أنّ المشكلة في بحث المعنى الأدبي لا تتوجه مباشرة إلى نسقها المعرفي والتاريخي لتهتم بالمعنى الأدبي كما يتولد من خلال القراءة، بل تلجأ إلى إجراءات نقدية هي ضد لغة النقد وإجراءاته، فلا تعنى بعد ذلك بكيفية ظهور المعنى الأدبي من خلال القراءة إلى الوجود، أو مظاهر تجسيمه، أو صلته بالأشكال الأخرى للفعالية العقلية، أو قابليات امتلاكه معرفياً وجمالياً، أو إمكانيات تقديره وتثمينه، بل تنهك نفسها بطرائق وأدوات وإجراءات أبعدت الشغل النقدي عن طبيعته وعن قيم القارئ العادي لصالح «نخبة» مختلفة فيما بينها أيضاً، وفي إجراءاتها العصية على الإيصال غالباً.
1- تطور الاهتمام بهذه الاتجاهات:
1-1 الدراسة الأدبية:
كانت ترجمة كتاب رولان بارت «الكتابة في درجة الصفر L’Ecriture Dans Le Dégre Ziro» (ظهرت ترجمته في العربية عام 1970) إيذاناً بإقبال النخب الثقافية والنقدية العربية على الاتجاهات النقدية الحداثية، وقد اكتفى مترجمه نعيم الحمصي (سورية) آنذاك، بإيراد كلمة في المؤلف، الذي يدير معهد التدريب لعلم اجتماع الدلالات والرموز والرسوم، وقدم في الوقت نفسه المقالات الأولى الأساسية عن روب غرييه والرواية الجديدة، بينما رأى ناشر الكتاب، المحرر من وزارة الثقافة، أن المراحل الثلاث: نظرة إنسانية وتأدب فكتابة، هي التي مرت بها قراءة التراث في فرنسا منذ عصر النهضة إلى أيامنا. وآخرها، الكتابة، ووضع مفهومها ده سوسير مؤسس علم اللغة الحديث، ثم وسعه البنيويون، وجعلوا من التعارض بين الكلام والكتابة الأساس الذي أنشأوا عليه فهمهم للثقافة. وهذا الكتيب وضعه أحد أشهر نقاد الأدب من هذه المدرسة، يلخص وجهة نظرهم، بأسلوب يجمع بين دقة العالم وشاعرية الأديب المبدع. وهو يرى أن الكلاسيكية قد تحطمت بتفكك البورجوازية، وبذلك بلغت الكتابة درجة الصفر، فهي تتوقع كاتباً يسمع الكلام الاجتماعي كاملاً، ويسجله كتابة كلاسيكية جديدة(6).
ثم أعاد محمد برادة (المغرب) ترجمة الكتاب نفسه بعنوان «درجة الصفر للكتابة» (1981) إشارة إلى توكيد الانتقال إلى الاتجاهات النقدية الحداثية، مما سمح للمترجم أن يصدر ترجمته بضرورة «البحث عن معرفة ممكنة للكتابة»:
«إن الكتابة باللغة ـ الموضوع، وباللغة الواصفة تأخذ، أكثر فأكثر، حجماً متسعاً في المجتمعات الحديثة، وبذلك تصبح مجالاً لتناسل الإيديولوجيات واختلاط المفاهيم، وإحكام طوق الاستلاب على القراء والمستمعين والمتفرجين. ومن ثم فإن الطموح إلى تشييد معرفة ممكنة للكتابات، وهو المشروع الذي أسهم بارت في بلورة بعض معالمه، يظل أفقاً مفتوحاً على العطاءات التي من شأنها أن ترصد التحولات الاجتماعية العميقة المندرجة أيضاً في مختلف أنواع الخطاب، وفي الكتابة الأدبية بصورة أعمق»(7).
ثم شرع الباحثون والنقاد في ترجمة نصوص الاتجاهات الحداثية أو الجديدة وتقديمها، كما في أعمال أعلامها أمثال رولان بارت وتزفيتان تودوروف وميشيل فوكو وميخائيل باختين وروبرت شولز على وجه الخصوص. وتكاد تكون أعمال هؤلاء النقاد جميعها مترجمة إلى العربية. فقد ترجم من أعمال بارت، وبعضها لأكثر من مرة، «النقد البنيوي للحكاية Introduction a l’Analyse Structurale des Recits» (ظهرت ترجمته في العربية عام 1988 بترجمة انطون أبو زيد (لبنان)، وتضم ترجمته نص كتاب آخر هو «نقد وحقيقةCritique et Verite »)، وترجم منذر عياشي الكتابين ثانية «مدخل إلى التحليل البنيوي للقصص» (1993) و«نقد وحقيقة» (1994)، وكان سبق إلى ترجمة الكتاب الأخير إبراهيم الخطيب أيضاً، مثلما سبق منذر عياشي أيضاً إلى ترجمة كتاب «لذة النص» (1992)، مضافاً إليه مقالته «هسهسة اللغة»، ومقالة «موت المؤلف» إلى «نقد وحقيقة»، وهي المقالة التي مارست تأثيراً كبيراً في تنمية الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية.
