مصطلحات التحليل السيميائي
( السرد والخطاب نموذجاً)
ـ د.مولاي بوخاتم- الجزائر
إننا نروم البحث في هذا المفهوم السردي قصد الاضطلاع بإثارته والبحث في
تطوره وصيرورته ثم تناوله في ذاته، حتى لا نتأخر في تأسيس المفهوم وإحلاله
موقعه ضمن باقي الأجناس من جهة، والعمل على النظرة في صيرورته وتحوله من
منطلق طرح المشاكل الحقيقية والإطاحة بها من جهة أخرى ثم إن هذا الجنس
(السرد) جنس له مقوّماته وملامحه المميزة.
والسرد مصطلحٌ أدبي فني هو الحكي أو القصّ المباشر من طرف الكاتب أو
الشخصية في الإنتاج الفني، يهدف إلى تصوير الظروف التفصيلية للأحداث
والأزمات. ويعني كذلك برواية أخبار تمت بصلة للواقع أو لا تمت، أسلوب في
الكتابة تعرفه القصص والروايات والسير والمسرحيات.
ويعدّ المفهوم من المفاهيم النقدية المستحدثة في الساحة النقدية العربية،
وذلك لأن فحص مدلولاته وضبطها في مثل هذه البحوث الأكاديمية أمرٌ سابقٌ
لأوانه، أبرزها يعود إلى ترجمة مصطلح Récit بشتى الترجمات هي السرد
والحكي.
أمّا المصطلحات القديمة من لفظ (سرد) في اللغة الفرنسية: Narration و
Narratologie ثم Narrativé فتقابلها في الترجمة النقدية العربية مصطلحات،
بينها السرد والقصّ والحكي والأخبار والرواية. فضلاً على شيوع مصطلح
(Récit) في المعرفة الاصطلاحية، إذ هو الحكي والمحكي لدى بعض النقاد. وهو
السرد والمسرود لدى آخرين. وإن كنا نستحسن مصطلح "السرد" بالنظر إلى معيار
الشيوع في الثقافة العربية.
في هذا المساق، يعدّ جيرار جنيت (G. Genette) الناقد السيميائي الوحيد بين
الأوائل الذين قاموا بإدخال بعض المصطلحات السردية، حيث جعل منها مرحلة
هامّة من مراحل التحليل وعالجها ضمن ما أسماه بصيغة السرد: Mode du récit
ضمن النموذج التحليلي الذي قدّمه في اللغة الفرنسية، وهو النموذج المهمّ
الذي استوعب المقولات السابقة عليه، فقدّم تأطيراً منظماً لأسس السرد
الفني، خلال وقوفه على كلمة "قصة" في اللغات الأوروبية، مستخلصاً ثلاث
معانٍ: أوضحها وأقدمها هو الملفوظ السردي، مكتوباً أم شفهياً، والثاني
المضمون السردي والمعنى الثالث: الحدث، وفي ضوء هذا التمييز حدّد ثلاثة
مظاهر للسّرد: (1)
ـ 1 ـ الحكاية: وتطلق على المفهوم السردي أي على المدلول.
ـ 2 ـ القصة: وتطلق على النص السردي وهو الدالّ.
ـ 3 ـ القصّ: ويطلق على العملية المنتجة ذاتها، وبالتالي على مجموعة المواقف المتخيلة المنتجة للنصّ السردي.
وقريباً من المصطلحات الثلاثة: (Narration) و (Narratologie)
و(narrativité) القابعة في المعجم السيميائي المعقلن لدى قريماس ميّز بعض
الباحثين بين "الروي Récite والحكي (diegesis) في السرد، ونعني في هذه
الحالة التمييز بين النصّ الكامل للقصّ نصّاً من ناحية، والأحداث التي تروي
أحداثاً من ناحية أخرى، ويمكننا عندئذ أن نستعير الكلمة الإغريقية، الحكي
(Diegesis) للتعبير عن نظام الشخصيات والأحداث، ونكتفي بتقريب الكلمة
الأخرى بكلمة روي (recital) أو نكتفي بالإشارة إلى النص، حين نعني الكلمات
والحكي للتعبير عما ستحثنا عن خلقه كقصص." (2)
أما مصطلح الحكي (Narration) فهو لفظ يلتبس مع شبكة من المصطلحات والمفاهيم
المتداخلة والمتمايزة، المتقاربة والمتباعدة في آن واحد، أبرزها: السرد
والمسرود، والسارد والمسرود له والسردانية والسرديات.
