ثانيًا: فيما يتصل بمحددات الدلالة، أو
بالوسائل المستخدمة في الوصول إلى المعنى ذكر البحث أنها تنقسم إلى محددات
لغوية، ومحددات مقامية، ومحددات عقلية. تتمثل المحددات اللغوية في عناصر
السياق اللغوي نحو: دلالة الصوت، ودلالة الصيغة، والدلالة المعجمية، ودلالة
تحويل الكلمة أو الأسلوب من صيغة إلى أخرى، والدلالة النحوية، ودلالة
الاقتران، ودلالة الترتيب، ودلالة المناسبة، ودلالة الإحالة التي تستفاد من
بحث علاقات التداخل بين النصوص، ودلالة المصاحبات اللغوية (نحو: أدوات
التنبيه، وتعبيرات الزجر والتشجيع وأدوات التوكيد)...أما محددات الدلالة
التي تنتمي إلى السياق الخارجي للنص فتنقسم وفقا لمكونات الحدث الكلامي إلى
: عناصر تتصل بالمتكلم، نحو: صفاته، وعاداته، ومقاصده، وإشاراته الجسمية،
وعناصر تتصل بالمخاطب، نحو: صفاته ، وعاداته ، وأثر الكلام فيه، وعناصر
تتصل بالمحدث عنه وموضوع الحديث ، وأخرى تتصل بالزمان والمكان .
والمقصود بالدلالات العقلية الدلالات المستنبطة من النص من خلال عملية
استدلال أو قياس محكومة بقواعد العقل وقوانين التفكير، عن طريقها يمكن أن
نخرج من النص الواحد بعشرات المعلومات، وقد أولى البحث عنايته بالدلالة
العقلية حيث لم يُفَصَّلْ الحديث عنها من قبل . وتعتمد الدلالات العقلية
على فهم النص من خلال قانون من قوانين الفكر، كالاستدلال بأن ما ينطبق على
الكل ينطبق على الجزء، وقد استدل النبي صلى الله عليه وسلم بفكرة العموم
هذه عندما سئل عن الحمر: هل في الاعتناء بها أجر؟ فأحال على قوله تعالى(
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه) .كما استدل بالاستلزام،
عندما "سمع رجلاً يقول : اللهم إني أسألك الصبر، فقال له : (سألت الله
البلاء، فسله العافية)؛ وذلك أن سؤال الصبر يستلزم أن يقع البلاء . غير أن
استنباطات النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة إنما كانت تتم عفوا دون
صياغة شكلية للأدلة على طريقة الأصوليين أو المناطقة، وإنما بطريقة
بَدَهِيَّةٍ، ومع ذلك فإنها مهمة جدا في إثبات طرق الدلالة والاحتجاج لها.
ومن خلال تتبع أمثلة الدلالات العقلية في كتب الشروح استخلص البحث قوانين
التفكير التي تعتمد عليها وهي :الإلحاق، والتعليل، والاستقراء، والاستلزام.
وتحت كل منها هناك عدد من المبادئ التي تمثل قواعد جزئية للفكر تنبني
عليها المعاني، فتحت دائرة الاستلزام تدخل قواعد من قبيل : -ما لا يتم
الواجب إلا به فهو واجب. - وما لزم عنه الباطل فهو باطل -وما يلزم عن
المباح مباح. - والأمر بالشيء نهى عن نقيضه. وتحت دائرة الإلحاق تدخل قواعد
من قبيل : -يأخذ الشيء حكم ما يساويه وحكم ما يزيد عليه.- وإذا انتفى
الفارق تساوى الأمران. وتحت دائرة التعليل تطالعنا قواعد من قبيل: -يدور
الحكم مع علته وجودًا وعدمًا. - والحكم للباقي إذا استبعدت الاحتمالات
كلها. وتحت دائرة العموم تدخل قواعد من قبيل: -ينطبق على الكل ما ينطبق على
جميع الأجزاء. وهو المبدأ الحاكم لعملية الاستقراء. - وينطبق على الجزء ما
ينطبق على الكل. - وما اختص به بعض الأجزاء يُنْفَى عن سواها.وهو المبدأ
المنتج لمفهوم المخالفة. وكل هذه المبادئ استخدمت في شروح الحديث للوصول
إلى دلالات كثيرة جدا ذكر البحث أمثلة لها.
