[center] صورة المناهج الحديثة في نقد الشعر
*************************
*************************
تتطلب الإجابة على السؤال الخاص بمدى نجاح المناهج النقدية الحديثة في دراسة الشعر وما أضافته أو توصلت إليه من قوانين وقواعد جديدة في النص الشعري كانت خافية على القارئ من قبل، فحصاً شاملاً لهذه المناهج بما تنطوي عليه من مفاهيم ومصطلحات وأدوات إجرائية. وهو، كما نرى، ليس بالعمل السهل ولا باليسير تحقيقه في ورقة من هذا النوع . ولأن الإجابة مهما تكن مختصرة لا بدّ من أن تأخذ بنظر الاعتبار جملة من الحقائق يأتي في مقدمتها أن ظهور هذه المناهج في بيئتها الأوروبية والأمريكية الأصلية قد ترافق مع التطور العلمي والفكري والفلسفي الطويل الذي شهدته البنى الثقافية الغربية وشمل العلوم الإنسانية التي أظهرت حرصاً
متزايداً على الإفادة من المناهج المتبعة في العلوم الصرفة بغية إضفاء الطابع العلمي على المقاربات النقدية وتخليصها مما كانت تعاني منه من اضطراب وعدم ضبط ودقة. ومعنى ذلك أن عملية نقل هذه المناهج وإدخال وسائلها وأدواتها الإجرائية على المشاريع النقدية العربية التي تحاول فحص المنجز الإبداعي المتولد في بيئة اجتماعية وثقافية مختلفة وظروف حضارية مغايرة، لا بدّ أن تخضع لتحوير وتطوير يجعلان من عملية نقل الفكر النقدي المعاصر إلى لغتنا العربية عملية ممكنة على صعيد التطبيق العلمي وليس فقط على صعيد الممارسة النظرية.
والمشكلة هي أن النظرية التي ترى في المنهج النقدي أداة موضوعية محايدة يمكن الإفادة منها واستخدامها في تحليل نصوصنا الشعرية العربية بالطريقة نفسها التي تطبق من قبل أصحابها أنفسهم على النصوص الشعرية الغربية لا تخلو من محاذير ومخاطر حتى إذا سلمنا بصلاحية هذه المناهج، ونجاح تطبيقها من قبلهم. فالمنهج كما هو معروف، يرتبط برؤية تجعل للطبيعة الخاصة لموضوع كل مقاربة نقدية دخلاً في نوع النتيجة أو النتائج التي يمكن التوصل إليها من خلال استخدام هذا المنهج أو ذاك . ولذلك فإن توفر القاعدة المعرفية ومعاينة كل طريقة على وفق ما تستحقه من عناية فاحصة هي التي تجنبنا مخاطر الانزلاق في التبعية للخطاب النقدي الآخر وما تقود إليه
من مظاهر تطبيق آلي للمناهج الجديدة. خصوصاً بعد أن علمتنا التجربة أن لا وجود لمبادئ وقيم منهجية ثابتة يمكن الاعتماد عليها وتثبيتها إلى ما لا نهاية في تحليل النص الشعري أو غيره من النصوص الإبداعية التي تدور عليها المقاربة النقدية . فالمقاييس المنهجية ليست في مأمن من كل نقد، إذ يمكن إعادة فحصها وتحسينها وتعويضها بأفضل ما يمكن كما يقول فيبرابن في كتابه (ضد المنهج).
وقد أظهرت هذه التجربة أيضاً أن المناهج العلمية نفسها خاضعة لأن تنتهك أعرافها بين فترة وأخرى. وبعد أن وجد أن المناهج التي تدرس النص من
خلال ما يحيط به أو يصدر عنه من إشارات حول التاريخ وعلم النفس والاجتماع بعيدةً عن الوفاء بمتطلبات دراسة النص الشعري بكل غموضه وتعقيده، وجدت المناهج النصية التي تدرس النص من داخله في ضوء الأسس اللسانية والسميولوجية أو تلك المعتمدة على جمالية التلقي عند القارئ، نفسها عاجزة، هي الأخرى، عن تقديم صورة ذات طبيعة (علمية) للممارسة النقدية، فلجأت إلى انتهاك الحدود القائمة بينها، وأباح أصحابها لأنفسهم طرق سبل الإمساك بأكثر من طريقة ومنهج واحد في التحليل، إذ سرعان ما اتضح أن النقد الجديد والنقاد الجدد، إذا ما جردوا من رغبتهم في منطقة الشعر (جعله منطقياً) إنما ينكبون بالدرجة الأولى على محاولة الحفاظ على وحدة القص
يدة وتفرد النص بعزلة يصبح قادراً معها على أن يظل أسيراً داخل جدران مناهجهم وبلاغتهم المنتقاة.
والقصيدة، كأيقونة شفهية أصبحت، كما يقول كريستور فرندرسي، نقطة حشد لنقد مكرس للذاتية المميزة للغة الشعر التي كان الشكلانيون يدعون إليها. ولئن كانت الشكلانية الروسية أكثر المناهج النصية حرصاً على توفير أساس علمي لنظرية الأدب من خلال (الأدبية) فإنها هي التي أدركت بأن "الوظيفة الشعرية ليست الوظيفة المفردة للفن اللفظي، وإنما هي الوظيفة المسيطرة والحاسمة" بينما هي في كل النشاطات اللفظية تعمل كمكون ثانوي احتياطي. ه
ذه الوظيفة بتطويرها حسية الإشارات تعمق الثنائية الأساسية للإشارات والطريقة الأساسية التي تظهر الوظيفة الشعرية نفسها في الشعر تكون حسب جاكوبسن -بإسقاط البعد الصرفي والاستعاري للغة على البعد النحوي، أي إسقاط محور التوزيع على محور الاختيار ثم تأكيد تساند الوظيفة الاستعارية التي تقوم على أساس العلاقات المشابهة والوظيفة الكنائية التي تقوم على أساس علاقات المجاورة.
