انه لما كان تأويل النصوص مهمة شرعية لعلم الأدب، فقد رأى نفسه في السنوات الأخيرة موضع اعتراض متزايد، بل وجد نفسه فاقداً للثقة تحت هيمنة اللسانيات، والبنيوية، ونظريات التلقي. ولقد غدا، على نحو خاص، ضربا معيناً من التأويل، التأويل المحايث الذي لا يهتم إلا بالنص، هدفاً لهجومات منوعة.
ليس الانزعاج الذي يحدثه فن التأويل واقعة تحدثها المصادفة. ويجب بالأحرى أن يعزى إلى نقص لا يقبل الجدل في ممارسة علم الأدب. ولكن هذه الملاحظة لا تعني بأن التأكيد الذي قيل غالباً بوجوب التخلي عن التأويل مستقبلا، يمكن قبوله من غير أي تبرير.
ولا يمكن القول على أي حال، أن النظريات المادية هي التي بسطت هيمنتها، منذ منتصف الستينات، على نحو هائل، وهي التي وضعت التأويل موضع شك جوهري. وبكل تأكيد، فإن النقد الماركسي قد وضع موضع البداهة الايديولوجية البرجوازية للتأويل التقليدي. ولامس ممارسة معينة للتأويل الذي لم يوضح قط افتراضاته المسبقة ومسلماته، على الرغم من الجهد المبذول، والذي هو مطالب، بالإضافة الى هذا، أن يقوم في موقع يكون فيه انتاجاً للبرجوازية في سياق تاريخي. ولكن هذا العرض لا يقدم، حتى من منظور ماركسي هجوماً أساسياً ضد فن التأويل. فهو يستعمل، كما كان يفعل ذلك زميله الماركسي، الجهاز الأدائي للهيرمينوطيقا مع فارق يكمن في كونه يضع موضع عاداته التأويلية البرجوازية عادات أخرى، تم اختيارها برويّة.
لقد ساهمت النظريات الماركسية، وهذا مما لا شك فيه، الى حد كبير في إرساء الوعي بشروط العمل التأويلي ومستلزماته، حتى عند أولئك الذين أظهروا أنفسهم معتقدين بأنه يجب استبعاد «الذاتية» الى أكثر حد ممكن من أجل إنشاء العلاقات التاريخية التي تفرض نفسها. ولكن حتى أنصار التأويل التقليدي الذين كانوا هم أنفسهم يعتقدون بأنهم يقفون على منحدر التقدم غير النهائي، فقد أغضبهم النقد الماركسي، بل دفعهم أيضا الى مراجعة مواقفهم. فالذي هز التقاليد على نحو نهائي إنما هو تيارات أخرى. ويجب على المرء ان يذكر من بين هذه التيارات تيار هيرومينوطيقا التحليل الذاتي، والذي أثار باستمرار مناقشات جديدة، خصوصاً في ألمانيا وبعد أعمال فريديريك شلايرماخر وويلهلم ديلثي. ولقد رأينا من قبل في عام 1927 ان مارتان هيدغر قد حول في كتابه «الكائن والزمن» الهيرومينوطيقا التقليدية للعلوم الانسانية إلى «هيرومينوطيقا للوجود» فالفهم، كما يرى، لا يمكن أن يتم إلا في إطار كلية دالة توجد مسبقا، فيتأسس كل تأويل نصي ويتجه بفضل متصور مسبق. هذا وإن آفاق التحليل قد ثبتها إطار مراجعي بسبب هذا المتصور (وايلت). وينعكس هذا الاطار المرجعي بدوره في اللغة، حيث تترسب معرفة المعنى على نحو تاريخي ويؤول بعضها بعضاً.
ولقد طور جورج هانس غادامير في كتابه «حقيقة ومنهج» (1960)، استناداً الى هذه الهيرمينوطيقا العالمية، نظريته عن الفهم والتي يراها أداة لتحليل المجتمع الانساني كله. ولكن كان غادامير في الوقت نفسه يكرس نفسه مثل هايدغر للقضية الخاصة بالتأويل النصي. إذ أن رأي المفسر «المسبق الصنع»، بالنسبة إليه ايضا، يعد شرطاً ضروريا يخضع له كل تأويل. ومع ذلك، فانه يمكن تجاوز الذاتية المحضة الى حد ما، وذلك عندما يعمد المؤول عن وعي الى إدماج رأيه المسبق الصنع فيصل بهذا الى «تشويش أفق» الحاضر والماضي. وبما ان المتصور المسبق للمؤول قد تشكل في جزء كبير منه في اطار تقاليد التحليل النصي، فإنه لمن الملائم أن ندمج في التأويل ضرباً من «الوعي التعاقبي بالمؤثرات»، وبهذا فان النص والمؤول يتطوران بفضل الحوار. فمعرفة النص ومعرفة المؤول لذاته، يتعاونان من غير أن يُحرم التأويل، بسبب هذا، من أي ارتباط بالموقف.
وأما «ج. هابرماس» فقد طور جزئياً اطروحات غادامير، وعمل على تحويل العلاقة الحوارية بين النص والتأويل، كما عمل على تحويل منطق السؤال والجواب الذي وصفه غادامير بالإحالة الى كولانغتون وذلك في بنية التأويل التواصلي: «الفهم تجربة تواصلية» (هابرماس: ٢٧).
وثمة تيارات أخرى قد ساهمت أيضا، في الفترة ذاتها، في وضع مفهوم التواصل، بوصفه علاقة أساسية بين النص والقارئ، في قلب المناقشة. فاللسانيات الحديثة، إذ حددت اللغة بوصفها نسقاً من العلامات، فإنها قدمت دفعاً هائلاً. ويمكن لمواضعات اللغة العادية التي تضبط العلاقة بين المدلول والدال، أن تقوم في النص الأدبي، وإن تعدد التكافؤ الذي ينتج عنها يصبح واحدا من سماتها الرئيسية، وليس علامة للنوعية كما تم تصور ذلك بتأثير من الرومانسية. ومع ذلك، فان اللسانيات لم تنجح بعد في انتاج نموذج قادر على صياغة الشروط التي تحدد تعدد التكافؤ لنص شعري. وقد كان على اللسانيين أنفسهم بأن يعطوا النص الأدبي، المدروس من منظور التواصل، أوصافاً مثل «التعدد الوظيفي» و«تعدد التكافؤ» (شميد، 1927).
وثمة تيار آخر يقوم أصله في بعض متصورات الفينومينولوجيا. ولقد وصل الى نتائج مشابهة. وإذا عدنا الى كتاب انغاردن «العمل الأدبي». فسنجد انه قد صدر في عام ١٣٩١، ولكنه لم يلق مع ذلك صدى إلا في عام 1968، وذلك في اللحظة التي ظهر له فيها كتاب آخر بترجمة ألمانية:
(Vom Erkennen des literatischen Kunstwerks) فلقد رأى انغاردن في العمل الأدبي «بناء ترسيميا». فالاشياء، والأشخاص والأفعال، وكذلك تمثيل موضوعيتهم، قد ظهروا في النص على نحو «ناقص»، يتعارض مع التحديد الممثل «عدم التحديد» الذي يجب على القارئ أن يتممه. وان هذا ليحصل عندما «ينفَّذ» العمل و«يحيَّنه». وان هذا بوصفه بناء ترسيمياً وقصديا، فانه لا يصبح فعلاً عملاً إلا بفضل تحيينه الذي ينجزه القارئ. وتبعاً لانغاردن، فان القارئ، يتمم في لحظة قراءته تمثيل الشخصيات، والأفعال، والوقائع، وذلك حين يتمم العدد المحدد. وانه ليصل أخيرا، بفضل «الموضوعات التركيبية، الى التجربة الجمالية» لدال العمل الأدبي كله. ويتعلق تفكير انغاردن الأكثر حسماً والأكثر غنى بالنوعية الخاصة للنص الأدبي. ويتطلب النص الأدبي، بسبب طبيعته الخاصة، مشاركة القارئ لكي يقوم بتحيينه. وانه لحقيقة أن انغاردن يرى ان القارئ هو المنفذ لما كان مخططاً لوجوده بالقوة في النص، وهو الذي ينهي العمل الذي ربما يبقى من غيره، بناء تخطيطياً. بيد انه لا يتصور نشاطا يمثل تفرد القارئ، ولا ينبعث إلا منه وحده. ويصنف انغاردن تحيينات العمل نفسه، والتي نستطيع أن نتصور بأنها متعددة وتم انتاجها بالفعل على امتداد التاريخ الأدبي، الى فئتين: فئة تكون مناسبة للعمل، وفئة غير مناسبة له، بل فئة تزوره.
وتسمح مثل هذه الأفكار، مع ذلك، بإدماج القارئ بوصفه عنصراً مكوناً للنص الأدبي، ولقد احتل هذا الأمر الأهمية الأولى، لأن المتصور التقليدي قد وضع موضع الشك انطلاقاً من تحليل بينية النص، مع ان النص تبعاً لهذا المتصور التقليدي يبقى بالنسبة الى القارئ، او المفسر كينونة دالة ومتماثلة مع ذاتها.
ولقد ظهر تيار آخر أيضا نحو نهاية الستينيات، وقد كان له أثر كبير، لا سيما في ألمانيا، وهو يتصاهر مع هذا البحث: المقصود هو نظرية التلقي. فلقد قاد بداية فحص تلقيات مختلف المؤلفين وفحص مؤلفاتهم الى إثبات أن هذه الاجراءات الخاصة بالتلقي تعطي معلومات مماثلة على الأقل تخص أولئك الذين يمارسون التحليل كما تخص الأعمال والمؤلفين المدروسين. ولقد لوحظ، بالإضافة الى هذا، انه يوجد غالباً تلقيات متناقضة للمؤلف نفسه او لعمله، فسمح هذا بإعادة النظر في العلاقة بين النص والقارئ- المؤول، وسمح بالتفكير كذلك انطلاقاً من وجهة النظر الجديدة هذه حول طبيعة العمل الأدبي الخاصة. ولقد تبين أن المتصور «غموض» (انغاردن) هو متصور منتج على نحو خاص في هذه الحالة، ولكنه تلقى في نظريات التلقي تأويلاً جديدا، نسب اليه وظائف أخرى، فانغاردن قد حدد الغموض بوصفه فراغات يجب أن يملأها القارئ لحظة التحيين الملائم. ولقد كان نشاط القارئ يقف حينئذ عند اتمام ما تم اقتراحه في النص على نحو غير مكتمل. وأما ولفغانغ آيزر، فقد وسع هذا المتصور وعمقه، وأضحى الغموض، بالنسبة إليه، الشرط الضروري للتأثير في النص. ويحتوي هذا الأخير على غموض ليس فقط بسبب التمثيل التخطيطي للأشياء، ولكن لأنه يمثل بين هذه التخطيطات فراغات تضمن للقارئ هامشاً اضافيا للتحليل. وان هذه الفراغات هي التي تسمح خصوصا للقارئ أن يؤقلم النص، وان يجعل تجربة الغرابة التي يخفيها هذا النص تجربته الخاصة: لا يصوغ النص نفسه معناه. فهو «لا يتوالد» ذاتياً أو «يتكون» ذاتياً في معنى نصي إلا بفعل القارئ:
«لا تلد معاني النصوص الأدبية إلا لحظة القراءة. إنها نتاج التفاعل بين النص والقارئ وليس نتاج القياسات المختبئة في النص والتي يستطيع التأويل وحده أن يكشف عنها. فعندما يولد القارئ معنى نص من النصوص، فانه لمنطقي في النهاية أن يعبر هذا المعنى عن نفسه في صيغة فردية»..(lser 1970:7)
إن هذا التأويل للنص وللقارئ اللذين جئنا على وصفهما، يضع قضايا التلقي والتأويل في اطار أكثر سعة لصيرورة التواصل. فالتلقي والتواصل يكونان عناصر صيرورة اكثر اتساعاً.
- ومع هذا التوجه للتأويل الأدبي، الذي لا يعرف أن يتقيد بأسماء هيدغر، وغادامير، وانغاردن، وآيزر فقط، فان قضية التأويل لا تزال تظهر جد حادة. ولكن في الوقت نفسه، فان المناقشة قد سمحت بإضاءة عدد معين من القضايا التاريخية للتأويل. وبالفعل، فإننا حتى الآن لم نكن واعين بالدور النشط للمؤول بوصفه متلقياً، وهو دور ضروري لإنجاز النص أو لجعله واقعاً. ولقد نستطيع أيضا ان نذهب فنقول ان النص على وجه العموم لم يكن مؤولاً بوصفه نصاً. فالشارح لم يؤول إلا ما يحوله الى واقع عملي، وذلك قبل او بعد تأويله (بوصفه قارئاً). وانه في معظم الأحيان، لم يكن ليفعل شيئا آخر غير أن يؤول «رؤيته» الخاصة للنص. ويجب أن لا نرى هنا سعياً للغش من جهته. فلقد أظهرت دراسة التفاعل التواصلي بين النص والقارئ ان النص، بوصفه بنية دالة، لا يقبل النفاذ إليه إلا بتحويله الى واقع تهيمن الذاتية عليه بالضرورة. ولهذا السبب، فإن المؤول إذا استمر بالعمل تبعاً للمناهج القديمة، فانه لا يستطيع في النهاية ان يقترح سوى تأويله الشخصي، وليس تأويلاً يزعم انه موضوعي.
