[center]3-II- التّناصّ وهوية الإلياذة:
إن أية قراءة للإلياذة- مهما كان المستوى الذي تتحرك فيه- فإنها ستمر حتماً عن طريق كثافة الرموز وتنوعها، وخاصة المتعلق منها بتاريخ الجزائر وحضارتها في الدرجة الأولى ثم التراث العربي الإسلامي فالتراث الإنساني. وتوظيف التراث بهذه الصيغة تأكيد على الهوية وإصرار على الانتماء.
وتتشكل بنية الإلياذة وفق سلسلة من التحولات التي تحدثها هذه الرموز وتُبنى حسب ثقافة هذا الرمز وطرائق استعماله، ونجد التّناصّ الذي هو عبارة عن حوار بين النصوص وتداخل فيما بينها، قصد إعطاء بنية نصية جديدة في شكل إحالات إلى رموز ثقافية أو تاريخية يفترض في قارئ "الإلياذة" معرفة الفضاء الثقافي الذي تشغله داخل الحيز الحضاري الذي أوجدها: كإعطاء بعض عناوين الكتب أو الأسماء التي لها حضور في ثقافتنا، وهذه الإحالات لا تشكل حواراً حقيقياً بين النصوص بقدر ما ترمز إلى ثقافة الشاعر وتساعد على حصر مصادر ثقافته وتحديدها.
أما النوع الثاني من أنواع التّناصّ فهو توظيف نصوص أو أجزاء من نصوص داخل فضاء الإلياذة، وتحديد وظيفتها يتوقف على السياق الذي وردت فيه وغالباً ما يكون لتشابه الموقفين أو تماثلهما أو إعادة إنتاج نفس الموقف.
نجد النوع الأول من الرموز الثقافية متوزعاً على كافة أجزاء الإلياذة وهذه الرموز في مجموعها تشكل البنية الثقافية وتساعد على تحديد العلاقات الثقافية، بين الأشخاص في سياق حضاري معين.
من هذه الرموز: "المثل السائر" (ص20) فهو ظاهرياً عنوان كتاب لابن الأثير ولكن المتأمل للبيت الذي ورد فيه يلاحظ أنه يشبه النكتة البلاغية لأن "المثل السائر" يعني الانضواء تحت راية المألوف والمتعارف عليه، ولكن الفعل الذي سبق هذا الرمز وهو "يجل" أي يسمو ويرتفع ينقل المعنى إلى الطرف المناقض حيث تصير بدعة وروعة إلى غير ذلك من أوصاف الإعجاب، وتطغى على المقطع صيغة النداء (يا) التي تكررت في هذا المقطع عشر مرات وهذا للدلالة على تأجج العاطفة والتلذذ بهذا النداء ويعني الإصغاء لصوت الجزائر، وهذه الظاهرة نجد لها مقابلاً في (ص22) إذ يتوجه الشاعر مباشرة للجزائر ويخاطبها بضمير أنت التي يكررها ست مرات.
المتنبي الشاعر العربي ورد ذكره في سياق الحديث عن الإلياذة التي نظمها الشاعر (ص21) وقد ورد في سياق شعري محض، وقد اتخذ منه الشاعر حجة ودليلاً على عروبته وفحولته، والمقطع الشعري الذي يقول: "فآمن بي وبها المتنبي" دليل على أن المتنبي حجة في الشعر وإيمانه بمفدي زكرياء. هو دليل فحولة هذا الأخير وشهادة اعتراف لأن شعره "صريح الرجولة، فحل" (ص116).
وقد ذكر الشاعر عدة عناوين لكتب في مواضيع مختلفة من الإلياذة مثل قدس اللهيب (ص115) الذي هو عنوان ديوان الشاعر "اللهب المقدس"، ويمكن هنا استشفاف لغة المقدس التي تنمّ عن إيمانه بوطنه وقضاياه، وهناك إشارة إلى مدوّنة ابن ترمرت "أعز ما يطلب"، وقد عبر عنها بأعز المطالب (ص50).
وقد آخى القديسين أوغسطيس وأبولوس بمساحة شعرية هامة تقديراً للجهود التي قاما بها في المجال الثقافي وتخليدهما لمآثر الجزائر:
وهذا أعستنس بالاعتر
:
افات حيَّر -عبر الزمان- الفهوما
وأسقف "بونه" أصبح قد
:
يس قرطاج مذ بث فيها العلوما
وكان أعستنس فخر البلاد
:
وكان بها الفيلسوف العظيما
و"الاعترافات" التي يشير إليها هي عنوان أهم كتب القديس أوغسطيس والتي ترجمت من اللاتينية إلى اللغات الأوروبية.
كما خص مساحة لأبولوس الذي كان طبيباً يدين له العلم بالعبقرية كما أدى واجب الاعتراف لكل من ابن خلدون وابن باديس وكل الرموز الثقافية التي بتراكمها وإضافاتها صنعت هوية الجزائر الثقافية والتاريخية المتميزة، -وتوظيف هذه الرموز الثقافية بكل ثقلها وما تحمله من شحنة حضارية هو دلالة على الاعتزاز بالانتماء لهذه الرموز.
من جهة ثانية حاول الشاعر أن يجعل من نفسه رمزاً ثقافياً يشكل مع مجموعة الرموز الأخرى الفضاء الحضاري الذي تكونت فيه الهوية الحضارية الجزائرية، يقول:
فخلد قدس اللهيب بياني
:
وأذكى لهيب الجزائر فكري
هنا يتمفصل الرمز الثقافي على مستويين: المستوى الأول هو الإحالة إلى ديوان الشاعر الموسوم "اللهب المقدس" أي أن الديوان يعتبر إنتاجاً ثقافياً ورمزاً من رموز الهوية الجزائرية لأنه يؤرخ لفترة محددة من تاريخ هذا الشعب، والمستوى الثاني هو شكل هذا الرمز، فهو ليس رمزاً تشكيلياً، أي بلاستيكياً، أو أي شكل آخر من أشكال التعبير ولكنه تعبير أدبي بياني لغوي، وقد أسبق الشاعر هذين العنصرين/ الرمز (اللهب المقدس) وطبيعة (بياني) بفعل الخلود وهذا ليصير إيمان الشاعر بقدرته الإبداعية ومعانقته والتصاقه بالأفق الثقافي.
ولعل أهم ما يعطي الإلياذة هويتها العربية الإسلامية ويجعلها مغايرة للملاحم الإغريقية، والفارسية واللاتينية هو الإكثار من التضمين وخاصة من القرآن الكريم والشعر العربي وهكذا ليؤكد بإصرار على انتمائه، ونصادف ذلك في عدة مواضع من الإلياذة:
وسبح لله ما في السما
:
وات والأرض، ملء شغائف شفا
كأنك تصغي بها للخليل
:
وموسى الكليم، يرتل صحفا
هذا الاقتباس القرآني تجعل من شفا (وهو جبل من جبال وسط الجزائر) محط إعجاب وإثارة للخشوع إذ لم يجد الشاعر طريقة يصف بها هذا الموقع غير التسبيح بحمد الله وذكر عجائب مخلوقاته، هذا الاقتباس الأول نصي، أي أخذ النص القرآني كما هو دون تحريف، أما الاقتباس الثاني فهو مضمر ويفيد المضمون دون الحفاظ على ترتيب عناصره اللغوية أو إيرادها كما هي وهو ما نصادفه في البيت الثاني حيث يترجم قوله تعالى:
"إن هذا لفي الصحف الأولى، صحف إبراهيم وموسى" ووظيفته هنا تشبيه جبال الشفا بالصحف التي يمكن أن يقرأ فيها كل متمعن آيات الجمال والجلال:
وأخرجت الأرض أثقالها
:
فطار بها العلم --فوق الخيال
توفر للشعب أقداره
:
وتكفي الجزائر -- ذل السؤال
أول هذين البيتين هو "وأخرجت الأرض أثقالها" وقد جاء في البيت الشعري مخالفاً لدلالته في السياق القرآني التي تشير إلى هول الساعة حين تزلزل الأرض زلزالها وتخرج الأرض ما بباطنها، فإنها في السياق الشعري تدل على البعث الاقتصادي حيث أخرجت الأرض الجزائرية كنوزها من محروقات ومعادن، والتقابل هنا بين الموقفين جلي، لأن الزلزلة التي أحدثتها إرادة الشعب الجزائري تمثلت في إزاحة أكبر قوة استعمارية وبعث أمجاد عريقة.
والقرينة النصية التي تدل على هذا البعث الاقتصادي والرفاهية هي ما يصرح به الشطر الأخير للبيت الثاني حيث يقول ذلك مباشرة دون استعمال أية حيلة لغوية أو بلاغية عندما يقول:
"ويكفي الجزائر... ذل السؤال".
ولتصوير عنف هذه الزلزلة استعمل الشاعر تعبيراً قرآنياً "كأعجاز نخل" لدلالة على خور عزيمة غلاة المستدمرين الذين تهاوت إرادتهم كأعجاز نخل نخر جذورها الزمن وتوالي الأيام، يقول مفدي:
ورجت حواجزهم بالفلا
:
ة، غريق يشد بذيل غريقه
ومن خائرين كأعجاز نخل
:
ضمائرهم في المزاد رقيقه
ولتصوير إرادة الشعب الجزائري في زلزلة الكيان الاستدماري فإن الشاعر وظف إحدى المواقف البطولية لأحد رموز المقاومة الشعبية وهو الشيخ الحداد الذي أعلن في السوق عقب صلاة الجمعة حين قال: "سنرمي الفرنسيين إلى البحر كما رميت هذه العصا إلى الأرض" (ص59، هامش الإلياذة)، يترجم مفدي زكرياء هذه الفكرة شعرياً ويقول:
وحداد في السوق ألقى عصاه
:
وأعلنها في الذرى والبطاح
كمثل عصاي.. ألقي الفرنسيين في البحر، أركلهم بالرماح
التناص في هذين البيتين يأخذ كل أبعاده النظرية والعملية ويأتي البيتان كمفصل شعري يربط بين سياقين: السياق القرآني والسياق التاريخي ووظيفته هنا هي فتح الحوار بين السياقين وإعادة إنتاج نفس الحالة هي حالة التحدي.
ففي السياق الديني نرى أن موسى عليه السلام قد تحدى سحرة قومه بأن ألقى عصاه فإذا هي حية تسعى، أي التحدي بوسيلة بسيطة وفي السياق التاريخي نجد نفس الموقف (التحدي) والتمثيل بنفس الأداة، وهو تحد للآليات العسكرية المتطورة، ما يجمع أطراف النصين (القرآني والتاريخي) هو التحدي، أي الوضع أو الموقف، بأسلحة غير متكافئة ولكن الإرادة والإيمان بالرسالة التاريخية هو الذي فرض هذا التحدي، والشيء الثاني الذي يجمع هذه الأطراف هو الأداة، أي العصا في الموقفين الديني والتاريخي، إن وظيفة هذين البيتين هي محاورة السياقين وإنتاج سياق شعري جديد يجمع بين السياق الديني والسياق التاريخي ولهذا ضمن الحضارة العربية الإسلامية ويعبران عن الهوية الحضارية للشاعر ولإلياذته.
إلى جانب استعمال مفدي للرموز الثقافية كمولدات للمعنى والاقتباس من القرآن الكريم لربط الجزائر بأصولها العقيدية، فإن الشاعر يستعمل شكلاً آخر من أشكال التناص وهو استعمال بعض الصور أو المواقف الشعرية التي أخذها من شعراء آخرين وهذا لربط نص الإلياذة بمجموع الموروث الشعري العربي وأهم روائعه، ويظهر من خلال قراءة النص ارتباط الشاعر بالنصوص الشعرية القديمة وهي أكثر من أن تحصى.
وبعد أن تعرض الشاعر إلى الآباء والأجداد والأبطال التاريخيين للجزائر مستعملاً أسلوب النشر، فإنه يجمل- باستعمال أسلوب الطي- عندما يطلق صرخة الاعتزاز والافتخار بالانتماء لهؤلاء الأبطال والمؤسسين الحضاريين حيث يقول:
أولئك آباؤنا منذ عيسى
:
وكان محمد صهراً لعيسى
ولم نك ننكر آباءنا
:
أكانوا نصارى أم كانوا مجوسا
وهذا السياق يحيلنا إلى إحدى نقائض الفرزدق الذي استعمل نفس الأسلوب، النشر ثم الطي حيث عدد رجالات نسبه منذ الجاهلية إلى العصر الأموي مستعملاً أسلوب النشر ثم أطلق تحدّيه لخصمه جرير واستعمل لذلك أسلوب الطي عندما قال:
أولئك آبائي فجئني بهم
:
إذا جمعتنا يا جرير المجامع
ونلاحظ هنا التناظر في البناء الشعري النشر/الطي والتفصيل الجمع، ولكن نص مفدي يختلف عن نص الفرزدق في الهدف، فنص الفرزدق هدفه إفحام الخصم (جرير) ووضعه موضع تحدٍّ، أما في نص مفدي زكرياء فإن دلالة ذلك هي الفخر والاعتزاز بالانتماء، "لأولئك الآباء" وبهذه الطريقة فإن "الإلياذة" تعمل على الإلغاء الآخر لتأكيد الهوية الحضارية.