وترجم قاسم المقداد (سورية) كتابه الكبير نسبياً «أسطوريات Mythes» (ظهرت ترجمته في العربية عام 1996). ويلاحظ أن هذه الكتب حظيت بمقدمات نقدية ضافية عن الانعطافات المعرفية النقدية التي مثلتها هذه الكتب، كما في مقدمة منذر عياشي عن «بارت والقصة» تؤشر إلى نهاجية بارت، وهي مشكلة تبدت في التعدد والتبدل فيها كالمنهج الاستقرائي Inductif ومنهج الاستنباط Deductif، و«إذا كانت الأنماط متعددة، فإن بارت يرى في الوضع الراهن للبحث، أنه من الحكمة أن نجعل اللسانيات نفسها نمطاً أساسياً للتحليل البنيوي للسرد»(. وبين عبد الله الغذامي (السعودية) في مقدمته لكتاب «نقد وحقيقة» أن المترجم عياشي يتصدى لمهمة جليلة تتمثل في مسعاه الحثيث لترجمة نصوص النقد الألسني من مصادره الحديثة، خاصة الفرنسي منها. «وهو بذلك يؤسس لمرجعية علمية تتشكل مع ما يماثلها لتكون مكتبة نقدية للباحث العربي. ولا ريب في أن النقد الألسني، أو اللساني لمن شاء أن يفضل ذلك، قد بدأ يأخذ موقعه الصحيح في قراءة النصوص الإبداعية والنقدية واللغوية، وفي تشريحها. ولعل الأولى بي والأحرى أن أقول: إن النقد الألسني قد بدأ يستعيد موقعه في الدراسات التحليلية والنظرية العربية»(9).
وأوضح قاسم المقداد، في مقدمته لكتاب «أسطوريات»، «أن أكثر ما يسجل لبارت هو قيامه بإدخال الأدب في ميدان العلوم الإنسانية، لأن بارت أولاً أديب، فمن «الدرجة صفر في الكتابة»، وحتى «الغرفة المضيئة» قدم بارت أشياء كثيرة إلى السيميولوجيا، وللتحليل النصي، وللسانيات ولعلم الاجتماع. ولكنه في هذا كله لم يطرح نظرية، إنما نظرة وحدساً. لكن هذه النظرة علمت آلاف القراء أن بهارج المجتمع، والحوادث المتفرقة والصور والملصقات والممارسات اليومية كانت كلها عبارة عن علامات. وبالتالي، فقط أيقظ القارئ على قضية المعنى»(10).
وكان عبد الرحيم حزل (المغرب) ترجم كتاب رولان بارت «الكتابة والقراءة Le Bruissement de la Langue» (1984 وظهرت ترجمته في العربية عام 1993)، والكتاب يكمل سعي بارت للتشييد النقدي لمفهومي الأدب الرئيسين: الكتابة والقراءة، اتصالاً بصور مصدريهما التاريخيين: الكاتب والقارئ، والأدوار (ونوعيتها: تناسباً وتفاوتاً) التي أسندت إليهما، على مر العصور الأدبية: عبر مراجعة لمعانيهما في كتبه السابقة، ولا سيما: «درجة الصفر» و«نقد وحقيقة»، وهي تسبق مرحلة القراءة الدلائلية في كتابه س/ ز: حيث اتصال وتداخل صيغ وطرائق: ناظمها النص واشتغال متنوعاته(11).
وترجم لميخائيل باختين غالبية مؤلفاته، وهي «الملحمة والرواية» (بترجمة جمال شحيد سورية) (1981)، و«الأيديولوجية وفلسفة اللغة» (وهما الفصلان الأول والثاني من كتابه «الماركسية وفلسفة اللغة» بترجمة فيصل دراج (فلسطين) ـ في «الكرمل» 1982، و«الماركسية وفلسفة اللغة» كاملة (بترجمة محمد البكري ـ المغرب ويمنى العيد من لبنان1985)، و«النسيج اللفظي في الرواية» (بترجمة صبحي حديدي (سورية) من كتاب «مشكلات الأدب وعلم الجمال» في الكرمل 1985)، و«شعرية دوستويفسكي» (بترجمة جميل نصيف التكريتي ومراجعة حياة شرارة ـ 1986)، و«الخطاب الروائي» (بترجمة محمد برادة 1987)، وأعاد يوسف حلاق (سورية) ترجمته عن اللغة الروسية مباشرة بعنوان «الكلمة في الرواية» (1988)، و«أشكال الزمان والمكان في الرواية» (بترجمة يوسف حلاق عن الروسية أيضاً 1990)، بينما كانت ترجمات باختين السابقة عن الفرنسية أو الإنكليزية. وكانت مقدمة محمد برادة «موقع باختين في مجال نظرية الرواية» هي التعريف الأول الشامل لهذا المنظر والناقد الذي مارس تأثيراً ما يزال متزايداً في الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية، فرأى برادة «أن معظم النقاد الذين يهتمون اليوم بتحليل الرواية وتطبيقاتها، من أمثال كريستيفا، وتودوروف، وجينيت، وزيرافا، وفيليب هامون، وفلاد مير كريزنسكي، يتخذون أفقاً لتحليلاتهم مجاوزة الفصل بين بنية الرواية ودلالاتها عبر اللسانية، بين عناصر خطابها، والأبعاد السوسيولوجية لشعريتها وسيميائيتها، وهو نفس الأفق الذي كان ميخائيل باختين، منذ ثلاثينيات هذا القرن، رائداً في الدعوة إليه، ووضع أسسه الأولى»(12).
وكشف برادة في وقت عن الأهمية المستمرة والراهنة لباختين، و«نحن لا نقصد بالراهنية الصلاحة المطلقة لنظرية باختين ولمقولاته ومصطلحاته، وإنما توفر أطروحاته ومنهجيته على عناصر حيوية صالحة لأن تخصب البحث والتحليل في مجال نظرية الرواية. وتمشياً مع جوهر منهجية باختين، فإن نتائجه لا يمكن أن تكون محدودة ومتطلبة لمتابعة التحليل والتفكير والتعديل، على ضوء ما استجد من إنتاج روائي ومن تنظيرات معرفية خاصة، وأن باختين لم يتناول بالتحليل روايات أساسية كتبت في القرن العشرين. ومن شأن تطور الإنتاج الروائي أن ينسب المصطلحات والمفهومات النظرية»(13).