وبتأكيد الشكلانيين على تماثلات الصوت والإيقاع وبناء الصورة وغير ذلك من خصائص أخرى تنزاح فيها اللغة الشعرية عن اللغة العلمية أو لغة الخطاب الاعت
يادي وتفارقها، يجري جذب انتباه القارئ إلى الخصائص الشكلية لهذه اللغة بعيداً عن المعنى أو الدلالة أو دفعاً لهما إلى مواقع خلفية. وحين جاءت البنيوية بكل أحكام نظامها النظري وسطوتها المنهجية، التي تحاول التماهي مع مناهج العلوم الطبيعية، تأكد هذا الاتجاه لدراسة الأدب من الداخل بطريقة المحايثة، بوصفه بنية أو مجموعة بنى لسانية تقوم على أساس تبادل الصلة بين بعضها البعض من خلال العلاقات التركيبية القائمة بين مزدوجات الحضور والغياب والتقابلات الضدية ومجموعة أخرى من المصطلحات المستعارة في معظمها من نظرية (دوسوسير) في علم اللغة ومن نظرية الأنثرولوجيا البنائية التي وضعها (كلود ليفي شتراوس). <
/SPAN>
لقد بدت النظرية البنيوية دائماً مدججة بحجج وبراهين وطرائق تحليل (علمية) دقيقة للإحاطة بالنص وإحكام الطوق حوله والسيطرة عليه على نحو لا يمكن معه الشك في قدرتها على إضاءته وكشف آليات اشتغاله، بحسب تعبير نقادنا الجدد. لكن المشكلة ظلت ماثلة، لأن المسافة بقيت، مع ذلك قائمة بين هذا النص وإدراك القارئ له على نحو أفضل. وقد بقى نموذج التحليل البنيوي الواسع الذي قدم فيه جاكوبسن وليفي شتراوس دراسة لقصيدة بودلير القصيرة (القطط Les Chats ) عاجزاً عن إثبات حقيقة كون علم اللغة البنيوي مناسباً تماماً لتحليل الشعر والذهاب فيه إلى ما هو أبعد من الكشف عن أبنيته اللفظية. فقد اقتصر هذا التحليل على دراسة النظام المتبع في التقفية، وبيان العلاقات النحوية، وطريقة الشاعر في اختيار الكلمات، وبحث علاقات التوازن والاختلاف الموجودة في القصيدة، ولكنها لم تتجاوز قط مظاهر الوصف والطرق الإحصائية ذات الطابع الرياضي نحو بناء حكم أو إبراز معنى خاص تنطوي عليه شبكة الدوال والتراكيب النحوية التي تم رصدها بتلك الطريقة المذهلة. فطريقة المؤلفين، كما يقول ريفاتير في تعليق له على هذه الدراسة تقوم على افتراض أن أي نظام بنيوي يمكن أن يطبقاه على القصيدة هو بالضرورة "بنية شعرية". وهو يطرح سؤالاً عما إذا كنا غير قادرين على أن نفترض العكس من ذلك، أي أن كل قصيدة يمكن أن تشتمل على بنى معينة لا تلعب دوراً في وظيفتها وتؤثر فيها كعمل أدبي، وأن ليس ثمة سبيل للعلوم اللغوية البنيوية لتمييز تلك البنى غير البارزة من تلك التي لها تأثير في النص. وبشكل معكوس يمكن القول بأن ثمة بنى شعرية دقيقة لا يقرها تحليل ولا يمسك بلغتها الشعرية ذات الطابع النوعي.
إن أحداً لا ينكر بأن ما قدمته وتقدمه النظرية البنيوية قد وفر للناقد إمكانات فنية يستطيع، انطلاقاً منها، ممارسة النظر إلى النص بطريقة جديدة وبالغة الدقة، خصوصاً إذا تم استيعابها
والنظر إليها بوصفها "طريقة في الرؤية ومنهجاً في معاينة الوجود، وليس مجرد فلسفة" -كما يقول كمال أبو ديب في مقدمة كتابه "جدلية الخفاء والتجلي-دراسات بنيوية في الشعر". ولذلك لا غرابة في أن بنية القصيدة في المنظور الذي يحاول تنميته لا يختلف عنده جوهرياً عن بنية مشروع اقتصادي ينوي تنفيذه أو مشروع وحدة سياسية. وبصرف النظر عن ما يعنيه ذلك عند ناقد عربي يحس بالطبيعة الثورية لعمله في نقد الشعر على وفق هذا المنهج الجديد، فإن ما يسوغ مشروعه النقدي أنه لم يقدم البنيوية على مستوى نظري صرف، وإنما من خلال تجليه في تحليل نصوص مألوفة للقارئ العربي تتيح له الفرصة للمقارنة ومعاينة الفرق بين هذا النمط الجديد من التحليل
النقدي وذلك الذي ألف هذا القارئ رؤيته في مناهج التحليل اللغوي وعلى الرغم من أن هذا الامتياز على المناهج الأخرى متروك للقارئ فإن الجهد المضني الذي بذله هذا الناقد العربي يمثل واحدة من المحاولات التأسيسية المهمة في نقد الشعر العربي في القرن الماضي. ولعل فاعلية القراءة التي امتازت بها هذه الجهود ما كانت لتتحقق بهذا الشكل لولا اعتمادها على فهم مزدوج لتراث النقد العربي والغربي في آن معاً. فهو لا يدرك فقط الأسس النظرية للمنهج البنيوي وقيامها على تراث فكري وفلسفي ولغوي يعود إلى أوائل هذا القرن وكونها استمراراً لتطورات فكرية وفلسفية تضرب جذورها في أغوار التراث الأوروبي، تمتد من هيغل ومفاهيمه الجدلية وإلى فر
ويد ومدرسة التحليل النفسي، وإنما هو يعرف أيضاً أن الثقافة العربية المعاصرة لم تستطع، حتى الآن، أن تتمثل هذا التراث الفكري والفلسفي تمثلاً جيداً، وأن التراث اللغوي النابع من فرديناند دوسوسير ما يزال غريباً عليها غرابة شبه مطلقة، وإن كانت أهم أسسه النظرية -كما يضيف- جزءاً من التراث اللغوي العربي، كما تبلور في عمل ناقد فذ هو عبد القاهر الجرجاني. وعلى الرغم مما في هذه التلفظات النقدية من وجوه اختلاف، وربما تناقض، في محاولة التماس الأسس النظرية لتراث فرديناند دوسوسير في التراث اللغوي العربي، فإن ما يعنينا، بالدرجة الأولى، هو -كما قلت- الجانب الإجرائي الذي جعل نماذج من النص الشعري القديم والحديث محكاً لمحا
ولة تطبيق جدي للنموذج البنيوي . وهي محاولة لم تعدم من النقاد العرب من جيل تال لجيل كمال أبو ديب من يحاول اقتداءها وتأثر بعض خطواتها، خصوصاً على صعيد الدراسات الأكاديمية التي سنحاول هنا أن نعرض لنماذج منها تم إعدادها في بعض الجامعات العراقية للحصول على شهادة الماجستير والدكتوراه.