هناك اقتباس شعري آخر أخذه مفدي زكرياء عن أبي تمام وهذا لما عرف عن هذا الشاعر من حماسة ميزت شعره بنبرة خطابية تحريضية، والاقتباس الذي أخذه مفدي زكرياء عن أبي تمام مأخوذ من قصيدته التي قالها في فتح عمورية والسياق الذي تطورت فيه هذه القصيدة هو الإشادة بشجاعة المعتصم وحادثة "وامعتصماه" والتي يقول فيها:
السيف أصدق إنباء من الكتب
:
في حده الحد بين الجد والكذب
بيض الصفائح لا سود الصحائف
:
في متونهن جلاء الشك والريب
وأثناء مقارنة أبي تمام بين عالمين يضعهما موضع التقابل وذلك من خلال تكثيف أنواع الجناس والطباق لينتهي للانتصار إلى السيف وإبراز فضائله وكشف زيف المنجمين وصحائفهم لأنه "ما حرر القول يوماً عبيداً"
ويستعمل مفدي زكرياء نفس الصورة الشعرية التي تعبر عن شجاعة الموقف وحسم القرار واستعمال لغة القوة بديلاً للخطابات السياسية، يقول مفدي زكريا:
تأذن ربك ليلة قدر:
وألقى الستار على ألف شهر
وقال له الشعب: أمرك ربي:
وقال لـه الرب: أمرك أمري
وتأبى الصفائح نشر الصحائف،
ما لم تكن بالقرارات تسرى
الاقتباس في هذه الأبيات يتمفصل داخل خطابين مختلفين: الأول هو الخطاب الديني المتمثل في النص القرآني المأخوذ من سورة القدر، إذ استعمل الآيات الكريمات الأولى والثالثة، ووظيفة الاقتباس هي المشابهة بين ليلة الفاتح نوفمبر 1954 وليلة القدر كما جاء وصفها في القرآن الكريم، بل إن المشابهة تصبح ضئيلة إلى حد الإدماج بين الليلتين، لأن ليلة أول نوفمبر جاءت لتمحو ألف شهر من الغبن الذي لحق الشعب الجزائري وتنير له درب الحرية والخلاص من نير المستعمر، أما الاقتباس الثاني فإنه يتمفصل داخل خطاب شعري، وهو قصيدة فتح عمورية لأبي تمام ووظيفة هذا الاقتباس تعود إلى المشابهة بين الموقفين وهي التردد بين القرارات السياسية وحسم الموقف عسكرياً باتخاذ قرارات ثورية شجاعة، والبيت الثالث لمفدي زكرياء المثبت سابقاً يعيد إنتاج بيت أبي تمام "بيض الصفائح لا سود الصحائف" ليس على مستوى المعنى فحسب، ولكن أيضاً باستعمال طريقة التقابل المرجوة بين الصفائح والصحائف مع المحافظة على ترتيبها أي وضع الصفائح (السيوف العريضة).
في المرتبة الأولى للدلالة على أهميتها وذلك حسب القواعد البلاغية، وبعد ذلك جاء بكلمة الصحائف (الأوراق) وذلك للتقليل من أهميتها، وأما الجملة الثانية في البيت الشعري عند مفدي: "ما لم تكن بالقرارات تسرى "فإنها لا تفيد دلالة إضافية على ما جاء في شعر أبي تمام، بل هي تلخيص لما جاء فيها واستخلاص لموقف شعري شامل تبناه أبو تمام في قصيدته المذكورة.
ومفدي زكرياء لا يأخذ من أشعار الآخرين فقط ولكنه أيضاً يأخذ من أشعاره وخاصة من ديوانه "اللهب المقدس" وهذا طبيعي إذا تذكرنا أننا انطلقنا من فرضية نظرية أن الإلياذة تشمل ديوان اللهب المقدس وتتجاوزه، لأن فضاءها أوسع من فضاء "اللهب المقدس" الذي يبدو محدوداً في الزمان والمكان في حين أن الإلياذة تحاول القبض على نبض التاريخ وتتبع مساراته الموغلة في القدم والتشعب.
وقد أعاد مفدي زكرياء ذكرى استشهاد المناضل مصطفى الفروخي الذي عين سفيراً للجزائر في بكين ولكنه توفي في الطائرة التي أقلعت من القاهرة ورثاه الشاعر بقصيدة نشرت ضمن "اللهب المقدس" ومطلعها:
أسفيراً نحو أملاك السماء
:
أم لبكين بعثتم مصطفى
وفي "إلياذة الجزائر" جاء مصطفى الفروخي رمزاً من رموز النضال والتضحية التي قدمها الشعب الجزائري في سبيل حريته، ولكن ذكر مصطفى هنا لم ينفصل عن السياق الرثائي الذي تطور فيه في القصيدة الرثائية الموجودة في ديوان اللهب المقدس.
يقول مفدي:
أناجيك يا مصطفى في سماك
:
ويوم عرجت تشق السماك
بعثت سفيراً لبكين لكن
:
ذهبت سفيراً لأفق علاك
وكنت لروح النضال لهيباً
:
شعا ليله، من شظايا هواك
وكنت لصدق الضمير مثالاً
:
فياليتهم يتبعون خطاك
ومن هنا نلاحظ أن مصطفى –الرمز يتحرك دائماً في نفس السياق الرثائي، لأن التجربة الشعرية لمفدي زكرياء بقيت متأثرة بالحدث الجلل الذي رسم درب المناضلين المخلصين، ولكن عزاء الشاعر أن يكون مصطفى /الرمز قدوة ومثالاً للتضحية في سبيل تحقيق النصر.
ومن هنا نلاحظ أن التناص لا يعمل فقط على مستوى المضمون، أي يعطي "للإلياذة" هدفها العربي الإسلامي ويجعلها تتحرك داخل نموذج ثقافي مخصوص ويحيلها –أي التناص- إلى سياق تاريخي يخص منطقة جغرافية محددة، ولكن هذا التناص يعمل على مستوى المضمون: "يشكل جزءاً من بنية "إلياذة الجزائر" وبإلغائه لوجود الآخر على مستوى النص" وعرض بعض نماذجه الثقافية أو الحضارية فإن ذلك يعمل على توليد دلالة الانتصار والاعتزاز به.
الخطيئة والتكفير:
هذا الجزء من الدراسة يستلهم الأفكار الأساسية التي جاءت في كتاب محمد عبد الله الغذامي الذي يحمل نفس العنوان "الخطيئة والتكفير" (جده- ط1- 1405هـ-1985م-السعودية) الذي يرى أن البعث خطيئة والتكفير عن هذه الخطيئة هو الشعر، أي التطهير من:
أدران هذه الخطيئة، وقد عرفها: "الخطيئة طريق المنفى والتكفير طريق العودة إلى الفردوس" (ص112).
في هذا المقطع من الدراسة نحاول تقصي هذه الظاهرة عند مفدي زكرياء وكيف كفر عن حبه لوطنه ولأهله شعرياً من خلال "الإلياذة"، وكيف يظهر جدل الحب والشعر عنده ويصير الدافع للحب هو الشعر، وهذا الحب لا يتجلى في جزء واحد بل ينظر إلى الجزائر نظرة كلية شاملة تتجلى في حبه للإنسان وللتاريخ وللأرض، وهكذا تصير نظرته نظرة حضارية لا تعمل على تكريس التاريخ بأمجاده فحسب ولكنها تقدس الراهن أيضاً.
ولعل أكبر تجلٍ لهذه الظاهرة هو نظمه لهذه الإلياذة/ الملحمة وتعبيره عن حبه للإنسان والأرض والتاريخ واعتبارهما وحدة لا تتجزأ، وهي تمثل رصداً لحركة التاريخ في انكساراته وتواصله.
يقول مفدي:
بلادي، وقفت لذكراك شعري
:
مخلد مجدك في الكون ذكري
وألهمتني فصدعت الدنا
:
بإلياذتي في اعتزاز، وفخر
وأن يجحدوني.. فحسبي أني
:
وهبت الجزائر فكري وعمري
إن تخليد الشاعر لذكرى بلاده هو تخليد لذاته كفرد داخل هذه البلاد، فالتجاوز هنا رجعي، فالشاعر شكل من أشكال التعبير كما أنه وسيلة من وسائل تثبيت التاريخ والقبض على اللحظات الهاربة المنزلقة، إن الشعر من هذا المنظور هو تجاوز الراهن للدخول في الديمومة. والتخليد هنا هو شكل من أشكال أسطرة (خلق الأسطورة) الجزائرية وربط التاريخ الجزائري بالتاريخ الإنساني، وبلاد الشاعر هي مصدر الإلهام، أي المحبوبة التي تفانى في عشقها وعانى في سبيلها.
وهي بالإضافة إلى كونها مصدر التجربة الشعرية والملحمة للإلياذة فهي في ذات الوقت مصدر اعتزاز وفخر، يظهر هذا الاعتزاز في النصر والانتماء إلى هذا الشعب المنتصر، لأن "الإلياذة" هي البؤرة التي فجرت الغناء بأمجاد الجزائر، فإذا حدث أن جحد حب الشاعر فعزاؤه أنه تفانى في حب الجزائر وغنى لهزائمها وانتصاراتها.
فالشعر هنا –في مفهوم الشاعر- هو وظيفة وليس غاية، وظيفة مزدوجة: هو شكل من أشكال التطهير وإخراج التجربة الشعرية من الداخل وعرضها على الآخرين وسرد تفاصيلها؛ والوظيفة الثانية هي "كتابة التاريخ بالدم" لأن التجربة الشعرية هي تجربة الموت وهي تراجيديا العالم.
ومفهوم مفدي زكرياء للشعر على أنه وظيفة وليس غاية في حدّ ذاتها ينبع من الظرف التاريخي الذي تكونت فيه ثقافة الشاعر حيث كان الشعر أداة من أدوات النضال وليس ترفاً وبذخاً.
وهذا ما يمكن أن يلاحظ على باقي أعماله الشعرية حيث نلاحظ الاهتمام بالرسالة الشعرية والتأكيد عليها على حساب الحوامل الفنية وأدوات التعبير المتأنقة، وهذه هي سمة الشعر المناضل الذي يكرس كل طاقاته التعبيرية للدفاع عن قضية من قضايا الإنسان.
ولعل الذي دفع الشاعر إلى إعلاء المضمون على حساب الشكل هو الحضور الفوري للموضوع على صيغة تقديمه وفرض جماله وأسره لِلُبّ الشاعر الذي ملك عليه كل أحاسيسه وجعله يخاطبه بطرائق وصفية معبرة عن عجزه أمام فتنة وإغراء موضوعه (الجزائر) لأنه موضوع "تعجز عنه اللغة":
بلادي، أحبك، فوق الظنون، وأشدو بحبك في كل نادي/
عشقت لأجلك كل جيل وهمت لأجلك، في كل وادي…
ومن هام فيك، أحب الجمال، /
وإن لامه الغشم، قال: بلادي /
وأرسلت شعري… سوق الخطى/
بساح الفدا.. يوم نادى المُنادي.. /
هذه العاطفة المتأججة تتجلى في صيغ التكرار البياني المتمثل في استخدام النداء في الكلمة الأولى مع حذف أداة النداء (يا) واستعمال أحبك مع فصلها عن النداء بفاصلة وذلك لكي يتمكن من مد صوت النداء والتأكيد عليه، ثم استعمال فعل (أشدو) و (بحبك) لأن الشدو لا يأخذ معناه إلاّ إذا اقترن بلوعة هذا الحب، ثم استعمال الشاعر لفعلي (عشقت) و (همت) وهي درجات أقصى للحب ويأتي تأكيده على المحب= "وإن لامه الغشم، قال: بلادي "تكرار للمُنادى الأول بلادي. وهذا للنغمة المحببة التي يتصف بها الموضوع. ويبدو عدم تملك الموضوع وتمنعه عن الشاعر لمغالاته في حبه في أسلوب التدوير العروضي لأن عاطفته الملتهبة لم تستطع أن تمهله ريثما ينتقي الكلمات التي يمكن أن تخضع لتقطيع التفعيلة والانتهاء بنهاية الشطر الأول.
وبعد هذا "الضغط" الشعري يتنفس الشاعر ويرسل نفسه الشعري متوازن الخطى في البيت الثالث الذي يعتبر هبوطاً في التجربة الشعرية لتأتي الجملة تقريرية ووصفية لما قام به الشاعر الذي لبى النداء يوم طلب منه المحبوب تقديم دلائل حبه والاستجابة إلى هذا الطلب.
وبعد أن تفانى الشاعر في حب معشوقته بلاده، "وهام، مع الشعر في كل وادي" كما وصف القرآن الكريم جل الشعراء، فإن مفدي زكرياء يطلب المغفرة من الله متوسلاً بالشعر والابتهال، وتقترب الصورة الشعرية التي يتوب فيها الشاعر إلى الله بعد أن أغرقته ذنوبه من إحدى زهديات أبي نؤاس التي يقول فيها ما معناه: إلهي إن جلت ذنوبي فإن رحمتك أعظم، يقدم مفدي ابتهاله وتوبته إلى الله في أبيات شعرية تدل على الخشوع والتوبة الصادقة:
فيا رب قد أغرقتني ذنوبي: وأنت العليم بما في الغيوب
أتوب إليك بإلياذتي: عساها تكفر عني ذنوبي
عصيتك علماً بأنك تعفو: على المسرفين فهانت خطوبي
ولولا صفاتك: رب غفو: ر، رحيم، لضاقت علي دروبي
وصورتني شاعراً مرهفاً: يهب الصبا والهوى لهبوبي
ولولا الجمال لعشت عقيماً: وما همت يوماً بغزو القلوب
قارئ هذه الأبيات يخرج بفكرة هي طغيان الكلمات الدينية التي تدل على عقيدة الشاعر وتوبته، وتتمثل في النداء، يا رب ثم الذنوب وعليم الغيوب، وأتوب، والتكفير، وتتكرر كلمة (ذنوبي) مرتين لتعميق إحساس الشاعر بالخطيئة، ثم العصيان الذي يأتي مقابل التوبة وهو على مستوى التجربة يأتي سابقاً على التوبة، ثم أسماء الله الحسنى: عليم، غفور، رحيم. وهكذا تتحرك الأبيات الثلاثة الأولى في جو ابتهالي تطغى عليه صفات الله: رحيم-غفور- عليم… والمطالبة بالعفو والمغفرة بعد ارتكاب الخطيئة وهي "الهيام مع الشعر في كل وادي" و "هبة الصبا والهوى "وعشق الجمال" و "الهيام بغزو القلوب" وذنب الشاعر أن الله "صوره شاعراً مرهفاً" ودليل توبته وعلامتها هي ما قدمه في إلياذته "أتوب إليك بإلياذتي" حيث برهن فيها شعرياً على أن حب الوطن من الإيمان، وأنه لم يكرس إلياذته للتغني بجِنّيةٍ وهمية أو امرأة تخطئ وتصيب حتى يأتي أجلها فتفنى.