يتجلى إنجاز باختين، كما أوضح في مقدمة «الكلمة في الرواية»، في محاولته «تجاوز القطيعة بين الشكلية المجردة، والنزعة الأيديولوجية، التي لا تقل عنها تجريداً في دراسة الكلمة الفنية. إن الشكل والمضمون واحد في الكلمة، مفهومة على أنها ظاهرة اجتماعية ـ اجتماعية في كل دوائر حياتها، وفي كل لحظاتها: من الصورة الصوتية حتى أشد طبقات معانيها تجريداً»(14).
وترجمت أيضاً غالبية كتب تودوروف، مثل «الشعريةLa Poetique » (بترجمة شكري المبخوت ورجاء بن سلامة من تونس1987)، و«مفهوم الأدب La Notion literaire» (بترجمة منذر عياشي 1990)، و«نقد النقد» (بترجمة سامي سويدان من لبنان 1991)، و«المبدأ الحواري ـ دراسة في فكر ميخائيل باختين Mikhail Bakhtin: Le Princpe Dialogique» (1981 بترجمة فخري صالح من فلسطين 1992)، و«مدخل إلى الأدب العجائبيIntroduction a la Literature Fantastique » (1970 بترجمة الصديق بوعلام ومراجعة محمد برادة 1994).
وقد عبر منذر عياشي عن أهمية تودوروف المنهجية والنقدية في تكون الاتجاهات الجديدة لنقد لقصة والرواية، في مقدمة «مفهوم الأدب»:
«يعتبر تودوروف معلماً من معالم التحول في الفكر النقدي في العالم. هذا إلى جانب شخصيات أخرى، وهي تقف معه، على ما بينها من تفاوت وتمايز، شاهدة على هذا التحول أو صانعة، نحد منهم مثلاً رولان بارت أستاذ تودوروف، وغريماس، وجيرارا جينيت، وجوليا كريستيفا وغيرهم. أما تودوروف نفسه، فقد ساهم بنصيب وافر من لكتب والدراسات والمحاضرات. ونكاد لا نجد مهتماً واحداً بالدراسات الأدبية والنقدية أو الإنسانية إلا وقد قرأ لهذا العقل الفذ»(15).
وأضاف فخري صالح في توطئته أن لتودوروف فضل التعريف بباختين في فرنسا، مع جوليا كريستيف، وبسبب أهميته، وجد «في تصوره للأنا والآخر والتناص ونظريته اللغوية، التي تبحث في التلفظ مجاوزة السوسيرية إلى حقول جديدة من البحث، محرضات فعلية للفكر النقدي المعاصر»(16).
ووجد الصديق بوعلام في منهجية تودوروف سيرورة التفاعل النقدي الغربي، و«ثمرة لتفاعل عميق وناضج مع أصوات عديدة، وعلى مستويات علائقية مختلفة:
أ- الحضور المتميز لنتائج بحوث الشكلانيين الروس.
ب- التعضيد البديهي لأصوات حركة النقد الجديد: جينيت، بلانشو، ويبلغ تبني طروحات هذا الاتجاه ـ الأم درجة الاستنساخ أحياناً.
جـ- المزاوجة بين التحليل النفسي التقليدي، فرويد، وعلم النفس التكويني، بياجيه.
د- الاستناد إلى ستراوس وبوبر في شأن ابستمولوجية التفكير العلمي وأسس البنيوية: الكلي/ الجزئي ـ البنية/ النموذج ـ الظاهرة الواقعية ـ الفرضية/ الاستقراء.. الخ.
هـ- مناقضة نورثروب فراي في بنائية التصنيف ونظرية الجنس الأدبي.
و- دحض دعائم النقد الموضوعاتي ـ الفرضية الحسية ـ والفرضية التعبيرية، متمثلاً في جان بيير ريشار على الخصوص»(17).
وترجم لروبرت شولز ثلاثة كتب، هي «البنيوية في الأدب Structuralism in Literature:
An Introduction» (1974 وظهرت ترجمته بالعربية عام 1984)، بترجمة حنا عبود (سورية)، و«عناصر القصة Elements of Fiction» (1986 وظهرت ترجمته بالعربية عام 1988)، بترجمة محمود منقذ الهاشمي (سورية)، و«السيمياء والتأويل Semiotics and Interperetion» (1982 وظهرت ترجمته بالعربية عام 1994)، بترجمة سعيد الغانمي (العراق).
وقد عني شولز بالتأويل في نقده وفي تأليفه النقدي حول الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية، فضم كتابه عن البنيوية في الأدب معالجات معمقة واستبصارات حاذقة لقضية المعنى في الاتجاهات البنيوية من الألسنية إلى تبسيط الشكل إلى الشعرية البنيوية، إلى التحليل البنيوي للنصوص الأدبية، إلى الخيال البنيوي بوصفه مثار الرؤية البنيوية في الرواية المعاصرة، وإن غلب على نظرته نوع من الحتمية أو العدمية الإنسانية، ربما بتأثير حديثه عن البنيوية بالذات:
«فإذا خدعنا الخيال، فإذا خدعتنا أنفسنا، فإن البنيوية تقدم لنا عزاءها البارد.إن الإنسان جزء من نظام مرتب ملموس. ومع ذلك فإنه ليس مخصصاً للإنسان، وليس من صنع الإنسان وهذه حقيقة واضحة ومنتشرة، فإن لم يتمكن من متابعة التوافق مع هذا النظام، فإن النظام سوف يستمر من دون الإنسان. يستطيع أن يدرسه، وأن يحبه، وأن يقبل عمله كشيء جميل لا يحتاج إلى موافقة، ولا حتى إلى وجود إنساني لتبريره»(18).