وإذا نظرنا، من خلال هذا المنظور، الى نتائج التأويل الأدبي، كما تمت ممارستها حتى الآن، وعلى نحو مستقل عن توجهه العلمي، فسنجد ان الشارحين ليسوا في النهاية سوى قراء، وربما كانوا أحياناً قد قرأوا لآخرين وقرأوا باسم آخرين.
وانه لمن الضروري، في مثل هذه الظروف، اعادة تحديد أسس التأويل وأهدافه، هذا إذا أردنا أن نحتفظ بالتأويل بوصفه نشاطاً علميا، ويجب أن من اجل هذا، ان نفرق بوضوح بين التأويل والتلقي (القراءة، التحويل الى واقع)، وذلك لكي نتجنب بأن لا يكون سوى صورة بسيطة من التحويل الى واقع كان الشارح قد أعطاه الى عمل من الأعمال.
ثمة امكانية أخرى لإعادة النظر في التأويل. وقد كانت قد قدمت في مناسبات عديدة. وتقضي هذه الامكانية أن لا نؤول أولاً النصوص الأدبية، ولكن أن نؤول التلقيات المكتوية او الشفاهية، والموجودة من قبل للنصوص نفسها، وذلك من منظور تعاقبي او نقدي(١). ولقد اقترح انغاردن سابقاً امكانية استخلاص «تقرير) يسمح باعطائنا معلومات ثمينة حول العمل المقصود، وذلك بمقارنة مختلف تحولات العمل نفسه الى واقع.
وفيما يخص التأويل، بوصفه تفاعلا، فانه يبقى على الدوام ملونا بالذاتية، بل تهيمن الذاتية عليه. ويبدو ان مثل هذا الاجراء الذي يصب كل اهتمامه على التلقيات، يشتمل على عدد معين من الفوائد. فهو يبدو، قادرا ان يضمن قدراً أكبر من اليقين ومن الحقيقة في التحليل. ويبدو ، للوهلة الأولى، ان تعددية التلقيات تحمل معطيات اكثر قابلية للاستعمال وأكثر متانة من التأويل الذي ينجزه شارح واحد. وإننا لنفترض حينئذ أنه من الأكثر سهولة الحصول هكذا على نتائج مقبولة من منظور التفاعل الذاتي. وتضمن مقارنة عدد من التلقيات السابقة (والمواجهة مع تلقي الشارح) ظاهرياً شيئاً من الموضوعية.
وتستند مثل هذه المتصورات الى شرط مسبق، معبر عنه أو غير معبر عنه، أي تستند الى اليقين بأن مختلف التلقيات الذاتية بعضها يكمل بعض، وبعضها يصحح بعض، وذلك من أجل تكوين تأويل يكف عن أن يكون ذاتيا، بل ان النص نفسه يقره. ومع ذلك، حتى لو لم نكن من الرأي الذي يقول ان هذا التأويل «الموضوعي» سواء كان نتيجة لجمع وتركيب أم كان نتيجة لتوافق، فيجب أن نلاحظ بأنه يبدو مثل ترسب لتوافق يفهم هو بدوره بوصفه أثراً لنجاح التحليل الموضوعي.
لا يثير مثل هذا الموقف اسئلة، والشك والنقد يأتيان فقط من خروجه عن المنطق. وثمة ما هو أكثر: إن هؤلاء الذين يدافعون عن وجهة النظر هذه، إنما ينظرون الى التلقي والتأويل بوصفهما مترادفين، بل بوصفهما ظواهر متطابقة. ويجب الشك خصوصاً في صحة اجراء يريد بلوغ الهدف من تأويل موضوعي وذلك بممارسة اصطفاء وزيادة جمع لعناصر تنتمي الى تأويلات وتلقيات أخرى، سيتوجب عليها أن تكون بداية مؤولة بهذا الاتجاه. وإذا كان ثمة نتيجة أخرى، فتحدد دائماً تاريخيا واجتماعيا، ولا يمكن ان تكون ميزانية لسلسلة من التلقيات الممكنة. وتستطيع الميزانيات اللاحقة، مع ذلك، أن تأخذ بعين الاهتمام عناصر محذوفة من قبل. وفي هذا المنظور، ثمة من يفكر ان باستطاعته الوصول الى المطلق من خلال النسبي. ولقد نجد بهذه الفكرة القديمة للنص الذي يتضمن معناه الخاص كله. وإلا يكن ذلك، فان المعرفة الملائمة والموضوعية لن تكون في النهاية ممكنة.
يعد انطواء التأويل على تحليل التلقيات وسيلة وهمية، ولا يرفع المأزق الهيرومينوطيقي، ولكن يزيحه عن مكانه على الأكثر. ويجب على المرء أن يحاول الاحتفاظ بالتأويل، مثل تأويل النص، أي مثل شكل خاص يتصرف به العلم الأدبي بغية تحليل النص. ويفترض هذا أولاً معرفة دقيقة باجراءات التحويل الى واقع، وبصيرورات القراءة. وانطلاقاً من هذا، فيمكننا أن نحاول اعطاء تعريف للتأويل، بوصفه صيرورة منفصلة عن صيرورة التلقي.
- إن الصيرورات التي تعمل لحظة التلقي، والقراءة أو لحظة تحويل النص الى واقع، قد خضع حديثا لتحليل معمق. وتتفق النتائج التي هي في حوزتنا الآن على الاعتراف بأن القارئ ليس سلبياً بأي حال من الأحوال إزاء النص الذي ينشره أثناء القراءة أمام نشاط كبير. ويفعل المتلقي شيئاً ما مع النص. فهو يبنيه، مثلاً في جزء كبير منه، تبعاً لمقاصده الخاصة. ولقد أعطى غوتز واينولت وصف «توليفات النص» لصيرورات التلقي. ولقد يفضي كل لقاء مع النص الى توليفة ذات نظام نصي. ولا يكون التأويل العلمي لهذه التوليفة، تبعاً لواينولت، سوى شكل خاص. ولذا، فان ولفغانغ آيزر قد ألح أن الفهم او التوليفة التي تمارس ازاء النص تتم بشكل مختلف تماماً عن تلك التي تقوم بأدائها في تلقي الشيء:
«في حين أن الموضوع المنظور يقدم نفسه بوصفه كلية، فان النص لا يصبح موضوعاً إلا من خلال اجراء القراءة. وفي حين اننا موضوعون دائماً أمام الموضوع، فإننا نجد أنفسنا على العكس من ذلك في داخل النص دائما، وينتج عن هذا ان العلاقة بين النص والقارئ تقوم تبعاً لدرجة في الادراك مختلفة عن تلك التي تصلح بالنسبة الى صيرورة الادراك الحسي. فعوضاً عن أن يكون جزءاً من علاقة «ذات/ موضوع»، فان القارئ يتحرك في ميدان استقصائه كما لو انه منظور متحرك»(lser, 1976 : 177/178).
ومع ذلك، فانه لا يكفي أن يعرف المرء الاجراءات غير الخطية التي يخضع لها كل ادراك نصي، إذ يجب أيضاً أن يعرف تحت أي الشروط ومع أي الأهداف يلاحظ القارئ النص وينسب اليه معنى ما، هنا، يجب على المرء مثلاً أن يسأل نفسه إذا كان القارئ يقرأ النصوص الأدبية بعكس النصوص غير الأدبية (والتي سنسميها فيما سيأتي نصوصا تداولية على وجه الاجمال). والقضية- حولها يقوم جدل قوي. هي معرفة إذا كنا نستطيع أن نميز النصوص الأدبية من النصوص التداولية بمساعدة سمات موضوعية يمكن رؤيتها. ولقد تبقى هذه القضية مطروحة، وذلك لأن ممارسة التلقي تسمح بتمييز «تلق أدبي» لـ«تلق تداولي». فنظريات التلقي ترى أنه توجد غالبا نصوص أدبية من جهة، ونصوص تداولية من جهة أخرى، وأن لهذه النصوص طرقاً مختلفة في أدائها الوظيفي. والقضية تكمن في معرفة أي من أشكال التلقي أو التوليف النصي يجب أن يكون مطبقاً. وإذا كان هذا هكذا، فإن الأمر يتعلق بعدد من العوامل.
إننا نستطيع أن نجعل ظاهرة التلقي النصي أكثر شفافية، وذلك إذا كنا نرى النقاط، حيث التوليفات الأدبية والتوليفات التداولية يبتعد بعضها عن بعض. ويمكن أن نحاول وصفاً للنموذج يتمثل في الخطوط الكبرى لهذين الشكلين من التلقي. ويمكننا ان نفترض ان التوليف الأدبي يتم انجازه تبعاً لصياغات الأهداف المختلفة للتوليف التداولي.
سنحاول هنا ان نصف تقريباً نوعية التوليف، آخذين مثلاً لنا نصا من نصوص كافكا:
«لقد كان الوقت باكرا، هذا الصباح، وكانت الشوارع فارغة وايضا خالية من الدنس. وكنت ذاهباً الى محطة القطار. وإني إذ أقارن الزمن الذي تشير اليه ساعتي والذي تشير اليه ساعة المحطة، أرى أن عليّ أن أكون على عجل. وأفزعني هذا الاكتشاف وجعلني أتيه. فأنا ما أزال لا أعرف جيداً هذه المدينة، ولحسن الحظ، فقد رأيت شرطيا، فركضت نحوه وسألته، وأنا مقطوع النفس، طريقي، ابتسم وقال:
«هل تريد أن تعرف مني أين يكون طريقك؟»- «نعم، أجبت، وذلك لأنني لا استطيع أن أجده وحدي» قال لي: «تخل، تخل»، وادار لي الظهر بفظاظة، مثل الناس الذين يريدون أن يبقوا وحيدين مع ضحكتهم»(kafka Die Erzahlungen. p337).
إننا نستطيع أن نقرأ هذا النص من وجهة نظر أدبية كما نستطيع أن نقرأه من وجهة نظر تداولية. وان القارئ في الحالة الاخيرة، ليربطه بالواقع اليومي. فهو قائم مباشرة في اطار تداولي واقعي، أو ان القارئ ينقله الى وضع تداولي. فالنص يعمل تبعاً لطريقة تداولية، وذلك عندما نفهمه بوصفه خبراً في جريدة محلية تقصي أثر زيارة فرد ما في المدينة. ألا وإن رد فعل الشرطي يجب أن يظهر حينئذ غير مهذب. فالمخاطبة بالضمير «أنت» تؤخذ بوصفها علامة ملائمة لقلة أدبه أو لشذوذه. فالنص ذكر سلوكاً متزاحما، وقابلاً لتعيين هويته بفضل المعايير المقبولة عموماً في الواقع اليومي. وأخيرا، فان النص إذا قرئ من وجهة نظر تداولية، فإنه يحض المؤسسات المسؤولة في المدينة لكي تتخذ موقفاً. وإن هذه المؤسسات لمدعوة الى طرد الشرطي المخطئ. وهكذا، فان التلقي التداولي يثير توليفاً يرى في النص توجيهاً للتصرف، ودعوة لإنجاز فعل يقوم خارج النص.
وأما في حالة التلقي الأدبي، فان القارئ يرمي منذ البدء بالبعد التداولي بوصفه غير ملائم. وان وضع النص في سياق واقعي مرفوض قصداً. فالنص لا يفهم بوصفه تحريضاً على الفعل. فالمعاني التي يمكن أن تستخلص من التعميمات ومن السياقات التداولية متسعة، ثم مرفوضة، وذلك لكي تعوضها تعميمات اخرى، فالنص معاد تأويله. و«أنا» الراوي لا ينظر اليها بوصفها «أنا» محدودة، ولكن بوصفها ممثلة للانسانية. وكذلك، فان الشرطي لم يعد شرطياً محددا، ولكنه يمثل مؤسسات معينة، وقيما معينة، ومتصورات معينة، ويميل التلقي الأدبي الى قراءة النص بوصفه حكمة. وان الحكمة في هذه الحالة المحددة هي الآتية: ان الانسان اذ هو فوق الأرض، فانه يبحث على الدوام، ولعله يبحث عن هدف، وإن الزمن والواقع التاريخي ليتحركان على نحو يضيع معه توجهه. ولهذا السبب، فانه يتوجه الى الآخرين الذين يبدون أنهم مختارون لكي يظهروا له الطريق. ولا يستطيع هؤلاء الحماة (الفلاسفة، اللاهوتيون) أن يساعدوه مع ذلك. وكل ما يستطيعون فعله على الاكثر هو انهم يدركون على نحو أفضل الوضع المتاهي للانسان. وإن المخاطبة بالضمير «أنت» لتجعل قيمة الحكمة بارزة على نحو دال جداً: لا تغطي العبارات المؤدبة السمة القدرية والأولية الوضع. وهكذا سيكون التلقي الأدبي للنص تلقياً تقريباً. (من اجل تدقيق اكبر، انظر ،Politzer 1962).