فإذا كانت اللوحة/ المقطع الأول في الإلياذة يشبه "البرولوج" أي تقديم البطل مع كل أدواته وصفات البطولة المكرسة لأجله، فإن المقطع الأخير يعتبر بحق "إِبيبلوج" فهو بالإضافة إلى كونه يندرج في منظور الخطيئة /الحب والعشق والتكفير/ الشعر والمعاناة، فهو سلام للشعر وتمجيد لوظيفته التي أخرجت هذا الحب التاريخي من الداخل إلى الخارج أي الواقع الشعري، إن هذا المقطع هو احتفال بالشعر.
وهذه الصفة الشكلية تجعل "إلياذة الجزائر" تقترب في بنيتها من الإلياذة التي تبدأ "ببرولوج" يتم فيه تقديم الأبطال الأسطوريين وصفاتهم و "الإيبيلوج" الذي يأتي في النهاية قبل أن يسقط الستار وينصرف الممثلون ويشكل الموعظة أو خلاصة أخلاق الملحمة فإن "إلياذة الجزائر" قد التزمت بهذه القواعد البنيوية، يقول مفدي:
بلادي، بلادي، الأمان الأمان
:
أغني علاك، بأي لسان
جلالك، تقصر عنه اللغى
:
ويعجز فيك سحر البيان
إليك صلاتي وأزكي سلامي
:
بلادي، بلادي، بلاد الأمان.
في هذا المقطع الأخير يؤدي الشاعر لبلاده تحية السلام قبل أن ينسحب من مسرح الشعر وهذا المقطع يقابله في المسرحيات الحديثة تقديم الممثلين في ختام العرض، وتطغى على هذه الأبيات ظاهرة التكرار: تكرار الشطر الأول في البيت الأول ثم إعادة تثبيته في الشطر الثاني من البيت الأخير في هذا المقطع (البيت العاشر)، وهذا النص/ المقطع المغلق يجعل المقطع يتحلق على ذاته ليخرج من السياق التاريخي، تاريخ الجزائر ليدخل في السياق الشعري الذاتي، أي بلغة القص الفصل بين الفاعلين وبين الراوي.
ومن خلال سلام الشاعر يقدم صلاته للبلاد التي يكسوها الجلال (جلال التاريخ وجلال الانتصار) ومحط الإعجاز وسحر البيان.
تحولات النسق
الفعل عند الشاعر عياش يحياوي هو فعل صنع اللغة للتعبير عن هذا العالم وموقفه منه، بعد ذلك يأتي القول عن هذه اللغة، ألا يمكن أن تكون هذه اللغة استعارة عن الشعر في علاقته بالنقد؟.
يقول الشاعر:
أفعل أنني أحيا
وأنظر جاحظ الكلمات
حتى لا يقال قد انكسر
ففعل اللغة هو شكل من أشكال الحياة التي يتهددها الموت في كل لحظة، إن امتلاك اللغة، في هذه القصيدة بالذات من قصائد عياش يحياوي هو امتلاك للحياة وامتلاك لمقدرة التواصل الشعري.
تتأكد هذه الملاحظة خاصة إذا رجعنا إلى تاريخ كتابة هذه القصيدة ومكانها، فالمكان الذي كتبت فيه هو البصرة حيث يتناغم الشعر مع الموت ويتزاوج الفناء مع الإبداع الحضاري، إن الظرف الذي كتب فيه هذه القصيدة ظرف مشحون بالألغام والموت والدمار، يرافق ذلك حلم بالبعث وزمن الصحو "غداً تصحو الخيول".
إن الصحوة التي يحلم بها الشاعر هي صحوة الأمة العربية بعد القضاء على من رموها في "كهوف الفقر والنسيان" وإزالة كل معيقات التطور والإبداع الحضاري.
انطلاقاً من هذه الملاحظة المبدئية يمكن التأسيس النظري لهذه القصيدة والتركيز على العناصر البارزة فيها والتي تساهم بقدر كاف في تشكيل بنية هذه القصيدة وإعطائها خصوصيتها.
فالبنية الشكلية لهذه القصيدة تظهر خلال بنائها الخارجي حيث تراوح القصيدة بين الحر والعمودي، أي بين السردي-الملحمي وبين الغنائي- الحلمي. تتكون القصيدة من أربعة مقاطع سردية وثلاثة مقاطع غنائية وهذا التقطيع له دلالته على مستوى المعنى، إذ أن طغيان السردي / الملحمي على الغنائي/ الحلمي دليل على أن الواقع يضغط على الشاعر ويشده إلى أرضه في حين تحاول روحه الشاعرية بين الحين والآخر الإفلات من أسر الواقع.
ولكن قد يبدو هذا التأويل بسيطاً وسطحياً، لنحاول الآن تلمس هذه الحقيقة على مستوى المعنى –فالقصيدة كما هو واضح كتبت في ظرف متوتر في فضاء من الرعب والذهول أمام فعل الموت الذي يتهدد الشاعر ويرسم أمامه أشباح الفناء والدمار- فالبصرة في الشهر الثالث من سنة ست وثمانين تشبه لوحة "الجرنيكا" كما رسمها "بيكاسو" في ثلاثينات هذا القرن،فهي ذلك المشهد المأساوي الذي يعبر عن وحشية الحرب وتضاريسها البشعة.
وهكذا يمكن أن نلاحظ أن الفضاء الخارجي قد انعكس على فضاء القصيدة وأخذ يشكل قسماتها ويرسم حدودها، وقد حاول الشاعر عن طريق حيل لغوية وشعرية أن يبعد القارئ/ الملتقي عن هذا التطابق بين الفضاءين وذلك منذ العنوان "كلام في الفقر والوطن" إذ أن ما سيأتي من القصيدة لا يحلل مظاهر الفقر أو يعللها أو يعطي بعض ملامحها وانعكاساتها، إلا في مواضع ضئيلة أو "يتغزل" بالوطن ويشيد بأمجاده؛ ولكن القصيدة تقترب من المرثية الذاتية وتعبر عن انكسار الذات أمام "الآخر".
لعل هذه الملاحظة تؤكد مدى خضوع القصيدة للفضاء الواقعي أي المرجع الذي تحيل إليه –وهكذا يطغى المرجع/ الواقع على التشكيل الشعري ويجعله خادماً له- ومن الدلائل اللغوية التي تحيل إلى طغيان المرجع/ الواقع بكل معطياته وتفاصيله هو تواتر فكرة الموت التي طبعت القصيدة بجوٍٍ مأساوي.
وتكاد هذه الفكرة- فكرة الموت أن تكون المعنى البؤري الذي يتحكم في إيقاع القصيدة وتوزيع معانيها على جسد القصيدة- وفكرة الموت هذه نجدها تتكرر إما بصيغة صريحة أو ببعض القرائن اللغوية والتراكيب التي تحيل إليها مثل: الموتى –جنازتي- الاندنار- قتلت- أدفن-أموت- الموتى- مات- تابوت.
هذا إلى جانب استعمال الشاعر بعض المفردات اللغوية التي تعبر عن الحالة التي يستشعرها الإنسان أمام الموت مثل الحزن والتي كررها الشاعر مرتين: حزين- وحزناً- بالإضافة إلى حالة الذهول "أنا غابة صفصاف يحرقها الذهول" وهذه الصورة الشعرية غنية عن كل تعليق. والذي يؤكد هذه الفكرة- أي الحزن- هو استعمال الشاعر لفعل "يحرق" الذي يبالغ في التشديد على فعل الحرق بسبب الحزن.
في حين أن الوطن أو الفقر الذي وعد الشاعر بالحديث (كلام) عنهما في العنوان يظلان خارج فضاء القصيدة ولا نصادفهما إلا قليلاً، فكلمة الفقر نصادفها مرتين وكلمة الوطن ثلاث مرات فقط، وهذا دليل خضوع فضاء القصيدة للمرجع الذي تحيل إليه.
ويمكن أن نستدل على هذه الفكرة –مرة أخرى- بكون صوت الشاعر قد انسحق تماماً أمام العالم الخارجي ولم يعد إلا بؤرة لالتقاط أصوات الآخر، والخضوع له ولم يتحرر منه إلا في نهاية المقطع الأخير، من خلال الملاحظات السالفة يبدأ المسار الثنائي للقصيدة يتحدد، فالقصيدة تتطور ضمن تصور ثنائي للأشياء والأحداث، وتحاول من حين لآخر الإفلات من هذا التصور وتجاوزه للولوج إلى الزمن المطلق، من الإبداع الحضاري والمتمثل في إبداع حدائق بابل الغنَّاء.
فإذا كان هذا التصور الثنائي يفترض صراعاً ومحاولة كل قطب جذب الآخر إليه أو القضاء عليه –فإن الحال هنا تقترب من حال الهيمنة والسيطرة للآخر على الأنا- حيث نلاحظ عبر كامل القصيدة أن "الآخر" هو الفاعل، وأن "الأنا" سلبي، يقول الشاعر:
"أتوسد الطرقات
برجى غابة الموتى"
فالحالة التي يعرضها الشاعر هي حالة تسكع، أي حرمان من كل سلطة اجتماعية أو مادية، وبالتالي فإن الأنا يتقدم عارياً من كل حتمية يمكن أن تجعله في موقع صراع مع الآخر لأن الوسائل غير متكافئة، وهكذا يقدم الأنا نفسه كفريسة قابلة للاحتواء من قبل أول قادم.
في حين يقدم الآخر/ العالم الخارجي، كقوة فاعلة فيه ومؤثرة عليه فالآخر يتمتع بالقدرة على الفعل:
"يمرّ الأثرياء على جبيني
من ضلوعي يرسم الأمراء والضباط
هندسة القصور"
وباستعمال فعل (يمر "فإنه يدل أوّلاً على الحركة، أي الانتقال من نقطة إلى أخرى وتجاوز كل المعيقات وثانياً فإن بنية الفعل ذاتها والتي تنتهي بحرف لثوي مشدد، تؤكد على وقوع الفعل بالعنف، أي رغم إرادة "الأنا"، كما أن استعمال "يرسم" الذي تحتوي مادته اللغوية على الفعل الأول "يمر" ويقترب منه على مستوى المعنى فإن الدلالة التي يشير إليها هي سرقة أحلام الأنا واتخاذ ضلوعه أعمدة لرسم حدود قصورهم،و هكذا يجتمع الآخر بتشكيلاته الثلاث: الأثرياء- الأمراء- الضباط لقمع الأنا وجعله جسراً تمر عليه هذه الفئات الثلاث.
وتحاول القصيدة بعد ذلك أن تجعل الأنا يقوم بفعل وذلك في محاولة لتجاوز عجزه وإثبات وجوده:
أسير خلف جنازتي
ومطالب بالابتسام
مهيء للانكسار
وقابل للاندثار
فالفعل الذي قام به الأنا يعتبر من وجهة نظر دلالية سلبياً، رغم أن كل فعل هو قيام بحركة قصد تغيير الموقع، لكن السير خلف الجنازة وخاصة إذا كانت جنازة الأنا المتكلمة هو خضوع، لأن السير فعل إرادي، ولكن الذي يلحق هذا الفعل يؤكد درجة الإكراه التي تؤثر على سير الأنا خلف جنازته، فالجنازة هنا لا يمكن اعتبارها حقيقة لأننا لو اعتبرناها كذلك لكان كلامنا ضرباً من اللا معقول وخلافاً للمنطق.
فالجنازة هنا لا يمكن اعتبارها إلا استعارة عن فقدان السلطة على الذات والعجز عن التأثير في الآخر، كما أن استعمال جنازة مقترنة بياء الملكية تجعل من هذا الاسم استعارة فقط ولا غيرها. لأنه لا يمكن للميت الذي تجمدت حياته أن يتكلم عن جنازته أو عن موته.
الأسطر الشعرية التي تلي الفعل تفضح أساليب الإكراه التي تعرض لها الأنا، ويبين الشاعر أساليب الضغط والقمع التي يتعرض لها الإنسان العربي في ظل "رمل أحزاب العرب" ولهذا الغرض يستعمل الشاعر مطالب، مهيء، وقابل وتلتقي كلها في المستوى العميق للمعنى وهي الاستعداد لتقبل فعل الآخر-فصيغه "مطالب" أي مطلوب مني والطلب هنا بمثابة الأمر لأنه صادر من سلطة أعلى لا يمكن رفض طلبها وهكذا يتحول إلى أمر – ومطالب بالابتسام تعني القبول بكل المساومات والامتثال أمام العالم حتى تكتسب مطالب الآمر شرعية وتدخل في مسار الأمور العادية، أما "مهيء للانكسار" فإن هذه الصيغة هي دلالة على هشاشة الأنا وضعفه أمام الآخر، أما صيغة "قابل" أي يقبل الاندثار والتلاشي بسهولة وذلك لهشاشته وللضغوط الممارسة عليه وأنواع القمع المسلط عليه.
ولكي يعبر عن استسلامه للأمر الواقع، استعمل الشاعر "تناصّاً" INTERTEXTUALITé قرآنياً "وليس يبقى غير ربك ذو الجلال" واستعماله المحرف هذا للآية الشريفة له دلالتان على الأقل: الأولى هي السخرية من جلاديه وتوعدهم وتحديهم؛ والثانية هي تقرير سلطة الله ذي الجلال والإكرام والتي لا تطالها أية سلطة بشرية مهما تمادت في طغيانها وتجبرت مثل فرعون –وهذا الشطر الشعري الذي يقف في مفترق الطرق بين الشعر والقرآن، أي أخذ من الشعر تعبيره ومن القرآن حكمته يعتبر خلاصة أو نتيجة للوضع الذي وجدت فيه الأنا.
إن الوضع الذي وجدت فيه الأنا، القهر من قبل الآخر والقهر والاضطهاد جعل الأنا تعيش في غربة ووحشة، غربة من التاريخ الاجتماعي وعدم مشاركته في البناء الاجتماعي بسبب تسلط قوى معيقة "وإني غربة أخرى". والعيش على هامش الراهن والاجتماعي جعل الأنا تعيش غربة مزدوجة،غربة خارجية بسبب عزلتها وتهميشها وغربة داخلية ناتجة عن فقدان التوازن الداخلي والاطمئنان النفسي حتى أصبح يشك في كل شيء وأصبح هاجس القهر يسكنه حتى النخاع "ما أوحش الطرق التي بدمي "وأصبح أقرب إليه من حبل الوريد.