وقد أشاد سعيد الغانمي بكتاب «السيمياء والتأويل» على أنه «محاولة للمزاوجة بين السيمياء الموضوعية والتأويل الذاتي، وبين علمية المقروء وفاعلية القارئ. إنه مراجعة للمدارس النقدية الحديثة في ضوء اهتمامها بهذين الحقلين، ومحاولة لتلمس الحدود المشتركة بينهما»(19).
1-2- الشكلانية وموروثها:
ربما كانت ترجمة إبراهيم الخطيب (المغرب) لنصوص الشكلانيين الروس في كتابه «نظرية المنهج الشكليTheorie de la Litterature: Textes des Formalistes Russe » (1965 وظهرت ترجمته بالعربية عام 1982) الحدث الأكثر أهمية في تنمية الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية، وقد ضم الكتاب نصوصاً مترجمة عن كتاب «نظرية الأدب» الذي كان أعده بالفرنسية تزفيتان تودوروف، وشمل كتابات مختارة وضعت بين 1915 و1930. وأضاف المترجم نصاً لجاكوبسون، إلى نصوص بوريس ايخنباوم «نظرية المنهج الشكلي» «وحول نظرية النثر» و«كيف صيغ معطف غوغول»، يوري تينيانوف «مفهوم البناء»، وجاكوبسون «القيمة المهيمنة» و«عن الواقعية في الفن» ومشكلات الدراسات الأدبية واللسانية (مع تينيانوف)، وشكلوفسكي «بناء القصة القصيرة والرواية»، وتوماشفسكي «نظرية الأغراض».
وأكمل إبراهيم الخطيب تعريفه بأعمال الشكلانيين الروس، فترجم كتاب فلاديمير بروب الشهير «مورفولوجية الخرافة Morphologie du Conte» (ظهرت ترجمته بالعربية عام 1986)، وهو الكتاب الذي أعاد ترجمته أبو بكر أحمد باقادر (السعودية) وأحمد عبد الرحيم نصر (السودان) بعنوان «مورفولوجيا الحكاية الخرافية Morphology of the Folktale» (1929 بالروسية وظهرت ترجمته بالعربية عام 1989)، وقد مالت الترجمة الأولى إلى النقد الأدبي، بينما حرصت الثانية على الطوابع الفولكلورية.
وترجم محمد معتصم «المغرب» كتاباً مهماً في هذا المجال هو «مساجلة بصدد علم تشكل الحكاية L’etude Structurale et Typelogique du conte» (1970 وظهرت ترجمته بالعربية عام 1988) لكلود لفي ستروس وفلاديمير بروب، والمساجلة حصيلة البحث النقدي «البنية والشكل: تأملات في مؤلف فلاديمير بروب» الذي كتبه ستروس لكتاب بروب بعد صدوره بالفرنسية بعامين عام 1960، ثم طلب الناشر الإيطالي من بروب أن يرد على ستروس، فكان المقال الثاني «البنية والتاريخ في دراسة الحكاية»، ثم طلب من ستروس أن يرد على بروب فكانت الحاشية، وتتألف من أقل من صفحة واحدة. واختار معتصم مقتطفات من دراسة إجمالية للباحث الروسي أفكيني ملتنسكي عن الاستقبال العالمي لكتاب بروب، بعنوان «الدراسة البنيوية والتنميطية للحكاية».
وتومئ حاشية ستروس إلى انقطاع الحوار بين العالمين حين رأى بروب في نقد ستروس مكراً، بينما رأى ستروس أن «عمل بروب، على الرغم من كل شيء، سيحتفظ، في نظرهم كما في نظري، بالفضل الخالد بأن كان حائز قصب السبق»(20).
1-3- اشتغال النقد الجديد على النظرية:
شهدت سنوات التسعينيات وجوهاً مختلفة من الترجمة والتأليف لاشتغال النقد الجديد على النظرية الأدبية تأثراً بالاتجاهات الجديدة. ولعل من طلائع هذا الاشتغال صدور ترجمة عز الدين إسماعيل (مصر) لكتاب روبرت هولب Robert Houb «نظرية التلقي Reception Theory: A Critical Introduction» (ظهرت ترجمته بالعربية عام 1994)، وقد مهد له بمقدمة طويلة عن نظرية تلقي الأدب، أي العملية المقابلة لإبداعه أو إنشائه أو كتابته. و«عندئذ قد يختلط مفهوم التلقي ومفهوم الفاعلية التي يحدثها العمل، وإن كان الفرق بينهما كبيراً، حيث يرتبط التلقي بالقارئ، والفاعلية بالعمل نفسه. ومن هنا يختلف تاريخ التلقي عن تاريخ الفاعلية، كما تختلف جماليات التلقي عن جماليات التأثير. ونظرية التلقي ـ كما يعرضها المؤلف ـ تشير إجمالاً إلى ذلك التحول، في الاهتمام، إلى النص والقارئ»(21).
ولم يغفل عز الدين إسماعيل عن ذكر فائدة هذه النظرية في تفاعلها مع الفكر النقدي العربي الذي ينطوي في جملته قديماً وحديثاً «على رؤى وأفكار يمكن أن تنتظم حول نشاط التلقي الأدبي أو الفني، وأن تنمّي لتصنع في النهاية إطاراً نظرياً خالصاً، يكون بمثابة تطوير أو إضافة إلى النظرية العامة»(22).