ان هذه الخطاطة، الموجزة والقوية في تدرجاتها اللونية، هي خطاطة للتلقي الأدبي الذي يخضع له القارئ/ المتلقي للنصوص التي يقرر انها أدبية. ويقضي مبدأ هذه الاجراءات في الواقع بأن يعالج القارئ اشارات المعاني التي ليست متطابقة والتي لا تعزى إليها طبعياً في الأوضاع التواصلية ذات النظام التداولي. وحتى لو أعطى تفكيك الشرعية التواضعية للعلامات، أي التلقي التداولي، مجموعة متماسكة في ذاتها، كما هي الحال في المثل الذي أعطيناه، فان الحكم على هذا المجموع الدال هو حكم بالاحرى غير كاف، لأنه لا يولد ما يكفي من «المعاني» في نظر التلقي الأدبي. ويجب على المتلقي حينئذ ان يعيد فهرسة اشاراته الدالة على المعاني الجديدة والمختلفة، وان يوجه انتخابها وعلاقاتها المتبادلة وذلك لكي تلد مجددا مجموعة متماسكة، وجديدة، هذه المرة، وان تجيب عن مطالب التلقي الأدبي فيما يخص المعنى.
تعد إعادة تأويل المضامين الدلالية التواضعية- أو التداولية- جوهرية بالنسبة الى التلق الأدبي. فهدفها هو انتاج معنى وانتاج تماسك متنقل التداول. ولكن قبل ان يصير التماسك والمعنى منجزين من جديد، فان النص يعبر مرحلة أساسية من الفراغ الدلالي، والذي هو نتيجة لرفض التلقي التداولي. وبسبب هذا الفراغ او بسبب عدم التحديد الدلالي، فان التلقي يستطيع ان يصل الى نتائج جد منوعة. ويمكن لهذا الفراغ أن يمتلئ بمعان يباين بعضها بعضا كثيراً. ومع كل معنى يتم الوقوف عليه، نجد ان التأسيس الخاص للتماسك وللمعنى يمثلان وظيفة للوضع الفردي، والاجتماعي، والتاريخي للمتلقي. فتلقيه انما يثبته نسق المعنى الذي يعيش فيه والذي يعرفه. وان تأسيسات الادراك والمعاني تحددهما ايجاباً وسلباُ أنساق الادراك والمعايير لدى المتلقي. ويستطيع متلقون مختلفون في النتيجة ان يعزوا لإشارات النص المأخوذ معزولاً قيما متعارضة تماماً. ويمكننا مثلا أن نتصور تلقياً أدبياً لنص كافكا يمثل الشرطي فيه معياراً سلبياً. ونستطيع من منظور ديني معين ان نعزوا الى النص معنى ينظر فيه الى الشرطي بوصفه مفسداً شيطانيا، يجعل الانسان المريب ينحرف عن الطريق الحق لأمد دائم.
ينزلق النص في الفترة البدئية للتلقي الأدبي، نحو إمكان الحدوث الدلالي، وعدم التحديد. بيد انه يخرج بعد ذلك من هذا. وان وجهة النظر التداولية، بمعنى ما، إذ تكون مرفوضة في بداية الاستقبال الأبدي، فانها ترى نفسها أخيراً قد اعيد استثمارها في نهاية التلقي. وانه لمن المستبعد، على نحو أكيد، جعل النص يرسو في وضع واقعي، ويومي، وليس في تأويله بوصفه حضاً من غير التباس ممكن، كما انه لمن المستبعد جعله يحتفظ بمثل هذه التأويلات للتلقي التداولي المحض. ولكننا في النهاية نصل الى تحديد موقع النص مع ذلك بشكل دقيق. وان هذا ليكون بمساعدة عناصر تكوينية للمعنى وللتماسك. وبهذا، فانه يندمج في أنساق أكثر عمومية تتجاوز الاوضاع الخاصة، وفي أنساق واقعية للواقع اليومي. وليست العناصر المكونة للمعنى النصي مرتهنة فقط لليقين الفردي، والتاريخي، والفلسفي للمتلقي، ولكن يجب على اليقين أن يضعها على المحك. فالتنصل من الاجراءات التداولية في بداية التلقي الأدبي، يفضي الى التلقي من وجهة نظر أدبية، واننا لنستطيع أن نقول ان هذا ليقود الى تلق تداولي من الدرجة الثانية. فاجراء «نزع الأدبية» او «نزع الشعرية» يعني انه يجب على امكان الحدوث وعلى الفراغ الدلالي ان يرفعا، وقد كان ينظر الى هذا من وجهة نظر تداولية غامضة بوصفه سلبياً يمر في النهاية الى مقام ايجابي. ولقد تستطيع النصوص حينئذ ان تعمل بوصفها قيماً مقبولة ايجابياً في الكوكبات التواصلية. ويبين تاريخ تلقي الأعمال التي تسمى الاعمال الكلاسيكية في كل مرة التطور عينه، والذي يعد من نتيجته اندماج النصوص في أنساق من المعنى ومن الواقع الفعلي. وحتى النصوص الكلاسيكية، فانها في الأصل، بما أنها نصوص يجب عليها الخضوع الى تلق أدبي، ممكنة الحدوث ومفتوحة في وجه أنساق الواقع اليومي. ومع ذلك، فان كل النصوص الأخرى قد اعيد ادماجها في سياق تداولي جديد. ولقد ارتفعت هذه النصوص الى مرتبة الأعمال الكلاسيكية، خصوصاً لأن هذا الادماج الجديد قد نجح جيداً على نحو خاص. ولم يكن ذلك كذلك، لأن هذا الادماج كان متيناً فقط، ولأن الفراغ الدلالي لم يعد يتأسس عملياً في التلقيات اللاحقة، ولكن لأن هذا الادماج، بالإضافة الى أشياء أخرى، قد قبله تماماً عدد كبير من المتلقين، أي قبلته الأمة والشعب أجمعين.
وسنحدد، اقتضاء لغرض التوضيح، أن المراحل الثلاث التي تجعل الاستقبال الأدبي بنية- الرفض من منظور تداولي، واعادة التأويل، واعادة الادماج تداولياً- إنما تشكل نموذجا، ولا تعكس بالضرورة المسار الفعلي لمختلف إجراءات القراءة. فالتلقي المحول الى واقع، يكسر في عدد من المرات هذا التوالي الخطي، كما يكسر عدم الانتظام على الاقل في عدد من الاجراءات الموازية. وبالاضافة الى هذا، فان بعض الفقرات لن يعاد في البداية تأويلها، ولكن يعاد النظر فيها من زاوية تداولية. وهناك فقرات أخرى، جاءت لحظة القراءة في اطار تداولي، يعاد تأويلها ازاء الكوكبات النصية الجديدة، إلى آخره. وبالاضافة الى هذا، فان اعادة تأويل النص واعادة ادماجه التداولي لأمر يتعلق بمقاطع من النص كان القارئ قد انتخبها بغية اعادة إدماجها تداولياً (نهائياً)، وذلك على نحو تستطيع فيه النتائج ان تكون متباعدة في شروط متماثلة للتلقي. وكذلك ، فان مختلف نماذج اعادة الادماج التداولي المتعرضة أحيانا، والتي يخضع لها النص الأدبي عينه في عصور مختلفة، هي في جزء كبير منها يحددها مثل هذه القرارات (الانتخابات) والتي يتمثل أثرها في كل مرة في تغيير البنية الادراكية للتراتبية المحايثة التي أنشأناها بين مختلف أجزاء النص.
- يميل التلقي الى إزالة اللبس والغموض عن نص معروف بوصفه نصاً أدبياً. فهو يريد في الواقع أن يخضع النص للمعايير، وأن يلغي، إذ يزيل الغموض ، المصاعب التي يقدمها. ألا وإن هذا ليسمح بتحديد التأويل على نحو أكثر دقة، فإذا كان التأويل الادبي لا يريد أن يصبح تلقياً عقلانياً يهدف بتصميم الى إزالة اللبس، فيجب عليه أن يعطي لنفسه وظيفة رئيسة، هي: الحفاظ على اللبس في النص، بل جعل المستلزمات الخاصة لهذا اللبس موضوعا، والنظر اليها باهتمام في المحاججة، ووضعها موضع الفائدة. وبقول آخر، لا يجب على التأويل أن يذهب الى مرحلة إعادة الادماج التداولي.
وتقضي الصعوبة التي يواجهها التأويل بوصف هذا اللبس وتقييمه، من غير إلغائه من أجل ذلك. وإننا لنخاطر دائماً إذ نصف الفراغات الدلالية بملئها وباستثمارها معنى. ومن جهة أخرى، فان الحذر المبالغ فيه ازاء كل محاولة لإزالة اللبس يمكن أن تكون نتيجتها ضياع التأويل في الاثباتات العامة والتي لا معنى لها.
ولقد نستطيع، مع ذلك، أن نجد مخرجاً لهذا المأزق: ليس اللبس الأدبي في النهاية محدودا ولا نهائيا. وإنه لا يستطيع ان يكون كذلك، وإلا فان امكانية التلقي ستثني تماماً مهما كانت قابلة للنقاش في الحالات الخاصة. والسبب لأن القارئ/ المتلقي لا يستطيع أن يصل الى نتيجة إلا اذا استمر ارتباطاً- حتى ولو كان دقيقاً- بمضامين سائدة ومعروفة، وكذلك إلا إذا استمر ارتباطاُ بأشكال من الواقع اليومي. وفي النهاية، فان درجة معينة من التحديد لتعد ضرورية للحفاظ على اللبس.
فإذا قبلنا بأن وظيفة التأويل الأدبي تكمن في التخلي مبدئيا عن إعطاء المعاني الواقعية والواضحة والتخلي عن إزالة شعرية النصوص الأدبية، فيجب علينا ان نعرف كيف نستخلص النتائج، والتي ستكون حاسمة بلا ريب فيما يخص الادعاء بصحة التأويل المسمى التأويل التاريخي. والسبب لأن رسو النص في سياق واقعي، ليس هو سياق المتلقي أو المفسر، ولكنه معاصر لظهور النص، ليدل أيضاً على وجود تلق معياري، كما يدل على اعادة إدماج تداولي. ويتناسب التأويل التاريخي التقليدي للنص إذن مع التلقي المنجز انطلاقا من وجهة نظر تاريخية. وذلك لانه يستدعي تدخل عوامل خارجية ومعاصرة للنص، وتشكل جزءاً من التحديد. ولن يوجد في النتيجة لبس إلا بالنسبة الى ذلك الذي يدرس العمل من منظور حديث وغير زمني. وسيكون اللبس نتيجة لغياب المعلومات ولن يستمر ما دام المفسر (المتلقي) لم يجد معلومات تاريخية معينة لا يمتلكها حتى الآن.
ومع ذلك، فان مثل هذه العناصر بالضبط، المعروفة، والخارجة عن النص، والتي يستطيع التأويل ان يستخدمها، بل يجب عليه أن يستخدمها لكي ينتهي من اللبس الأدبي ويمكن للتأويل أن يستخدم التلقيات السابقة التي في حوزته من اجل هذه الغاية. والسبب لأن في هذه التلقيات توجد صياغات مباشرة وغير مباشرة تخص هذه العناصر المعروفة. ومع ذلك، فان التأويل لا يضع نصب عينيه التمثل النهائي لعوامل الدلالة الادبية وغير الأدبية. فهو يجتهد، على العكس من ذلك، لكي يظهر الفوارق بين هذه العوالم والتي يريد التلقي ان يخفيها. ويجب على التأويل ان يضع موضع البداهة السمة المؤقتة والجزئية لاستراتيجيات التلقي، والتوتر الذي يوجد بين هذه الاخيرة واللبس الأدبي. وانه ليظهر انه لخطأ عظيم ان نطبق على النص الأدبي الشرعة الملتبسة للحياة اليومية. فهو يساهم بهذا في تطوير النقد الاجتماعي والايديولوجي في اطار التاريخ الأدبي. وهكذا نستطيع، على نحو أكثر دقة، ان نحدد اللبس. فاللبس الادبي لا يعد ملائما إلا ازاء محاولات التلقي والتطبيع اللذين كانا على الدوام موضع رعاية من منظور معين. ولذا، فهو يتعلق بوجود التحديد، المضاعف والمتنوع، والذي من غيره لا يستطيع ان يبرز. ومن هنا، فانه لا يمكن للتأويل ان يستفيد من اللبس الا عندما نربطه بعلاقة مع كينونات معروفة ومحددة بوضوح.
