تلوينات التكرار في الجملة القرآنية
تلوينات التكرار في الجملة القرآنية
<blockquote class="postcontent restore ">دكتور
أسامة عبد العزيز جاب الله
كلية الآداب – جامعة كفر الشيخ – مصر
يلجأ المتكلم إلى تكرار الجملة قصداً لمعانٍ يريدها ويبغيها من ذلك التكرار
، هذه القصدية تستند في جمالياتها إلى ردّ فعل المتلقي وقدرته على إدراك
مزية هذا التكرار أينما وُجِد . كما أنها تتكئ في مقصودها على نسج كلام
المُبْدِع لأنه الموجه الأهم لهذا التكرار .
ولذا فالتلوين الصوتي بتوظيف التكرار في سياق التراكيب لا بد من اعتماده
نسقاً معيناً من أنساق التعبير من ناحية ، ثم بيان أغراض هذا التعبير بهذا
النسق من ناحية أخرى ، وذلك من حيث مقصدية هذا التكرار .
والحديث عن التلوين بالتكرار في سياقات التراكيب يتخذ عدة صور تعبيرية في سياق النص القرآني ، نعرض لها كما يلي :
أولاً : تكرار شبه الجملة
من فرائد التوظيف القرآني توظيفه لشبه الجملة ( الظرف ، أو الجار والمجرور )
في بنية تكرارية مقصود من وراء توظيفها أغراض دلالية محددة . فقد تكرر شبه
الجملة للتشنيع ، أو التخويف ، أو لزيادة التقرير ، أو للتأكيد ، وذلك لما
تتضمنه من معان وأغراض . ونلمس ذلك في قوله تعالى : وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي
خَرَابِهَا أُوْلَـئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ
خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ
عَظِيمٌ ( ) . حيث كرر شبه الجملة ؛ الجار والمجرور ( لهم ) في الآية
ثلاثة مرات على دلالة تشنيع هذا العذاب ، وبيان ما أعد لهم من خزي في
الدنيا والآخرة . يقول أبو السعود : " تقديم الظرف في الموضعين للتشويق إلى
ما يذكر بعده من الخزي والعذاب لما مرّ من أن تأخير ما حقه التقديم موجب
لتوجه النفس إليه فيتمكن منها عند وروده فضل تمكن " ( ) .
ويرى ابن عاشور أن التكرار بعطف أشباه الجمل في الآية دليل على أنها "
تتميم لما قبلها ، إذ المقصود من مجموعها أن لهم عذابين ؛ عذاباً في الدنيا
، وعذاباً في الآخرة " ( ) .
فبنية التكرار لشبه الجملة هنا أفادت تنويع العذاب ، وبيان عدم اتحاده ، إذ
أن لهم في الدنيا نوع ، وفي الآخرة نوع آخر مختلف . فالتكرار على دلالة
التهويل والتخويف ثم تشنيع صورة هذا العذاب في النفس .
* ومن ذلك أيضاً قوله تعالى : صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ
غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ( ) ، حيث كرر شبه الجملة
الجار والمجرور ( عليهم ) في جانب طائفتين هما ؛ ( المُنْعَم عليهم ) و (
المغضوب عليهم ) . يقول الزمخشري في تعليله لتكرار شبه الجملة في الآية : "
إن قلت : أي فرق بين (عليهم) الأولى ، و(عليهم) الثانية ؟ قلت : الأولى
محلها النصب على المفعولية ، والثانية محلها الرفع على الفاعلية " ( ) .
وهذا كلام دقيق راعى الزمخشري فيه الموقع الإعرابي لتعلق شبه الجملة ، إذ
هي في جانب المُنْعَم عليهم في محل نصب مقعول به ( سدت مسده ) ، وفي جانب
المغضوب عليهم تقع في محل رفع نائب فاعل لاسم المفعول من الفعل المضارع
المبني للمجهول . وعلى هذا فالتكرار في الآية قائم على تحقيق :
1- التفرقة بين الفريقين من حيث الجزاء لأنهما متغايران .
2- الحكم الإعرابي لكل منهما ، لأنهما متغايران في هذا أيضاً .