وعلى الرغم من تواضع بعض هذه المحاولات وإنها تكتسب ضرورتها أحياناً من كونها محاولات تدريب طلبة الدراسات العليا على الضبط والدقة واختيارها المعتمدة لأساليب ومناهج حديثة في دراس
ة الشعر العربي قديمه وحديثه، فإن اختيارنا لنماذج محدّدة منها وفقاً لنظرة نقدية فاحصة من شأنه أن يظهر مدى قدرتها على مواصلة الزعم بانخراطها في إطار حداثة نقدية عربية توفرها المناهج الحديثة في نقد الشعر.
1-النقد الفني للقصيدة في النقد العربي الحديث
للدكتور مرشد أحمد ناصر الزبيدي
على الرغم من أن التاريخ الذي كتبت فيه هذه الرسالة ونوقشت للحصول على درجة الماجستير في الأدب العام 1989 صار قديماً بعض الشيء، فإن الذي يدفع إلى تناولها هنا التأثير الذي مارسته على كثير من الدارسين والباحثين في الدراسات العليا، خصوصاً بعد ظهورها في كتاب طبع ببغداد العام 1994. وما يهمنا رؤيته في هذه الرسالة التي يقول الباحث أنها تتعلق "بنقد النقد" ومجالها الدراسات النقدية العربية الحديثة التي اهتمت بالنصوص الشعرية في التنظير والتطبيق، هو نوع المنهج الذي اتبعته وهي تحاول دراسة المباحث النقدية العربية والحديثة على أساس تباين مناهجها وتباين آراء أصحابها ومحاولة جعل الدراسات النقدية الم
ختارة تمثل الاتجاهات النقدية التي "تحتمت" على الناقد دراستها. والباحث يقول في المقدمة أنه اتبع منهجاً محدداً في البحث إذ انصب الاهتمام على تحديد مفهوم البناء الفني وكيفية معالجة النقد العربي الحديث له نظرياً وتطبيقياً، وبما أن مفهوم البناء الفني يعني بالضرورة مقاربة بنيوية للنصوص وملاحظته لكيفية إجراء مثل هذه المقاربة من قبل بعض النقاد العرب المحدثين، فقد أغفل الحديث عن الدراسات الأخرى التي اهتمت بتاريخ الأدب والظروف المحيطة بإنتاج المبدعين، على اعتبار أن الدراسة البنيوية (أو البنائية كما يسميها) لا تعير اهتماماً كافياً لذلك.
والملاحظ أن الباحث لم يحدد منهجه بوضوح تام، بل لم يحدد لنا بشكل دقيق المناهج النقدية التي تخضع البناء الفني للقصيدة العربية لسلطتها النظرية والإجرائية، ذلك لأننا سنرى لديه، على صعيد التطبيق، اضطراباً يجعل من الصعب اتساق مفهوم البناء الفني الذي يقول به.
غير أن بوسعنا أن نقدر مدى قدرته على فحص المنهج أو المناهج البنائية التي حاول دراسة منجزها النقدي من خلال النماذج التي استعرضها ونقدها من جهة، ومن خلال اقتفائنا لأثر هذا المن
هج أو المناهج في المصادر المعتمدة من قبله من جهة أخرى، لأن مصادر الدراسة تساعد في تبين الخلفيات المتحكمة في تحديد أهداف الناقد في الدراسة، كما أن استخدام الباحث لمصطلحات محددة يشكل علامة أخرى على المنهج المتبع، فإذا ما تعددت المصطلحات من مصادر منهجية مختلفة، فيمكن لإحصاء بسيط أن يكفي لإظهار المنهج الغالب أو المنهج المحتضن لمناهج أخرى تبدو هامشية -كما يقول الدكتور حميد لحمداني في كتابه (سحر الموضوع). والواقع أن المصادر الوسيطة التي اعتمدها الباحث للتعرف على المنهج البنيوي والمهاد المعرفي الذي ظهر فيه لا توفر فرصة كافية للإحاطة بهذا المنهج والطريقة التي تحركت فيها الدراسات النقدية العربية التي تأثرت به، كما أن عدم ضبط المصطلح وتردد صاحبه بين مرجعيات قديمة أو حديثة جعلت الأفق الذي تتحرك الدراسة الفنية ضمنه غائماً وغير واضح وضوحاً كافياً.
لقد تصدى الباحث لقضايا حديثة في نقد الشعر كتب فيها نقاد عرب اعتماداً على مراجع غربية، وسيكون من طبيعة الأمور أن يلم الباحث بمرجعياتها ومصادرها ليكون قادراً على القيام بمثل هذه المهمة التي وصفها بـ (نقد النقد)، فكيف يمكن، مثلاً، أن نتصدى لفحص المنجز النقدي لناقد عربي حديث مثل (كمال أبو ديب) يقول لنا أن مراجعه في تحليل القصائد التي تضمنها كتابه الرؤى المقنعة كلها غري
بة من دون أن يكون لدينا إلمام إلى حد مقبول، معقول بهذه المصادر؟
يقول كمال أبو ديب في مقدمة هذا الكتاب الذي طبّق فيه الآليات الإجرائية للمنهج البنيوي في دراسة الشعر الجاهلي، إنه اعتمد في هذه الدراسة على الإنجازات التي تحققت في خمسة تيارات بحثية في هذا القرن الماضي، وهي:
1- التحليل البنيوي للأسطورة كما طوره (كلود ليفي شتراوس) في الأنثروبولوجيا
البنيوية.