اننا اذ نثبت اللبس انطلاقا من عوامل خارجة على النص، فاننا نستطيع ان نتصور اعادة الاهلية لطريق معينة من طرق التأويل التاريخي، ولقد يعني هذا في الممارسة العملية اجراء مواجهة للبس مع الوقائع التاريخية التي كانت لحظة تكوين النص وظهوره، موضوعية تماما، وتشكل إذن جزءا من التحديد، وانه لأمر جوهري إذن أن نحيل الى الوضع التاريخي، والذي يستطيع اللبس انطلاقاً منه أن يأخذ شكلاً.
ومع ذلك يجب أن لا يُحيد اللبس الذي نحاول تحديده بمساعدة السياقات التاريخية. فهدف التأويل يتمثل بالضبط في الحفاظ على اللبس. ومع ذلك، فان اللبس الذي يستطيع ان يبدو للوهلة الاولى مفرطاً الى حد ما، فانه يرى نفسه محدوداً بهذه الطريقة. ويمكن لإمكانية حدوث النص الأدبي أيضا ان تختزل الى غموض يمكن السيطرة عليه. فنحن نستطيع أن نحدد مكان اللبس تقريباً. ولقد يغتني التأويل الأدبي من البعد التاريخي، لأن اللبس لم يعد حالة هلامية تقاوم كل ادراك، لكنه يجد نفسه مبدلاً عنه في سياق من الوقائع الموضوعية، ومقتلعاً في الآن ذاته من الظلام الكامل كما هو الزعم.
تقع علاقة التأويل قبالة اللبس الادبي، وذلك في مركز النقاش الجاري حول التأويل. إذ يجب على اللبس ان يدرك بطريقة ما وان كان محصنا ضد تلق قادر على تدميره. ولا يمكن لهذا أن يكون إلا إذا تخلى اللبس عن امتلاك معنى واقعي. ولذا، فان المقصود هو التأويل الذي يستطيع أساسه المنهجي أن يقارب الأساس المنهجي للدلالة المعطلة. فهي تستطيع، في مثل هذا المنظور، أن تحلل النصوص بوصفها كينونات، بل ان تحلل أيضا الأجزاء والتفاصيل التي تكونها. ولا يزعج الرصيد الضروري، بأي حال من الأحوال، تحليل النصوص الأدبية بالمعنى الدقيق للكلمة، كما لا يمنع نسب المعاني. ويمثل التأويل المعطل أيضا ومباشرة وصفا للحوافز، وللموضوعات، ولمعنى النصوص بوصفها نسيج التحديدات واللبس وبناها. وأما توليفة المتداخل، وتنظيمه الاسلوبي والبنيوي فموسومة تماماً. ونستطيع في النهاية أيضا، انطلاقا من مثل هذا التحليل، تبرير بناء المعنى على نحو حذر، من غير أن يتحول اللبس من أجل ذلك في اطار معانٍ واقعية وقابلة للتلقي.
ولا يضمن التأويل المعطل، من جهة أخرى، أيضا نتائج «موضوعية»، أي نتائج تكون مستقلة عن المعطيات التاريخية. فكل دراسة للتأويل، حتى وان حاولت أن تتجنب نسب معاني الحياة اليومية والبدهية الى حد التفاهة، هي تخضع بالاحرى للشروط التاريخية والذاتية، بيد أنها لا تستطيع أن تحرر نفسها من هيمنة معايير الحياة المعاصرة والتقليدية. ويجد التأويل نفسه في وضع يتعلق فيه بالهرمينوطيقا. وهذا وضع وصفه كل من هايدغر وغادامير وصفا كاملاً. ويمثل التأويل المعطل أيضا دراسة من اجل «فهم» النصوص الادبية. وبهذا، فانه يعد جزءا من التلقي النصي. ولقد يعني هذا اذن انه لم يعد بامكاننا ان ننسب نهاية لتاريخ التأويل مثل تلك التي ننسبها لتاريخ التلقي.
ويقدم التأويل المعطل فائدة جوهرية: انه يقدم الأدب بوصفه «الآخر» وبوصفه ميداناً يعمل ويتخذ لنفسه موضعا في علاقة توتر ازاء نماذج الواقع وازاء الانساق المعيارية النافذة. ولهذا، فان التاويل بطريقة تعطيلية، انما يعود الى إنشاء الموضوعات أكثر مما يعود الى إنشاء عالم المتلقي وواقعه. ويحاول مثل هذا التوجه، بمساعدة تحليل نصي يوجهه منشور تاريخي، ان ينجو من اطار ضرورة الوقوف على وجهة نظر واحدة، تتمثل في وضع تاريخي ما، كما يحاول ان ينجو من اخضاع النصوص الأدبية الى هذا التقييد من غير شروط.
٥ - يشتمل التاريخ الأدبي على سلسلة من الأمثلة التي تثبت وجود الادماج التاريخي المضاعف للأعمال الأدبية. فهي تظهر، من جهة التثبيت والتعلق، وهي تظهر، من جهة أخرى، امكان الحدوث الحاد للنصوص ازاء التاريخ. فهذا التوتر بين التحديد واللبس، والذي يوجد الأدب فيه ويعمل، يصبح دالاً على نحو خاص هنا حيث جهود التطبيع التي يتعهدها القارئ تكون ظاهرة في وثائق للتأويل وللتلقي. فهذه الوثائق تسمح بإظهار خطوط للتأويل المعطل.
لقد اعترف أنصار جماليات التلقي، هم أيضا، بالفائدة التي تقدمها علاقة التحديد واللبس بالنسبة الى علم الادب والى تاريخ الأدب، من غير استخلاص على كل حال للنتائج الضرورية دائماً. ويمكن لمتصور «أفق الانتظار» الذي أدخله هانس روبير ياوس، باعث نظريات التلقي، ان يستعمل في تأويل معطل. ولكن يجب ان يعطي حينئذ معنى أكثر اتساعاً من هذا الذي ينسبه ياوس اليه، فياوس، إذ يقوم باعادة بناء أفق التوقع لدى المتلقين، فانه يريد أن يحدد الوضع التاريخي لكل عمل أدبي، والسبب لأن الأفق هو بدوره مجموع الاعمال السابقة المقروءة والتي تم تلقيها. وهكذا، فان أفق الانتظار يقدم أولا ضرباً من الشرعة الفنية، تسمح للقارئ بأن يحتك مع عمل ظهر حديثاً ولا يزال إذن غير معروف.(٢)
«إذا استطعنا هكذا أن نعيد بناء أفق انتظار عمل ما، فاننا نستطيع أيضا أن نحدد هذا الافق بوصفه العمل الفني، وذلك تبعاً لطبيعته ولكثافة أثره على الجمهور. فإذا أعطينا مسمى «الانزياح الجمالي» للبعد القائم بين أفق الانتظار الموجود مسبقا والعمل الجديد والذي يستطيع التلقي ان ينتج فيه «تغيراً في الأفق» ذهابا الى لقاء التجارب المألوفة أو إذ يجعل تجارب أخرى تم التعبير عنها للمرة الأولى، تصل الى الوعي، فان هذا الانزياح الجمالي الذي قيس بمقياس سلم ردود أفعال الجمهور والأحكام النقدية (نجاحات مباشرة، رفض أو فضيحة، موافقة أفراد معزولين، فهم يتقدم أو يتأخر) ليستطيع أن يصبح معيارا للتحليل التاريخي».(jauss 1978: 53)
ان أفق التوقع الذي يحيل إليه ياوس لكي يحدد موقع النصوص الأدبية، ليستطيع أن يكون منتجا بالاحرى أكثر بكثير اذا توقفنا عن ان نرى فيه نتيجة للجمالية التقليدية ونتيجة لتجارب جمالية مكتسبة. ولذا، يجب تعريفه بالأحرى بوصفه استعدادا معقدا، تتحرك في إطاره المعايير ليس الجمالية فقط، ولكن الاجتماعية أيضا، والاخلاقية والدينية الى آخره. وعمليا، فان أفق التوقع يتحول الى واقع بتشكيل نفسه في قالب الموقف الواقعي للقارئ في بداية اجراء التلقي. وهكذا ، فان أفق التلقي يصوغ التحديد العام والذي انطلاقاً منه فان كل لبس أدبي يستطيع أن يظهر نفسه في ازار خصوصيته. فإذا أخذنا أفق التوقع من خلال هذا القبول الأكثر سعة، حينئذ- لكي نأخذ مثلاً- فان الاختلاف الذي ظهر، في عام 1857، أثناء المحاكمة التي أقيمت لفلوبير من أجل رواية «مدام بوفاري» ، بين أفق توقع القراء الذين يمثلهم الادعاء والرواية نفسها، لا يترك مجالاً للاختزال، كما هي الحال عند ياوس، لكي يحصر في اختلاف جمالي محض:
«إن الصيغة الادبية الجديدة التي كانت ترغم جمهور فلوبير كي يدرك بطريقة غير معتادة «ان الموضوع مبتذل» قد تمثلت في «الخطاب الحر على نحو غير مباشر» والذي كان فلوبير يمارسه ببراعة وبخصوصية تامة(jauss 1978:76.)
ان السرد غير الشخصي والاسلوب الحر غير المباشر، واللذين بيّن ياوس هنا بأنهما يمثلان الأعراض الجمالية لشك أساسي، كانت الرواية قد جعلت القارئ يغطس فيهما وهو مزود بمثل وبمعايير تنظم عالمه المألوف. ولقد أصبحت الرواية اشكالية بالضرورة بالنسبة الى القارئ المعاصر: يرى القارئ نفسه منخرطاً في فعل كان معروفا بالنسبة اليه، بالتأكيد، ولكنه كان يذهب مع ذلك بعكس متصوراته الاخلاقية، من غير ان يكون مع ذلك قادراً على وضع حكم بخصوص الاحداث المروية. ولقد صنع لنفسه بهذا خلقاً بين أقطاب العادة والجدة الى درجة ان وجوها جوهرية للرواية قد ظهرت بوصفها وجوهاً ملتبسة.ولقد تجلى هذا على مستوى التقانة السردية غياباً للراوي المهيمن، والذي كان باستطاعته ان يعرض عليهم امكانية للحكم وللتقييم.
لقد حرر رجل القانون محضرا كاملا بهذا الوضع للتلقي، وللقضايا التي وجد انها مرتبطة به. وعاب على الرواية أنها لا تحيل الى المعايير المعمول بها في المجتمع البرجوازي، أي أنها لا تحيل الى ما هو معروف ومحدد. ويمكننا ان نؤول هذا الكلام ما لو انه محضر ضبط لتلق مخفق، ولعدم القدرة على اعادة ادماج الرواية في الاطار التداولي المقبول. ويعد هذا ظاهرا على نحو خاص إذ يلاحظ غياب كل معيار أخلاقي في الرواية ويدينه:
«من يدين هذه المرأة في الكتاب؟ لا أحد. هذه هي الخلاصة، إذ لا توجد في الكتاب شخصية حكيمة، وإذا وجدتم فيه مبدأ واحداً بفضله يوصم الزنى بالعار، فأنا مخطئ. وإذا لم توجد في كل الكتاب إذن فكرة واحدة، وسطر واحد بفضله يكون الزنى مفضوحا، فأنا الذي أملك الحق، ويعد الكتاب كتاباً غير أخلاقي»(Flaubert: 345.)
ان الاتهام إذ يتلفظ بقرار اتهامه إنما يعطي ملمحاً أكثر دقة عن التلقي من الدفاع. والسبب بالضبط لأن هذا اللبس المعاب هو الذي يثبت المكانة التاريخية لرواية «مدام بوفاري» بوصفها صراعا بين النص الأدبي والعالم البرجوازي. وعلى العكس من هذا، فان الدفاع يحاول تبرئة الرواية بادماجها في قناة المعايير الأخلاقية. ثم انه اذ يحيل باستمرار الى السلوك النزيه لفولبير نفسه، بل خصوصاً إذ يجتهد كي يكتشف المبادئ الأخلاقية التي لا يستطيع الاتهام أن يراها، فانه يمنع في الوقت نفسه عن نفسه كل لبس دلالي:
«احذروا جيدا شيئا: ليس فلوبير إنسانا يزين لكم زنى لطيفا، لكي نصل بعد ذلك Deus ex mavhina ، لا. انكم تقفزون بسرعة كبيرة فوق الصفحة التي كنتم قد قرأتموها في الأخير. فالزنى عنده ليس سوى عذابات، وندم، وأسف، ومن ثم يصل الى مغفرة نهائية، ومرعبة، إنها مبالغ فيها. وإذا كان فلوبير يذنب، فذلك يأتي منه مبالغة، وسأقول لكم بعد قليل ممن هذه الكلمة، ان المغفرة لا ترهن نفسها للانتظار، وان الكتاب إنما يكون بهذا أخلاقياً للغاية ومفيدا، لأنه لا يعد المرأة الشابة ببعض من هذه السنوات لكي تستطيع ان تقول في نهايتها. من بعد هذا، يمكن أن نموت. لا! فمذ اليوم الثاني، تصل المرارة، والخيبة، وهكذا يوجد الانفراج، بالنسبة الى الاخلاق، في كل سطر من سطور الكتاب(Flaubert: 354..)