فأفاد التكرار هنا جمالية موظفة في ثنايا النص الجليل ، هذه الجمالية
مستفادة من بنية التكرار الذي هو هنا حتمي ولازم في التعبير لدفع التوهّم
إذ لم يكن تكرار .
ومنه قوله تعالى : وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن
قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ( ) ، حيث كرر شبه الجملة ؛ الظرف ( قبل )
مسبوقاً بحرف الجر ( من ) في موضعين من الآية الكريمة ، وذلك في سياق
الإخبار عن نعمة المطر . يقول ابن الأثير : " تكرير ( من قبله ) يدلّ على
بعد عهدهم بالمطر وتطاوله ، فاشتد لذلك يأسهم ، فكان استبشارهم بالمطر على
قدر اغتمامهم لانقطاعه " ( ) .
ويرى الطوفي أن تكرار شبه الجملة في هذه الآية فائدته " تحقيق إبلاسهم
وإياسهم من المطر في تلك المدة ، وذلك الزمان ، أعني : الذي قبل نزول الغيث
" ( ) . وعلى هذا يوجد رأيان :
- رأي ابن الأثير الذي يدور حول بيان الأثر اللاحق لنزول المطر ، أي أنه نظر إلى التكرار من جهة أثره التالي .
- رأي الطوفي الذي يرى في التكرار تذكير لهم بما كان من حالهم قبل الغيث ، أي أنه نظر إلى الأثر السابق لنزوله .
ولكل منهما حقه في النظر إلى المسألة من زاويته الخاصة .فابن الأثير نظر
إلى ( الحال بعد ) أي إلى الأثر الإيجابي للمطر ، في حين نظر الطوفي إلى (
الحال قبل ) أي إلى الأثر السلبي . والسياق في الآية يقوم على إيضاح معنى (
الحال ) قبل نزول المطر وهو ( الإبلاس واليأس ) ، وعندئذ يكون التعبير -
في غير القرآن - ( وإن كانوا قبل نزول المطر عليهم لمبلسين ) ، فما الحاجة
إذن إلى تكرار الظرف ؟! وهل الظرف في الموضعين متحد الجهة ؟! يقول العكبري :
" قوله تعالى : ( من قبله ) ، قيل : هي تكرير للأولى ،
والأوْلَى أن تكون الهاء فيها للسحاب أو للريح أو للكسف ، والمعنى : وإن
كانوا من قبل نزول المطر من قبل السحاب أو الريح ، فتتعلق (من) بينزل " ( )
.
والأخفش يحمل هذا التكرار على معنى اتحاد المرجع فيه ، ومن ثم فهو للتأكيد (
) . وهذه المعاني جميعها مستفاد من بنية التكرار للظرف في الآية .
إضــــاءة :
يلحظ من توظيفات النص القرآني لسياقات تكرار شبه الجملة ملحظاً فريداً
يتمثل في أن القرآن الكريم يوظف في سياق الآية شبه الجملة ( حرف الجر +
الاسم الصريح ) ثم يعدل إلى تكرارها مرة أخرى لكن بصورة بنيوية غير الأولى
تتمثل في ( حرف الجر + الضمير العائد على الاسم المتقدّم ) . ونلمس ذلك في
قوله تعالى : إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ
بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ
آيَاتِنَا غَافِلُونَ ( ) ، حيث عبّر بشبه الجملة ( بالحياة ) ثم لماّ
أراد تصوير اطمئنان هؤلاء المعاندين بهذه الحياة كنّى بالضمير عنها ، فكرر
شبه الجملة المذكورة أولاً لكن بصيغة الضمير فقال : ( بها ) . وتوظيف صيغة
الماضي في جملة ( رضوا ) و ( اطمأنوا ) " للدلالة على التحقق والتقرير " ( )
.
ويحتمل هذا التكرار لشبه الجملة بصيغة الضمير أن يكون دالاً على التحقير
لهذه الحياة ، إذ هم على وهم أنها أفضل من الآخرة ، ولذا رضوا واطمأنوا
بالأدنى دون الأعلى .