وأصدر عبد العزيز شبيل (تونس) ترجمة لكتاب «نظرية الأجناس الأدبية» (ظهرت ترجمته بالعربية عام 1994)، ويتألف الكتاب من أبحاث بأقلام كارل فيتيور، وولف ديتر ستمبل، وروبرت شولس، وهانس روبرت ياوس، وجان ماري شافر. وجزم المترجم شبيل بأن نتائج هذه البحوث قد وقع تجاوزها، وما يطمح إليه هو القبس منها روح الفكر العربي وطريقة تعامله مع هذه القضية الشائكة: «إن غايتنا البعيدة أن تكون مثل هذه المقاربات المتنوعة، دافعاً للباحث العربي للتسلح بهذه الروح النقدية حتى ينكب على الأدب العربي ناظراً في ما خلفه الأجداد من مصطلحات ودراسات وآثار، محاولاً الوصول إلى نظرية للأجناس الأدبية في تراثنا العربي نابعة منه متجذرة فيه»(23).
وتقترب غالبية هذه الأبحاث من قضية التلقي، أو هي مكتوبة بحسبان هذه القضية، من بعض منظريها ودعاتها، والأبحاث هي: تاريخ الأجناس الأدبية، أدب العصور الوسطى ونظرية الأجناس، المظاهر الأجناسية للتلقي، من النص إلى الجنس: ملاحظات حول الإشكالية الأجناسية، صيغ التخييل.
غير أن حامد أبو أحمد (مصر) لم يكتف بالترجمة، بل وضع كتاباً في التفكير الأدبي والنقدي الحديث بالنظرية، هو «الخطاب والقارئ: نظريات التلقي وتحليل الخطاب وما بعد الحداثة» (1996).
وقد أهدى المؤلف كتابه، تعبيراً عن اتجاهه النقدي والفكري، «إلى كل الباحثين عن الجديد، مع الالتزام بشرط الأصالة»(24)، واعترف بأن مهمة الناقد العربي الآن عسيرة «لأسباب كثيرة من بينها أن مشكلة البحث عن منهج نقدي ما زالت غير واضحة وغير مستقرة لسبب بسيط هو أننا ما زلنا في مرحلة استيعاب للمناهج النقدية التي نشأت في الغرب خلال القرن العشرين، وقد كثرت هذه المناهج خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وتفرعت بصورة تجعل متابعتها في حدّ ذاتها أمراً شاقاً، فما بالك بالاستيعاب والتمثل ثم التأصيل!»(25).
عرض أبو أحمد لنظرية القراءة في جذورها وإرهاصاتها الأخرى، وتطورها في بلدها الأصلي، ألمانيا، من خلال جهود أبرز أعلامها، وهما ياوس وفولفجانغ أيزر. وخصص الفصل الثاني عن نظريات أخرى: علم تحليل الخطاب والبلاغة، ونظريات ما بعد الحداثة. والمقالة الأخيرة عرض نقدي لكتاب «ما بعد الحداثة ـ تحليل نقدي» (1994) لمارجريت روز وترجمة أحمد الشامي. و«تنبع أهمية هذا الكتاب من أنه يقدم تحليلاً نقدياً لكثير من الكتابات التي تناولت مفهوم ما بعد الحداثة، وما يتوازى معه، أو يرتبط به من مصطلحات ومفاهيم أخرى، وخاصة مصطلح ما بعد الصناعي»(26).
وألحق أبو أحمد كتابه بترجمة لمقالة تون فان ديك عن علم النص أو تحليل الخطاب، بوصفه علماً جديداً عبر التخصصات: اللسانيات والدراسات علم النفس الإدراكي، علم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع، علوم القانون والاقتصاد والسياسة، الدراسات التاريخية، علم الأنثروبولوجيا.
وأصدر خيري دومة ترجمته لكتاب هام في هذا السياق، هو «القصة ـ الرواية ـ المؤلف: دراسات في نظرية الأنواع الأدبية المعاصرة» (1997). وضم الكتاب أربعة أقسام هي: القسم الأول «نظرية النوع»، وفيه مقالات رالف كوهين «التاريخ والنوع»، وتودوروف «الأنواع الأدبية»، وتوماس كنت «تصنيف الأنواع»، والقسم الثاني «القصة القصيرة والرواية نوعين أدبيين»، وفيه مقالتان لشارلز ماي «التحفيز الاستعاري في القص القصير»، وروبرت لوشر «متوالية القصة القصيرة: كتاب مفتوح»، والقسم الثالث «عروض نقدية»، وفيه مقالات لوسيان جولدمان «مقدمة إلى مشكلات علم اجتماع الرواية»، ووالتر ريد «مشكلات بويطيقا الرواية»، وروبرت شولز «إسهامات المدرستين الشكلية والبنيوية في نظرية القص»، وتوني بينيت «سوسولوجيا الأنواع: عرض نقدي»، والقسم الرابع «ما بعد الحداثة»، وفيه مقالات جوناثان كلر «نحو نظرية لأدب الأنواع»، وميشيل فوكو «ما معنى مؤلف؟»، ورالف كوهين «هل توجد أنواع ما بعد حداثية؟».
لقد وجد المترجم خيري دومة في مقدمته «أن الخيط الرهيف والعميق، الذي يجمع بين مقالات هذا الكتاب جميعاً، حتى تلك المقالات التي تتفهم مقترحات ما بعد الحداثة، وتكشف عن وجاهتها أحياناً، هو الانطلاق من أرضية واحدة، تلخص فيما يمكن أن نسميه تجديد نظرية النوع، وبيان إمكانية تطويرها بدلاً من التخلي عنها»(27).