فمن خلال التحديد السيميائي لدى قريماس وكورتيس، يمكن الوقوف على أهمّ
الفروق الدّلالية بين هذه المفاهيم المتداخلة، حيث أشار الباحث إلى مصطلحي
"الباث (المرسل) والمتلقي (le Destinateur et le Destinaire) في الخطاب
الروائي، وفي الملفوظ ( Enoncé ‘L)، وأطلق عليهما جيرار جينت مصطلحي:
السارد والمسرود (Narrateur et narrataire) (3). لكن الملاحظ في لغة قريماس
أنها تحيل على مفاهيم أخرى، وتجسد سلسلة من المفاهيم المعقدة التي تحيلنا
بدورها على مفاهيم أخرى ودلالات أكثر تعقيداً في اللغة العربية.
وسواء أكان تودوروف أم جنيت أعرف من غريماس بالسرديات. أو العكس، فإنّ الذي
يهمنا في هذا المقام هو الوقوف على الإشكالية المصطلحية بخصوص لفظ (سرد)
ونحن واعون بأنه ثمة مصطلحات لا تحصى ولا تعدّ وهي مشتقة من المفهوم،
وتشترك معه اشتراكاً لفظياً، أبرزها: المؤلف والقارئ والشخصية واللغة
والواقع والعامل والفعل والحدث الحكائي وسواها من المصطلحات التي تدخل في
العمل السّردي.
فمصطلح الحكي مثلاً (Narration) تواجد في عدّة نصوصٍ نقدية خلال السنّوات
الأخيرة في الساحة المغربية، وقد شابهُ كثير من الخلط الذي حصل في الترجمة
بينه وبين مصطلح (السرد). لذا فالنقاد المغاربة نجدهم كثيراً ما يعتبرون
مفهوم الحكي مرادفاً للكتابة الرّوائية، منظرين إلى السّرد كمكوّن من
مكوّناته، فعدّوه جزءاً "من مظاهر الحكي" (4)، واعتبره بعض النقاد باسم
الحكي وهو مكوّن من مكوّنات بنية السّرد" (5).
وقريباً من هذا التصوّر، كتب سعيد يقطين أغلب مقالاته السّردية في إشكالية
المصطلح، مقرّاً بأن السرد عنصر من عناصر الحكي، ولذلك فهو ترادف بين
المفهومين كأداتين إجرائيتين في تحليل مكوّنات النصوص الرّوائية. ومفرقاً
بين ثلاثة مصطلحات هي السّرد (narration)، والسرديات (Narratologie)
والسّردية (6) (Narrativité)، ثم مفصلاً في المقال تفصيلاً مركزاً.
ويمكننا في هذا النطاق إعطاء بعض الأمثلة الدّالة فيما تداوله سعيد يقطين
لإبراز ما يميّز هذه المصطلحات بعضها عن بعض: من ذلك الوقوف على الاشتراك
اللفظي والاختلاف الاصطلاحي حيث أشار إلى العديد من المصطلحات التي تشترك
لفظاً، لكنها تختلف دلالة بحسب الإطار النظري الذي توظف في نطاقه، فترجم
مصطلحات بينها: السّرد والحكي بـِ: Narration/ Récit والسّردية أو الحكائية
(Narrateur) ثم الراوي (Narrativité) وسواها من المصطلحات المتداولة في
كلّ النظريات والدّراسات السّردية الحديثة (7). لكنّ مثل هذه المصطلحات
التي أشار إليها الباحث تختلف اختلافاً بيِّناً بين مستعمليها إلى حدّ
التضارب والتعارض. وفي مساق الحديث عن الاختلاف اللفظي والاشتراك
الاصطلاحي، أشار الباحث إلى جملة من المصطلحات تختلف من حيث اللفظ، لكنها
تشترك اصطلاحاً، ولو في الإطار الدّلالي العام ويمكن التمثيل لذلك بمصطلحات
مثل: وجهة النظر، والمنظور، والرؤية، والبؤرة والتبئير، التي تختلف من حيث
اللفظ وتشترك في الاصطلاح. وضمن منحى آخر أشار الباحث إلى مصطلحات تصطرع
في الثقافة الأجنبية، وتتصل بمادّة الحكي مثل:
/diegese/Contenu/Récit/Histoire/Fabula/Intrique. (
وهكذا نجد في تحليلات سعيد يقطين من المصطلحات ما هو "جامع" وتتولّد عنه
مصطلحات أخرى متضمنة في نسق المصطلح الجامع باعتباره نتاج عملية التصنيف.