* ومنه قوله تعالى : وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي
جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ
فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ
لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( ) ، حيث ذكر أولاً شبه
الجملة ( في الأرض ) ثم كررها مرة أخرى بتوظيف ضمير الغائب للمفرد المؤنث
العائد على كلمة ( الأرض ) فقال : ( فيها ) مرتين . يقول أبو السعود : "
المعنى : أتجعل فيها من يفسد فيها خليفة . والظرف الأول متعلق بتجعل ،
وتقديمه لما مرّ مراراً . والثاني بيفسد ، وفائدته تأكيد الاستبعاد ، لما
أن في استخلاف المفسد في محلّ إفساده من البعد ما ليس في استخلافه في غيره "
( ) .
فالتكرار هنا لشبه الجملة ذات الضمير على دلالة الاستنكار على (
المستَخْلَف ) لا الاستنكار على ( المُسْتَخْلِف ) . كما أنه على معنى
الاستبعاد لاستخلاف سبب فساد الأرض في مكان إفساده نفسه ، إذ ذلك ما لا
يستقيم مع علومهم وعقولهم . ويرى ابن عاشور أن التكرار هنا " لضمير ال{ض
للاهتمام بها ، والتذكير بشأن عمارتها ، وحفظ نظامها ، ليكون لك أدخل في
التعجب من استخلاف آدم ، وفي صرف إرادة الله تعالى عن ذلك إن كان في
الاستشارة ائتمار " ( ) .
* وعليه قوله تعالى : وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ
تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ
أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ
إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم
مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ ( ) ، حيث ذكر شبه الجملة ( من النار ) ثم كررها بالضمير في
قوله ( منها ) . يقول الزمخشري : " كنتم مشرفين على أن تقعوا في نار جهنم
لما كنتم عليه من الكفر ، فأنقذكم منها بالإسلام . والضمير للحفرة أو للنار
أو للشفا ، وإنما ُأنِّّثَ لإضافته إلى الحفرة وهو منها " ( ) . فجعل
التكرار هنا للتأكيد على الإنقاذ بالإسلام .
* ومنه قوله تعالى : لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى
وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ
جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ سُوءُ
الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ( ) ، حيث عبّر
أولاً بشبه الجملة ( لربّهم ) ثم كررها بالضمير في قوله ( له ) . والدلالة
المستفادة هنا أن التعبير بلفظ ( ربهم ) مسبوق بحرف الجر ( اللام ) في جانب
أهل الإيمان ممن استجابوا لدعوة الحق ، فكان جزاؤهم الحسنى . فناسب ذكر
الاسم الصريح هنا مقام الاستبشار والاستئناس بهذا اللفظ الدال على موجبات
الرحمة والعناية . لكنه عدل إلى توظيف الضمير العائد عليه سبحانه وتعالى
دون ذكر الاسم الصريح في جانب أهل الكفر والعناد كنوع من التبكيت والتقريع ،
ولذلك حذف الجزاء فلم يقل ( لهم السوأى ) ، كما قال في جانب أهل الإيمان
أن ( لهم الحسنى ) . يقول أبو السعود : " الموصول مبتدأ ، والشرطية كما هي
خبره ، لكن لا على أنها وضعت موضع ( السوأى ) فوقعت في مقابلة الحسنى
الواقعة في القرينة الأولى لمراعاة حسن المقابلة ، فصار كأنه قيل : (
والذين لم يستجيبوا لهم السوأى ) كما يُوهِم ، فإن الشرطية وإن دلّت على
سوء حالهم ، لكنها بمعزل عن القيام مقام لفظ ( السوأى ) مصحوباً باللام
الداخلة على الموصول أو ضميره " ( ) . فكرر هنا
للتهويل مما ينتظرهم لعدم الاستجابة ، والتقريع بإبهام الجزاء لهذه العناد .
هكذا يتسق التوظيف القرآني لسياقات شبه الجملة في تعانقها مع فنية التكرار
لأداء مقاصد دلالية في نسيج النص القرآني ، ورعاية لسياقات التعبير في هذه
التوظيفات .
ثانياً : تكرار الجملة
تتكرر الجمل في القرآن الكريم على صورتين هما :
أ – التكرار التام المتماثل : أي تكرار الجملة كما هي بلا تغيير في
مركباتها التكوينية . وعليه قوله تعالى : فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ وهي جملة فعلية تكررت كما هي في سورة الرحمن في ( 31 إحدى
وثلاثين آية ) .