ولقد كان القضاة يمتلكون ما يكفي من الحكمة لكي لا ينضموا الى أي من التلقيين. وبالفعل، فقد وجب عليهم ان يضعوا حكما فيحيلون النص هم انفسهم الى واقع. ولقد تم التأكيد ، لحظة الحكم ان الرواية تتضمن بعض الجمل التي تجرمه فوق الحد. ولكننا نحدد بأنها ليست كثيرة، وأنها، بالإضافة الى هذا، مرتبطة بسياق معين. وكذلك ، فقد تم لفت نظر فلوبير الى انه يهمل أحياناً «القواعد التي يجب على أي كاتب يحترم نفسه ان لا يتخطاها». ولكن العوامل التي كانت حاسمة بالنسبة الى البراءة لا تأتي من هذه التلقيات الممكنة: إنها تمثل الشهادة الشخصية لفلوبير وللاحترام الذي يكنه للاخلاق الحميدة، والى كل ما يرتبط بالاخلاق الدينية(Flaubet: 399)
ولقد وجد القضاة انفسهم تقريباً في مقام الناقد الأدبي الذي يرى نفسه إزاء تلقيين متناقضين للنص نفسه. فلقد وجب عليهم بالفعل، بوصفهم ضامنين للنظام الاخلاقي وللقوانين البرجوازية، أن يدينوا رواية فلوبير. ولكنهم اذ لجأوا الى اعلان مقاصد الكاتب نفسه، فقد وجدوا إمكانية لتجنب الادانة. وبهذا المخرج، فقد تجنبوا أيضا إزالة شعرية النص، وهو الأمر الذي كان كل من الاتهام والدفاع يريد الحصول عليه، كل على طريقته ولقد برهن القضاة على كثير من الذكاء في موقفهم ازاء الأدب، فتركوا لبس الرواية معلقاً وكذلك الاضطرابات التي يثيرها. وإنهم اذ لم يدعوا أنفسهم تفتتن بأي من هذين التلقيين، فانهم ضمنوا للنص سمته الأدبية.
يجب النظر الى رواية فلوبير بوصفها نتاجا للوضع التاريخي لحظة تكونها. فهي تعيد انتاج أشكال ومضامين يعدها المعاصرون مثل معايير ايجابية تسمح بتحديد قيم السلوك الخارجي والداخلي. ويعد اختيار القراءات لايمابوفاري كاشفاً: تلتقي هذه مع النماذج الاصولية للعصر. ولكن هذا العالم المعروف قد تحول وانفصل عن اطاره المرجعي المعتاد بشكل متزامن. فلقد أصبح غريبا، وغير معتاد، ولم يعد مألوفا، ولقد كان العمل يقاوم بهذا محاولات اعادة الادماج التداولية. ولذا، فان النص أصبح ممكناً ازاء أنساق معيارية كان يجب عليها ان تحدد التلقي. وان الفضيحة والمحاكمة اللتين تبعتا ظهور الكتاب لتشهدان في النهاية على وجود عقبات ربما يعانيها المعاصرون عندما يقتضي الحال اخضاع اللبس الى معايير حين يقدم نفسه في اطار قائمة من المواضيع ومن الحوافز التقليدية.
ان ما حاولنا ان نبينه بمساعدة المثل المضروب برواية «مدام بوفاري» لا يشكل تناقضاً إلا في الظاهر: لقد عرفنا العمل الأدبي بالفعل بوصفه عملا ثابتا تاريخيا من جهة، وبوصفه ممكن الحدوث تاريخيا من جهة أخرى. ويجب على التأويل، في مقابل التلقي، أن يقبل هذه العلاقة المزدوجة للأدب وللتاريخ وان يجعلها موضوعاً. وسيتجنب بهذا أن يحلل بشكل متميز العلاقات بين الفن والواقع. وإن التأويل لن يضيع قيمته إلا في الظاهر إذا تخلى عن التعبير بوضوح عن المعنى المحسوس للنصوص، وإذا باشر، على العكس من ذلك، بتفسير العلاقة المستقلة - ولكن ليست المجانية- والشبه سلبية، بين الادب والتاريخ.
وأخيرا، يستطيع مثل هذا التأويل أيضا ان يسند تحليل البنية الأدبية للنصوص وان يصونها من كل مجانية. وان التأويل ، إذا فهم بوضوح بوصفه مبدأ للكشف يريد ان يتجنب عقبة التلقي المحددة، فانه يحث على تحليل لشروط التحديد واللبس، كما يحث على تحليل لبنى النصوص الأدبية. ويستطيع التأويل، بفضل تعريفه، ان يوجه في وقت واحد تحليل البنى نحو الانجازات المحسوسة للنصوص. وان البحث الموجه نحو تحليل العوامل الشعرية والمكونات النصية سيربح قيمة وامتداداً إذا عين موقع السمة المتعددة الوظائف للعوامل وللمكونات في اطار منظور تزامن السمة التاريخية والسمة المحتملة الحدوث للنصوص الأدبية. وما دام هذا هكذا، فان البحوث، حتى الآن، حول المكونات النصية الشعرية لم تأخذ قط المقام التاريخي للنصوص بعين الاهتمام وكذلك، فان نتائجها لم تفض الى نتائج وظيفية مجردة، وبالاضافة الى هذا، فان هذه التحليلات تغامر بتقرير وجود تعددية للتلقي منفصلة عن كل نظرة تاريخية. فرولان بارت الذي أخذ يبتعد- وله حق في ذلك- عن تقاليد التأويل التاريخي وممارسته، قد كتب:
«... ما سيهم علم الأدب، هي التنوعات المتولدة للمعنى، واذا أمكن القول، فهي التنوعات القابلة للتوليد بوساطة الاعمال: لن يؤول علم الأدب الرموز، ولكنه سيؤول تعدد التكافؤ فيها. وبكلمة، فان موضوعه لن يكون المعاني الممتلئة للعمل، ولكن سيكون، على العكس من ذلك، المعنى الفارغ الذي يحملها جميعا(Barthes:57)
ولكن يبقى هذا البرنامج ونتائجه شكلانيين ضرورة، وتجريديين، وذلك ما دام المنظور التاريخي لم ينظر اليه باهتمام. فبارت محق عندما يرفض «علما للمضامين» (٥٧)،
ليس الانزعاج الذي يحدثه فن التأويل واقعة تحدثها المصادفة. ويجب بالأحرى أن يعزى إلى نقص لا يقبل الجدل في ممارسة علم الأدب. ولكن هذه الملاحظة لا تعني بأن التأكيد الذي قيل غالباً بوجوب التخلي عن التأويل مستقبلا، يمكن قبوله من غير أي تبرير.
ولا يمكن القول على أي حال، أن النظريات المادية هي التي بسطت هيمنتها، منذ منتصف الستينات، على نحو هائل، وهي التي وضعت التأويل موضع شك جوهري. وبكل تأكيد، فإن النقد الماركسي قد وضع موضع البداهة الايديولوجية البرجوازية للتأويل التقليدي. ولامس ممارسة معينة للتأويل الذي لم يوضح قط افتراضاته المسبقة ومسلماته، على الرغم من الجهد المبذول، والذي هو مطالب، بالإضافة الى هذا، أن يقوم في موقع يكون فيه انتاجاً للبرجوازية في سياق تاريخي. ولكن هذا العرض لا يقدم، حتى من منظور ماركسي هجوماً أساسياً ضد فن التأويل. فهو يستعمل، كما كان يفعل ذلك زميله الماركسي، الجهاز الأدائي للهيرمينوطيقا مع فارق يكمن في كونه يضع موضع عاداته التأويلية البرجوازية عادات أخرى، تم اختيارها برويّة.
لقد ساهمت النظريات الماركسية، وهذا مما لا شك فيه، الى حد كبير في إرساء الوعي بشروط العمل التأويلي ومستلزماته، حتى عند أولئك الذين أظهروا أنفسهم معتقدين بأنه يجب استبعاد «الذاتية» الى أكثر حد ممكن من أجل إنشاء العلاقات التاريخية التي تفرض نفسها. ولكن حتى أنصار التأويل التقليدي الذين كانوا هم أنفسهم يعتقدون بأنهم يقفون على منحدر التقدم غير النهائي، فقد أغضبهم النقد الماركسي، بل دفعهم أيضا الى مراجعة مواقفهم. فالذي هز التقاليد على نحو نهائي إنما هو تيارات أخرى. ويجب على المرء ان يذكر من بين هذه التيارات تيار هيرومينوطيقا التحليل الذاتي، والذي أثار باستمرار مناقشات جديدة، خصوصاً في ألمانيا وبعد أعمال فريديريك شلايرماخر وويلهلم ديلثي. ولقد رأينا من قبل في عام 1927 ان مارتان هيدغر قد حول في كتابه «الكائن والزمن» الهيرومينوطيقا التقليدية للعلوم الانسانية إلى «هيرومينوطيقا للوجود» فالفهم، كما يرى، لا يمكن أن يتم إلا في إطار كلية دالة توجد مسبقا، فيتأسس كل تأويل نصي ويتجه بفضل متصور مسبق. هذا وإن آفاق التحليل قد ثبتها إطار مراجعي بسبب هذا المتصور (وايلت). وينعكس هذا الاطار المرجعي بدوره في اللغة، حيث تترسب معرفة المعنى على نحو تاريخي ويؤول بعضها بعضاً.
ولقد طور جورج هانس غادامير في كتابه «حقيقة ومنهج» (1960)، استناداً الى هذه الهيرمينوطيقا العالمية، نظريته عن الفهم والتي يراها أداة لتحليل المجتمع الانساني كله. ولكن كان غادامير في الوقت نفسه يكرس نفسه مثل هايدغر للقضية الخاصة بالتأويل النصي. إذ أن رأي المفسر «المسبق الصنع»، بالنسبة إليه ايضا، يعد شرطاً ضروريا يخضع له كل تأويل. ومع ذلك، فانه يمكن تجاوز الذاتية المحضة الى حد ما، وذلك عندما يعمد المؤول عن وعي الى إدماج رأيه المسبق الصنع فيصل بهذا الى «تشويش أفق» الحاضر والماضي. وبما ان المتصور المسبق للمؤول قد تشكل في جزء كبير منه في اطار تقاليد التحليل النصي، فإنه لمن الملائم أن ندمج في التأويل ضرباً من «الوعي التعاقبي بالمؤثرات»، وبهذا فان النص والمؤول يتطوران بفضل الحوار. فمعرفة النص ومعرفة المؤول لذاته، يتعاونان من غير أن يُحرم التأويل، بسبب هذا، من أي ارتباط بالموقف.
وأما «ج. هابرماس» فقد طور جزئياً اطروحات غادامير، وعمل على تحويل العلاقة الحوارية بين النص والتأويل، كما عمل على تحويل منطق السؤال والجواب الذي وصفه غادامير بالإحالة الى كولانغتون وذلك في بنية التأويل التواصلي: «الفهم تجربة تواصلية» (هابرماس: ٢٧).
وثمة تيارات أخرى قد ساهمت أيضا، في الفترة ذاتها، في وضع مفهوم التواصل، بوصفه علاقة أساسية بين النص والقارئ، في قلب المناقشة. فاللسانيات الحديثة، إذ حددت اللغة بوصفها نسقاً من العلامات، فإنها قدمت دفعاً هائلاً. ويمكن لمواضعات اللغة العادية التي تضبط العلاقة بين المدلول والدال، أن تقوم في النص الأدبي، وإن تعدد التكافؤ الذي ينتج عنها يصبح واحدا من سماتها الرئيسية، وليس علامة للنوعية كما تم تصور ذلك بتأثير من الرومانسية. ومع ذلك، فان اللسانيات لم تنجح بعد في انتاج نموذج قادر على صياغة الشروط التي تحدد تعدد التكافؤ لنص شعري. وقد كان على اللسانيين أنفسهم بأن يعطوا النص الأدبي، المدروس من منظور التواصل، أوصافاً مثل «التعدد الوظيفي» و«تعدد التكافؤ» (شميد، 1927).