ثالثا: فيما يتصل بتحقيق
المعنى، وضوابط التأويل تحدث البحث عن أسباب اهتمامهم بهذا الموضوع وعن
كيفية الوصول إلى ضوابط التأويل من خلال تطبيقاتهم، ثم حاول أن يقدم تصنيفا
لما ذكروه أو استخدموه منها. وقد شغل التراث الأصولي والتفسيري كثيرًا
بقضية التثبت من المعنى، وأفرد علماؤنا البحث في قانون التأويل بكتب
مستقلة، كذلك وردت مادة ثرية جدًّا حول هذا الموضوع في كتب شروح الحديث،
حيث كان الشارح يذكر غالبًا الآراء المتعددة في شرح النص الذي يعرض لبيانه
ويحدد رأيه فيها، فيصحح بعضها، ويخطئ بعضها، وهو في هذه الحالة يبين السبب
الذي أوقع صاحب الرأي في خطئه، ويذكر القاعدة التي أهملها أو خالفها فنتج
الخطأ عن إهماله لها. وتعد هذه القاعدة جزءًا من قانون التأويل. ومن خلال
تتبع هذه المناقشات خرج البحث بصياغة لقانون التأويل أو لوسائل التحقق من
الفرض عندهم ، وقد انتظمت في ثلاثة شروط كبرى تدخل تحت كل شرط مجموعة من
القواعد:
1-تحقيق التوازن بين أطراف عملية التفسير: فعملية التفسير هي
كما يقول الشاطبى تقصيد من المفسر للمتكلم، أي ادعاء بأنه يقصد من كلامه
كذا وكذا، ومعنى هذا أننا إزاء ثلاثة مقاصد: مقاصد المتكلم من كلامه،
ومقاصد المفسر، ومقاصد العربية، أو الدلالات التي تنتج من مجرد مراعاة
قوانين العربية. ويشترط لكي يكون تقصيد المفسر قويا أن يحقق توازنًا بين
مقاصد المتكلم ومقاصد العربية، وعندئذٍ تكون الدلالة الإضافية التي ينتجها
التقصيد دلالة ممكنة، ويكون صاحبها معذورًا، فقد قال العلماء كما يصرح ابن
حجر "إن كل متأول معذور بتأويله ليس بآثم، إذا كان تأويله سائغًا في لسان
العرب، وكان له وجه في العلم" .
وعلى هذا فالدلالة الإضافية التي
اكتسبت اسمها من كونها تضاف إلى المفسر تكون خطأ بشكل كامل في ثلاث حالات
:أ _ أن تطغى مقاصد اللغة وتهمل مقاصد المتكلم ، وهذا تفسير أهل الظاهر.ب_
أن تطغى مقاصد المتكلم وتهمل مقاصد اللغة، وهذا هو النمط الذي يكون الخطأ
فيه في الدليل دون المدلول بمصطلح ابن تيمية، وقد رفضوه كذلك رغم أنه أقل
خطرا. ج -أن تطغى مقاصد المفسر بشكل تام، وعلامة ذلك تجاوز قوانين اللغة أو
مقاصد العربية: فيكون المتجاوز كالمكذب لقوله جل شأنه(وماأرسلنا من رسول
إلا بلسان قومه) وقوله تعالى(بلسان عربي مبين). وهذا هو الشرح المبني على
الهوى. ويؤدى فصم العلاقة بين ناتج التأويل واللغة إلى أن يقول كل مدع ما
يريده، وأن يحمل كل مبتدع كلام الله وكلام رسوله على هواه، دون أن يوجد ما
يرجح معنى على معنى، فيبطل أن يكون القرآن حجة لأحد على أحد، أو حجة لله
على خلقه، حيث لا ضابط، ولا رابط ولا معنى ثابت. ويشبه الزعم بأن لكلمات
القرآن باطن لا علاقة له بالعربية كما يعرفها أهلها ما يقوله النقد الغربي
المعاصر عن غياب المؤلف وعدم وجود معنى واحد للنص، وأن المعنى يتشكل مع كل
قارئ، بل مع كل قراءة.ومثل هذا الإفراط هو الذي دفع الأصوليين وعلماء
التفسير إلى صياغة قانون للتأويل يجعل من اشتراط موافقة العربية شرطًا
أساسيًّا لقبول أي رأى.