ولإعطاء مثال على ذلك، ترجم الباحث "الراوي" بـِ: Narrateur (9)، وهو
المفهوم الجامع، أي له بعداً جنسياً (Cenerique) ثم وظف هذا المفهوم في
التحليل السردي ليعوض مفهوم الكاتب، وقريباً من ذلك ترجم العوامل عن Les
actanrs في السيميوطيقا الحكائية.
وأخذاً بمعيار الشيوع في استعمال بعض المصطلحات، سواء أكانت سليمة أم غير
سليمة، ترجم الباحث بعض النماذج مثل السردية Narrativité عن الجذر العربي
(سرد) في العربية. وتارة عن Narration في اللغة الفرنسية (10)، وقد تبين
لـه أنّ هذا المصطلح (سرد) يستعمل في مجالين سردين مختلفين، وكلّ مجال
يعطيه دلالة تنسجم وأطروحته الأساسية. ثم عاد لاقتراح مقابلين مختلفين،
للمصطلح مميّزاً بين: (Narrativité) أي السردية، وما يرتبط بها من مصطلحات
مثل: الصوت السردي، الرؤية السردية، صيغة السرد، البنيات السّردية، ثم
الحكائية في مجال "السيميوطيقا" فقال بمصطلحات من مثل: سيميوطيقا الحكي،
البرنامج الحكائي، المسار الحكائي ثم البنيات الحكائية.
للتلخيص، فقد سجل سعيد يقطين موقفه من الإشكالية المصطلحية ومصطلح السّرد
بوجه أخص قائلاً: "عندما نكون، نحن العرب، في وضع استقبال هذه المصطلحات
ونقلها إلى لغتنا واستعمالنا النقدي فإننا لا ننقل فقط كلمات، ولكن علاوة
على ذلك، مفاهيم مثقلة بحمولات تاريخية ومعرفية واستعمالية". (11)
أما أسباب تفاقم الإشكالية، سواء في ترجمة المصطلح أم تعريفه فيلخصها سعيد اليقطين ضمن النقاط الآتــــية:
1 ـ غياب الاختصاص في الممارسة.
2 ـ التخلف عن موالية المستجدّات في المجال السّردي.
3 ـ جهل بعض النقاد بالمعرفة السّردية.
4 ـ نحت المصطلحات بحسب الميول الشخصية عن النظريات التي يتعامل معها النقاد.
وفي الاقتراحات أشار سعيد يقطين إلى جملة من الحلول أبرزها:
1 ـ الميل إلى الأسهل والأيسر من المصطلح العربي المقترح.
2 ـ لا جرم من طواعية المصطلح العربي وتماشيه مع الصيغة والوزن العربيين.
3 ـ إعطاء الجانب المعرفي ما استحقه من العناية.
4 ـ التخصص.
5 ـ ممارسة العمل الجماعي.
أما الباحث فاضل ثامر، من خلال وقوفه على مصطلح سرد في الفضاء اللسانياتيّ
والسيميائي، فقد ترجم إلى اللغة العربية مجموعة من المصطلحات، مراعياً
خصوصية المصطلح النقدي العربي الحديث، الذي يواجه أعقد وأوسع الإشكاليات،
من ذلك ترجمته لمصطلح السردية عن: Narratology من اللغة الإنجليزية، مقرّاً
بالمقابلات المصطلحية الأخرى التي صاحبته مثل: علم السّرد، السرديات،
السّردية، نظرية القصة القصصية، المسردية، القصيات، السردلوجية،
الناراتولوجيا (12). وهي مقابلات تعتمد معياري الترجمة والتعريب الجزئي
والكلي.