2- التحليل المورفولوجي (الشكلي) للحكاية كما طوره الروسي (فلاديمير بروب) في دراسته للتركيب الشكلي لمائة حكاية كان قد اختارها من بين أربعمائة حكاية جمعها (أفاسييف ). وهو يختار من كل هذه الحكايات واحدة هي حكاية الحوريات بوصفها جنساً متميزاً متجاوزاً في دراستها كل الدراسات السابقة التي اقتصرت على تتبع أصول الحكايات وأنماطها وموضوعاتها، وأنماط شخصياتها ومغزاها ليركز على التركيب الشكلي لها.
وهناك، كما بيّن بروب، في هذه الحكاية المفردة وظيفة أو فعل وظيفي تؤديه شخصية، محدد من جهة نظر أهميته ودلالته في تطور مجرى الأحداث، وهذه الوظيفة تشكل (بنية) ثابتة. أما التغيير فهو الشخصية التي تؤدي الفعل والطريقة التي بها تؤديه، وبذلك تكون الوظيفة من المكونات الأساسية للحكاية، وبهذه الطريقة نكشف عن تركيب الحكاية التشكيلي أو بنيتها، محددة دراسة التشكيل المورفولوجي بأنها:
-وصف للحكاية تبعاً لأجزائها المكونة، وعلاقة هذه الأجزاء فيما بينها
وعلاقتها بالكل و (بروب) يجعل من هذه الحكاية نموذجاً يحاول أن يطبقه على كل الحكايات التي اختارها، وسنرى أن كمال أبو ديب يسمى معلقة (لبيد) التي يحللها بالطريقة نفسها (المعلقة المفتاح).
3- مناهج تحليل الأدب المتشكلة في إطار معطيات التحليل اللغوي والدراسات اللسانية السيمائية، وبشكل خاص عمل (رومان جاكوبسن) والبنيويين الفرنسيين.
4- المنهج النابع من معطيات أساسية في الفكر الماركسي الذي أعطى عناية خاصة لاكتناه العلاقة بين بنية العمل الأدبي والبنية الاجتماعية، كما يتضح ذلك بشكل خاص عند ناقد مثل (لوسيان غولدمان).
5- تحليل عملية التأليف الشفهي في الشعر السردي ودور الصيغة في آلية الخلق، كما طورها (فلمان باري) و(ألبرت لودر).
وبصرف النظر عن مدى انسجام النظرية المنهجية المطبقة ومد
ى ملاءمتها للنصوص المدروسة وحرصها على التطابق مع الأصول التي أخذت منها، وما إذا كان فيها تشويه أو إضافة أو خروج على المرجع، فإن المعرفة المدققة بآليات النظرية تبدو أمراً مهماً ولا معدى عنه من أجل معرفة مدى التوفيق الذي يحرزه الناقد العربي وهو يواجه نص القصيدة الجاهلية وغير الجاهلية اعتماداً على هذه المناهج. صحيح أن (أبو ديب) لم يكن معنياً بتطبيق منهج أو مناهج جاهزة أو نقلها من المجالات التي استخدمت فيها إلى مجال جديد غريب عنها، ولكنه يعترف أن بحثه قد تم في إطار الوعي النظري الدقيق لهذه المناهج بما تثيره من اشكالات وما تحققه من إنجازات.
إن ذلك مجرد مثال قد لا تكون لـه علاقة مباشرة بعمل الباحث الدكتور مرشد الزبيدي في هذه الرسالة ولكنه يظهر على أية حال مدى الصعوبة التي تبرز أمامنا حين نتصدى لحقل دراسي من هذا النوع من دون احتياطات منهجية ومعرفية كافية.
وقد لاحظ الدكتور حميد لحمداني في كتابه (سحر الموضوع) إنه كثيراً ما تساهل المشتغلون بنقد النقد في المنهج الذي يحتكمون إليه في الدراسة، ولعلهم ينطلقون من شعور خفي بالتعالي يجعلهم يعتقدون تلقائياً بأن دراساتهم في غنى عن التقيد بأي منهج ما دامت مادة موضوعهم هي النصوص النقدية التطبيقية الصادرة في أساسها عن مناهج معينة، فإذا كانت المناهج في صورتها التطبيقية التي هي موضوع دراستهم من مهامها الرئيسية أن تتعامل مع الأعمال النقدية ذاتها وتقدم تقويماً لها بمنهج معين، فلا بد من تعيين هذا المنهج وتحديد إطاره. وإذا نحن غضضنا النظر عن الاضطراب الموجود في الرسالة من ناحية استخدامها لمصطلح (البنية) مرة و(البنائية) مرة أخرى، فإننا نقع على اضطراب في مفهوم البنية ومفهوم وحدة القصيدة نجده في طول الرسالة وعرضها. والباحث يشير إليه في المدخل بقوله إن دراسة البناء الفني للقصيدة تقترب من دراسة وحدتها العضوية، وإن الفرق بين المفهومين، فيما يرى، يتعلق بطرائق التحليل. ففي حالة دراسة الوحدة العضوية يتعلق البحث بدراسة علاقات الأجزاء التي هي الأقسام التي يتكون منها النص، بينما في حالة البناء الفني يتعلق الأمر بدراسة علاقات الأقسام المكونة لها.
وهو يرى بأن فهم بناء القصيدة الفني عند النقاد والباحثين العرب المعاصرين لا يختلف كثيراً عن فهم أرسطو للوحدة العضوية في المأساة الإغريقية.
ومع ذلك فهو يعتقد أن البناء الفني أشمل من وحدة القصيدة، وهو يتضمنها ولذلك يكون من المناسب لدراسة بنية العمل الفني أن يخصص جزءاً من دراسته لموضوع وحدة القصيدة".
وبصرف النظر عما في هذه التلفظات النقدية من اختلاف، بل وتناقض أحياناً، فإن الفكرة الأساسية التي تهدف إلى التسوية بين البنيوية أو البنية والوحدة الموضوعية تبقى بعيدة عن الصحة، ومن شأن الالتزام بها في ما يتبقى من فصول الرسالة أن يلقي ظلالاً من الشك على مجمل وحدة البناء المنهجي فيها.