غير أن دومة يبالغ كثيراً في تقديراته لبعض المسائل التي أوردها عن نظرية الأنواع في التراث النقدي العربي، وفي النقد الأدبي الحديث، كمثل هذه التقديرات التي تمضي في الشطط: «تكاد المكتبة العربية تخلو من دراسة جادة، تتابع مظاهر التحولات النوعية التي اعترت مختلف الأنواع التقليدية، وتكشف عن مدى عمقها أو زيفها، وتقرأ دلالتها»(28)، بينما ثمة بعض مقالات الكتاب ترجمت مرات، وثمة تجاهل للكتاب الذي ترجمه شبيل، أما أراؤه فتفتقر إلى التعليل مثلما جاوزها النقد إقراراً بأهمية استمرار التقاليد السردية العربية، كمثل رأيه «أن التراث النقدي الذي يعالج الأنواع الأدبية الحديثة خصوصاً، القصة والرواية والمسرحية، تراث أوروبي في معظمه، لم يعرف النقد العربي الكثير منه. لقد قفزت أحاديث الكتاب والنقاد فجأة إلى النقد ما بعد الحداثة، وإلىرفض مقولة النوع ومحاولة تجاوزها بناء عليه، وغالبية هذه الأحاديث لا تستند إلى أرضية اجتماعية وأيديولوجية تبرر تجاوز النوع الأدبي في الواقع العربي، إنما هي الموضوعات المتوالية التي لا تتيح لشيء أن يأخذ مداه ، ويستقر عليه»(29)، ويفترض هذا الرأي انقطاع الواقع العربي عن تراث الإنسانية، فليس له أن يتفاعل معه، وليس له إلا أن يقلده على سبيل الموضات المتوالية.. الخ، ولعل التوقف، فيما بعد، عند الملامح الرئيسة لاشتغال النقد العربي باتجاه ما بعد الحداثة يوضح شيئاً من الإشكالية التي لا تخرج عن مدار المثاقفة، وتعزز في الوقت نفسه دوافع بحثنا عن الهوية في النقد الأدبي العربي الحديث بتمحيص انتشار الاتجاهات الجديدة لنقد لقصة والرواية وسيرورتها.
1-4- تحديث المناهج النقدية:
انطلقت عمليات تحديث النقد من البنيوية، ولأن البنيوية ذاتها لم تكن منهجاً صافياً، لاشتراكها بالموروث الشكلاني واللغوي واللساني، وبامتدادها إلى مناهج أخرى جاورتها، أو انبثقت عنها في منهجيات جديدة مثل سوسيولوجيا الأدب أو علامية الأدب أو شعرية السرد أو التفكيكية أو النقد الموضوعي وغيرها، فظهرت كتب كثيرة مترجمة ومؤلفة عن البنيوية(30)، ولعلنا نشير في متن البحث إلى الإسهامات المقاربة للبنيوية في النقد، وللمناهج التي جاورتها، أو آلت إليها فيما بعد.
وضعت باحثات جزائريات (دليلة مرسلي وكريستيان عاشور وزينب بن بو علي ونجاة خدّه وبوبا ثابتة) كتاباً متميزاً في سياقه، هو «مدخل إلى التحليل البنيوي للنصوص» (1985) سعين فيه إلى تقديم بعض الاقتراحات حول تحليل النصوص الأدبية ضمن قراءة ذات وظيفة نقدية، وترجع إلى نظريات علم الرواية Narratologie (والأصح أن تسمى سرديات) قيد التكوين، على المستويين البنيوي الأكبرمع البنيوي الأصغر، وعلى الرغم من حرص هؤلاء الكاتبات على الملاءمة التربوية، فإنهن نبهن إلى خطر إنتاج مقالات تقدم نفسها كوصفات. إن استخدام تقنيات معقدة لاستنباط Formalises أو استخدام مصطلحات جديدة لا يمكن أن يكون هدفاً في ذاته، ولا أن يطمح إلى نظام علمي(31).
واختارت الباحثات وجوهاً منهجية كان اقترح تودوروف مثيلاً لها، وهذه الوجوه هي:
- العلم دلالي الذي تتعلق دراسته بالاستعارات والمسائل Themes (والأصح أن تترجم موضوعات) والرموز، الخ.. والذي يطرح مشكلة العلاقات بين النص والواقع.
- اللفظي الذي يسمح بدراسة الثوابت Parametres التي تتم وفقاً لها معالجة الأحداث والوقائع الخاصة بالتجربة، ضمن النص، من وجهة نظر أسلوبية (Mode)، ومن وجهة نظر زمنية Temps، ومن وجهة نظر موقف المؤلف Vision، ومن وجهة نظر درجة مشاركة المؤلف بما هو الذات الفاعلة للخطاب Voix.
- النحوي الذي ترجع دراسته إلى العلاقات التي تقوم بين الوحدات الأدنى الخاصة بالنص(32).
وهذه التقنيات مطورة عن بروب وناضجة في النحو السردي للأعمال والوظائف (بروب وبريمون وبارت، ولنظام الفاعلين Acteure (غريماس وتودوروف وهامون وتوماشفسكي)، وفي الفعلي للسرد والوصف (هامون وجينيت وبارت) وفي الزمن. وقد أرفقت الباحثات المفهومات النظريات بتطبيقات عملية على نصوص مغاربية.
وترجم أحمد المديني (المغرب) نصوصاً لتودوروف وامبرتو ايكو Umberto Ecoومارك انجينو Marc Angenot وستيفن نوردابل لاند Steffen Nordable Lund (وبحثه قراءة لرولان بارت) في كتاب ذي عنوان دال في سيرورة الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية «في أصول الخطاب النقدي الجديد» (ظهرت ترجمته بالعربية عام 1987)، والنصوص تبحث في الموضوعات التالية:
1- اختصاص بالأدب والمكونات الأصلية له في اللغة والكلام والعلامة، والعلائق التي تنتج من كل مكون على حدة، وبين الأطراف المختلفة التي تنتج النص، ثم النص داخل النص.