وتتمثل القواعد الجزئية لهذا الشرط الأول من
قانون التأويل الذي صاغه الغزالي وابن العربي وابن رشد وابن تيمية وابن
القيم، وطبقه جمهور المفسرين وشراح الحديث، ورفضوا ما خالفه في المبادئ
التالية :
1-لا يصار إلى التأويل وهو صرف النص عن ظاهره إلا بداع، وبدليل.
2-يجب أن يكون المعنى المقدم غير معارض لنص آخر.
3-يجب أن يوجد ما يشهد له ويدلل عليه.
4-يجب أن يكون موافقًا لسنن العربية وقوانينها وألا يكون منقطع الصلة
بظاهر النص، ذلك أن المعنى المجازى الذي تحتمله الكلمات له بدوره قواعد
وسنن تبرر نقل الكلمة من معنى إلى آخر.
5-يجب أن يفهم الكلام في ضوء الوعي بمقاصد المتكلم دون الاقتصار على ظواهر النصوص .
2- مراعاة كلية النص :
المقصود بهذا الشرط أن يفهم الكلام في ضوء النص كاملا، دون أن يَقْتَطِعَ
المفسرُ جزءا ويفهمه بمفرده، والنص في حالة القرآن الكريم هو القرآن كله،
وكذلك في حالة الحديث النبوي الشريف وعلى أساس هذه الفكرة تبنى قواعد كثيرة
من قبيل حمل المطلق على المقيد. وتمثل الصياغة النظرية لهذا الشرط مبدأ
أساسيًّا من مبادئ قانون التأويل هو المبدأ السادس الذي يقول بعبارة
الغزالي:
6-[كل تأويل يرفع جزءًا من النص باطل]. ونستطيع أن نقسم
مخالفة هذا المبدأ إلى قسمين الأول هو التأويل الذي يعارض آية أخرى أو
حديثا آخر غفل عنه المؤول أو تجاوزه. والثاني التأويل الذي يعارض جزءًا في
الحديث نفسه فيحتوى على تناقض داخلي، ويمثل هذا عوارًا أعلى من سابقه .
3-:مراعاة كلية التحليل. والمقصود بمراعاة كلية التحليل سبر جميع محددات الدلالة اللغوية والحالية والعقلية في محاولة لإنجاز أمرين:
-الأول مناقشة المعنى أو المعاني المتبادرة للنص في ضوء جميع القرائن والأدلة حتى تكون فروضا قوية.
-والثاني الخروج من النص بجميع الدلالات المحتملة غير المتعسفة.
ويعنى اشتراط مراعاة كلية التحليل أن محددات الدلالة تؤدى وظيفتين: الأولى
هي كونها وسيلة لاكتشاف المعنى، والثانية هي كونها وسيلة للتحقق منه. وهذا
صحيح فالمعنى القوى يجب ألا يكون مُعَارَضًا بقرينة من القرائن اللغوية أو
المقامية أو العقلية التي سبقت الإشارة إليها. ومن ثم فإننا نستطيع أن
نستخدم كل محددات الدلالة التي سبقت الإشارة إليها لنصوغ قواعد جزئية كثيرة
تدخل تحت مبدأ كلية التحليل، وتحدد بعض وسائل تحقيق المعنى، فنقول على
سبيل المثال:
أ-يرفض كل فهم يعارض مناسبة النص لما قبله.
ب- يرفض كل فهم يعارض الدلالات المعجمية لكلمات.
ج- يرفض كل فهم لا يدرك صفات المتكلم وعاداته وإشاراته وصفات المخاطب وعاداته.
د- يرفض كل فهم يُلْحِقُ شيئًا بشيء رغم وجود فوارق مؤثرة.
هـ يرفض كل فهم يتجاهل الأبعاد النفسية لإنتاج الخطاب وتلقيه.
و- يرفض كل فهم يتجاهل أثر الكلام في المخاطب.
وهكذا مع كل محددات الدلالة : اللغوية والمقامية والعقلية. فهي محددات
للمعنى تسهم في إنتاجه من ناحية، وهى وسائل للتحقق منه، ونفيه أو تأكيده
والتدليل عليه من ناحية ثانية.[/