إن هذه الغربة التي يستشعرها الشاعر في المقطع السردي الأول والتي ترجع أسبابها إلى القهر الممارس عليه نجدها تطارده أيضاً في المقطع الغنائي الأول:
يا نورس البصره
:
رفرف على جرحي
عطشان للأسرة
:
وبراءة الصبح
قدمي على الجمرة
:
ودمي على الروح
ما حال... يا حسرة
:
من تاق للسفح
فرغم أن الشاعر هرب إلى الفضاء الحلمي إلا أن الغربة التي يعاني منها ما زالت تطارده حتى في الأحلام، ويتبدى ذلك صريحاً من استعماله:
عطشان للأسرة- وتتجسد بمرارة في البيت الأخير حيث تتحول الغربة إلى حسرة، أي يبلغ السيل أقصاه.
هناك بعض الدلائل اللغوية التي تشير إلى أن الغربة التي يعاني منها الشاعر في هذا المقطع غربة مكانية، حيث أن وجوده في البصرة في ظروف استثنائية جعله يحن إلى أسرته وإلى صباح بلاده،والغربة هنا تختلف عن الأولى في النوعية وليس في الدرجة فحسب وربما تكون الأولى (الغربة النفسية) أشد وطأة على نفسية الشاعر من النوع الثاني (الغربة المكانية) هذا المقطع الثاني يعتبر مفصلياً بالنسبة للقصيدة ككل .
طابعه الغنائي المشبوب بالحسرة والمرارة يفتح أبواب الحلم أمام الشاعر ليسترسل في سرد ذكرياته الطفولية عندما كان صغيراً ويسهر تحت خيمتها، وإن الإيقاع الغنائي هو الذي سهل هذا الانتقال لذلك قلنا إن المقطع الغنائي الأول مقطع مفصلي.
وقد استعمل أسلوباً يجمع بين النفي والاثبات، حيث نفى في البداية البوح "لا أبوح بحبها" "ثم بعد ذلك بدأ البوح- وهذا الأسلوب يقترب من الأسلوب البلاغي المتمثل في الطي والنشر – ويمثل البوح وصف الحبيب مركزاً صفة أساسية على "لوز الكلام" و"الفقر الأشهى من الورد السكير"، يركز على الطفولة باعتبارها مرحلة البراءة وذلك في سطرين من المقطع:
"وأنا صغير تحت خيمتها سهرت مع القمر"
"كنا نجمع الأزهار ثم ننام قبل ذبولها".
فالسطر الأول يبدأ مباشرة في تقريره عن مرحلة معينة من سيرة الشاعر: أما الثاني فإنما عبر عن الفكرة بصورة شعرية لأن الأطفال هم في الغالب من يجمع الأزهار من الحقول ولكن عندما تكتمل فرحتهم ينامون قبل أن تزول رائحتها.
ولكن هذه الحال لا تدوم وهذا التواصل يؤول إلى الانفصال لأن من دعاة "الله" "واليوم غاب ولا أثر.. "جعل الشاعر يتخبط في الطرقات يكابد أحزانه ويجاهد لإخفاء فشله:
"واليوم غاب ولا أثر..
وأنا حزين أعبر الطرقات
أفعل أنني أحيا
وانظر جاحظ الكلمات
حتى لا يقال قد انكسر...."
حتى لا يقال قد انكسر..
إن الانتقال من حال إلى أخرى يعني الانتقال من فضاء إلى آخر وهكذا يقوم هذا المقطع على معارضة بين حالين وفضاءين، وقد مهد الشاعر لهذا الانقلاب بقوله "فيصدعني أشهرا" أي أن مؤشرات الانفصال /الانقطاع كانت بادية منذ منتصف المقطع الشعري، وهكذا يلعب الشطر الشعري المذكور دون المفصل الذي يربط بين فضاءين ويسهل العبور من حال الأنس إلى حال الهجر- يظهر التعارض بين الحالين من خلال اللغة المستعملة لذلك- فالحال الأولى استعمل الشاعر للتعبير عنها: سهرت مع القمر- كنا نجمع الأزهار- أما الحال الثانية فإن الشاعر استعمل التعابير والكلمات التي تناقض الحال الأولى: وأنا حزين- أنظر جاحظ الكلمات- فالتحول الذي حدث في هذا المقطع ليس تحولا في الهيئات والمشاعر ولكنه تحول في اللغة أيضاً-
إن الانتقال من المقطع السردي إلى المقطع الغنائي يحدث خلخلة على مستوى التلقي، بل يمكن المتلقي أن يلاحظ انقطاعاً وهو عكس المقطع الغنائي الأول الذي اعتبرناه مفصلياً، حيث إن الشاعر ينتقل من حالة الانكسار التي أطلقها في شكل تحدّ ذي نبرة حزينة – إلى حالة الغناء- إذ يرتفع صوته شادياً:
يا واقفاً بالباب
:
متأبطاً من عهد بابل
حزنا بكى وانساب
:
ثملان من زرد السلاسل
لملم جراح الغاب
:
واشعل أغاريد البلابل
واكتب إلي السياب
:
فلربما تصل الرسائل
في هذا المقطع تمتزج الأسطورة بالغناء، وهذا شيء جعل من هذا المقطع بؤرة فنية راقية، فبالإضافة إلى التكثيف في التعبير والاقتصاد في اللغة استطاع الشاعر أن يفتح أمام المتلقي فضاءً شعرياً رحباً، إذ ينتقل من الأسطورة إلى التاريخ ليصل إلى رموز الثقافة، وتربط بين هذه الأبعاد الثلاثة شبكة من العلاقات تتمثل في أسطورة "بابل" وعجائبها و"أوروك" وأبطالها وربط هذه الأساطير بالبعد التاريخي والحضاري لبلاد الرافدين ثم يجمع هذين القطبين برمز شعري هو "السياب"، الذي يجعل منه شاهداً ثقافياً وشعرياً على هذين القطبين، (وبذلك يدخل الشعر التاريخ في رمز السياب) إلى الزمن الكوني المطلق لأنه يربط الماضي بالراهن ويتجاوز الحاضر قصد تأسيس المستقبل واستعمل لهذا الغرض أسلوب التدوير، فهذا المقطع الغنائي يبدأ بصرخة متمثلة في حرق النداء "يا" وهي بالإضافة إلى وظيفتها الأصلية التنبيه فإنها تجري على عادة فحول الشعراء القدامى، وعوض أن يخاطب الشاعر صديقته مثلما فعل امرؤ القيس فيمعلقته (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل) فإن الشاعر عياش يحياوي يستوقف نفسه باحثاً في أعماقه عن ذكريات بابل،– والمشابهة هنا بينه وبين معلقة امرئ القيس واضحة وتدعمها ثلاثة عناصر على الأقل:
1- استعمال صيغة النداء: عند يحياوي "يا" وعند امرئ القيس صيغة الأمر المصاحبة بالنداء:
ثم 2-إثارة الذكريات واسترجاعها ثم موضوع الذكرى وهو مكان دارس هذا هو المستوى الأول من القراءة الذي يظهر الموقف الطللي، أما المستوى الثاني من القراءة فإنه يظهر الأبعاد الأسطورية والتاريخية لهذا المقطع الغنائي.
ظاهرياً يبدو أن الشاعر يخاطب آخر (سائحا مثلا) ولكننا عن طريق فحص القرائن اللغوية نلاحظ أن الآخر الذي يخاطبه الشاعر هو صوته الذي يردد صداه هيكل بابل وهكذا يتوجه الشاعر إلى نفسه باستعمال أسلوب المخاطب.
فقولـه "يا واقفا بالباب" فالباب الذي يقصده الشاعر هو باب الحضارات، وهو بوابة بابل نفسها التي وقف الشاعر أمامها مذهولاً أمام إنجازاتها الحضارية وأمام شموخها التاريخي وتواصلها عبر الحقب المختلفة، وهذا الواقف بباب الحضارات هو الشاعر نفسه المسكون بالحزن والشعر منذ عهد بابل،– وهذا دليل على حزنه الأبدي واستعمال الشاعر لصيغة "متأبطا" أحدث خلخلة في البناء الصوري لأن تأويلها السطحي يذهب إلى عكس ما قلناه وهو أن حزنه جزء بسيط بحيث يستطيع أن يجمعه ويحمله تحت إبطه، في حين أن ما يقصده الشاعر هو ذلك الحزن الطاغي المسكون بالرؤى والأشعار.
وربما يكون الشيء الذي عمق هذا الإحساس بالحزن هو السلاسل التي ظل يجرجرها إلى كلّ مكان – وهنا تعود صورة القمع تطارده حتى في أحلامه وتأخذ حيزاً معتبراً في قصيدته- ولكن الشاعر يتجاوز هذا العجز لأنه يقف على أبواب الحضارة ويطلق العنان لبلابله لكي تغرد وتصدح "وأشعل أغاريد البلابل".
وعندما تنطلق بلابل الشاعر في شدوها يتذكر الشاعر صديقه الشاعر العراقي بدر شاكر السياب ويكتب له رسالة يبثه فيها لواعجه ويصور له فيها معاناته وأحزانه،ولكنه ليس متأكداً من أن السياب ستصله رسائل الشاعر لأن السياب قد مات أولاً، والتواصل الذي يقصده الشاعر عياش يحياوي تواصل شعري وثانياً لأن عين الرقيب تصادر رسائل الشعراء وأحلامهم.
أما الذي جعل عياش يحياوي يتذكر السياب ويفكر في الكتابة إليه فذلك يرجع إلى سببين: السبب الأول هو أنه في بلاد الرافدين مسقط رأس بدر شاكر السياب والأماكن التي احتضنت أشعاره وبابل التي أعاد كتابة أساطيرها، السبب الثاني هو حالة التماثل بين الشاعرين واشتراكهما في الحزن فالسياب عاش متألماً حزيناً يعاني من أمراض فتاكة أودت بحياته وهو في ريعان الشباب، والشاعر يحياوي يعاني من أحزانه وهمومه الشعرية والحياتية منذ طفولته، فكان الحزن هو القاسم المشترك بين الشاعرين بالإضافة إلى الشاعرية المتدفقة عندهما.
إن المرور من المقطع الغنائي الحلمي إلى المقطع السردي/ الملحمي لا يمر عن طريق أي مفصل لغوي أو شعري وهذا له دلالته العميقة المتمثلة في تفكك العلائق بين الأنا والآخر، ومن بداية المقطع يظهر الأنا سلبياً وخاضعاً لضغوط الآخر.
متصعلك..
وحنجرتي بيوت العنكبوت.
فالسطر الأول هو وصف لحال (وصف سلبي، ولكن ليس بالمعيار الأخلاقي) ولكنه سكوني عاجز عن الحركة، كما أنه سليب الصوت فحنجرته لم تشتغل منذ زمن بعيد فهي لا تغني لأن الغناء هو شكل من أشكال الانتصار، كما أن حنجرته –أيضاً- لم ترفع صوتها احتجاجاً أو تمرداً وبذلك نسجت عليها العنكبوت خيوطها، وهذه الصورة معادلة للصمت الأبدي والاستسلام المطلق- ونلاحظ أن السطرين الشعريين خاليين من أي فعل أي حركة- وإذا كان الشاعر قد سلب حق الكلام، فإن الآخر يأخذ الكلمة ويبدأ في إلقاء خطب رنانة:
"قالوا نحن نخبكم هذا لا تقولوا ما يخالف
نحن أدرى بالوطن"
فالآخر يستأثر بالقول من جهة، ومن جهة أخرى يقمع قول غيره ويطلب منه أن يردد نفس الخطاب الذي ألقاه "لا تقولوا ما يخالف" لأنه يرى أن ذلك من مصلحة الوطن، وهذه إشارة إلى الاستبداد بالرأي وإلغاء صوت الآخر تماماً.
ولكن الذي سيأتي من المقطع يظهر تناقض القول مع الفعل لهذا الذي "أدرى بالوطن" ويصوره في شكل مصاص الدماء:-
"وغدا رأيت دمي يصدر للبنوك
ولم أقل أني أموت
إن الذين يصدرون سيغضبون
إذا أنا مثلت"
إن الآخر لا يسلب الأنا الكلمة فقط بل يصدر دمه ويستغله إلى أقصى الحدود.
فهو يسلبه أيضاً حقه في العيش ومن عرقه ينفخ رصيده في البنوك الخارجية ورغم كل ذلك فهو "مطالب بالابتسام" ولا يتألم لأن ذلك يجعل منه مواطناً لا يعمل بنصيحة "لا تقولوا ما يخالف"- وهكذا يعمل هذا المقطع على تعرية التناقضات وتفكيك الخطاب الذي لا يتماشى مع الفعل – ومن جهة أخرى يعمد الشاعر إلى فضح علاقة الدال بالمدلول وتنافرهما.
وبفعل هذا التناقض يدخل الشاعر إلى عالم المتناقضات ويجد نفسه مشدودا إلى قطبين ويرفع شعار "تحيا الخيانة والوطن" لأن الخيانة في نظر مصاصي الدماء خدمة الصالح الخاص بواسطة الوطن فإنه شعار يحمله هؤلاء الوسطاء للتمويه.
ونظراً لأن الأنا قد مورست عليه ضغوط، ولأنه مواطن بسيط يبيع "في السوق الطماطم والسراب" فإنه قد سلب حق الكلام خاصة إذا كان الأمر يتعلق بتجار الدم ومصدري العرق البشري:
"وأنا فتى لي قدرة الموتى
وليس لي الكلام عن الكبار"
فهذان السطران يعبران عن أحزان الموت وآلامه، كما أنهما يعبران عن شجاعة الأنا في مواجهة الموت منعزلاً، أما عندما يتعلق الأمر بالكلام عن الآخر فإن هذه الشجاعة تذوب، لأنه خضع لعمليات التدجين والتكييف.
هذان السطران يكونان ثنائية ضدية يمكن ملاحظتها على مستوى اللغة: لي كليس لي- أنا والكبار- الكلام والموت (فقدان الكلام) ويظهر هذا التعارض في تردد الأنا وانسحاقه أمام الآخر- ويمكن اعتبار هذين السطرين تحويلاً لفكرة نزار قباني الذي يقول في قصيدته "الخطاب".