ب – التكرار غير التام : أي تكرار الجملة مع بعض التغيير في بنياتها
التركيبية . وعليه قوله تعالى : كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ
وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ
وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الْأَحْزَابُ إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ
الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ( ) ، حيث كرّر التركيب الدال على التكذيب مع
التنويع في صور هذا التركيب .
ونفصل القول في تكرار الجمل من حيث اسميتها أو فعليتها كما يلي :
1-تكرار الجملة الاسمية :
تتكرر الجملة الاسمية في النص القرآني لتوكيد المعنى وتقرره في النفس ، مع
الارتباط في الوقت ذاته بالدلالة على أغراض سياقية خاصة بكل سياق تكراري .
وقد ورد تكرار الجملة الاسمية في القرآن الكريم بكثرة . فمن ذلك قوله تعالى
: أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ
السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ
لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ
يَعْدِلُونَ أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا
أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ
حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَمَّن
يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ
خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ
أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ
الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ
تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ
يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ
اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ) . فقد
كرر هذه الجملة الاسمية ( أإله مع الله ؟) المكونة من : ( همزة الاستفهام +
المبتدأ النكرة ( إله ) + الخبر شبه الجملة ؛ الجار والمجرور ( مع الله ) ،
في خمسة مواضع متتالية في هذه الآيات . يقول أبو حيان في تفنيد هذا
التكرار الجملي : " اعتقب كل واحدة من هذه الجمل قوله تعالى ( مع الله بل )
على سبيل التوكيد والتقرير أنه لا إله إلا هو تعالى " ( ) .
فقد ذكر سبحانه وتعالى هنا على سبيل الإنعام على العباد في معرض المحاجاة ،
فذكر خلق السماوات والأرض ، وإنزال الماء من السماء ، وإنبات الحدائق
والأشجار ، وشق الأنهار ، وخلق الجبال والبحار ، وإجابة الدعاء ، وإرسال
الرياح ، وبدء الخلق وإفنائه ثم بعثه من جديد . وفي هذه المحاجاة يكون
السؤال التهكمي : أإله مع الله يفعل مثل هذه الأفعال ؟! والإجابة بالتأكيد :
لا . ولذا كان تعقيب هذه الجمل بحرف الإضراب ( بل ) دلالة على كذب دعواهم ،
وفساد ما ذهبوا إليه .
ويربط الكرماني تكرار هذه الجملة في خمس آيات على التوالي بما يليها من
ختام وتعقيب لكل آية منها . يقول : " قوله تعالى : ( أإله مع الله ) في خمس
آيات على التوالي ، ختم الأولى بقوله : ( بل هم قوم يعدلون ) ، ثم قال : (
بل أكثرهم لا يعلمون ) ، ثم قال : ( قليلاً ما تذكرون ) ، ثم قال : (
تعالى الله عما يشركون ) ، ثم ( هاتوا برهانكم إن كنتم
صادقين ) ، أي : عدلوا . وأول الذنوب العدول عن الحق ، ثم لم يعلموا ، ولو
علموا لما عدلوا ، ثم لم يتذكروا فيعلموا بالنظر والاستدلال ، فأشركوا من
غير حجة وبرهان ، قل لهم يا محمد ( هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) " ( ) .
فهو يسير مع التدرج العقلي في الاستدلال بالعقل على الله من خلال النظر في
خواتيم الآيات ، وربطها بهذا الاستدلال .
* ومنه قوله تعالى : وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ( ) ، التي
تكررت في ( 10 عشر آيات ) ، والتكرار هنا وارد بعد ذكر كل أمر عظيم من أمور
الدنيا والآخرة ، إذ يفيد هذا الوعيد للمكذبين الدلالة على التخويف
والتهديد الذي ترجف منه القلوب . يقول الكرماني في تعليل هذا التكرار
للجملة الاسمية : " لأن كل واحدة منها ذُكِرَت عقيب آية غير الأولى ، فلا
يكون تكراراً مستهجناً ، ولو لم يكرر كان متوعداً على بعض دون بعض " ( ) .