فما تريد البنيوية التأكيد عليه وكشفه ليس وحدة القصيدة ولا المعنى أو الدلالة التي ينكشف عنها تركيب القصيدة ومقاطعها المختلفة، بل هو اكتشاف القوانين الشاملة التي تتحكم في الاستخدام الأدبي للغة، من تركيب البناء الوظيفي حتى الصيغ الشعرية. وقد عثر النشاط البنيوي على مركزه في الدراسة اللسانية، واتخذ قوته الدافعة في النقد من منجزات سوسير وجاكوبسن، الذي لا يبدو أن هناك لوحدة القصيدة لديه معنى خارج إطار الثنائيات الضدية والمزدوجات الصوتية وغيرها من العلاقات الشكلية التي لا يميز أصحابها بين لغة الأسلوب أو بين العن
اصر المحايدة والعناصر ذات القيمة الأسلوبية الصانعة لوحدة الإطار ووحدة الموضوع في القصيدة، وقد لاحظ الباحث نفسه كيف أن بعض النقاد الذين درسوا موضوع القصيدة في ضوء المنهج البنائي وسمى دراسته "الموضوعية البنيوية" لم يتوصل إلى كشف البناء الفني للقصيدة. والدكتور عبد الكريم حسن الذي أشار إليه الباحث بوصفه معنياً بدراسة شعر السياب وما يتفرع عنه من موضوعات ثانوية معتمداً على المنهج البنيوي في تحليل المفردات التي تؤلف موضوعاً معيناً، لم يستطع الوصول إلى مقاربة نقدية مرضية بهذا الشأن، إذ بقي الموضوع لديه مجموعة من المفردات التي تنتمي إلى عائلة لغوية واحدة. ولذلك فقد اضطر الباحث، أعني الدكتور عبد الكريم حسن، إل
ى أن يبعد منذ البداية كل تحليل كلي للعمل الأدبي مكتفياً بدراسة الموضوع في شعر السياب من خلال استخراج المخطط العام الذي ينتظمه والدراسة الشكلية التي لا يمكن أن تستجيب لضرورات تعيين وحدة الموضوع أو الوحدة الموضوعية في القصيدة. ولذلك فإن ما يقوله الدكتور مرشد الزبيدي من أن "البناء الفني للقصيدة إذن هو بناؤها الكلي، وهو الذي يصهر هذه العناصر جميعاً في وحدة شاملة متلاحمة "لا يمثل واقعاً فنياً موجوداً في القصيدة بالضرورة بقدر ما يمثل خياراً مرهوناً بطريقة التحليل نفسها، خصوصاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الباحث لا يفرق في مثل هذا الكلام العام بين قصيدة وقصيدة شعر قديم وحديث، وما يقوله في فقرة أخرى من كتابه من أن كون المحور الذي دارت عليه آراء القدامى وهو وحدة البيت في القصيدة، لا ينبغي أن يعد القانون الذي لا يمكن اختراقه، طالما أن هناك نقاداً تحدثوا عن "تلاحم أجزاء القصيدة وصحة النسق، وشبّه بعضهم القصيدة بجسم الكائن الحي الذي يتأثر العضو فيه بما يلحق الأجزاء الأخرى..".
أقول : إن ما يذكره الباحث هنا لا يغير من جوهر النظرة النقدية القديمة إلى طبيعة الوحدة المفترضة من قبلنا في القصيدة ولا من طبيعة القصيدة العربية القديمة نفسها، فحين نظر القدماء في الموروث الشعري وجدوه معرضاً لتفنن الشاعر. فهو يفتتحها بالغز
ل أو بالوقوف على الأطلال ويتحدث عن مناحي فتوته من حب للصيد وركوب الخيل ثم يمدح أو يهجو أو يعاتب وبعبارة أخرى كانت القصيدة تسمح بتعدد الموضوعات وهو شيء لا يمكن، كما يقول الدكتور إحسان عباس، إنكاره في القصيدة العربية الجاهلية والإسلامية، حتى أن (ابن طيفور) في "المنظوم والمنثور" يجعل تعدد المنظومات في القصيدة الواحدة علة لاختياره لها. ولهذا كان حديث النقاد العرب عن هذه الوحدة يأتي من خلال تعدد الموضوعات. أما الوحدة النفسية التي تحدث عنها الباحث عند ابن قتيبة، فأقصى ما تحققه هو أن يكون الشاعر قادراً على تهيئة سامعه نفسياً لما سوف يأتي به من موضوعات متعددة، وحين أحس (ابن قتيبة) أن هذه (الوحدة النفسية) لا
تحقق غرضه في الوحدة المطلوبة من القصيدة حاول التماسها في أشياء أخرى مثل التكافؤ بين الألفاظ والمعاني ثم الترابط بين البيت والذي يليه "وهو هنا يتحدث، على الأغلب، عن الترابط في النظم واللغة، وهي كما لا يخفى أمور شكلية لا توفر الوحدة الموضوعية المنشودة". أما (ابن طباطبا العلوي) فقد ركز في موضوع وحدة القصيدة على أمرين ذكرهما الباحث وهما التناسب والتدرج المنطقي، والقصيدة عند هذا الناقد كيان نثري نسج شعراً في تدرج صناعي خالص كما ينسج الثوب.
أما (الحاتمي)
فكل ما فعله هو نقل هذا التناسب والتناسق إلى صورة اتصال أعضاء الجسد ببعضها وهذه الفكرة استعارها ابن رشيق القيرواني من الحاتمي ولم يخرج كلام النقاد العرب في موضوع وحدة القصيدة عن هذا الإطار، كما أشار إلى ذلك الدكتور إحسان عبّاس أيضاً.