وثمة تيار آخر يقوم أصله في بعض متصورات الفينومينولوجيا. ولقد وصل الى نتائج مشابهة. وإذا عدنا الى كتاب انغاردن «العمل الأدبي». فسنجد انه قد صدر في عام ١٣٩١، ولكنه لم يلق مع ذلك صدى إلا في عام 1968، وذلك في اللحظة التي ظهر له فيها كتاب آخر بترجمة ألمانية:
(Vom Erkennen des literatischen Kunstwerks) فلقد رأى انغاردن في العمل الأدبي «بناء ترسيميا». فالاشياء، والأشخاص والأفعال، وكذلك تمثيل موضوعيتهم، قد ظهروا في النص على نحو «ناقص»، يتعارض مع التحديد الممثل «عدم التحديد» الذي يجب على القارئ أن يتممه. وان هذا ليحصل عندما «ينفَّذ» العمل و«يحيَّنه». وان هذا بوصفه بناء ترسيمياً وقصديا، فانه لا يصبح فعلاً عملاً إلا بفضل تحيينه الذي ينجزه القارئ. وتبعاً لانغاردن، فان القارئ، يتمم في لحظة قراءته تمثيل الشخصيات، والأفعال، والوقائع، وذلك حين يتمم العدد المحدد. وانه ليصل أخيرا، بفضل «الموضوعات التركيبية، الى التجربة الجمالية» لدال العمل الأدبي كله. ويتعلق تفكير انغاردن الأكثر حسماً والأكثر غنى بالنوعية الخاصة للنص الأدبي. ويتطلب النص الأدبي، بسبب طبيعته الخاصة، مشاركة القارئ لكي يقوم بتحيينه. وانه لحقيقة أن انغاردن يرى ان القارئ هو المنفذ لما كان مخططاً لوجوده بالقوة في النص، وهو الذي ينهي العمل الذي ربما يبقى من غيره، بناء تخطيطياً. بيد انه لا يتصور نشاطا يمثل تفرد القارئ، ولا ينبعث إلا منه وحده. ويصنف انغاردن تحيينات العمل نفسه، والتي نستطيع أن نتصور بأنها متعددة وتم انتاجها بالفعل على امتداد التاريخ الأدبي، الى فئتين: فئة تكون مناسبة للعمل، وفئة غير مناسبة له، بل فئة تزوره.
وتسمح مثل هذه الأفكار، مع ذلك، بإدماج القارئ بوصفه عنصراً مكوناً للنص الأدبي، ولقد احتل هذا الأمر الأهمية الأولى، لأن المتصور التقليدي قد وضع موضع الشك انطلاقاً من تحليل بينية النص، مع ان النص تبعاً لهذا المتصور التقليدي يبقى بالنسبة الى القارئ، او المفسر كينونة دالة ومتماثلة مع ذاتها.
ولقد ظهر تيار آخر أيضا نحو نهاية الستينيات، وقد كان له أثر كبير، لا سيما في ألمانيا، وهو يتصاهر مع هذا البحث: المقصود هو نظرية التلقي. فلقد قاد بداية فحص تلقيات مختلف المؤلفين وفحص مؤلفاتهم الى إثبات أن هذه الاجراءات الخاصة بالتلقي تعطي معلومات مماثلة على الأقل تخص أولئك الذين يمارسون التحليل كما تخص الأعمال والمؤلفين المدروسين. ولقد لوحظ، بالإضافة الى هذا، انه يوجد غالباً تلقيات متناقضة للمؤلف نفسه او لعمله، فسمح هذا بإعادة النظر في العلاقة بين النص والقارئ- المؤول، وسمح بالتفكير كذلك انطلاقاً من وجهة النظر الجديدة هذه حول طبيعة العمل الأدبي الخاصة. ولقد تبين أن المتصور «غموض» (انغاردن) هو متصور منتج على نحو خاص في هذه الحالة، ولكنه تلقى في نظريات التلقي تأويلاً جديدا، نسب اليه وظائف أخرى، فانغاردن قد حدد الغموض بوصفه فراغات يجب أن يملأها القارئ لحظة التحيين الملائم. ولقد كان نشاط القارئ يقف حينئذ عند اتمام ما تم اقتراحه في النص على نحو غير مكتمل. وأما ولفغانغ آيزر، فقد وسع هذا المتصور وعمقه، وأضحى الغموض، بالنسبة إليه، الشرط الضروري للتأثير في النص. ويحتوي هذا الأخير على غموض ليس فقط بسبب التمثيل التخطيطي للأشياء، ولكن لأنه يمثل بين هذه التخطيطات فراغات تضمن للقارئ هامشاً اضافيا للتحليل. وان هذه الفراغات هي التي تسمح خصوصا للقارئ أن يؤقلم النص، وان يجعل تجربة الغرابة التي يخفيها هذا النص تجربته الخاصة: لا يصوغ النص نفسه معناه. فهو «لا يتوالد» ذاتياً أو «يتكون» ذاتياً في معنى نصي إلا بفعل القارئ:
«لا تلد معاني النصوص الأدبية إلا لحظة القراءة. إنها نتاج التفاعل بين النص والقارئ وليس نتاج القياسات المختبئة في النص والتي يستطيع التأويل وحده أن يكشف عنها. فعندما يولد القارئ معنى نص من النصوص، فانه لمنطقي في النهاية أن يعبر هذا المعنى عن نفسه في صيغة فردية»..(lser 1970:7)
إن هذا التأويل للنص وللقارئ اللذين جئنا على وصفهما، يضع قضايا التلقي والتأويل في اطار أكثر سعة لصيرورة التواصل. فالتلقي والتواصل يكونان عناصر صيرورة اكثر اتساعاً.
- ومع هذا التوجه للتأويل الأدبي، الذي لا يعرف أن يتقيد بأسماء هيدغر، وغادامير، وانغاردن، وآيزر فقط، فان قضية التأويل لا تزال تظهر جد حادة. ولكن في الوقت نفسه، فان المناقشة قد سمحت بإضاءة عدد معين من القضايا التاريخية للتأويل. وبالفعل، فإننا حتى الآن لم نكن واعين بالدور النشط للمؤول بوصفه متلقياً، وهو دور ضروري لإنجاز النص أو لجعله واقعاً. ولقد نستطيع أيضا ان نذهب فنقول ان النص على وجه العموم لم يكن مؤولاً بوصفه نصاً. فالشارح لم يؤول إلا ما يحوله الى واقع عملي، وذلك قبل او بعد تأويله (بوصفه قارئاً). وانه في معظم الأحيان، لم يكن ليفعل شيئا آخر غير أن يؤول «رؤيته» الخاصة للنص. ويجب أن لا نرى هنا سعياً للغش من جهته. فلقد أظهرت دراسة التفاعل التواصلي بين النص والقارئ ان النص، بوصفه بنية دالة، لا يقبل النفاذ إليه إلا بتحويله الى واقع تهيمن الذاتية عليه بالضرورة. ولهذا السبب، فإن المؤول إذا استمر بالعمل تبعاً للمناهج القديمة، فانه لا يستطيع في النهاية ان يقترح سوى تأويله الشخصي، وليس تأويلاً يزعم انه موضوعي.
وإذا نظرنا، من خلال هذا المنظور، الى نتائج التأويل الأدبي، كما تمت ممارستها حتى الآن، وعلى نحو مستقل عن توجهه العلمي، فسنجد ان الشارحين ليسوا في النهاية سوى قراء، وربما كانوا أحياناً قد قرأوا لآخرين وقرأوا باسم آخرين.
وانه لمن الضروري، في مثل هذه الظروف، اعادة تحديد أسس التأويل وأهدافه، هذا إذا أردنا أن نحتفظ بالتأويل بوصفه نشاطاً علميا، ويجب أن من اجل هذا، ان نفرق بوضوح بين التأويل والتلقي (القراءة، التحويل الى واقع)، وذلك لكي نتجنب بأن لا يكون سوى صورة بسيطة من التحويل الى واقع كان الشارح قد أعطاه الى عمل من الأعمال.
ثمة امكانية أخرى لإعادة النظر في التأويل. وقد كانت قد قدمت في مناسبات عديدة. وتقضي هذه الامكانية أن لا نؤول أولاً النصوص الأدبية، ولكن أن نؤول التلقيات المكتوية او الشفاهية، والموجودة من قبل للنصوص نفسها، وذلك من منظور تعاقبي او نقدي(١). ولقد اقترح انغاردن سابقاً امكانية استخلاص «تقرير) يسمح باعطائنا معلومات ثمينة حول العمل المقصود، وذلك بمقارنة مختلف تحولات العمل نفسه الى واقع.
وفيما يخص التأويل، بوصفه تفاعلا، فانه يبقى على الدوام ملونا بالذاتية، بل تهيمن الذاتية عليه. ويبدو ان مثل هذا الاجراء الذي يصب كل اهتمامه على التلقيات، يشتمل على عدد معين من الفوائد. فهو يبدو، قادرا ان يضمن قدراً أكبر من اليقين ومن الحقيقة في التحليل. ويبدو ، للوهلة الأولى، ان تعددية التلقيات تحمل معطيات اكثر قابلية للاستعمال وأكثر متانة من التأويل الذي ينجزه شارح واحد. وإننا لنفترض حينئذ أنه من الأكثر سهولة الحصول هكذا على نتائج مقبولة من منظور التفاعل الذاتي. وتضمن مقارنة عدد من التلقيات السابقة (والمواجهة مع تلقي الشارح) ظاهرياً شيئاً من الموضوعية.
وتستند مثل هذه المتصورات الى شرط مسبق، معبر عنه أو غير معبر عنه، أي تستند الى اليقين بأن مختلف التلقيات الذاتية بعضها يكمل بعض، وبعضها يصحح بعض، وذلك من أجل تكوين تأويل يكف عن أن يكون ذاتيا، بل ان النص نفسه يقره. ومع ذلك، حتى لو لم نكن من الرأي الذي يقول ان هذا التأويل «الموضوعي» سواء كان نتيجة لجمع وتركيب أم كان نتيجة لتوافق، فيجب أن نلاحظ بأنه يبدو مثل ترسب لتوافق يفهم هو بدوره بوصفه أثراً لنجاح التحليل الموضوعي.
لا يثير مثل هذا الموقف اسئلة، والشك والنقد يأتيان فقط من خروجه عن المنطق. وثمة ما هو أكثر: إن هؤلاء الذين يدافعون عن وجهة النظر هذه، إنما ينظرون الى التلقي والتأويل بوصفهما مترادفين، بل بوصفهما ظواهر متطابقة. ويجب الشك خصوصاً في صحة اجراء يريد بلوغ الهدف من تأويل موضوعي وذلك بممارسة اصطفاء وزيادة جمع لعناصر تنتمي الى تأويلات وتلقيات أخرى، سيتوجب عليها أن تكون بداية مؤولة بهذا الاتجاه. وإذا كان ثمة نتيجة أخرى، فتحدد دائماً تاريخيا واجتماعيا، ولا يمكن ان تكون ميزانية لسلسلة من التلقيات الممكنة. وتستطيع الميزانيات اللاحقة، مع ذلك، أن تأخذ بعين الاهتمام عناصر محذوفة من قبل. وفي هذا المنظور، ثمة من يفكر ان باستطاعته الوصول الى المطلق من خلال النسبي. ولقد نجد بهذه الفكرة القديمة للنص الذي يتضمن معناه الخاص كله. وإلا يكن ذلك، فان المعرفة الملائمة والموضوعية لن تكون في النهاية ممكنة.
يعد انطواء التأويل على تحليل التلقيات وسيلة وهمية، ولا يرفع المأزق الهيرومينوطيقي، ولكن يزيحه عن مكانه على الأكثر. ويجب على المرء أن يحاول الاحتفاظ بالتأويل، مثل تأويل النص، أي مثل شكل خاص يتصرف به العلم الأدبي بغية تحليل النص. ويفترض هذا أولاً معرفة دقيقة باجراءات التحويل الى واقع، وبصيرورات القراءة. وانطلاقاً من هذا، فيمكننا أن نحاول اعطاء تعريف للتأويل، بوصفه صيرورة منفصلة عن صيرورة التلقي.
- إن الصيرورات التي تعمل لحظة التلقي، والقراءة أو لحظة تحويل النص الى واقع، قد خضع حديثا لتحليل معمق. وتتفق النتائج التي هي في حوزتنا الآن على الاعتراف بأن القارئ ليس سلبياً بأي حال من الأحوال إزاء النص الذي ينشره أثناء القراءة أمام نشاط كبير. ويفعل المتلقي شيئاً ما مع النص. فهو يبنيه، مثلاً في جزء كبير منه، تبعاً لمقاصده الخاصة. ولقد أعطى غوتز واينولت وصف «توليفات النص» لصيرورات التلقي. ولقد يفضي كل لقاء مع النص الى توليفة ذات نظام نصي. ولا يكون التأويل العلمي لهذه التوليفة، تبعاً لواينولت، سوى شكل خاص. ولذا، فان ولفغانغ آيزر قد ألح أن الفهم او التوليفة التي تمارس ازاء النص تتم بشكل مختلف تماماً عن تلك التي تقوم بأدائها في تلقي الشيء:
«في حين أن الموضوع المنظور يقدم نفسه بوصفه كلية، فان النص لا يصبح موضوعاً إلا من خلال اجراء القراءة. وفي حين اننا موضوعون دائماً أمام الموضوع، فإننا نجد أنفسنا على العكس من ذلك في داخل النص دائما، وينتج عن هذا ان العلاقة بين النص والقارئ تقوم تبعاً لدرجة في الادراك مختلفة عن تلك التي تصلح بالنسبة الى صيرورة الادراك الحسي. فعوضاً عن أن يكون جزءاً من علاقة «ذات/ موضوع»، فان القارئ يتحرك في ميدان استقصائه كما لو انه منظور متحرك»(lser, 1976 : 177/178).