ويرى الطوفي أن التكرار لهذه الجملة الاسمية في السورة من قبيل التكرار
الذي فائدته " تحقيق وقوع الويل بهم ، وتأكده ، تحذيراً من التكذيب ،
وتنفيراً منه ، أو زجراً " ( ) .
أما الرازي فيرى أن إعادة الجملة الاسمية ضروري " لأنه ذكر ذلك عند قصص
مختلفة ، فلم يعد تكراراً (مستقبحاً) لأنه أراد بما ذكره
أولاً ( ويل يومئذ للمكذبين ) بهذه القصة ، ثم لما أعاد قصة أخرى ذكر مثله
على هذا الحدّ ، ولما اختلفت الفائدة خرج عن أن يكون تكراراً " ( ) .
* ومنه قوله تعالى : فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ التي تكررت في ( 4
أربع آيات ) هي (16–18–21–30) ( ) . يقول الكرماني في تعليل تكرار هذه
الجملة الاسمية ، بأن هذا التكرار : " ختم به قصة نوح وعاد وثمود ولوط لما
في كل واحدة منها من التخويف والتحذير ، وما حلّ بهم " ( ) .
فالتكرار هنا على تبيان دلالة التخويف مما حلّ بالأمم السابقة لما كفروا ،
ثم التحذير من إمكانية وقوع مثل هذا العذاب لمن يجدد هذا الفعل التكفيري ،
أو ن يجحد الإيمان بالله تعالى .
2- تكرار الجملة الفعلية :
الجملة الفعلية أكثر تكراراً من الجملة الاسمية في العربية ، وهذه الكثرة
ربما تعود إلى أن الفعلية تعبّر عن الحدث غالباً ، والحدث يتسم بالتكرار ,
ويذكر إسرائيل ولفنسون أن " اللغات السامية في الحقيقة تعتمد على الجمل
الفعلية أكثر من اعتمادها على الاسمية . فالفعل في اللغات السامية هو كل
شيء ، فمنه تتكون الجملة ، ولم يخضع الفعل للاسم والضمير ، بل نجد الضمير
مسنداً إلى الفعل ، ومرتبطاً به ارتباطاً وثيقاً " ( ) .
والتكرار بالجملة الفعلية إنما هو تكرار للحدث مرتبطاً بالزمنية التي يتحقق
فيها وبها ، وبذلك فهذا التكرار الفعلي يتكئ في مقصده الأهم على ملابسات
الزمن بالحدث ، ثم التدرج إلى الاستفادة السياقية لهذا التعاضد النصي من
خلال الإلحاح على بنية التكرار في هذا السياق .
* ومن أبرز مظاهر التكرار للجمل الفعلية في القرآن قوله تعالى : فَبِأَيِّ
آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ التي تكررت في (31 واحد وثلاثين آية) من
سورة الرحمن ( ) . والجملة هنا فعلية تقدمت متعلقاتها ( الجار والمجرور )
على الفعل . يقول المرتضى : " أما التكرار في سورة الرحمن فإنما حَسُنَ
للتقرير بالنعم المختلفة المتعددة ، فكلما ذكر نعمة أنعم بها قرّر عليها ،
ووبّخ على التكذيب بها " ( ) .
وملمح التكرار هنا لتعدد النعم هو الذي هيمن على تفكير أهل البلاغة لتحليل
التكرار في هذه السورة . يقول العسكري : " كرر الله عزّ وجلّ في سورة
الرحمن قوله : ( فبأي ألاء ربكما تكذبان ) ، وذلك أنه عدّد فيها نعماءه ،
وادّكر عباده ألاءه ، ونبههم على قدرها وقدرته عليها ، ولطفه فيها ، وجعلها
فاصلة بين كل نعمة ليُعرَف موضع ما أسداه إليهم فيها " ( ) .
ويرى د. عبد الملك مرتاض أن " تكرار هذه الآية يعكس خصوصية الأمر ، أو
الاحتفاء به ، أو توكيده ، أو الرغبة إليه ، أو الحنق عليه ، أو الرضا عنه .
كما أن التكرار استطاع أن يُكَيِّف سطح الخطاب في هذه السورة ، ويؤثر في
طبيعة بنائه ، وهندسة معمارية نسجه ، إضافة إلى أنه منح هذه السورة العروس
شيئاً من التمكن والثبات للإيقاع الذي يقوم عليه المقطع (آن) " ( ) .