إن أية قراءة للإلياذة- مهما كان المستوى الذي تتحرك فيه- فإنها ستمر حتماً عن طريق كثافة الرموز وتنوعها، وخاصة المتعلق منها بتاريخ الجزائر وحضارتها في الدرجة الأولى ثم التراث العربي الإسلامي فالتراث الإنساني. وتوظيف التراث بهذه الصيغة تأكيد على الهوية وإصرار على الانتماء.
وتتشكل بنية الإلياذة وفق سلسلة من التحولات التي تحدثها هذه الرموز وتُبنى حسب ثقافة هذا الرمز وطرائق استعماله، ونجد التّناصّ الذي هو عبارة عن حوار بين النصوص وتداخل فيما بينها، قصد إعطاء بنية نصية جديدة في شكل إحالات إلى رموز ثقافية أو تاريخية يفترض في قارئ "الإلياذة" معرفة الفضاء الثقافي الذي تشغله داخل الحيز الحضاري الذي أوجدها: كإعطاء بعض عناوين الكتب أو الأسماء التي لها حضور في ثقافتنا، وهذه الإحالات لا تشكل حواراً حقيقياً بين النصوص بقدر ما ترمز إلى ثقافة الشاعر وتساعد على حصر مصادر ثقافته وتحديدها.
أما النوع الثاني من أنواع التّناصّ فهو توظيف نصوص أو أجزاء من نصوص داخل فضاء الإلياذة، وتحديد وظيفتها يتوقف على السياق الذي وردت فيه وغالباً ما يكون لتشابه الموقفين أو تماثلهما أو إعادة إنتاج نفس الموقف.
نجد النوع الأول من الرموز الثقافية متوزعاً على كافة أجزاء الإلياذة وهذه الرموز في مجموعها تشكل البنية الثقافية وتساعد على تحديد العلاقات الثقافية، بين الأشخاص في سياق حضاري معين.
من هذه الرموز: "المثل السائر" (ص20) فهو ظاهرياً عنوان كتاب لابن الأثير ولكن المتأمل للبيت الذي ورد فيه يلاحظ أنه يشبه النكتة البلاغية لأن "المثل السائر" يعني الانضواء تحت راية المألوف والمتعارف عليه، ولكن الفعل الذي سبق هذا الرمز وهو "يجل" أي يسمو ويرتفع ينقل المعنى إلى الطرف المناقض حيث تصير بدعة وروعة إلى غير ذلك من أوصاف الإعجاب، وتطغى على المقطع صيغة النداء (يا) التي تكررت في هذا المقطع عشر مرات وهذا للدلالة على تأجج العاطفة والتلذذ بهذا النداء ويعني الإصغاء لصوت الجزائر، وهذه الظاهرة نجد لها مقابلاً في (ص22) إذ يتوجه الشاعر مباشرة للجزائر ويخاطبها بضمير أنت التي يكررها ست مرات.
المتنبي الشاعر العربي ورد ذكره في سياق الحديث عن الإلياذة التي نظمها الشاعر (ص21) وقد ورد في سياق شعري محض، وقد اتخذ منه الشاعر حجة ودليلاً على عروبته وفحولته، والمقطع الشعري الذي يقول: "فآمن بي وبها المتنبي" دليل على أن المتنبي حجة في الشعر وإيمانه بمفدي زكرياء. هو دليل فحولة هذا الأخير وشهادة اعتراف لأن شعره "صريح الرجولة، فحل" (ص116).
وقد ذكر الشاعر عدة عناوين لكتب في مواضيع مختلفة من الإلياذة مثل قدس اللهيب (ص115) الذي هو عنوان ديوان الشاعر "اللهب المقدس"، ويمكن هنا استشفاف لغة المقدس التي تنمّ عن إيمانه بوطنه وقضاياه، وهناك إشارة إلى مدوّنة ابن ترمرت "أعز ما يطلب"، وقد عبر عنها بأعز المطالب (ص50).
وقد آخى القديسين أوغسطيس وأبولوس بمساحة شعرية هامة تقديراً للجهود التي قاما بها في المجال الثقافي وتخليدهما لمآثر الجزائر:
وهذا أعستنس بالاعتر
:
افات حيَّر -عبر الزمان- الفهوما
وأسقف "بونه" أصبح قد
:
يس قرطاج مذ بث فيها العلوما
وكان أعستنس فخر البلاد
:
وكان بها الفيلسوف العظيما
و"الاعترافات" التي يشير إليها هي عنوان أهم كتب القديس أوغسطيس والتي ترجمت من اللاتينية إلى اللغات الأوروبية.
كما خص مساحة لأبولوس الذي كان طبيباً يدين له العلم بالعبقرية كما أدى واجب الاعتراف لكل من ابن خلدون وابن باديس وكل الرموز الثقافية التي بتراكمها وإضافاتها صنعت هوية الجزائر الثقافية والتاريخية المتميزة، -وتوظيف هذه الرموز الثقافية بكل ثقلها وما تحمله من شحنة حضارية هو دلالة على الاعتزاز بالانتماء لهذه الرموز.
من جهة ثانية حاول الشاعر أن يجعل من نفسه رمزاً ثقافياً يشكل مع مجموعة الرموز الأخرى الفضاء الحضاري الذي تكونت فيه الهوية الحضارية الجزائرية، يقول:
فخلد قدس اللهيب بياني
:
وأذكى لهيب الجزائر فكري
هنا يتمفصل الرمز الثقافي على مستويين: المستوى الأول هو الإحالة إلى ديوان الشاعر الموسوم "اللهب المقدس" أي أن الديوان يعتبر إنتاجاً ثقافياً ورمزاً من رموز الهوية الجزائرية لأنه يؤرخ لفترة محددة من تاريخ هذا الشعب، والمستوى الثاني هو شكل هذا الرمز، فهو ليس رمزاً تشكيلياً، أي بلاستيكياً، أو أي شكل آخر من أشكال التعبير ولكنه تعبير أدبي بياني لغوي، وقد أسبق الشاعر هذين العنصرين/ الرمز (اللهب المقدس) وطبيعة (بياني) بفعل الخلود وهذا ليصير إيمان الشاعر بقدرته الإبداعية ومعانقته والتصاقه بالأفق الثقافي.
ولعل أهم ما يعطي الإلياذة هويتها العربية الإسلامية ويجعلها مغايرة للملاحم الإغريقية، والفارسية واللاتينية هو الإكثار من التضمين وخاصة من القرآن الكريم والشعر العربي وهكذا ليؤكد بإصرار على انتمائه، ونصادف ذلك في عدة مواضع من الإلياذة:
وسبح لله ما في السما
:
وات والأرض، ملء شغائف شفا
كأنك تصغي بها للخليل
:
وموسى الكليم، يرتل صحفا
هذا الاقتباس القرآني تجعل من شفا (وهو جبل من جبال وسط الجزائر) محط إعجاب وإثارة للخشوع إذ لم يجد الشاعر طريقة يصف بها هذا الموقع غير التسبيح بحمد الله وذكر عجائب مخلوقاته، هذا الاقتباس الأول نصي، أي أخذ النص القرآني كما هو دون تحريف، أما الاقتباس الثاني فهو مضمر ويفيد المضمون دون الحفاظ على ترتيب عناصره اللغوية أو إيرادها كما هي وهو ما نصادفه في البيت الثاني حيث يترجم قوله تعالى:
"إن هذا لفي الصحف الأولى، صحف إبراهيم وموسى" ووظيفته هنا تشبيه جبال الشفا بالصحف التي يمكن أن يقرأ فيها كل متمعن آيات الجمال والجلال:
وأخرجت الأرض أثقالها
:
فطار بها العلم --فوق الخيال
توفر للشعب أقداره
:
وتكفي الجزائر -- ذل السؤال
أول هذين البيتين هو "وأخرجت الأرض أثقالها" وقد جاء في البيت الشعري مخالفاً لدلالته في السياق القرآني التي تشير إلى هول الساعة حين تزلزل الأرض زلزالها وتخرج الأرض ما بباطنها، فإنها في السياق الشعري تدل على البعث الاقتصادي حيث أخرجت الأرض الجزائرية كنوزها من محروقات ومعادن، والتقابل هنا بين الموقفين جلي، لأن الزلزلة التي أحدثتها إرادة الشعب الجزائري تمثلت في إزاحة أكبر قوة استعمارية وبعث أمجاد عريقة.
والقرينة النصية التي تدل على هذا البعث الاقتصادي والرفاهية هي ما يصرح به الشطر الأخير للبيت الثاني حيث يقول ذلك مباشرة دون استعمال أية حيلة لغوية أو بلاغية عندما يقول:
"ويكفي الجزائر... ذل السؤال".
ولتصوير عنف هذه الزلزلة استعمل الشاعر تعبيراً قرآنياً "كأعجاز نخل" لدلالة على خور عزيمة غلاة المستدمرين الذين تهاوت إرادتهم كأعجاز نخل نخر جذورها الزمن وتوالي الأيام، يقول مفدي:
ورجت حواجزهم بالفلا
:
ة، غريق يشد بذيل غريقه
ومن خائرين كأعجاز نخل
:
ضمائرهم في المزاد رقيقه
ولتصوير إرادة الشعب الجزائري في زلزلة الكيان الاستدماري فإن الشاعر وظف إحدى المواقف البطولية لأحد رموز المقاومة الشعبية وهو الشيخ الحداد الذي أعلن في السوق عقب صلاة الجمعة حين قال: "سنرمي الفرنسيين إلى البحر كما رميت هذه العصا إلى الأرض" (ص59، هامش الإلياذة)، يترجم مفدي زكرياء هذه الفكرة شعرياً ويقول:
وحداد في السوق ألقى عصاه
:
وأعلنها في الذرى والبطاح
كمثل عصاي.. ألقي الفرنسيين في البحر، أركلهم بالرماح
التناص في هذين البيتين يأخذ كل أبعاده النظرية والعملية ويأتي البيتان كمفصل شعري يربط بين سياقين: السياق القرآني والسياق التاريخي ووظيفته هنا هي فتح الحوار بين السياقين وإعادة إنتاج نفس الحالة هي حالة التحدي.
ففي السياق الديني نرى أن موسى عليه السلام قد تحدى سحرة قومه بأن ألقى عصاه فإذا هي حية تسعى، أي التحدي بوسيلة بسيطة وفي السياق التاريخي نجد نفس الموقف (التحدي) والتمثيل بنفس الأداة، وهو تحد للآليات العسكرية المتطورة، ما يجمع أطراف النصين (القرآني والتاريخي) هو التحدي، أي الوضع أو الموقف، بأسلحة غير متكافئة ولكن الإرادة والإيمان بالرسالة التاريخية هو الذي فرض هذا التحدي، والشيء الثاني الذي يجمع هذه الأطراف هو الأداة، أي العصا في الموقفين الديني والتاريخي، إن وظيفة هذين البيتين هي محاورة السياقين وإنتاج سياق شعري جديد يجمع بين السياق الديني والسياق التاريخي ولهذا ضمن الحضارة العربية الإسلامية ويعبران عن الهوية الحضارية للشاعر ولإلياذته.
إلى جانب استعمال مفدي للرموز الثقافية كمولدات للمعنى والاقتباس من القرآن الكريم لربط الجزائر بأصولها العقيدية، فإن الشاعر يستعمل شكلاً آخر من أشكال التناص وهو استعمال بعض الصور أو المواقف الشعرية التي أخذها من شعراء آخرين وهذا لربط نص الإلياذة بمجموع الموروث الشعري العربي وأهم روائعه، ويظهر من خلال قراءة النص ارتباط الشاعر بالنصوص الشعرية القديمة وهي أكثر من أن تحصى.
وبعد أن تعرض الشاعر إلى الآباء والأجداد والأبطال التاريخيين للجزائر مستعملاً أسلوب النشر، فإنه يجمل- باستعمال أسلوب الطي- عندما يطلق صرخة الاعتزاز والافتخار بالانتماء لهؤلاء الأبطال والمؤسسين الحضاريين حيث يقول:
أولئك آباؤنا منذ عيسى
:
وكان محمد صهراً لعيسى
ولم نك ننكر آباءنا
:
أكانوا نصارى أم كانوا مجوسا
وهذا السياق يحيلنا إلى إحدى نقائض الفرزدق الذي استعمل نفس الأسلوب، النشر ثم الطي حيث عدد رجالات نسبه منذ الجاهلية إلى العصر الأموي مستعملاً أسلوب النشر ثم أطلق تحدّيه لخصمه جرير واستعمل لذلك أسلوب الطي عندما قال:
أولئك آبائي فجئني بهم
:
إذا جمعتنا يا جرير المجامع
ونلاحظ هنا التناظر في البناء الشعري النشر/الطي والتفصيل الجمع، ولكن نص مفدي يختلف عن نص الفرزدق في الهدف، فنص الفرزدق هدفه إفحام الخصم (جرير) ووضعه موضع تحدٍّ، أما في نص مفدي زكرياء فإن دلالة ذلك هي الفخر والاعتزاز بالانتماء، "لأولئك الآباء" وبهذه الطريقة فإن "الإلياذة" تعمل على الإلغاء الآخر لتأكيد الهوية الحضارية.