أما مصطلحا القصيدة العربية (البسيطة) و(المركبة) اللذان يعتقد الباحث أن الشعر العربي القديم والحديث يمكن أن يكون منضوياً تحت نمطيتها، فغير واضحين تماماً سواء في النقد العربي الحديث الذي يقول الباحث أن هذين المصطلحين يمكن أن يستشفا منه على الرغم من أنهما لم يعتمدا فيه. أم في الدراسات النقدية القديمة. وما ذكره الباحث من أن الناقد العربي القديم (حازم القرطاجي) قد سبق إلى استخدام هذين المصطلحين حينما قال: القصائد منها بسيطة الأغراض ومنها المركبة والبسيطة مثل القصائد التي تكون مدحاً صرفاً أو رثاء صرفاً، والمركبة هي التي يشتمل الكلام فيها على غرضين مثل أن تكون مشتملة على "نسيب ومديح"، فواضح أن المفهوم مختلف في المصطلحين اللذين يردان في النص المنقول لهذا الناقد عما يريده الدكتور مرشد. فالتركيب يعني عند القرطاجي تعدد الموضوعات وحتى استقلالها داخل القصيدة الواحدة وليس تداخلها وامتزاجها، في حين تعني القصيدة البسيطة عنده توفرها على غرض واحد كالمدح والرثاء، مما يشير إلى <
/SPAN> أن التركيب ينتفي هنا بوصفه مجرد تعدد في مفهوم البساطة التي تبقى مهيمنة في القصيدة بصرف النظر عن التسمية.
إن كل ذلك لا ينفي عن هذه الدراسة قدراً من فاعلية القراءة والاجتهاد النظري الذي جعل لها تأثيراً على بعض الدراسات والدارسين في الأوساط الأكاديمية الشابة في الجامعات العراقية، كما ذكرنا.
2-شعر رشيد أيوب /دراسة أسلوبية/
د . سندس عبد الكريم الشمري
نوقشت هذه الرسالة التي أعدت تحت إشراف الدكتور أحمد مطلوب ومنحت صاحبتها درجة الدكتوراه في كلية الآداب في جامعة بغداد العام
1997.
والباحثة تحدد اختيارها للشاعر المهجري "رشيد أيوب" استناداً إلى مكانته ودوره في مرحلته التاريخية، وارتباطاً بعنصر الاختيار وقصديته ثم فاعليته وإنجازه الإبداعي الذي تمخض عن ملامح أسلوبية متميزة، كما تقول في المقدمة.
وعلى الرغم من إيماننا بأن مناقشة هذه الأمور الخاصة بالاختيار مسألة مهمة، فإن ما يهمنا رؤيته في هذا النوع من الدراسات هو هذه الملامح الأسلوبية المتميزة التي تريد الباحثة الكشف عنها على الصعيد التطبيقي من خلال منهج الأسلوبية الإحصائية الذي اتبعته، ثم علاقة ذلك بتعميق معرفتنا بالمنجز الإبداعي المتمثل في دواوين ثلاثة صدرت لهذا الشاعر المهجري في النصف الأول من هذا القرن. والباحثة تنطلق في دراستها هذه من مقدمات نظرية واضحة تقربان الواقع اللساني لا ينفك يقر بأن الأسلوبية إنما هي بلورة منهجية لمستويات التعبير البلاغية بعد أن حصر أتباع "بالي" خصوصيته الأسلوبية في فنية الخطاب، وأن وجودها اليوم وقف على كينونة الحدث الأدبي.
والإسلوبية عندما تستند إلى قواعد معرفية في نشوئها تت
مثل أولاً في تعريف الناقد الفرنسي" بيرجيرو "للأسلوبية بوصفها دراسة للتعبير اللساني ثم للبلاغة التي هي عنده "أسلوبية القدماء" وبها يتحدد كما تقول مجال تشغيل آلية المنهجية الأسلوبية بوصفها الوجه الجديد للبلاغة، أو هي البلاغة الحديثة. وهي فضلاً عن ذلك، تشير إلى (مجال معرفي جديد هو النقد الأدبي) إنّ (تفاعل علم اللسان مع مناهج النقد الأدبي الحديث أرسى قواعد علم الأسلوب) وهي تخلص إلى القول بأن الأسلوبية، بكونها علماً للأسلوب، تعتمد كثيراً على درجات تحدد ظهور الملامح اللسانية المتغيرة، ويمكن أن تقدم نتائجها باستخدام التحليل الإحصائي.
لقد قسمت الباحثة رسالتها إلى فصول ثلاثة درست فيها مستويات ثلاثة صارت تقليدية في الدراسات النقدية الحديثة. وهي المستوى الصوتي والمستوى التركيبي والمستوى الدلالي . وقد قدمت في دراستها للمستوى الصوتي إحصائيات عن البحور المستخدمة من قبل الشاعر وتواترها وطريقة استخدامه للأوزان المجزوءة والمزدوجة، وتلك التي تعتقد أنه كان مجدداً فيها. وبصرف النظر عما حققه ذلك من فائدة في إطلاعنا على الظواهر الموسيقية الموجودة في شعر "رشيد أيوب" فإن الملاحظة التي يجد القارئ نفسه مدفوعاً لطرحها هي أن الباحثة لم تقدم لنا براهين كافية على ما تقوله لوصف هذه الظاهرة الموسيقية أو تلك. فالنماذج التي تم الاستشهاد بها قليلة، وليس هناك ما يجعل القارئ واثقاً مما يقال على صعيد التطبيق. فإذا عرفنا أن هناك أخطاء في أحكامها وتقديراتها الكثيرة الموضوعة في هذا الباب تبين لنا أن هذه الجداول الإحصائية لا تملك قيمة علمية أو رياضية مطلقة، وأن عمارة الإحصاء الذي يمثل منهجاً أساسياً في الدراسة تصبح معرضة للانهيار ما دمنا قادرين على رصد أخطاء عديدة في النماذج القليلة التي تم الاستشهاد بها.