ومع ذلك، فانه لا يكفي أن يعرف المرء الاجراءات غير الخطية التي يخضع لها كل ادراك نصي، إذ يجب أيضاً أن يعرف تحت أي الشروط ومع أي الأهداف يلاحظ القارئ النص وينسب اليه معنى ما، هنا، يجب على المرء مثلاً أن يسأل نفسه إذا كان القارئ يقرأ النصوص الأدبية بعكس النصوص غير الأدبية (والتي سنسميها فيما سيأتي نصوصا تداولية على وجه الاجمال). والقضية- حولها يقوم جدل قوي. هي معرفة إذا كنا نستطيع أن نميز النصوص الأدبية من النصوص التداولية بمساعدة سمات موضوعية يمكن رؤيتها. ولقد تبقى هذه القضية مطروحة، وذلك لأن ممارسة التلقي تسمح بتمييز «تلق أدبي» لـ«تلق تداولي». فنظريات التلقي ترى أنه توجد غالبا نصوص أدبية من جهة، ونصوص تداولية من جهة أخرى، وأن لهذه النصوص طرقاً مختلفة في أدائها الوظيفي. والقضية تكمن في معرفة أي من أشكال التلقي أو التوليف النصي يجب أن يكون مطبقاً. وإذا كان هذا هكذا، فإن الأمر يتعلق بعدد من العوامل.
إننا نستطيع أن نجعل ظاهرة التلقي النصي أكثر شفافية، وذلك إذا كنا نرى النقاط، حيث التوليفات الأدبية والتوليفات التداولية يبتعد بعضها عن بعض. ويمكن أن نحاول وصفاً للنموذج يتمثل في الخطوط الكبرى لهذين الشكلين من التلقي. ويمكننا ان نفترض ان التوليف الأدبي يتم انجازه تبعاً لصياغات الأهداف المختلفة للتوليف التداولي.
سنحاول هنا ان نصف تقريباً نوعية التوليف، آخذين مثلاً لنا نصا من نصوص كافكا:
«لقد كان الوقت باكرا، هذا الصباح، وكانت الشوارع فارغة وايضا خالية من الدنس. وكنت ذاهباً الى محطة القطار. وإني إذ أقارن الزمن الذي تشير اليه ساعتي والذي تشير اليه ساعة المحطة، أرى أن عليّ أن أكون على عجل. وأفزعني هذا الاكتشاف وجعلني أتيه. فأنا ما أزال لا أعرف جيداً هذه المدينة، ولحسن الحظ، فقد رأيت شرطيا، فركضت نحوه وسألته، وأنا مقطوع النفس، طريقي، ابتسم وقال:
«هل تريد أن تعرف مني أين يكون طريقك؟»- «نعم، أجبت، وذلك لأنني لا استطيع أن أجده وحدي» قال لي: «تخل، تخل»، وادار لي الظهر بفظاظة، مثل الناس الذين يريدون أن يبقوا وحيدين مع ضحكتهم»(kafka Die Erzahlungen. p337).
إننا نستطيع أن نقرأ هذا النص من وجهة نظر أدبية كما نستطيع أن نقرأه من وجهة نظر تداولية. وان القارئ في الحالة الاخيرة، ليربطه بالواقع اليومي. فهو قائم مباشرة في اطار تداولي واقعي، أو ان القارئ ينقله الى وضع تداولي. فالنص يعمل تبعاً لطريقة تداولية، وذلك عندما نفهمه بوصفه خبراً في جريدة محلية تقصي أثر زيارة فرد ما في المدينة. ألا وإن رد فعل الشرطي يجب أن يظهر حينئذ غير مهذب. فالمخاطبة بالضمير «أنت» تؤخذ بوصفها علامة ملائمة لقلة أدبه أو لشذوذه. فالنص ذكر سلوكاً متزاحما، وقابلاً لتعيين هويته بفضل المعايير المقبولة عموماً في الواقع اليومي. وأخيرا، فان النص إذا قرئ من وجهة نظر تداولية، فإنه يحض المؤسسات المسؤولة في المدينة لكي تتخذ موقفاً. وإن هذه المؤسسات لمدعوة الى طرد الشرطي المخطئ. وهكذا، فان التلقي التداولي يثير توليفاً يرى في النص توجيهاً للتصرف، ودعوة لإنجاز فعل يقوم خارج النص.
وأما في حالة التلقي الأدبي، فان القارئ يرمي منذ البدء بالبعد التداولي بوصفه غير ملائم. وان وضع النص في سياق واقعي مرفوض قصداً. فالنص لا يفهم بوصفه تحريضاً على الفعل. فالمعاني التي يمكن أن تستخلص من التعميمات ومن السياقات التداولية متسعة، ثم مرفوضة، وذلك لكي تعوضها تعميمات اخرى، فالنص معاد تأويله. و«أنا» الراوي لا ينظر اليها بوصفها «أنا» محدودة، ولكن بوصفها ممثلة للانسانية. وكذلك، فان الشرطي لم يعد شرطياً محددا، ولكنه يمثل مؤسسات معينة، وقيما معينة، ومتصورات معينة، ويميل التلقي الأدبي الى قراءة النص بوصفه حكمة. وان الحكمة في هذه الحالة المحددة هي الآتية: ان الانسان اذ هو فوق الأرض، فانه يبحث على الدوام، ولعله يبحث عن هدف، وإن الزمن والواقع التاريخي ليتحركان على نحو يضيع معه توجهه. ولهذا السبب، فانه يتوجه الى الآخرين الذين يبدون أنهم مختارون لكي يظهروا له الطريق. ولا يستطيع هؤلاء الحماة (الفلاسفة، اللاهوتيون) أن يساعدوه مع ذلك. وكل ما يستطيعون فعله على الاكثر هو انهم يدركون على نحو أفضل الوضع المتاهي للانسان. وإن المخاطبة بالضمير «أنت» لتجعل قيمة الحكمة بارزة على نحو دال جداً: لا تغطي العبارات المؤدبة السمة القدرية والأولية الوضع. وهكذا سيكون التلقي الأدبي للنص تلقياً تقريباً. (من اجل تدقيق اكبر، انظر ،Politzer 1962).
ان هذه الخطاطة، الموجزة والقوية في تدرجاتها اللونية، هي خطاطة للتلقي الأدبي الذي يخضع له القارئ/ المتلقي للنصوص التي يقرر انها أدبية. ويقضي مبدأ هذه الاجراءات في الواقع بأن يعالج القارئ اشارات المعاني التي ليست متطابقة والتي لا تعزى إليها طبعياً في الأوضاع التواصلية ذات النظام التداولي. وحتى لو أعطى تفكيك الشرعية التواضعية للعلامات، أي التلقي التداولي، مجموعة متماسكة في ذاتها، كما هي الحال في المثل الذي أعطيناه، فان الحكم على هذا المجموع الدال هو حكم بالاحرى غير كاف، لأنه لا يولد ما يكفي من «المعاني» في نظر التلقي الأدبي. ويجب على المتلقي حينئذ ان يعيد فهرسة اشاراته الدالة على المعاني الجديدة والمختلفة، وان يوجه انتخابها وعلاقاتها المتبادلة وذلك لكي تلد مجددا مجموعة متماسكة، وجديدة، هذه المرة، وان تجيب عن مطالب التلقي الأدبي فيما يخص المعنى.
تعد إعادة تأويل المضامين الدلالية التواضعية- أو التداولية- جوهرية بالنسبة الى التلق الأدبي. فهدفها هو انتاج معنى وانتاج تماسك متنقل التداول. ولكن قبل ان يصير التماسك والمعنى منجزين من جديد، فان النص يعبر مرحلة أساسية من الفراغ الدلالي، والذي هو نتيجة لرفض التلقي التداولي. وبسبب هذا الفراغ او بسبب عدم التحديد الدلالي، فان التلقي يستطيع ان يصل الى نتائج جد منوعة. ويمكن لهذا الفراغ أن يمتلئ بمعان يباين بعضها بعضا كثيراً. ومع كل معنى يتم الوقوف عليه، نجد ان التأسيس الخاص للتماسك وللمعنى يمثلان وظيفة للوضع الفردي، والاجتماعي، والتاريخي للمتلقي. فتلقيه انما يثبته نسق المعنى الذي يعيش فيه والذي يعرفه. وان تأسيسات الادراك والمعاني تحددهما ايجاباً وسلباُ أنساق الادراك والمعايير لدى المتلقي. ويستطيع متلقون مختلفون في النتيجة ان يعزوا لإشارات النص المأخوذ معزولاً قيما متعارضة تماماً. ويمكننا مثلا أن نتصور تلقياً أدبياً لنص كافكا يمثل الشرطي فيه معياراً سلبياً. ونستطيع من منظور ديني معين ان نعزوا الى النص معنى ينظر فيه الى الشرطي بوصفه مفسداً شيطانيا، يجعل الانسان المريب ينحرف عن الطريق الحق لأمد دائم.
ينزلق النص في الفترة البدئية للتلقي الأدبي، نحو إمكان الحدوث الدلالي، وعدم التحديد. بيد انه يخرج بعد ذلك من هذا. وان وجهة النظر التداولية، بمعنى ما، إذ تكون مرفوضة في بداية الاستقبال الأبدي، فانها ترى نفسها أخيراً قد اعيد استثمارها في نهاية التلقي. وانه لمن المستبعد، على نحو أكيد، جعل النص يرسو في وضع واقعي، ويومي، وليس في تأويله بوصفه حضاً من غير التباس ممكن، كما انه لمن المستبعد جعله يحتفظ بمثل هذه التأويلات للتلقي التداولي المحض. ولكننا في النهاية نصل الى تحديد موقع النص مع ذلك بشكل دقيق. وان هذا ليكون بمساعدة عناصر تكوينية للمعنى وللتماسك. وبهذا، فانه يندمج في أنساق أكثر عمومية تتجاوز الاوضاع الخاصة، وفي أنساق واقعية للواقع اليومي. وليست العناصر المكونة للمعنى النصي مرتهنة فقط لليقين الفردي، والتاريخي، والفلسفي للمتلقي، ولكن يجب على اليقين أن يضعها على المحك. فالتنصل من الاجراءات التداولية في بداية التلقي الأدبي، يفضي الى التلقي من وجهة نظر أدبية، واننا لنستطيع أن نقول ان هذا ليقود الى تلق تداولي من الدرجة الثانية. فاجراء «نزع الأدبية» او «نزع الشعرية» يعني انه يجب على امكان الحدوث وعلى الفراغ الدلالي ان يرفعا، وقد كان ينظر الى هذا من وجهة نظر تداولية غامضة بوصفه سلبياً يمر في النهاية الى مقام ايجابي. ولقد تستطيع النصوص حينئذ ان تعمل بوصفها قيماً مقبولة ايجابياً في الكوكبات التواصلية. ويبين تاريخ تلقي الأعمال التي تسمى الاعمال الكلاسيكية في كل مرة التطور عينه، والذي يعد من نتيجته اندماج النصوص في أنساق من المعنى ومن الواقع الفعلي. وحتى النصوص الكلاسيكية، فانها في الأصل، بما أنها نصوص يجب عليها الخضوع الى تلق أدبي، ممكنة الحدوث ومفتوحة في وجه أنساق الواقع اليومي. ومع ذلك، فان كل النصوص الأخرى قد اعيد ادماجها في سياق تداولي جديد. ولقد ارتفعت هذه النصوص الى مرتبة الأعمال الكلاسيكية، خصوصاً لأن هذا الادماج الجديد قد نجح جيداً على نحو خاص. ولم يكن ذلك كذلك، لأن هذا الادماج كان متيناً فقط، ولأن الفراغ الدلالي لم يعد يتأسس عملياً في التلقيات اللاحقة، ولكن لأن هذا الادماج، بالإضافة الى أشياء أخرى، قد قبله تماماً عدد كبير من المتلقين، أي قبلته الأمة والشعب أجمعين.