هناك اقتباس شعري آخر أخذه مفدي زكرياء عن أبي تمام وهذا لما عرف عن هذا الشاعر من حماسة ميزت شعره بنبرة خطابية تحريضية، والاقتباس الذي أخذه مفدي زكرياء عن أبي تمام مأخوذ من قصيدته التي قالها في فتح عمورية والسياق الذي تطورت فيه هذه القصيدة هو الإشادة بشجاعة المعتصم وحادثة "وامعتصماه" والتي يقول فيها:
السيف أصدق إنباء من الكتب
:
في حده الحد بين الجد والكذب
بيض الصفائح لا سود الصحائف
:
في متونهن جلاء الشك والريب
وأثناء مقارنة أبي تمام بين عالمين يضعهما موضع التقابل وذلك من خلال تكثيف أنواع الجناس والطباق لينتهي للانتصار إلى السيف وإبراز فضائله وكشف زيف المنجمين وصحائفهم لأنه "ما حرر القول يوماً عبيداً"
ويستعمل مفدي زكرياء نفس الصورة الشعرية التي تعبر عن شجاعة الموقف وحسم القرار واستعمال لغة القوة بديلاً للخطابات السياسية، يقول مفدي زكريا:
تأذن ربك ليلة قدر:
وألقى الستار على ألف شهر
وقال له الشعب: أمرك ربي:
وقال لـه الرب: أمرك أمري
وتأبى الصفائح نشر الصحائف،
ما لم تكن بالقرارات تسرى
الاقتباس في هذه الأبيات يتمفصل داخل خطابين مختلفين: الأول هو الخطاب الديني المتمثل في النص القرآني المأخوذ من سورة القدر، إذ استعمل الآيات الكريمات الأولى والثالثة، ووظيفة الاقتباس هي المشابهة بين ليلة الفاتح نوفمبر 1954 وليلة القدر كما جاء وصفها في القرآن الكريم، بل إن المشابهة تصبح ضئيلة إلى حد الإدماج بين الليلتين، لأن ليلة أول نوفمبر جاءت لتمحو ألف شهر من الغبن الذي لحق الشعب الجزائري وتنير له درب الحرية والخلاص من نير المستعمر، أما الاقتباس الثاني فإنه يتمفصل داخل خطاب شعري، وهو قصيدة فتح عمورية لأبي تمام ووظيفة هذا الاقتباس تعود إلى المشابهة بين الموقفين وهي التردد بين القرارات السياسية وحسم الموقف عسكرياً باتخاذ قرارات ثورية شجاعة، والبيت الثالث لمفدي زكرياء المثبت سابقاً يعيد إنتاج بيت أبي تمام "بيض الصفائح لا سود الصحائف" ليس على مستوى المعنى فحسب، ولكن أيضاً باستعمال طريقة التقابل المرجوة بين الصفائح والصحائف مع المحافظة على ترتيبها أي وضع الصفائح (السيوف العريضة).
في المرتبة الأولى للدلالة على أهميتها وذلك حسب القواعد البلاغية، وبعد ذلك جاء بكلمة الصحائف (الأوراق) وذلك للتقليل من أهميتها، وأما الجملة الثانية في البيت الشعري عند مفدي: "ما لم تكن بالقرارات تسرى "فإنها لا تفيد دلالة إضافية على ما جاء في شعر أبي تمام، بل هي تلخيص لما جاء فيها واستخلاص لموقف شعري شامل تبناه أبو تمام في قصيدته المذكورة.
ومفدي زكرياء لا يأخذ من أشعار الآخرين فقط ولكنه أيضاً يأخذ من أشعاره وخاصة من ديوانه "اللهب المقدس" وهذا طبيعي إذا تذكرنا أننا انطلقنا من فرضية نظرية أن الإلياذة تشمل ديوان اللهب المقدس وتتجاوزه، لأن فضاءها أوسع من فضاء "اللهب المقدس" الذي يبدو محدوداً في الزمان والمكان في حين أن الإلياذة تحاول القبض على نبض التاريخ وتتبع مساراته الموغلة في القدم والتشعب.
وقد أعاد مفدي زكرياء ذكرى استشهاد المناضل مصطفى الفروخي الذي عين سفيراً للجزائر في بكين ولكنه توفي في الطائرة التي أقلعت من القاهرة ورثاه الشاعر بقصيدة نشرت ضمن "اللهب المقدس" ومطلعها:
أسفيراً نحو أملاك السماء
:
أم لبكين بعثتم مصطفى
وفي "إلياذة الجزائر" جاء مصطفى الفروخي رمزاً من رموز النضال والتضحية التي قدمها الشعب الجزائري في سبيل حريته، ولكن ذكر مصطفى هنا لم ينفصل عن السياق الرثائي الذي تطور فيه في القصيدة الرثائية الموجودة في ديوان اللهب المقدس.
يقول مفدي:
أناجيك يا مصطفى في سماك
:
ويوم عرجت تشق السماك
بعثت سفيراً لبكين لكن
:
ذهبت سفيراً لأفق علاك
وكنت لروح النضال لهيباً
:
شعا ليله، من شظايا هواك
وكنت لصدق الضمير مثالاً
:
فياليتهم يتبعون خطاك
ومن هنا نلاحظ أن مصطفى –الرمز يتحرك دائماً في نفس السياق الرثائي، لأن التجربة الشعرية لمفدي زكرياء بقيت متأثرة بالحدث الجلل الذي رسم درب المناضلين المخلصين، ولكن عزاء الشاعر أن يكون مصطفى /الرمز قدوة ومثالاً للتضحية في سبيل تحقيق النصر.
ومن هنا نلاحظ أن التناص لا يعمل فقط على مستوى المضمون، أي يعطي "للإلياذة" هدفها العربي الإسلامي ويجعلها تتحرك داخل نموذج ثقافي مخصوص ويحيلها –أي التناص- إلى سياق تاريخي يخص منطقة جغرافية محددة، ولكن هذا التناص يعمل على مستوى المضمون: "يشكل جزءاً من بنية "إلياذة الجزائر" وبإلغائه لوجود الآخر على مستوى النص" وعرض بعض نماذجه الثقافية أو الحضارية فإن ذلك يعمل على توليد دلالة الانتصار والاعتزاز به.
الخطيئة والتكفير:
هذا الجزء من الدراسة يستلهم الأفكار الأساسية التي جاءت في كتاب محمد عبد الله الغذامي الذي يحمل نفس العنوان "الخطيئة والتكفير" (جده- ط1- 1405هـ-1985م-السعودية) الذي يرى أن البعث خطيئة والتكفير عن هذه الخطيئة هو الشعر، أي التطهير من:
أدران هذه الخطيئة، وقد عرفها: "الخطيئة طريق المنفى والتكفير طريق العودة إلى الفردوس" (ص112).
في هذا المقطع من الدراسة نحاول تقصي هذه الظاهرة عند مفدي زكرياء وكيف كفر عن حبه لوطنه ولأهله شعرياً من خلال "الإلياذة"، وكيف يظهر جدل الحب والشعر عنده ويصير الدافع للحب هو الشعر، وهذا الحب لا يتجلى في جزء واحد بل ينظر إلى الجزائر نظرة كلية شاملة تتجلى في حبه للإنسان وللتاريخ وللأرض، وهكذا تصير نظرته نظرة حضارية لا تعمل على تكريس التاريخ بأمجاده فحسب ولكنها تقدس الراهن أيضاً.
ولعل أكبر تجلٍ لهذه الظاهرة هو نظمه لهذه الإلياذة/ الملحمة وتعبيره عن حبه للإنسان والأرض والتاريخ واعتبارهما وحدة لا تتجزأ، وهي تمثل رصداً لحركة التاريخ في انكساراته وتواصله.
يقول مفدي:
بلادي، وقفت لذكراك شعري
:
مخلد مجدك في الكون ذكري
وألهمتني فصدعت الدنا
:
بإلياذتي في اعتزاز، وفخر
وأن يجحدوني.. فحسبي أني
:
وهبت الجزائر فكري وعمري
إن تخليد الشاعر لذكرى بلاده هو تخليد لذاته كفرد داخل هذه البلاد، فالتجاوز هنا رجعي، فالشاعر شكل من أشكال التعبير كما أنه وسيلة من وسائل تثبيت التاريخ والقبض على اللحظات الهاربة المنزلقة، إن الشعر من هذا المنظور هو تجاوز الراهن للدخول في الديمومة. والتخليد هنا هو شكل من أشكال أسطرة (خلق الأسطورة) الجزائرية وربط التاريخ الجزائري بالتاريخ الإنساني، وبلاد الشاعر هي مصدر الإلهام، أي المحبوبة التي تفانى في عشقها وعانى في سبيلها.
وهي بالإضافة إلى كونها مصدر التجربة الشعرية والملحمة للإلياذة فهي في ذات الوقت مصدر اعتزاز وفخر، يظهر هذا الاعتزاز في النصر والانتماء إلى هذا الشعب المنتصر، لأن "الإلياذة" هي البؤرة التي فجرت الغناء بأمجاد الجزائر، فإذا حدث أن جحد حب الشاعر فعزاؤه أنه تفانى في حب الجزائر وغنى لهزائمها وانتصاراتها.
فالشعر هنا –في مفهوم الشاعر- هو وظيفة وليس غاية، وظيفة مزدوجة: هو شكل من أشكال التطهير وإخراج التجربة الشعرية من الداخل وعرضها على الآخرين وسرد تفاصيلها؛ والوظيفة الثانية هي "كتابة التاريخ بالدم" لأن التجربة الشعرية هي تجربة الموت وهي تراجيديا العالم.
ومفهوم مفدي زكرياء للشعر على أنه وظيفة وليس غاية في حدّ ذاتها ينبع من الظرف التاريخي الذي تكونت فيه ثقافة الشاعر حيث كان الشعر أداة من أدوات النضال وليس ترفاً وبذخاً.
وهذا ما يمكن أن يلاحظ على باقي أعماله الشعرية حيث نلاحظ الاهتمام بالرسالة الشعرية والتأكيد عليها على حساب الحوامل الفنية وأدوات التعبير المتأنقة، وهذه هي سمة الشعر المناضل الذي يكرس كل طاقاته التعبيرية للدفاع عن قضية من قضايا الإنسان.
ولعل الذي دفع الشاعر إلى إعلاء المضمون على حساب الشكل هو الحضور الفوري للموضوع على صيغة تقديمه وفرض جماله وأسره لِلُبّ الشاعر الذي ملك عليه كل أحاسيسه وجعله يخاطبه بطرائق وصفية معبرة عن عجزه أمام فتنة وإغراء موضوعه (الجزائر) لأنه موضوع "تعجز عنه اللغة":
بلادي، أحبك، فوق الظنون، وأشدو بحبك في كل نادي/
عشقت لأجلك كل جيل وهمت لأجلك، في كل وادي…
ومن هام فيك، أحب الجمال، /
وإن لامه الغشم، قال: بلادي /
وأرسلت شعري… سوق الخطى/
بساح الفدا.. يوم نادى المُنادي.. /
هذه العاطفة المتأججة تتجلى في صيغ التكرار البياني المتمثل في استخدام النداء في الكلمة الأولى مع حذف أداة النداء (يا) واستعمال أحبك مع فصلها عن النداء بفاصلة وذلك لكي يتمكن من مد صوت النداء والتأكيد عليه، ثم استعمال فعل (أشدو) و (بحبك) لأن الشدو لا يأخذ معناه إلاّ إذا اقترن بلوعة هذا الحب، ثم استعمال الشاعر لفعلي (عشقت) و (همت) وهي درجات أقصى للحب ويأتي تأكيده على المحب= "وإن لامه الغشم، قال: بلادي "تكرار للمُنادى الأول بلادي. وهذا للنغمة المحببة التي يتصف بها الموضوع. ويبدو عدم تملك الموضوع وتمنعه عن الشاعر لمغالاته في حبه في أسلوب التدوير العروضي لأن عاطفته الملتهبة لم تستطع أن تمهله ريثما ينتقي الكلمات التي يمكن أن تخضع لتقطيع التفعيلة والانتهاء بنهاية الشطر الأول.
وبعد هذا "الضغط" الشعري يتنفس الشاعر ويرسل نفسه الشعري متوازن الخطى في البيت الثالث الذي يعتبر هبوطاً في التجربة الشعرية لتأتي الجملة تقريرية ووصفية لما قام به الشاعر الذي لبى النداء يوم طلب منه المحبوب تقديم دلائل حبه والاستجابة إلى هذا الطلب.
وبعد أن تفانى الشاعر في حب معشوقته بلاده، "وهام، مع الشعر في كل وادي" كما وصف القرآن الكريم جل الشعراء، فإن مفدي زكرياء يطلب المغفرة من الله متوسلاً بالشعر والابتهال، وتقترب الصورة الشعرية التي يتوب فيها الشاعر إلى الله بعد أن أغرقته ذنوبه من إحدى زهديات أبي نؤاس التي يقول فيها ما معناه: إلهي إن جلت ذنوبي فإن رحمتك أعظم، يقدم مفدي ابتهاله وتوبته إلى الله في أبيات شعرية تدل على الخشوع والتوبة الصادقة:
فيا رب قد أغرقتني ذنوبي: وأنت العليم بما في الغيوب
أتوب إليك بإلياذتي: عساها تكفر عني ذنوبي
عصيتك علماً بأنك تعفو: على المسرفين فهانت خطوبي
ولولا صفاتك: رب غفو: ر، رحيم، لضاقت علي دروبي
وصورتني شاعراً مرهفاً: يهب الصبا والهوى لهبوبي
ولولا الجمال لعشت عقيماً: وما همت يوماً بغزو القلوب
قارئ هذه الأبيات يخرج بفكرة هي طغيان الكلمات الدينية التي تدل على عقيدة الشاعر وتوبته، وتتمثل في النداء، يا رب ثم الذنوب وعليم الغيوب، وأتوب، والتكفير، وتتكرر كلمة (ذنوبي) مرتين لتعميق إحساس الشاعر بالخطيئة، ثم العصيان الذي يأتي مقابل التوبة وهو على مستوى التجربة يأتي سابقاً على التوبة، ثم أسماء الله الحسنى: عليم، غفور، رحيم. وهكذا تتحرك الأبيات الثلاثة الأولى في جو ابتهالي تطغى عليه صفات الله: رحيم-غفور- عليم… والمطالبة بالعفو والمغفرة بعد ارتكاب الخطيئة وهي "الهيام مع الشعر في كل وادي" و "هبة الصبا والهوى "وعشق الجمال" و "الهيام بغزو القلوب" وذنب الشاعر أن الله "صوره شاعراً مرهفاً" ودليل توبته وعلامتها هي ما قدمه في إلياذته "أتوب إليك بإلياذتي" حيث برهن فيها شعرياً على أن حب الوطن من الإيمان، وأنه لم يكرس إلياذته للتغني بجِنّيةٍ وهمية أو امرأة تخطئ وتصيب حتى يأتي أجلها فتفنى.