إن ذلك يدفعنا إلى القول إن دراسات الحاسوب أصبحت فيما يتصل بالنصوص الأدبية غير ذات جدوى في الغرب نفسه، إذ أن أغلب طلاب الأدب يعافونها ويرون فيها شيئاً ثقيلاً . والأمر يتصل بطبيعة المنهج الإحصائي المتبع، وليس فقط بعمل الباحثة، ومدى دقتها في استخدامه، فلو فرضنا أن الدراسة الإحصائية لشعر "رشيد أيوب" قد أظهرت بسبب تواتر هذه الصورة البلاغية أو تلك يختلف عن شعر شاعر آخر مثل "أحمد شوقي" فإن النتيجة لا يمكن أن تكون أكثر من ظاهرة إحصائية ذات طبيعة رياضية جافة وجامدة، أعني لا علاقة كبيرة لها بتوثيق وتوسيع معرفتنا النقدية والجمالية بهذا النص أو ذاك. ولنفترض مثلاً أن النسبة العددية التي حققتها هذه الظاهرة اللسانية، أو تلك هي 30% ثم أظهرت دراسة أخرى أن هذه النسبة هي 40% أو 50% في هذه الظاهرة نفسها،
فما الفرق في ذلك؟ وهل سيغير ذلك من طبيعة إدراكنا لبناء الجملة الشعرية عند رشيد أيوب بصورة جوهرية؟
ومن المعروف أن بعض النقاد المحدثين مثل الأمريكي "ريفاتير" قد دعوا إلى مراجعة مبدأ الإحصاء في نقد الأدب مراجعة جذرية، إذ ينبغي التخلي عن الفرضية التي ترى أن ارتفاع نسبة التواتر في الكلمة كاف ليجعل منها كلمة مفتاحاً ما لم يترافق ذلك بأمور أخرى ينطوي عليها السياق العام للنص.
لقد أجمع النقاد على أن ديوان "رشيد أيوب" الأول "الأيوبيات الصادر العام 1916 كان عبارة للشاعر من حال الحشرجة والبدايات الأولى غير الواثقة مما تقول، إلى حال آخر فيه قوة. ولكن الباحثة لم تستطع بكل ما فعلته من دراسات إحصائية أن تؤشر على نحو واضح هذه الحقيقة بحيث تظهر لنا على صعيد الدراسة الأسلوبية كيف أن ديوانيه الأخيرين أغاني الدرويش الصادر العام 1928، و"هي الدنيا" الصادر العام 1940 كانا كما يقول "ميخائيل نعيمة" في مقدمته عليهما هما اللذان يمثلان صاحبهما كما عرف بعد ذلك أصدق تمثيل.
و"ميخائيل نعيمة يثير ملاحظة أخرى مهمة وهي أن الديوانين الأخيرين كانا ممهورين بروح أصحاب الرابطة القلمية إلى حد بعيد فكأن الذي نظمهما غير الذي نظم الأيوبيات.
والسؤال هو: كيف حدث أن الدراسة الأسلوبية بكل وسائلها الإجرائية لم تستطع أن تؤشر لنا شيئاً من هذا القبيل؟ أم أن ذلك شيء خارج طموح واهتمامات هذه الدراسة؟ ثم لنسأل سؤالاً آخر ذا طبيعة منهجية أكثر اتساعاً: ما هي حدود المنهج الأسلوبي المتبع في هذا النوع من الدراسات الحديثة؟ وهل يجري الاكتفاء حقاً بملاحظة ظهور الملامح اللسانية والصوتية والدلالية المتغيرة، وتقييد نتائجها عن طريق التحليل الإحصائي وملاحظة الانزياحات ونسبتها إلى الاستخدامات العادية في اللغة؟ وهل يدخل كل ذلك في إطار الدراسة المسماة "أسلوبية".؟ لقد صار معروفاً لدى العديد من الدارسين أن إسهامات علم اللغة في الدراسة الأسلوبية محدودة، وهي تقتصر عملياً على علم دلالة الألفاظ وبناء الجملة. وهي، على الجملة، بعيدة عن الاهتمامات النقدية، باعتبار أن الأدب، أو "الأدبية "تعبير" جاكوبسن" ليس إلا ظاهرة تصاحب ظاهرة أخرى كما أن الدراسة الألسنية ذات الطابع البنيوي من التي يهتم أصحابها بدراسة اللغة إنما تهتم، كما يقول غراهام هاف، بظاهرة بشرية عامة يمكن أن تستنبط فيها مجموعة من المفاهيم التي تصف أي لغة من اللغات. ذلك شيء مهم لدارس الأدب والناقد. والقدرة على تلقي الحدس من النصوص الأدبية غير موجودة في هذا النوع من الدراسة طالما كانت مقتصرة على هذا النزوع الإحصائي ذي الطابع الرياضي الجاف.
وكل ذلك يعزز ما لاحظناه من قبل، وهو أن هذه الدراسة الأسلوبية لم تستطع أن تضيف أو تكشف عن شيء يزيد من معرفتنا بالشاعر المدروس إلا على نحو ضعيف وغير متسق، فضلاً عما ذكرناه من أن الباحثة لم تلجأ إلى إجراء دراسة تطبيقية على نموذج أو نماذج محددة من نصوص الشاعر. ومعنى هذا أ
ن السمة الشخصية التي تمثل ملمحاً بارزاً من ملامح الأسلوب لم تتوضح في هذه الدراسة الأسلوبية والبلاغية. والبلاغة، بعد كل شيء، تعبير عن تجربة جمالية ولغوية معينة، وهي ترتبط بثقافة تاريخية معينة أيضاً على اعتبار أن اللغة تمثل، في مثل هذه الحال، انعكاساً في الذاكرة الإنسانية لشكل خارجي ما، في حين أنها صارت في الدراسات الأسلوبية أداة للتعبير عن تجربة حسية، مع العلم أن بعض علماء الأسلوب لا يرون مكاناً لدراسة الاستعارة والصورة ضمن الدراسة الأسلوبية باعتبار أن هذه الدراسات جزء من النقد أو البلاغة، وليست جزءاً من الدراسة الأسلوبية.
بقي أن نشير في ختام هذا العرض لرسالة الدكتورة سندس عبد الكريم إلى أن الحديث النظري الطويل عن مبادئ الأسلوب وما رافق لك من استشهادات كثيرة مأخوذة عن مصادر حديثة في الغالب، يتناقض في التطبيق مع لجوء الباحثة إلى مصطلحات ومناهج قديمة في البحث، مما يجعل المقدمات والكلمات الكثيرة الموضوعة عن الأسلوب لا تمثل غير إطار مضلل لا يكشف عن فهم حقيقي للمصطلح الحديث، فكأن مقولة "بيرجيرو" التي ترى بأن "البلاغة هي أسلوبية القدماء" تنقلب هنا لتصبح "أن أسلوبية المحدثين هي بلاغة القدماء" وحينئذ يحق لنا أن نتساءل: ما الفرق إذا؟ نعم ما الفرق بين قديم الأمس وحديث اليوم وأين هو الوجه الجديد للبلاغة الحديثة؟
إن المشكلة لا تقتصر على هذه الرسالة، وإنما هي ظاهرة عامة تنسحب على عديد من الدراسات التي تتوسل في مقدمتها النظرية بالمنهج أو المناهج الحديثة، لكنها تظل في جوهرها بعيدة عن طبيعة فهم الحداثة.