وفي ذات المرجع (اللغة الثانية) ترجم المتن الحكائي عن Shuzlut والمبنى
الحكائي. عن Fabula، وصلتهما بثنائية القصة Story والحبكة Polt (13)،
واقفاً على شتى وجوه الاضطراب والخلخلة وعدم الاستقرار، ومقترحاً مجموعة من
الحلول. ومثل هذا التداخل لدى سعيد يقطين وفاضل ثامر، يلفيه الدّارس لدى
أغلب المترجمين والنقاد العرب، في الخطاب النقدي الروائي، ويعكس استهتار
بعض النقاد بأبسط القواعد العلمية المتبعة في هذا المجال، سواء عملاً
بالإطار المرجعي المصطلحات المترجمة أم تجاهلاً للجهد العربي الجماعي.
واجتهاداً في وضع المقالات العربية. ولا أدلّ على ذلك من ترجمة محمد خير
البقاعي المصطلح الصفة (Narratif) مرّة بالسّردي، ومرّة بـِ "الحكائي" (14)
مقرّاً بأزمة المصطلح النقدي، لدى كلّ باحث عربي، وبالفوضى التي تشيع في
النقد الروائي العربي، بسبب هذا التداخل المصطلحي.
أما الباحث عبد العالي بوطيب، فقد عالج إشكالية المصطلح في النقد العربي،
مثيراً تجاهل بعض الباحثين لقواعد وضع المصطلحات الموضوعية في المجامع
العربية بخصوص ذات المصطلح، (سرد) (Narratologie) التي حدّد لها ثلاثة
مقابلات عربية هي: السرديات، علم السّرد ونراتولجيا (15)، من دون احتساب
التنويعات المختلفة التي أوردت لفظ (سرد) بحكي وقصّ ورواية، مما أضفى على
المصطلح فوضى مصطلحية عارمة.
ومساهمة منه في وضع القارئ العربي بشكل ملموس في إطار التحول السّريع
والمتلاحق الذي يعرفه البحث العربي في هذا الجزء المعرفي الحيوي الخاصّ
بالسرديات، سواء على المستوى النظري أو في مجال المصطلحات، نقل عبد العالي
بوطيب جملة من المفاهيم والمصطلحات إلى الشكل العربي من ذلك: السردية
(Narrativité) والنصّ السّردي (le texte narratif) (16)، وكلّها تدخل ضمن
التّصورات النظرية لدى قريماس وكورتيس.
أما الباحث حمادي صمود وضمن (مصطلحات النقد الحديث)، فقد ترجم كلمة سرد عن
اللفظة الفرنسية (Narration) مسوياً بين مصطلحين هما سرد وحكاية (17)، مما
يؤكّد أنّ الاختلاف في المصطلحات السّردية، مضمونها ناتج عن الموقف
الإيديولوجي لدى المنظرين الأوائل بخصوص ذات الإشكالية مثل: ج. كريستيفا
وقريماس.
ومن خلال معاينتنا لوضع المصطلح الذي أشار إليه في الخطاب السيميائي، ترجم:
محمد مناصر العجيمي مصطلح (Narrativité) بالسّردية (18)، ثم المرزوقي
وجميل شاكر مصطلح (Narration) بالسّرد وNarratologie بنظرية القصة ثم
Narrativité بِـ: القصصية (19)، ثم ترجم قاسم المقداد مصطلح Narratologie
تارة بالتحليل السّردي وأخرى علم السّرد القصصي (20)، وإبراهيم الخطيب في
الحكي مقابلاً لِ: (21) Narratoin وميشال شريم: بالإخبار مقابلاً لِ:
Narratoin (22)، وسعيد علوش علم السّرد مقابلاً لِ: Narratologie (23)،
وعبد السلام المسدي، بالسّرد والمسردية والسّردية لذات المصطلحات (24)، ثم
أنور المرتجى، بعلم السّرد لِ: Narratologie (25)، ثم صلاح فضل بعلم
السرديات لِ: Narratologie (26).