فإذا كانت اللوحة/ المقطع الأول في الإلياذة يشبه "البرولوج" أي تقديم البطل مع كل أدواته وصفات البطولة المكرسة لأجله، فإن المقطع الأخير يعتبر بحق "إِبيبلوج" فهو بالإضافة إلى كونه يندرج في منظور الخطيئة /الحب والعشق والتكفير/ الشعر والمعاناة، فهو سلام للشعر وتمجيد لوظيفته التي أخرجت هذا الحب التاريخي من الداخل إلى الخارج أي الواقع الشعري، إن هذا المقطع هو احتفال بالشعر.
وهذه الصفة الشكلية تجعل "إلياذة الجزائر" تقترب في بنيتها من الإلياذة التي تبدأ "ببرولوج" يتم فيه تقديم الأبطال الأسطوريين وصفاتهم و "الإيبيلوج" الذي يأتي في النهاية قبل أن يسقط الستار وينصرف الممثلون ويشكل الموعظة أو خلاصة أخلاق الملحمة فإن "إلياذة الجزائر" قد التزمت بهذه القواعد البنيوية، يقول مفدي:
بلادي، بلادي، الأمان الأمان
:
أغني علاك، بأي لسان
جلالك، تقصر عنه اللغى
:
ويعجز فيك سحر البيان
إليك صلاتي وأزكي سلامي
:
بلادي، بلادي، بلاد الأمان.
في هذا المقطع الأخير يؤدي الشاعر لبلاده تحية السلام قبل أن ينسحب من مسرح الشعر وهذا المقطع يقابله في المسرحيات الحديثة تقديم الممثلين في ختام العرض، وتطغى على هذه الأبيات ظاهرة التكرار: تكرار الشطر الأول في البيت الأول ثم إعادة تثبيته في الشطر الثاني من البيت الأخير في هذا المقطع (البيت العاشر)، وهذا النص/ المقطع المغلق يجعل المقطع يتحلق على ذاته ليخرج من السياق التاريخي، تاريخ الجزائر ليدخل في السياق الشعري الذاتي، أي بلغة القص الفصل بين الفاعلين وبين الراوي.
ومن خلال سلام الشاعر يقدم صلاته للبلاد التي يكسوها الجلال (جلال التاريخ وجلال الانتصار) ومحط الإعجاز وسحر البيان.
تحولات النسق
الفعل عند الشاعر عياش يحياوي هو فعل صنع اللغة للتعبير عن هذا العالم وموقفه منه، بعد ذلك يأتي القول عن هذه اللغة، ألا يمكن أن تكون هذه اللغة استعارة عن الشعر في علاقته بالنقد؟.
يقول الشاعر:
أفعل أنني أحيا
وأنظر جاحظ الكلمات
حتى لا يقال قد انكسر
ففعل اللغة هو شكل من أشكال الحياة التي يتهددها الموت في كل لحظة، إن امتلاك اللغة، في هذه القصيدة بالذات من قصائد عياش يحياوي هو امتلاك للحياة وامتلاك لمقدرة التواصل الشعري.
تتأكد هذه الملاحظة خاصة إذا رجعنا إلى تاريخ كتابة هذه القصيدة ومكانها، فالمكان الذي كتبت فيه هو البصرة حيث يتناغم الشعر مع الموت ويتزاوج الفناء مع الإبداع الحضاري، إن الظرف الذي كتب فيه هذه القصيدة ظرف مشحون بالألغام والموت والدمار، يرافق ذلك حلم بالبعث وزمن الصحو "غداً تصحو الخيول".
إن الصحوة التي يحلم بها الشاعر هي صحوة الأمة العربية بعد القضاء على من رموها في "كهوف الفقر والنسيان" وإزالة كل معيقات التطور والإبداع الحضاري.
انطلاقاً من هذه الملاحظة المبدئية يمكن التأسيس النظري لهذه القصيدة والتركيز على العناصر البارزة فيها والتي تساهم بقدر كاف في تشكيل بنية هذه القصيدة وإعطائها خصوصيتها.
فالبنية الشكلية لهذه القصيدة تظهر خلال بنائها الخارجي حيث تراوح القصيدة بين الحر والعمودي، أي بين السردي-الملحمي وبين الغنائي- الحلمي. تتكون القصيدة من أربعة مقاطع سردية وثلاثة مقاطع غنائية وهذا التقطيع له دلالته على مستوى المعنى، إذ أن طغيان السردي / الملحمي على الغنائي/ الحلمي دليل على أن الواقع يضغط على الشاعر ويشده إلى أرضه في حين تحاول روحه الشاعرية بين الحين والآخر الإفلات من أسر الواقع.
ولكن قد يبدو هذا التأويل بسيطاً وسطحياً، لنحاول الآن تلمس هذه الحقيقة على مستوى المعنى –فالقصيدة كما هو واضح كتبت في ظرف متوتر في فضاء من الرعب والذهول أمام فعل الموت الذي يتهدد الشاعر ويرسم أمامه أشباح الفناء والدمار- فالبصرة في الشهر الثالث من سنة ست وثمانين تشبه لوحة "الجرنيكا" كما رسمها "بيكاسو" في ثلاثينات هذا القرن،فهي ذلك المشهد المأساوي الذي يعبر عن وحشية الحرب وتضاريسها البشعة.
وهكذا يمكن أن نلاحظ أن الفضاء الخارجي قد انعكس على فضاء القصيدة وأخذ يشكل قسماتها ويرسم حدودها، وقد حاول الشاعر عن طريق حيل لغوية وشعرية أن يبعد القارئ/ الملتقي عن هذا التطابق بين الفضاءين وذلك منذ العنوان "كلام في الفقر والوطن" إذ أن ما سيأتي من القصيدة لا يحلل مظاهر الفقر أو يعللها أو يعطي بعض ملامحها وانعكاساتها، إلا في مواضع ضئيلة أو "يتغزل" بالوطن ويشيد بأمجاده؛ ولكن القصيدة تقترب من المرثية الذاتية وتعبر عن انكسار الذات أمام "الآخر".
لعل هذه الملاحظة تؤكد مدى خضوع القصيدة للفضاء الواقعي أي المرجع الذي تحيل إليه –وهكذا يطغى المرجع/ الواقع على التشكيل الشعري ويجعله خادماً له- ومن الدلائل اللغوية التي تحيل إلى طغيان المرجع/ الواقع بكل معطياته وتفاصيله هو تواتر فكرة الموت التي طبعت القصيدة بجوٍٍ مأساوي.
وتكاد هذه الفكرة- فكرة الموت أن تكون المعنى البؤري الذي يتحكم في إيقاع القصيدة وتوزيع معانيها على جسد القصيدة- وفكرة الموت هذه نجدها تتكرر إما بصيغة صريحة أو ببعض القرائن اللغوية والتراكيب التي تحيل إليها مثل: الموتى –جنازتي- الاندنار- قتلت- أدفن-أموت- الموتى- مات- تابوت.
هذا إلى جانب استعمال الشاعر بعض المفردات اللغوية التي تعبر عن الحالة التي يستشعرها الإنسان أمام الموت مثل الحزن والتي كررها الشاعر مرتين: حزين- وحزناً- بالإضافة إلى حالة الذهول "أنا غابة صفصاف يحرقها الذهول" وهذه الصورة الشعرية غنية عن كل تعليق. والذي يؤكد هذه الفكرة- أي الحزن- هو استعمال الشاعر لفعل "يحرق" الذي يبالغ في التشديد على فعل الحرق بسبب الحزن.
في حين أن الوطن أو الفقر الذي وعد الشاعر بالحديث (كلام) عنهما في العنوان يظلان خارج فضاء القصيدة ولا نصادفهما إلا قليلاً، فكلمة الفقر نصادفها مرتين وكلمة الوطن ثلاث مرات فقط، وهذا دليل خضوع فضاء القصيدة للمرجع الذي تحيل إليه.
ويمكن أن نستدل على هذه الفكرة –مرة أخرى- بكون صوت الشاعر قد انسحق تماماً أمام العالم الخارجي ولم يعد إلا بؤرة لالتقاط أصوات الآخر، والخضوع له ولم يتحرر منه إلا في نهاية المقطع الأخير، من خلال الملاحظات السالفة يبدأ المسار الثنائي للقصيدة يتحدد، فالقصيدة تتطور ضمن تصور ثنائي للأشياء والأحداث، وتحاول من حين لآخر الإفلات من هذا التصور وتجاوزه للولوج إلى الزمن المطلق، من الإبداع الحضاري والمتمثل في إبداع حدائق بابل الغنَّاء.
فإذا كان هذا التصور الثنائي يفترض صراعاً ومحاولة كل قطب جذب الآخر إليه أو القضاء عليه –فإن الحال هنا تقترب من حال الهيمنة والسيطرة للآخر على الأنا- حيث نلاحظ عبر كامل القصيدة أن "الآخر" هو الفاعل، وأن "الأنا" سلبي، يقول الشاعر:
"أتوسد الطرقات
برجى غابة الموتى"
فالحالة التي يعرضها الشاعر هي حالة تسكع، أي حرمان من كل سلطة اجتماعية أو مادية، وبالتالي فإن الأنا يتقدم عارياً من كل حتمية يمكن أن تجعله في موقع صراع مع الآخر لأن الوسائل غير متكافئة، وهكذا يقدم الأنا نفسه كفريسة قابلة للاحتواء من قبل أول قادم.
في حين يقدم الآخر/ العالم الخارجي، كقوة فاعلة فيه ومؤثرة عليه فالآخر يتمتع بالقدرة على الفعل:
"يمرّ الأثرياء على جبيني
من ضلوعي يرسم الأمراء والضباط
هندسة القصور"
وباستعمال فعل (يمر "فإنه يدل أوّلاً على الحركة، أي الانتقال من نقطة إلى أخرى وتجاوز كل المعيقات وثانياً فإن بنية الفعل ذاتها والتي تنتهي بحرف لثوي مشدد، تؤكد على وقوع الفعل بالعنف، أي رغم إرادة "الأنا"، كما أن استعمال "يرسم" الذي تحتوي مادته اللغوية على الفعل الأول "يمر" ويقترب منه على مستوى المعنى فإن الدلالة التي يشير إليها هي سرقة أحلام الأنا واتخاذ ضلوعه أعمدة لرسم حدود قصورهم،و هكذا يجتمع الآخر بتشكيلاته الثلاث: الأثرياء- الأمراء- الضباط لقمع الأنا وجعله جسراً تمر عليه هذه الفئات الثلاث.
وتحاول القصيدة بعد ذلك أن تجعل الأنا يقوم بفعل وذلك في محاولة لتجاوز عجزه وإثبات وجوده:
أسير خلف جنازتي
ومطالب بالابتسام
مهيء للانكسار
وقابل للاندثار
فالفعل الذي قام به الأنا يعتبر من وجهة نظر دلالية سلبياً، رغم أن كل فعل هو قيام بحركة قصد تغيير الموقع، لكن السير خلف الجنازة وخاصة إذا كانت جنازة الأنا المتكلمة هو خضوع، لأن السير فعل إرادي، ولكن الذي يلحق هذا الفعل يؤكد درجة الإكراه التي تؤثر على سير الأنا خلف جنازته، فالجنازة هنا لا يمكن اعتبارها حقيقة لأننا لو اعتبرناها كذلك لكان كلامنا ضرباً من اللا معقول وخلافاً للمنطق.
فالجنازة هنا لا يمكن اعتبارها إلا استعارة عن فقدان السلطة على الذات والعجز عن التأثير في الآخر، كما أن استعمال جنازة مقترنة بياء الملكية تجعل من هذا الاسم استعارة فقط ولا غيرها. لأنه لا يمكن للميت الذي تجمدت حياته أن يتكلم عن جنازته أو عن موته.
الأسطر الشعرية التي تلي الفعل تفضح أساليب الإكراه التي تعرض لها الأنا، ويبين الشاعر أساليب الضغط والقمع التي يتعرض لها الإنسان العربي في ظل "رمل أحزاب العرب" ولهذا الغرض يستعمل الشاعر مطالب، مهيء، وقابل وتلتقي كلها في المستوى العميق للمعنى وهي الاستعداد لتقبل فعل الآخر-فصيغه "مطالب" أي مطلوب مني والطلب هنا بمثابة الأمر لأنه صادر من سلطة أعلى لا يمكن رفض طلبها وهكذا يتحول إلى أمر – ومطالب بالابتسام تعني القبول بكل المساومات والامتثال أمام العالم حتى تكتسب مطالب الآمر شرعية وتدخل في مسار الأمور العادية، أما "مهيء للانكسار" فإن هذه الصيغة هي دلالة على هشاشة الأنا وضعفه أمام الآخر، أما صيغة "قابل" أي يقبل الاندثار والتلاشي بسهولة وذلك لهشاشته وللضغوط الممارسة عليه وأنواع القمع المسلط عليه.
ولكي يعبر عن استسلامه للأمر الواقع، استعمل الشاعر "تناصّاً" INTERTEXTUALITé قرآنياً "وليس يبقى غير ربك ذو الجلال" واستعماله المحرف هذا للآية الشريفة له دلالتان على الأقل: الأولى هي السخرية من جلاديه وتوعدهم وتحديهم؛ والثانية هي تقرير سلطة الله ذي الجلال والإكرام والتي لا تطالها أية سلطة بشرية مهما تمادت في طغيانها وتجبرت مثل فرعون –وهذا الشطر الشعري الذي يقف في مفترق الطرق بين الشعر والقرآن، أي أخذ من الشعر تعبيره ومن القرآن حكمته يعتبر خلاصة أو نتيجة للوضع الذي وجدت فيه الأنا.
إن الوضع الذي وجدت فيه الأنا، القهر من قبل الآخر والقهر والاضطهاد جعل الأنا تعيش في غربة ووحشة، غربة من التاريخ الاجتماعي وعدم مشاركته في البناء الاجتماعي بسبب تسلط قوى معيقة "وإني غربة أخرى". والعيش على هامش الراهن والاجتماعي جعل الأنا تعيش غربة مزدوجة،غربة خارجية بسبب عزلتها وتهميشها وغربة داخلية ناتجة عن فقدان التوازن الداخلي والاطمئنان النفسي حتى أصبح يشك في كل شيء وأصبح هاجس القهر يسكنه حتى النخاع "ما أوحش الطرق التي بدمي "وأصبح أقرب إليه من حبل الوريد.