2- توقف عند الدوال الشكلية الأساس التي تلعب دور المنتج للنص بين الاختبارات اللسانية والمحددات السيميائية، مما يؤدي إلى وضع الكتابة في إطار الأدبية، ويساعد على استخلاص هذه القيمة بالدرجة الأولى.
3- نظرة إلى النص الأدبي لا كمرجع انعكاسي لأدبية خارجية، ولكن كمجال يمتلك دواله القادرة وحدها على ربط العلاقة مع المدلولات ثم مقدرة هذه الأخيرة، انطلاقاً من أسس لسانية باتت معروفة، على توظيف وصياغة الدوال(33). وغيرها من أسس وموضوعات. تناولت النصوص والموضوعات التالية: الأرث المنهجي للشكلانية، مغامرة الدال، تحليل اللغة الشعرية، مفهوم التناص في الخطاب النقدي الجديد.
وظهرت ترجمة صبار سعدون السعدون (العراق) ومراجعة جبرا إبراهيم جبرا (فلسطين) لكتاب بيتر مونز «حين ينكسر الغصن الذهبي ـ بنيوية أم طبولوجيا» (1987)، وفيه تفسير للميتولوجيا بوصفها مجموعة من الطبقات (الطبولوجيا هي الطبقات المكونة لأية بنية)، وهذه الطبقات قد تتألف من الميتافيزيقيا والرموز والإشارات وعلم النفس والصور المجازية. والكتاب، بهذا الإطار، نقد للبنيوية، وانطلاقة منها إلى العلامية والنقد الأساطيري الذي تطور مع نورثروب فراي والبنيوية الإناسية، «فثمة فرق هام وحيد بين حاجتنا إلى المجاز الاعتيادي والصور التي يعاد ترتيبها والتي تكشف عن نفسها في الأساطير والأحلام والحكايات والخرافات. إن المجاز الاعتيادي هو ظاهرة لغوية صرف، وبما أنه كذلك فإنه يكاد لا يتجاوز أية لغة معينة أو مجموعة لغوية. إنه كذلك مكيف بالثقافة، بمعنى أن التقاليد المجازية تستطيع في أية لغة أن تأتي وتذهب، غير أن منشأ الأسطورة وتناقلها يتجاوزان الحدود اللغوية على مساحات زمنية واسعة، ويشملان أكثر الشعوب تبايناً»(34).
وترجم يوئيل يوسف عزيز (العراق) كتاب وليم راي William Ray «المعنى الأدبي من الظاهراتية إلى التفكيكية Literary Meaning from Phenomenology to Deconstruction» (ظهرت ترجمته بالعربية عام 1987)، وتكمن قيمته في احتوائه على شرح واف للحركات الجديدة في النقد الأدبي، ولا سيما النقد القصصي والروائي.
وقد ابتدأ المؤلف بظاهراتية القراءة، ثم تناول المعنى في نظرية التحليل النفسي والنظرية التأويلية، واعتنى بالبنيوية والسيميولوجيا، وانتهى بثلاثة نماذج للنقد الجدلي: الإحلال والتخطي (ستانلي فيش)، وهدم التاريخ ـ تأجيل الذات (رولان بارت)، ومفارقة التفكيكية ـ تفكيكية المفارقة (بول دي مان). ويكاد هذا الكتاب أن ينفرد بإقرار القطيعة التاريخية والمعرفية بين الاتجاهات الجديدة والتقليد السائد.
وعرّبت هدى وصفي (مصر) كتاباً صغيراً هاماً في سياقه عن النقد الأدبي من منظورات الاتجاهات الجديدة نظرياً وتطبيقياً، وحمل الكتاب عنوان «النقد الأدبي» (1989، يخلو الكتاب من وثائق كتابته والتعريف بمؤلفيه، وإن كانت المترجمة قد أشارت إلى أنه يتوقف عند عام 1977)، أما المؤلفون فهم ب.برونل، ود.ماديلينا، ود.كوتي، وج.م.جليكسون. وضم الكتاب فصولاً حول الوصف والمعرفة والحكم والفهم والنقد في موضع التساؤل، غير أن الفصل الأهم هو «الفهم»، ويُستهدى فيه، أكثر من بقية الفصول بإنجازات علم الأدب، وقوامه النظام الألسني والشعرية وتحليل الخبر والبنية وزمن الخبر ومدار النص، وتتردد في ثنايا هذا الفصل نظرات جاكبسون وإيخنباوم وبروب وبارت وغريماس وبريمون وكريستيفا وجينيت وسواهم(35).
ووضع عبد الكريم حسن (سورية) كتاباً بعنوان «المنهج الموضوعي: نظرية وتطبيق La Thematique» (1990)، ويختلف هذا المصطلح عنه في النقد الأنجلوسكسوني، ولكن حسن أراد كتابه تعريفاً بالتجربة النقدية الريشارية (نسبة إلى الناقد الفرنسي المعروف جان بيير ريشار) من أجل الوصول إلى بناء المنهج الموضوعي الريشاري. ودافع عن تقديمه للمنهج الموضوعي بأنه إعادة خلق، وليس مجرد نقل من لغة إلى أخرى، «فناقدنا ريشار لم يقدم منهجه في يوم من الأيام على النحو الذي قدمناه. وهذا ما يجعل من دراستنا مرجعاً للمنهج الموضوعي لا في اللغة العربية وحسب، وإنما في اللغات الأخرى»(36).