وبين اللفظتين سرد وحكي: فإن مفهوم السّرد يندرج ضمن المفاهيم المستحدثة
في الساحة النقدية العربية، استعمله النقاد ليكون المفهوم الجامع لكلّ
التجليات المتصلة بالعمل الروائي أو الحكائي، وتأتيّ أهميته باعتباره
مصطلحاً وجنساً يستدعي أن تكون له أنواع، كما يستدعي أن يكون له تاريخ، وأي
تفكير في أنواعه وتاريخه لا يمكن أن يلعب دوراً هامّاً في ترسيخ الوعي به
واتخاذه موضوعاً للبحث الدّائم.
وفوق كلّ ذلك، أثار عبد الملك مرتاض مفاهيم نقدية من شأنها أن تضيف نقلة
جديدة إلى الدّراسة السردية المعاصرة، بين هذه المصطلحات: ترجم مصطلح
السّرد عن اللفظ Narration، والسّردية عن Narrativité، والسردانية عن
Narratologie. (27) والمصطلح الأخير هو إطلاق شخصي يقوم مقام مصطلح (علم
السّرد) الذي لا يصطنعه إلا قليلاً حيث أشارَ أنّ "السردانية" أو علم
(السّرد) هي الأدوات العلمية التي يستعملها الباحث من أجل الكشف عن سرّ
العمل السّردي." (28)
كما يمكن الإشارة إلى إيثار عبد الحميد بواريو ترجمة مصطلح (Anecdote)
بحدّوثة، وهي كلمة شائعة في اللهجة المصرية، والقريبة من مصطلح حكاية. Le
conte، أما مصطلح قصة فقد استخدمه للدّلالة على لفظ Récit، ومصطلح سرد
narration مشيراً "ويجدر التنويه أن استخدامنا هذا المصطلح ـ الأخير ـ
أيضاً إلى صيغة ألسنية "حدوثي" في العديد من المواضع". (29)
2 ـ خطاب/ نصّ
إنّ مصطلح خطاب من المصطلحات التي ولجت في الدّراسات النقدية الحديثة،
وأصبحت أكثر تداولاً لدى النقاد المعاصرين العرب، نتيجة احتكاكهم بالتيارات
النقدية العالمية، ورغبة منهم في تجاوز المفاهيم التقليدية، والسعي إلى
آفاق المعرفية العلمية، ومحاولة تجاوز الإشكالية التي طرحها مفهوم (نص) من
النصوص النقدية.
فيحيل مفهوم النص ـ كما ورد في المعاجم العربية ـ على معنى الظهور
والارتفاع والانتصاب وهو في معجم (لسان العرب)، يحمل دلالة الرفع حيث ورد
نص الحديث ينصه نصاً، رفعه وكلّ ما أظهر فقد نُصّ... ويقال نصّ الحديث إلى
فلان أي رفعه... والمنصة ما تظهر عليه العروس لترى، وكلّ شيء نصص فقد
أظهره، وهناك لفظ النصّ والنصيص أي السير الشديد والحث، وأصل النص أقصى
الشيء وغايته (30). ويعني المصطلح في موضعٍ آخر لدى ابن منظور التحديد حتى
يستخرج أقصى سير الناقة (31)، ومنه نصت الدابة السير إذا أظهرت أقصى ما
عندها.
وكان الزمخشري ضمن سلسلة طويلة من الأصوليين، الذين كان لهم الفضل، في لفت
الأنظار إلى دلالة المصطلح، فقد قرّر لغة، أنّ المصطلح يعني الارتفاع
والانتصاب حيث أنّ الماشطة تنصّ العروس فـتـقـعدها على المنصة وهي تنصّ
عليها أي ترفعها، ونص فلان سيداً كنص، ونصصت الرجل إذا أخفيته من المسألة
ورفّعته إلى حدّ ما عنده من العلم حتى استخرجته، وبلغ الشيء نصّه أي
منتهاه.(32)
وكان الشافعي يرى أن النصّ: خطاب يعلم ما أريد به من الحكم سواء كان
مستقلاً بنفسه أو علم المراد به يغيره نافياً الاجتهاد في النصّ وقابلاً
الاجتهاد من النصّ" (33).