كما أن تكرار هذه الجملة الفعلية يتوزع في السورة على أربعة أقسام هي :
الأول : في الآيات من (13–30) ، ويدور على تعداد نعم الله في الخلق ، تكررت الآية فيه (8 ثماني مرات) .
والثاني : في الآيات من (31-45) ، ويدور على ذكر العذاب بالنار ، تكررت الآية فيه (7 سبع مرات) .
والثالث : الآيات من (46-61) ، ويدور على بيان النعم الأخروية كالجنة ، تكررت الآية فيه (8 ثماني مرات) .
والرابع : الآيات من (62-78) ، ويدور على ذكر الجنتين وما فيهما من نعم ، تكررت الآية فيه ( 8 ثماني مرات) .
يقول د. أحمد بدوي : " لعلّ في هذا السؤال ( فبأي ألاء ربكما تكذبان )
المتكرر ما يثير في نفس سامعيه اليقين بأنه ليس من الصواب نكران نعم تكررت ،
وألاء توالت " ( ) .
وهكذا يسهم تكرار الجملة الفعلية في سورة الرحمن في إفادة الكثير من
الدلالات والمعاني في نسيج السورة ، كما أنه انعقد على إفادة التجدد
الحدوثي ، وارتباطه بالزمنية المطلقة في هذه العطاءات والنعم .
* ومن ذلك أيضاً قوله تعالى : لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ
الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ
فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً
وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ قُلْ إِن
تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ
وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ
مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا
وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ
رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ ( ) . حيث تكررت جملة ( ويحذركم الله نفسه ) مرتين
في هذه الآيات . يقول أبو السعود : " ( ويحذركم الله نفسه ) تكرير لما سبق ،
وإعادة له ، لكن لا للتأكيد فقط ، بل لإفادة ما يفيده قوله عز وجل : (
والله رؤوف بالعباد ) من أن تحذيره تعالى من رأفته بهم ، ورحمته الواسعة ،
أو أن رأفته بهم لا تمنع تحقيق ما حذرهموه من عقابه ، وأن تحذيره ليس
مبنياً على تناسي صفة الرأفة ، بل هو متحقق مع تحققها أيضاً " ( ) .
ويفند الكرماني هذا التكرار بقوله : " كرره مرتين لأنه وعيد عطف عليه وعيد
آخر في الآية الأولى ، فإن قوله : ( وإلى الله المصير ) معناه :
مصيركم إلى الله ، والعذاب معَدّ لديه ، فاستدركه في الآية الثانية بوعد ،
وهو قوله تعالى : ( والله رؤوف بالعباد ) . والرأفة أشد من الرحمة . وقيل :
من رأفته تحذيره " ( ) .
* ومنه قوله تعالى : فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ
قَدَّرَ ( ) ، حيث كرر جملة فعلية هي ( قتل كيف قدر ) ، وهما جملتان ؛
جملة ( قُتِلَ ) وجملة ( قَدَّرَ ) ، في سياق وصف الوليد بن المغيرة ،
وبيان حاله حين سمع القرآن من المصطفى . يقول أبو السعود في بيان جمالية
هذا التكرار للجملتين الفعليتين: " ثناء عليه بطرق الاستهزاء به ، أو حكاية
لما كرروه من قولهم : ( قتل كيف قدر ) تهكماً به ، وبإعجابهم بتقديره ،
واستعظامهم لقوله " ( ) .
ويحلل الألوسي هذا التكرار بقوله : " تكرير للمبالغة كما هو معتاد من أعجب
غاية الإعجاب . والعطف يتمّ للدلالة على تفاوت الرتبة ، وأن الثانية أبلغ
من الأولى ، فكأنه قيل : قُتِلَ بنوع ما من القتل ، لا بل قُتِلَ بأشده
وأشده ، ولذا ساغ العطف فيه مع أنه تأكيد " ( ) .
فالتكرار في هذا الموضع للجملتين الفعليتين قائم على دلالة المبالغة في الجزاء الشنيع لهذا الكافر المعاند .