إن هذه الغربة التي يستشعرها الشاعر في المقطع السردي الأول والتي ترجع أسبابها إلى القهر الممارس عليه نجدها تطارده أيضاً في المقطع الغنائي الأول:
يا نورس البصره
:
رفرف على جرحي
عطشان للأسرة
:
وبراءة الصبح
قدمي على الجمرة
:
ودمي على الروح
ما حال... يا حسرة
:
من تاق للسفح
فرغم أن الشاعر هرب إلى الفضاء الحلمي إلا أن الغربة التي يعاني منها ما زالت تطارده حتى في الأحلام، ويتبدى ذلك صريحاً من استعماله:
عطشان للأسرة- وتتجسد بمرارة في البيت الأخير حيث تتحول الغربة إلى حسرة، أي يبلغ السيل أقصاه.
هناك بعض الدلائل اللغوية التي تشير إلى أن الغربة التي يعاني منها الشاعر في هذا المقطع غربة مكانية، حيث أن وجوده في البصرة في ظروف استثنائية جعله يحن إلى أسرته وإلى صباح بلاده،والغربة هنا تختلف عن الأولى في النوعية وليس في الدرجة فحسب وربما تكون الأولى (الغربة النفسية) أشد وطأة على نفسية الشاعر من النوع الثاني (الغربة المكانية) هذا المقطع الثاني يعتبر مفصلياً بالنسبة للقصيدة ككل .
طابعه الغنائي المشبوب بالحسرة والمرارة يفتح أبواب الحلم أمام الشاعر ليسترسل في سرد ذكرياته الطفولية عندما كان صغيراً ويسهر تحت خيمتها، وإن الإيقاع الغنائي هو الذي سهل هذا الانتقال لذلك قلنا إن المقطع الغنائي الأول مقطع مفصلي.
وقد استعمل أسلوباً يجمع بين النفي والاثبات، حيث نفى في البداية البوح "لا أبوح بحبها" "ثم بعد ذلك بدأ البوح- وهذا الأسلوب يقترب من الأسلوب البلاغي المتمثل في الطي والنشر – ويمثل البوح وصف الحبيب مركزاً صفة أساسية على "لوز الكلام" و"الفقر الأشهى من الورد السكير"، يركز على الطفولة باعتبارها مرحلة البراءة وذلك في سطرين من المقطع:
"وأنا صغير تحت خيمتها سهرت مع القمر"
"كنا نجمع الأزهار ثم ننام قبل ذبولها".
فالسطر الأول يبدأ مباشرة في تقريره عن مرحلة معينة من سيرة الشاعر: أما الثاني فإنما عبر عن الفكرة بصورة شعرية لأن الأطفال هم في الغالب من يجمع الأزهار من الحقول ولكن عندما تكتمل فرحتهم ينامون قبل أن تزول رائحتها.
ولكن هذه الحال لا تدوم وهذا التواصل يؤول إلى الانفصال لأن من دعاة "الله" "واليوم غاب ولا أثر.. "جعل الشاعر يتخبط في الطرقات يكابد أحزانه ويجاهد لإخفاء فشله:
"واليوم غاب ولا أثر..
وأنا حزين أعبر الطرقات
أفعل أنني أحيا
وانظر جاحظ الكلمات
حتى لا يقال قد انكسر...."
حتى لا يقال قد انكسر..
إن الانتقال من حال إلى أخرى يعني الانتقال من فضاء إلى آخر وهكذا يقوم هذا المقطع على معارضة بين حالين وفضاءين، وقد مهد الشاعر لهذا الانقلاب بقوله "فيصدعني أشهرا" أي أن مؤشرات الانفصال /الانقطاع كانت بادية منذ منتصف المقطع الشعري، وهكذا يلعب الشطر الشعري المذكور دون المفصل الذي يربط بين فضاءين ويسهل العبور من حال الأنس إلى حال الهجر- يظهر التعارض بين الحالين من خلال اللغة المستعملة لذلك- فالحال الأولى استعمل الشاعر للتعبير عنها: سهرت مع القمر- كنا نجمع الأزهار- أما الحال الثانية فإن الشاعر استعمل التعابير والكلمات التي تناقض الحال الأولى: وأنا حزين- أنظر جاحظ الكلمات- فالتحول الذي حدث في هذا المقطع ليس تحولا في الهيئات والمشاعر ولكنه تحول في اللغة أيضاً-
إن الانتقال من المقطع السردي إلى المقطع الغنائي يحدث خلخلة على مستوى التلقي، بل يمكن المتلقي أن يلاحظ انقطاعاً وهو عكس المقطع الغنائي الأول الذي اعتبرناه مفصلياً، حيث إن الشاعر ينتقل من حالة الانكسار التي أطلقها في شكل تحدّ ذي نبرة حزينة – إلى حالة الغناء- إذ يرتفع صوته شادياً:
يا واقفاً بالباب
:
متأبطاً من عهد بابل
حزنا بكى وانساب
:
ثملان من زرد السلاسل
لملم جراح الغاب
:
واشعل أغاريد البلابل
واكتب إلي السياب
:
فلربما تصل الرسائل
في هذا المقطع تمتزج الأسطورة بالغناء، وهذا شيء جعل من هذا المقطع بؤرة فنية راقية، فبالإضافة إلى التكثيف في التعبير والاقتصاد في اللغة استطاع الشاعر أن يفتح أمام المتلقي فضاءً شعرياً رحباً، إذ ينتقل من الأسطورة إلى التاريخ ليصل إلى رموز الثقافة، وتربط بين هذه الأبعاد الثلاثة شبكة من العلاقات تتمثل في أسطورة "بابل" وعجائبها و"أوروك" وأبطالها وربط هذه الأساطير بالبعد التاريخي والحضاري لبلاد الرافدين ثم يجمع هذين القطبين برمز شعري هو "السياب"، الذي يجعل منه شاهداً ثقافياً وشعرياً على هذين القطبين، (وبذلك يدخل الشعر التاريخ في رمز السياب) إلى الزمن الكوني المطلق لأنه يربط الماضي بالراهن ويتجاوز الحاضر قصد تأسيس المستقبل واستعمل لهذا الغرض أسلوب التدوير، فهذا المقطع الغنائي يبدأ بصرخة متمثلة في حرق النداء "يا" وهي بالإضافة إلى وظيفتها الأصلية التنبيه فإنها تجري على عادة فحول الشعراء القدامى، وعوض أن يخاطب الشاعر صديقته مثلما فعل امرؤ القيس فيمعلقته (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل) فإن الشاعر عياش يحياوي يستوقف نفسه باحثاً في أعماقه عن ذكريات بابل،– والمشابهة هنا بينه وبين معلقة امرئ القيس واضحة وتدعمها ثلاثة عناصر على الأقل:
1- استعمال صيغة النداء: عند يحياوي "يا" وعند امرئ القيس صيغة الأمر المصاحبة بالنداء:
ثم 2-إثارة الذكريات واسترجاعها ثم موضوع الذكرى وهو مكان دارس هذا هو المستوى الأول من القراءة الذي يظهر الموقف الطللي، أما المستوى الثاني من القراءة فإنه يظهر الأبعاد الأسطورية والتاريخية لهذا المقطع الغنائي.
ظاهرياً يبدو أن الشاعر يخاطب آخر (سائحا مثلا) ولكننا عن طريق فحص القرائن اللغوية نلاحظ أن الآخر الذي يخاطبه الشاعر هو صوته الذي يردد صداه هيكل بابل وهكذا يتوجه الشاعر إلى نفسه باستعمال أسلوب المخاطب.
فقولـه "يا واقفا بالباب" فالباب الذي يقصده الشاعر هو باب الحضارات، وهو بوابة بابل نفسها التي وقف الشاعر أمامها مذهولاً أمام إنجازاتها الحضارية وأمام شموخها التاريخي وتواصلها عبر الحقب المختلفة، وهذا الواقف بباب الحضارات هو الشاعر نفسه المسكون بالحزن والشعر منذ عهد بابل،– وهذا دليل على حزنه الأبدي واستعمال الشاعر لصيغة "متأبطا" أحدث خلخلة في البناء الصوري لأن تأويلها السطحي يذهب إلى عكس ما قلناه وهو أن حزنه جزء بسيط بحيث يستطيع أن يجمعه ويحمله تحت إبطه، في حين أن ما يقصده الشاعر هو ذلك الحزن الطاغي المسكون بالرؤى والأشعار.
وربما يكون الشيء الذي عمق هذا الإحساس بالحزن هو السلاسل التي ظل يجرجرها إلى كلّ مكان – وهنا تعود صورة القمع تطارده حتى في أحلامه وتأخذ حيزاً معتبراً في قصيدته- ولكن الشاعر يتجاوز هذا العجز لأنه يقف على أبواب الحضارة ويطلق العنان لبلابله لكي تغرد وتصدح "وأشعل أغاريد البلابل".
وعندما تنطلق بلابل الشاعر في شدوها يتذكر الشاعر صديقه الشاعر العراقي بدر شاكر السياب ويكتب له رسالة يبثه فيها لواعجه ويصور له فيها معاناته وأحزانه،ولكنه ليس متأكداً من أن السياب ستصله رسائل الشاعر لأن السياب قد مات أولاً، والتواصل الذي يقصده الشاعر عياش يحياوي تواصل شعري وثانياً لأن عين الرقيب تصادر رسائل الشعراء وأحلامهم.
أما الذي جعل عياش يحياوي يتذكر السياب ويفكر في الكتابة إليه فذلك يرجع إلى سببين: السبب الأول هو أنه في بلاد الرافدين مسقط رأس بدر شاكر السياب والأماكن التي احتضنت أشعاره وبابل التي أعاد كتابة أساطيرها، السبب الثاني هو حالة التماثل بين الشاعرين واشتراكهما في الحزن فالسياب عاش متألماً حزيناً يعاني من أمراض فتاكة أودت بحياته وهو في ريعان الشباب، والشاعر يحياوي يعاني من أحزانه وهمومه الشعرية والحياتية منذ طفولته، فكان الحزن هو القاسم المشترك بين الشاعرين بالإضافة إلى الشاعرية المتدفقة عندهما.
إن المرور من المقطع الغنائي الحلمي إلى المقطع السردي/ الملحمي لا يمر عن طريق أي مفصل لغوي أو شعري وهذا له دلالته العميقة المتمثلة في تفكك العلائق بين الأنا والآخر، ومن بداية المقطع يظهر الأنا سلبياً وخاضعاً لضغوط الآخر.
متصعلك..
وحنجرتي بيوت العنكبوت.
فالسطر الأول هو وصف لحال (وصف سلبي، ولكن ليس بالمعيار الأخلاقي) ولكنه سكوني عاجز عن الحركة، كما أنه سليب الصوت فحنجرته لم تشتغل منذ زمن بعيد فهي لا تغني لأن الغناء هو شكل من أشكال الانتصار، كما أن حنجرته –أيضاً- لم ترفع صوتها احتجاجاً أو تمرداً وبذلك نسجت عليها العنكبوت خيوطها، وهذه الصورة معادلة للصمت الأبدي والاستسلام المطلق- ونلاحظ أن السطرين الشعريين خاليين من أي فعل أي حركة- وإذا كان الشاعر قد سلب حق الكلام، فإن الآخر يأخذ الكلمة ويبدأ في إلقاء خطب رنانة:
"قالوا نحن نخبكم هذا لا تقولوا ما يخالف
نحن أدرى بالوطن"
فالآخر يستأثر بالقول من جهة، ومن جهة أخرى يقمع قول غيره ويطلب منه أن يردد نفس الخطاب الذي ألقاه "لا تقولوا ما يخالف" لأنه يرى أن ذلك من مصلحة الوطن، وهذه إشارة إلى الاستبداد بالرأي وإلغاء صوت الآخر تماماً.
ولكن الذي سيأتي من المقطع يظهر تناقض القول مع الفعل لهذا الذي "أدرى بالوطن" ويصوره في شكل مصاص الدماء:-
"وغدا رأيت دمي يصدر للبنوك
ولم أقل أني أموت
إن الذين يصدرون سيغضبون
إذا أنا مثلت"
إن الآخر لا يسلب الأنا الكلمة فقط بل يصدر دمه ويستغله إلى أقصى الحدود.
فهو يسلبه أيضاً حقه في العيش ومن عرقه ينفخ رصيده في البنوك الخارجية ورغم كل ذلك فهو "مطالب بالابتسام" ولا يتألم لأن ذلك يجعل منه مواطناً لا يعمل بنصيحة "لا تقولوا ما يخالف"- وهكذا يعمل هذا المقطع على تعرية التناقضات وتفكيك الخطاب الذي لا يتماشى مع الفعل – ومن جهة أخرى يعمد الشاعر إلى فضح علاقة الدال بالمدلول وتنافرهما.
وبفعل هذا التناقض يدخل الشاعر إلى عالم المتناقضات ويجد نفسه مشدودا إلى قطبين ويرفع شعار "تحيا الخيانة والوطن" لأن الخيانة في نظر مصاصي الدماء خدمة الصالح الخاص بواسطة الوطن فإنه شعار يحمله هؤلاء الوسطاء للتمويه.
ونظراً لأن الأنا قد مورست عليه ضغوط، ولأنه مواطن بسيط يبيع "في السوق الطماطم والسراب" فإنه قد سلب حق الكلام خاصة إذا كان الأمر يتعلق بتجار الدم ومصدري العرق البشري:
"وأنا فتى لي قدرة الموتى
وليس لي الكلام عن الكبار"
فهذان السطران يعبران عن أحزان الموت وآلامه، كما أنهما يعبران عن شجاعة الأنا في مواجهة الموت منعزلاً، أما عندما يتعلق الأمر بالكلام عن الآخر فإن هذه الشجاعة تذوب، لأنه خضع لعمليات التدجين والتكييف.
هذان السطران يكونان ثنائية ضدية يمكن ملاحظتها على مستوى اللغة: لي كليس لي- أنا والكبار- الكلام والموت (فقدان الكلام) ويظهر هذا التعارض في تردد الأنا وانسحاقه أمام الآخر- ويمكن اعتبار هذين السطرين تحويلاً لفكرة نزار قباني الذي يقول في قصيدته "الخطاب".