وبذلك فإنّ النصّ لدى أغلب الأصوليين، يقترن بالتعيين ونفي الاحتمال،
واستبعاد التأويل، وإلغاء أي دلالة حافة يتضمنها المفهوم، وظهوره في
الثقافة العربية، ظلّ يواجه فعالية الوصف والاستقراء؛ والتحليل، فما يتصل
بأدلّة الأحكام من قرآنٍ وحديث، لكونهما نصين مقدّمين، ثم امتدّ ليشمل
الأدب كضرب من ضروب الإبداع.
أمّا مصطلح (خطاب)، وحيثما ورد في تضاعيف المعاجم العربية، فهو يحيل على
الكلام (34)، وقد استمدّ دلالته المذكورة من السّياق الذي ورد فيه القرآن
الكريم، قال تعالى: (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الحِكْمَةَ وفَصْلَ
الخِطَابِ) (35) . وفي قولـه عزّ وجلّ: (فَقَالَ أكْفُلْنِيهَا
وَعَزِّتِي فِي الخِطَابِ )(36). ويورد الزمخشري تفسيراً في فصل الخطاب
بأنه الكلام المبين الدّال على المقصود بلا التباس" (37)، وهو موسوم
بالبيان والتبيان، وتجنب الإبهام والغموض واللّبس، فخلق بين المصطلحين
(كلام وخطاب) تلازماً يوجب الكثير من الاستقصاء والفحص الدّقيقين.
أمّا ابن جني، فقد عرّف الكلام، بأنّه لفظ مستقلّ بنفسه، مفيدٌ لمعناه،
معتبراً أكمل داخل سياق الكلام هي الأخرى وحدات مستقلة على اختلال
تراكيبها. وهو مذهب الشريف الجرجاني من الحديث عن المعنى المركّب. والآمدي
الذي خصّ الكلام بمعنى الخطاب ثم التهانوي الذي دلل على الأصول الشفاهية
للمصطلح، محاولاً إخراج لفظ الخطاب من كلّ ما يعتمد على الحركة والإيحاء
والإشارة كوسائل للإفهام، كما أخرج أيضاً المهمل من الكلام، وكلّ كلام لا
يقصد به الأصل في إفهام السّامع.
وعليه، فإنّ تحديد تعريف دقيق لدى الأصولية لمصطلح (الخطاب)، وفي الثقافة
العربية، يقتضي بعض التريث، ذلك لأنه مصطلح شامل يتّسع لكثير من الدّلالات،
فضلاً على اتساع المفهوم ليشمل كلام الله، ويشمل دلالات أخرى حافة. وهكذا
اتضح أنّ هذه المادّة (نصص)، ذات معانٍ متعدّدة أهمها أربعة: هي الرفع
والحركة، والإظهار وبلوغ الغاية.
وفي المعاجم العربية الحديثة يعدّ مصطلح (نصّ) أكثر المفاهيم تناولاً، فقد
أورد صاحب معجم (الرائد) عشرة معانٍ لفعل (نصّ) هي نصّ على الشيء، حدّه،
ونصّ القول أو الفعل: رفعه وأسنده إلى صاحبه، ونصّ الشيء: رفعه وأظهره،
ونصّ العروس: أقعدها على المنصّة، ونصّ المتاع: جعل بعضه فوق بعض، ونصّه:
استقصّ عن الشيء حتى استخرج ما عنده، ونصّ الناقة: استحثّها لتسرع، ونصّ
عنقه: نصبه، رفعه ونصّ الشيء: حرّكه ونصّ الشيء: ظهر (38). وهناك تعريفات
تختلف في دلالتها وتتفق حسب اجتهادات أصحابها وتوجّهاتهم من جهة، وحسب
تطورات المصطلح من جهة أخرى، من ذلك النص يحوي دلالتين في "المعجم الأدبي"
الأولى: كلام لا يحتمل معنىً واحداً مكتوب أو مطبوع (39)، والنصّ هو الأصل
والجوهر، وهو مختلف عن الكلام، لأنه فرع وهامش مفهوم بالخطأ.
وفي الثقافة الغربية فإن الحفر من الأصول اللغوية الاصطلاحية لِ: الخطاب
والنصّ، ليس مردّه إلى النظم المرجعية التي استمدّت منها المفاهيم وجودها،
وحسب، وإنما اختلاف نقد المعرفة التي كانت محضناً مباشراً لكل
مصطلح،وموجّهاً لدلالته في الثقافة المذكورة.