وذكر حسن أن التيار النقدي الريشاري لم يولد من العدم. فهناك معلمون وفلاسفة كبار يشكلون بحق الجدار النظري الذي تستند إليه أعمال النقاد الموضوعيين، فتأثر ريشار بغاستون باشلار، وجان بول سارتر، وادموند هوسرل. ونوه بالجهود المعرفية والفلسفية والنقدية التي أسهمت في تكون النقد الموضوعي، مثل رولان بارت في كتابه «ميشليه يكتب عن نفسه بنفسه» الذي يعدّ نوعاً من التحقيق العملي لنمط القراءة الموضوعية، ومارسيل بروست في كتابه الشهير «بحثاً عن الزمن الضائع» (وهو رواية وليس بحثاً نقدياً، وربما يقصد حسن أنه كان مجالاً خصيباً لدراسات المنهج الموضوعي)، والبير بيغان في كتابه «الروح الرومانتيكية والحلم»، ومارسيل ريمون الذي حاول في كتابه «من بودلير إلى السريالية» أن يستعيد الحياة الداخلية للمبدعين الذين حلل أعمالهم، غير أن حسن اقتصر على باشلار وسارتر وهوسرل، «فهؤلاء يشكلون ما أسميناه بالجدار الفلسفي الذي يستند إليه ريشار»(37)، وهو ما يشكل مصادر النقد الموضوعي ثم شرح مفاهيم النقد الموضوعي: الموضوع ـ المعنى ـ الحسية ـ الخيال ـ العلاقة ـ التجانس ـ الدال والمدلول ـ شكل المضمون ـ البنية ـ العمق ـ المشروع والقصدية والوعي ـ المحالة، وترجم دراسة تطبيقية عن بول ايلوار، ثم عاين في الفصل الأخير المنهج الموضوعي ناقداً علاقاته بالتحليل النفسي والموضوعية البنيوية والبنيوية.
وترجم رعد عبد الجليل جواد (العراق) كتاب كريستوفر نورس «التفكيكية: النظرية والتطبيق Deconstruction: Theory and Practice» (ظهرت ترجمته بالعربية عام 1992)، ويحفل الكتاب، على صفحاته القليلة (138 صفحة من القطع المتوسط) بعروض نقدية معمقة لجذور البنيوية والنقد الجديد من كانط إلى ما وراء النقد الجديد، ولإسهام جاك دريدا، وللنقلة من الصوت إلى النص، وصولاً إلى نيتشه، وما بين ماركس ونيتشه فيما اسماه سياسات التفكيك، وإلى الاتصالات الأمريكية، حيث التفكيكية بوجهها المتطرف: جيوفري هارتمان، ج. هيليز ميلر. ويختمم الكتاب بأسئلة حدة: هل وصلت التفكيكية إلى حدودها النهائية؟ وما آلت إليه الأصوات المعارضة، ولا سيما علاقة اللغة والشك، غير أن المؤلف ما يلبث أن يعترف بتسرب التفكيكية منهجاً عقلانياً في التراث النقدي العالمي:
«لقد أرست التفكيكية هيمنة جديدة للمناقشات الدائرة منذ زمن طويل بين الأدب والفلسفة، ولم تكن دعاوى التحليل مطروحة من قبل البلاغيين المبدئيين كما طرحها بول دي مان، ولم يكن النقد قد امتلك مثل هذه الشجاعة والعقلانية والنمطية، كما طرحت كمنهج عقلاني في التفكيكية»(38).
وترجم جابر عصفور (مصر) أول كتاب شامل عن البنيوية «عصر البنيوية» (1992) لإديث كريزويل، وهو كتاب نقدي أشبه بتقييم لحصاد هذا المنهج من نشوئه إلى انتصاره، وتغلغله إلى ميادين متعددة: علوم اللغة، والإناسة، والفلسفة، والتحليل النففسي، والتاريخ، والاجتماع، والنقد الأدبي، إلى امتداده إلى مناهج أخرى، إلى أفوله وانكفاء بعض رموزه عنه. وبينت مؤلفة الكتاب أنها قصدت إلى تقديم نظرة شاملة إلى البنيوية الفرنسية. ولما كان للبنيوية أثرقوي في مجتمع المثقفين الفرنسيين، ولها توجهها نحو الأنساق الفلسفية الأخرى، من مثل حركة علم التأويل Hermenetics، والماركسية وفلسفة الظاهريات Phenomenology، والوجودية والعقلانية.. الخ، فقد خصصت المؤلفة فصولاً لأبرز ممثلي البنيوية في الأنثروبولوجيا والماركسية والتحليل النفسي والأدب والتاريخ، وأبرز خصومها في الماركسية وعلم التأويل وعلم الاجتماع. ووجه عصفور إشارة انتقادية للمؤلفة على استحياء تستدعيها واجبات العلم وموضوعتيه، ورصانة العالم، في أنه لن يتدخل بين المؤلفة والقارئ في مناقشة المضمون التأويلي لمنظورها، و«لكن من المفيد أن نلاحظ أن أغلب كتابات البنيويين الفرنسيين قد تغيرت بالفعل بعد عام 1968. ولا يقتصر الأمر في ذلك على ألتوسير وفوكو اللذين حرصا على نفي صلتهما ببنيوية ليفي شتراوس، بل بتجاوزهما إلى رولان بارت الذي أعلن عام 1970 أنه هجر الطريقة التي كان يتبعها عام 1966 عندما كتب مدخله الشهير إلى «التحليل البنيوي للقص». ومن المفيد، أيضاً، أن نضيف أن مطالع السبعينيات قد شهدت أفول البنيوية في فرنسا نفسها، بالقدر ال