3-شعر حسب الشيخ جعفر -دراسة فنية!
رسالة تقدمت بها "رحمة عبد العزيز الياسري" الطالبة بكلية التربية - الجامعة المستنصرية لنيل درجة الماجستير في الآداب بإشراف الدكتورة بشرى موسى صالح. وهي من بين الدراسات الجامعية الجادة التي أعدت في المدة الأخيرة عن شعراء عراقيين معاصرين من بينهم "محمد جميل شلش" و"سامي مهدي" وهي ظاهرة جديدة في الدراسات الأكاديمية العراقية تستحق التنويه والإشادة.
وقد أتيح لي أن أشارك في مناقشة
بعض هذه الرسائل ومنها هذه الدراسة الخاصة بشعر (حسب الشيخ جعفر) التي حاولت تسليط الضوء على أبرز الظواهر الفنية في هذا الشعر ومعالجتها وفق رؤية ومنهج فني محددين يكشفان فعالية لا بأس بها في القراءة.
وقبل أن أسجل هنا، بعض الملاحظات الخاصة بمنهج الرسالة وطريقة كتابتها لا بد من الإشارة إلى أنها مقسمة إلى فصول ثلاثة تناول الأول منها "معجم حسب الشيخ جعفر الشعري" بما فيه "معجم الريف" و"معجم المدينة" و"معجم الألفاظ الحسية". وتناول الثاني "الصورة في شعر حسب "مفهومها ومصادرها ووسائل تشكيلها. أما الفصل الثالث فقد
كرس لدراسة "الظواهر الموسيقية في شعر حسب" بما تنطوي عليه من "تدوير" و"تكرار" للأصوات والكلمات والجمل.
ويلاحظ أن الباحثة قد اكتفت في هذه الدراسة بطبعة الأعمال الكاملة التي صدرت العام 1985 وضمت قصائد "حسب" المكتوبة بين عامي 1964-1975، ولا تحتوي على الأشعار التي كتبت بعد هذا التاريخ مما يثير أشكالاً أساسياً يتصل بطبيعة الأحكام النقدية الخاصة بتطور شعر "حسب" والصور التي يمكن تقديمها إلى القارئ عنه ولا سيما أن الدراسة لم تأخذ بنظر الاعتبار الترتيب التاريخي للمجموعات والقصائد الشعرية التي ضمتها طبعة الأعمال الكاملة" تلك.
أما المنهج المتبع في كتابة هذه الرسالة فغير محدد تحديداً كافياً على الرغم مما ذكرته الباحثة من أنها استندت إلى "المنهج الفني وإجراءاته" من دون أن تتجاوز العوامل والظروف الخارجية المتصلة بالمؤلف وبيئته وظروف حياته وما ذكرته الطالبة في مكان آخر من الرسالة من أنها أفادت من مقولة "اللغة الشعرية" التي جاء بها الشكلانيون الروس وما تقتضيه من رصد التحولات والانزياحات الدلالية التي خرجت إليها المفردات في الاستخدامات والأنساق الشعرية، فغير دق
يق على صعيد الدراسة التطبيقية.
فالدراسة لم تلجأ في الواقع إلى غير مصادر ومراجع وسيطة في هذا الجانب وهي في الغالب لم تقم بأكثر من دراسة التطورات الدلالية في معجم "حسب " الشعري، وهي "تطورات" لا شأن لها بالفهم الشكلاني للغة الشعرية التي تحيل اللفظة واللغة الشعرية إلى أصوات قد لا تشير إلى شيء آخر خارجها.
ومعروف أن الشكلانيين لا يعيرون اهتماماً كافياً لبنية الكلمة وحدها. وإنما أيضاً إلى تركيبها وطريقة انتظ
امها. و"جاكوبسن" يعرف الشعر بأنه تشكيل للكلمة ذات القيمة المستقلة أو الذاتية الغائية.
وفي الأحوال كلها تقتضي الإفادة من المنهج الشكلاني دراسة البنى اللسانية في شعر هذا الشاعر الستيني وما يتطلبه من ملاحظة علاقات الحضور والغياب والانزياحات التركيبية داخل النسق البنيوي، وما يقود إليه من وظائف جمالية.
وفي دراسة الباحثة "معجم الريف" و"تشكيلاته عند" حسب "
نراها تتبع منهجاً "جغرافياً " تختلف فيه اللفظة وتتشكل باختلاف المكان والبيئة وطريقة تشكيلها، في حين أن دراستها لما تسميه "معجم الألفاظ الحسية" و"معجم الأسطورة والرمز" تتبع منهجاً آخر لا علاقة له بالفضاء والبيئة المكانية والدليل هو أن هذه "الألفاظ الحسية" أو تلك الخاصة بـ "الرمز والأسطورة" موجودتان في "معجم الريف" و"معجم المدينة" على السواء.
أما دراسة الطالبة موضوع "التدوير" ذي الأهمية الخاصة في شعر "حسب الشيخ جعفر" فلم تلاحظ فيه قضية تطور التدوير والقصيدة المدورة في الشعر العربي الحديث، أي ذلك الذي لا بد أن يكون "حسب" قد أفاد منه، ويمكن الإشارة، بهذا الصدد إلى قصيدة "خليل الخوري" المؤرخة العام 1958 تحت عنوان "الشمس والنمل"، وإلى تلك التي كتبها "يوسف الخال" في العام نفسه في ديوانه "البئر المهجورة".
كما أن الطالبة لم تدرس كذلك تطور تجربة التدوير في شعر "حسب" نفسه، بدءاً من قصيدته " قارة سابعة" المكتوبة العام 1969، وهي قصيدة مدورة تخللتها أشطر عادية حتى " الرباعية الأولى" المكت[/center]