من هذا المنطلق، تحيلنا بعض المعاجم إلى مفهوم الخطاب الذي يحتوي أحياناً
النص ويضعه في نطاق أوسع، فلا يعزله عن شروط تلفظه وتداولـه في مجالٍ حيوي
نشيط (40). وهو في معجم اللسانيات (لجان ديبوا) Jean du bios، يعني الكلام
(Parole) كمصطلح مرادف للملفوظ (énoncé) (41).
أما مصطلح نص في اللسانيات، فهو مقابل للدّلالة اللغوية Texte، يدلّ على
النصوص والمتون العائدة لمؤلّف ما، كما يحيل على النسج، بينما دلالته
الاصطلاحية تحيل على سلسلة من الكلمات تؤلّف تعبيراً حقيقياً في اللغة.
وقد أورد الباحثان قريماس وكورتيس ضمن ـ المعجم السيميائي المعقلن ـ مصطلحي
الخطاب والنصّ مترادفين، ووفق معنى أحادي موحدٍ. للدّلالة على أحكام
سيميائية غير لسانية، وذهبت النظرية السيميائية إلى عدّ الخطاب جهازاً ذو
مستويات الواحد فوق الآخر، (42) وفي ضوء هذا التحديد السيميائي أمكن تلخيص
جملة من الملاحظات أهمها.
1 ـ أن النص استخدم في اللسانيات للدّلالة على كلّ مكتوب أو ملفوظ مهما كان حجمه.
2 ـ إن النص وحدة لغوية وليست نحوية مثله مثل العبارة أو الجملة.
3 ـ دلالة الخطاب والنص واحدة.
أمّا في المعاجم اللغوية الفرنسية الموسوعية، فإنّ كلمة Discours ذات أصل
لاتيني (Discursis) والنصّ (Texte)، تطلق على المتن، نصّ، جمع نصوص، متن،
متون (43). وفي غير ذلك إن النص رد فعل اللغة نتيجة عمل أي (نسيج) (44)،
يطلق النص (Texte) على الكتاب المقدّس أو كتاب القدّاس، وهو في اللاتينية
(textus)، وتعني النسيج (Tissu) أو (trame)، كما تعني منذ العصر
الإمبراطوري ترابط حكاية أو نصّ 45، فيتحوّل بذلك النصّ إلى منظومة عناصر
من اللغة أو العلاقات، تشكّل (مدوّنة) أو نتاجاً شفهياً.
أما جورج مونان، في مساق حديثه عن دلالة النصّ التي تقترن بضرب من تركيب
الألفاظ أو الكلمات، فقد أشار إلى دلالة المصطلح، التي تحيل على سلسلة
متتابعة من العلامات اللفظية أو الإشارات الكتابية التي تنتظم في سياق يبرز
تجانسها فذهب إلى اعتبار النص معادلاً للمتن كما هو معادلٌ للملفوظ "لا
يعني إلاّ وثيقة مكتوبة وحدها بل كلّ المتون التي يستعملها اللغوي أو
الألسني". (46)
وفي الثقافة الفلسفية وضمن أدبيات نقاد الغرب، فإنّ مصطلح خطاب برز في كتاب
ديكارت "خطاب في المنهج"، للدّلالة على الخطاب الفلسفي في العصور الوسطى،
وهي المرحلة التي سبقت عصر النهضة، وسرعان ما أصبح الخطاب في العصر الحديث
يشكّل موضوعاً في الفكر الفلسفي الغربي والسيميائيات الحديثة.
من ذلك، عناية ميشال فوكو (M.Faucault) بهذا الجانب، معتبراً المصطلح
أنموذجاً فلسفياً يلج مجال المعرفة العقلية التي تُعدّ الموجّه الأول
للثقافة الغربية في مختلف مظاهرها الأساسية، ومقراً بأنّ الخطاب لابدّ أن
يكون منظومة لغوية أو فكرية، وهو يتحدّد من القواعد التي تميّز مجموعة من
المنظومات التي تنتظم داخل الممارسة النظامية، منظمة تسمح بتكوين مواضع
البحث وتوزيعها، وتحدّد أنماط القول ولعبة الاحتمالات النظرية.