هكذا يكون تكرار الجملة الفعلية موظفاً بدقة في سياقات النص القرآني على
إرادة ما يستفاد من التعبير بهذه الفعلية من تجدد حدوث الفعل ، وارتباطه
بالزمنية التي تحويه ، وتسمح بتجدده ، ثم الارتباط بسياقات الآية ، ونسيج
السورة كلها . وهذا التلوين التكراري تنعقد مقصديته على إيضاح الجانب
الإيقاعي في السياق القرآني من ناحية ، ثم بيان الانسجام والتماسك النصي
والدلالي لهذه التكرارات القرآنية .
الهوامش :
1. - سورة البقرة : آية رقم ( 114 ) .
2. - أبو السعود ، إرشاد العقل السليم ، 1 / 101 .
3. - ابن عاشور ، التحرير والتنوير ، 2 / 285 .
4. - سورة الفاتحة : آية رقم ( 7 ) .
5. - الزمخشري ، الكشاف ، 1 / 17 .
6. - سورة الروم : آية رقم ( 49 ) .
7. - ابن الأثير ، الجامع الكبير ، 206 .
8. - الطوفي ، الإكسير ، 274 .
9. - العكبري ، إملاء ما من به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات في جميع القرآن ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1995 ،1/ 187.
10. - ينظر : الأخفش ، معاني القرآن ، 2 / 476 .
11. - سورة يونس : آية رقم ( 7 ) .
12. - أبو السعود ، إرشاد العقل السليم ، 3 / 138 .
13. - سورة البقرة : آية رقم ( 30 ) .
14. - أبو السعود ، إرشاد العقل السليم ، 1 / 56 .
15. - ابن عاشور ، التحرير والتنوير ، 2 / 230 .
16. - سورة آل عمران : آية رقم ( 103 ) .
17. - الزمخشري ، الكشاف ، 1 / 395 .
18. - سورة الرعد : آية رقم ( 18 ) .
19. - أبو السعود ، إرشاد العقل السليم ، 4 / 93 .
20. - سورة ص : الآيات من ( 12 – 14 ) .
21. - سورة النمل : الآيات من ( 60 – 64 ) .
22. - أبو حيان ، البحر المحيط ، 9 / 197 .
23. - الكرماني ، البرهان في توجيه متشابه القرآن ، 260 .
24. - سورة المرسلات : الآيات رقم ( 15 – 19 – 24- 28 – 34 – 37 – 40 – 45 – 47- 49 ) .
25. - الكرماني ، البرهان في توجيه متشابه القرآن ، 320 .
26. - الطوفي ، الإكسير ، 277 .
27. - الرازي ، نهاية الإيجاز ، 389 .
28. - محمد فؤاد عبد الباقي ، المعجم المفهرس ، 559 .
29. - الكرماني ، البرهان ، 305 .
30. - إسرائيل ولفنسون ، تاريخ اللغات السامية ، دار القلم ، بيروت ، 1980 ، 15 .
31. - محمد فؤاد عبد الباقي ، المعجم المفهرس ، 704 .
32. - المرتضى ، غرر الفوائد ودرر القلائد ، تحقيق : محمد أبو الفضل إبراهيم ، دار الجيل ، بيروت ، 1988 ، 1 / 123 .
33. - العسكري ، كتاب الصناعتين ، 194 . وينظر : عبد الجبار ، تنزيه
القرآن عن المطاعن ، 409 . – الكرماني ، البرهان في توجيه متشابه القرآن ،
306 .
34. - د. عبد الملك مرتاض ، نظام الخطاب القرآني ، تحليل سيميائي مركب لسورة الرحمن ، دار الثقافة ، الدار البيضاء ،2003 ،328 .
35. - د. أحمد بدوي ، من بلاغة القرآن ، 153 .
36. - سورة آل عمران : الآيات من ( 28 – 30 ) .
37. - أبو السعود ، إرشاد العقل السليم ، 1 / 197 .
38. - الكرماني ، البرهان ، 129 .
39. - سورة المدثر : الآيتان رقم ( 19 ، 20 ) .
40. - أبو السعود ، إرشاد العقل السليم ، 9 / 128 .
41. - الألوسي ، روح المعاني ، 10 / 206 .
</blockquote>