وأمام هذا الكمّ الهائـل من التحديدات، فإنّ تعريفـــات أخرى عكست وجهة
النظر الخاصّة بالمعرفة وبالمرجعيات الفكرية التي انطق منها كلّ باحث، ولا
أدلّ على ذلك التعريف القائل بأنّ "النصّ هو ما تنـقـرأ فيـه الكتابة،
وتنكتب في القراءة" (47)
ويرى بول ريكور (Paul Ricœur) أنّ النصّ، خطابٌ تمّ تثبيته بواسطة الكتابة
(48)، أي أنّ النصّ ما نكتبه وندونّه، وهي نظرة تلتقي مع وجهة نظر رولان
بارت حين أقرّ مصطلح النسيج، (49) بمعنى أنّ النصّ يصنع نفسه باستمرار، وهو
نسيج كما تنسج العنكبوت نسجها في شبكة متلاحمة منضدة.
وهكذا، فإذا كانت بعض الدّراسات النقدية، تحدّد مصطلح "خطاب" بأنه "مقولة
من مقولات علم المنطق، تعني التعبير عن فكر مستدرج بواسطة قضايا مترابطة"
(50) وكانت بعض المعاجم المختصة سيميائياً، تعدّه مرادفاً للنص (Texte)
وهما لفظتان تدلان على أحكام غير لسانياتية" (51) فإن الــدّارس لرحلة
المصطلح (خطاب) عبر مراحل تطوّره، يقف على محطات أساسية في مظهراته لدى
الباحثين السيميائيين العرب، بدءاً من مرحلة التخلص من الترجمة الحرفية
(النقل) إلى التعريب إلى الاشتقاق إلى الابتكار والإحياء. من ذلك، فقد
خطا الباحث عبد السلام المسدي، خطوات هامّة، في تحديد علاقة حفريات المعرفة
بخصوص مصطلح خطاب، فعالج مجموعة من المصطلحات المتقاربة والمتنائية في آنٍ
واحد، فذكر مصطلح الملفوظ (énoncé) أو الجملة أو النص مهما كان نوعه وشكله
كمرادفات لمصطلح خطاب" (52).
وأما مصطلح الملفوظ، في اعتقاده، فهو "جملة ما يتلفظ به الإنسان ويكون
محدّداً ببداية ونهاية كأن يكون محصوراً بين سكوتين في الخطاب الشفوي أو
بين علامات ابتداء وانتهاء وفي الخطاب المكتوب، والملفوظ، وبذلك يكون جملة
أو فقرة أو نصّاً" (53). ثم أضاف، إذا كان الخطاب كياناً عضوياً يحدّده
انسجام نوعي، وعلاقة تناسب قائمة بين أجزائه فإن اللغة مفهوم كلّي واللسان
مفهوم نمطي والكلام مفهوم إنجازي (54)، والمدونة هي اللغة الموضوعة والخطاب
اللساني المستنبط منها هو اللغة المحمولة، فتلك بنية قائمة، وهذه بنية
مشتقة (55)، وهو بذلك أراد الاقتراب في جملة هذه المصطلحات ـ من المقولة
التي تعدّ اللغة جنساً واللسان نوعاً والكلام شخصاً. وبين المصطلحين خطاب
ونصّ، ذهب الباحث إلى الاعتقاد بأن النص يتعدّى مفهومه حدود الجملة أو
الفقرة، له نظامه الخاصّ، فقد يتطابق مع مجموعة الجمل أو يتعدّى ذلك إلى
كتاب بأكمله.
أما محمد مفتاح، فقد صاغ مصطلح خطاب وارتضاه عنواناً لإحدى دراساته (تحليل
الخطاب الشعري ـ استراتيجية التناص)، وبين المصطلحين خطاب ونص، ذهب إلى
اعتبار النصّ، هو الأعرق والأقدم، روجت له الدّراسات القديمة، وعرف تعريفات
عديدة تعكس توجهات معرفية ونظرية ومنهاجية مختلفة بنيوية واجتماعية وأدبية
ونفسانية ودلالية (56)، مضيفاً "أنّ النص مدونة كلامية، وحدث تواصلي
تفاعلي مغلق وتوالدي" (57)، ووظف هذا المصطلح ضمن عنوان دراسته (دينامية
النص). [/size]