وسنحدد، اقتضاء لغرض التوضيح، أن المراحل الثلاث التي تجعل الاستقبال الأدبي بنية- الرفض من منظور تداولي، واعادة التأويل، واعادة الادماج تداولياً- إنما تشكل نموذجا، ولا تعكس بالضرورة المسار الفعلي لمختلف إجراءات القراءة. فالتلقي المحول الى واقع، يكسر في عدد من المرات هذا التوالي الخطي، كما يكسر عدم الانتظام على الاقل في عدد من الاجراءات الموازية. وبالاضافة الى هذا، فان بعض الفقرات لن يعاد في البداية تأويلها، ولكن يعاد النظر فيها من زاوية تداولية. وهناك فقرات أخرى، جاءت لحظة القراءة في اطار تداولي، يعاد تأويلها ازاء الكوكبات النصية الجديدة، إلى آخره. وبالاضافة الى هذا، فان اعادة تأويل النص واعادة ادماجه التداولي لأمر يتعلق بمقاطع من النص كان القارئ قد انتخبها بغية اعادة إدماجها تداولياً (نهائياً)، وذلك على نحو تستطيع فيه النتائج ان تكون متباعدة في شروط متماثلة للتلقي. وكذلك ، فان مختلف نماذج اعادة الادماج التداولي المتعرضة أحيانا، والتي يخضع لها النص الأدبي عينه في عصور مختلفة، هي في جزء كبير منها يحددها مثل هذه القرارات (الانتخابات) والتي يتمثل أثرها في كل مرة في تغيير البنية الادراكية للتراتبية المحايثة التي أنشأناها بين مختلف أجزاء النص.
- يميل التلقي الى إزالة اللبس والغموض عن نص معروف بوصفه نصاً أدبياً. فهو يريد في الواقع أن يخضع النص للمعايير، وأن يلغي، إذ يزيل الغموض ، المصاعب التي يقدمها. ألا وإن هذا ليسمح بتحديد التأويل على نحو أكثر دقة، فإذا كان التأويل الادبي لا يريد أن يصبح تلقياً عقلانياً يهدف بتصميم الى إزالة اللبس، فيجب عليه أن يعطي لنفسه وظيفة رئيسة، هي: الحفاظ على اللبس في النص، بل جعل المستلزمات الخاصة لهذا اللبس موضوعا، والنظر اليها باهتمام في المحاججة، ووضعها موضع الفائدة. وبقول آخر، لا يجب على التأويل أن يذهب الى مرحلة إعادة الادماج التداولي.
وتقضي الصعوبة التي يواجهها التأويل بوصف هذا اللبس وتقييمه، من غير إلغائه من أجل ذلك. وإننا لنخاطر دائماً إذ نصف الفراغات الدلالية بملئها وباستثمارها معنى. ومن جهة أخرى، فان الحذر المبالغ فيه ازاء كل محاولة لإزالة اللبس يمكن أن تكون نتيجتها ضياع التأويل في الاثباتات العامة والتي لا معنى لها.
ولقد نستطيع، مع ذلك، أن نجد مخرجاً لهذا المأزق: ليس اللبس الأدبي في النهاية محدودا ولا نهائيا. وإنه لا يستطيع ان يكون كذلك، وإلا فان امكانية التلقي ستثني تماماً مهما كانت قابلة للنقاش في الحالات الخاصة. والسبب لأن القارئ/ المتلقي لا يستطيع أن يصل الى نتيجة إلا اذا استمر ارتباطاً- حتى ولو كان دقيقاً- بمضامين سائدة ومعروفة، وكذلك إلا إذا استمر ارتباطاُ بأشكال من الواقع اليومي. وفي النهاية، فان درجة معينة من التحديد لتعد ضرورية للحفاظ على اللبس.
فإذا قبلنا بأن وظيفة التأويل الأدبي تكمن في التخلي مبدئيا عن إعطاء المعاني الواقعية والواضحة والتخلي عن إزالة شعرية النصوص الأدبية، فيجب علينا ان نعرف كيف نستخلص النتائج، والتي ستكون حاسمة بلا ريب فيما يخص الادعاء بصحة التأويل المسمى التأويل التاريخي. والسبب لأن رسو النص في سياق واقعي، ليس هو سياق المتلقي أو المفسر، ولكنه معاصر لظهور النص، ليدل أيضاً على وجود تلق معياري، كما يدل على اعادة إدماج تداولي. ويتناسب التأويل التاريخي التقليدي للنص إذن مع التلقي المنجز انطلاقا من وجهة نظر تاريخية. وذلك لانه يستدعي تدخل عوامل خارجية ومعاصرة للنص، وتشكل جزءاً من التحديد. ولن يوجد في النتيجة لبس إلا بالنسبة الى ذلك الذي يدرس العمل من منظور حديث وغير زمني. وسيكون اللبس نتيجة لغياب المعلومات ولن يستمر ما دام المفسر (المتلقي) لم يجد معلومات تاريخية معينة لا يمتلكها حتى الآن.
ومع ذلك، فان مثل هذه العناصر بالضبط، المعروفة، والخارجة عن النص، والتي يستطيع التأويل ان يستخدمها، بل يجب عليه أن يستخدمها لكي ينتهي من اللبس الأدبي ويمكن للتأويل أن يستخدم التلقيات السابقة التي في حوزته من اجل هذه الغاية. والسبب لأن في هذه التلقيات توجد صياغات مباشرة وغير مباشرة تخص هذه العناصر المعروفة. ومع ذلك، فان التأويل لا يضع نصب عينيه التمثل النهائي لعوامل الدلالة الادبية وغير الأدبية. فهو يجتهد، على العكس من ذلك، لكي يظهر الفوارق بين هذه العوالم والتي يريد التلقي ان يخفيها. ويجب على التأويل ان يضع موضع البداهة السمة المؤقتة والجزئية لاستراتيجيات التلقي، والتوتر الذي يوجد بين هذه الاخيرة واللبس الأدبي. وانه ليظهر انه لخطأ عظيم ان نطبق على النص الأدبي الشرعة الملتبسة للحياة اليومية. فهو يساهم بهذا في تطوير النقد الاجتماعي والايديولوجي في اطار التاريخ الأدبي. وهكذا نستطيع، على نحو أكثر دقة، ان نحدد اللبس. فاللبس الادبي لا يعد ملائما إلا ازاء محاولات التلقي والتطبيع اللذين كانا على الدوام موضع رعاية من منظور معين. ولذا، فهو يتعلق بوجود التحديد، المضاعف والمتنوع، والذي من غيره لا يستطيع ان يبرز. ومن هنا، فانه لا يمكن للتأويل ان يستفيد من اللبس الا عندما نربطه بعلاقة مع كينونات معروفة ومحددة بوضوح.
اننا اذ نثبت اللبس انطلاقا من عوامل خارجة على النص، فاننا نستطيع ان نتصور اعادة الاهلية لطريق معينة من طرق التأويل التاريخي، ولقد يعني هذا في الممارسة العملية اجراء مواجهة للبس مع الوقائع التاريخية التي كانت لحظة تكوين النص وظهوره، موضوعية تماما، وتشكل إذن جزءا من التحديد، وانه لأمر جوهري إذن أن نحيل الى الوضع التاريخي، والذي يستطيع اللبس انطلاقاً منه أن يأخذ شكلاً.
ومع ذلك يجب أن لا يُحيد اللبس الذي نحاول تحديده بمساعدة السياقات التاريخية. فهدف التأويل يتمثل بالضبط في الحفاظ على اللبس. ومع ذلك، فان اللبس الذي يستطيع ان يبدو للوهلة الاولى مفرطاً الى حد ما، فانه يرى نفسه محدوداً بهذه الطريقة. ويمكن لإمكانية حدوث النص الأدبي أيضا ان تختزل الى غموض يمكن السيطرة عليه. فنحن نستطيع أن نحدد مكان اللبس تقريباً. ولقد يغتني التأويل الأدبي من البعد التاريخي، لأن اللبس لم يعد حالة هلامية تقاوم كل ادراك، لكنه يجد نفسه مبدلاً عنه في سياق من الوقائع الموضوعية، ومقتلعاً في الآن ذاته من الظلام الكامل كما هو الزعم.
تقع علاقة التأويل قبالة اللبس الادبي، وذلك في مركز النقاش الجاري حول التأويل. إذ يجب على اللبس ان يدرك بطريقة ما وان كان محصنا ضد تلق قادر على تدميره. ولا يمكن لهذا أن يكون إلا إذا تخلى اللبس عن امتلاك معنى واقعي. ولذا، فان المقصود هو التأويل الذي يستطيع أساسه المنهجي أن يقارب الأساس المنهجي للدلالة المعطلة. فهي تستطيع، في مثل هذا المنظور، أن تحلل النصوص بوصفها كينونات، بل ان تحلل أيضا الأجزاء والتفاصيل التي تكونها. ولا يزعج الرصيد الضروري، بأي حال من الأحوال، تحليل النصوص الأدبية بالمعنى الدقيق للكلمة، كما لا يمنع نسب المعاني. ويمثل التأويل المعطل أيضا ومباشرة وصفا للحوافز، وللموضوعات، ولمعنى النصوص بوصفها نسيج التحديدات واللبس وبناها. وأما توليفة المتداخل، وتنظيمه الاسلوبي والبنيوي فموسومة تماماً. ونستطيع في النهاية أيضا، انطلاقا من مثل هذا التحليل، تبرير بناء المعنى على نحو حذر، من غير أن يتحول اللبس من أجل ذلك في اطار معانٍ واقعية وقابلة للتلقي.
ولا يضمن التأويل المعطل، من جهة أخرى، أيضا نتائج «موضوعية»، أي نتائج تكون مستقلة عن المعطيات التاريخية. فكل دراسة للتأويل، حتى وان حاولت أن تتجنب نسب معاني الحياة اليومية والبدهية الى حد التفاهة، هي تخضع بالاحرى للشروط التاريخية والذاتية، بيد أنها لا تستطيع أن تحرر نفسها من هيمنة معايير الحياة المعاصرة والتقليدية. ويجد التأويل نفسه في وضع يتعلق فيه بالهرمينوطيقا. وهذا وضع وصفه كل من هايدغر وغادامير وصفا كاملاً. ويمثل التأويل المعطل أيضا دراسة من اجل «فهم» النصوص الادبية. وبهذا، فانه يعد جزءا من التلقي النصي. ولقد يعني هذا اذن انه لم يعد بامكاننا ان ننسب نهاية لتاريخ التأويل مثل تلك التي ننسبها لتاريخ التلقي.
ويقدم التأويل المعطل فائدة جوهرية: انه يقدم الأدب بوصفه «الآخر» وبوصفه ميداناً يعمل ويتخذ لنفسه موضعا في علاقة توتر ازاء نماذج الواقع وازاء الانساق المعيارية النافذة. ولهذا، فان التاويل بطريقة تعطيلية، انما يعود الى إنشاء الموضوعات أكثر مما يعود الى إنشاء عالم المتلقي وواقعه. ويحاول مثل هذا التوجه، بمساعدة تحليل نصي يوجهه منشور تاريخي، ان ينجو من اطار ضرورة الوقوف على وجهة نظر واحدة، تتمثل في وضع تاريخي ما، كما يحاول ان ينجو من اخضاع النصوص الأدبية الى هذا التقييد من غير شروط.
٥ - يشتمل التاريخ الأدبي على سلسلة من الأمثلة التي تثبت وجود الادماج التاريخي المضاعف للأعمال الأدبية. فهي تظهر، من جهة التثبيت والتعلق، وهي تظهر، من جهة أخرى، امكان الحدوث الحاد للنصوص ازاء التاريخ. فهذا التوتر بين التحديد واللبس، والذي يوجد الأدب فيه ويعمل، يصبح دالاً على نحو خاص هنا حيث جهود التطبيع التي يتعهدها القارئ تكون ظاهرة في وثائق للتأويل وللتلقي. فهذه الوثائق تسمح بإظهار خطوط للتأويل المعطل.
لقد اعترف أنصار جماليات التلقي، هم أيضا، بالفائدة التي تقدمها علاقة التحديد واللبس بالنسبة الى علم الادب والى تاريخ الأدب، من غير استخلاص على كل حال للنتائج الضرورية دائماً. ويمكن لمتصور «أفق الانتظار» الذي أدخله هانس روبير ياوس، باعث نظريات التلقي، ان يستعمل في تأويل معطل. ولكن يجب ان يعطي حينئذ معنى أكثر اتساعاً من هذا الذي ينسبه ياوس اليه، فياوس، إذ يقوم باعادة بناء أفق التوقع لدى المتلقين، فانه يريد أن يحدد الوضع التاريخي لكل عمل أدبي، والسبب لأن الأفق هو بدوره مجموع الاعمال السابقة المقروءة والتي تم تلقيها. وهكذا، فان أفق الانتظار يقدم أولا ضرباً من الشرعة الفنية، تسمح للقارئ بأن يحتك مع عمل ظهر حديثاً ولا يزال إذن غير معروف.(٢)
«إذا استطعنا هكذا أن نعيد بناء أفق انتظار عمل ما، فاننا نستطيع أيضا أن نحدد هذا الافق بوصفه العمل الفني، وذلك تبعاً لطبيعته ولكثافة أثره على الجمهور. فإذا أعطينا مسمى «الانزياح الجمالي» للبعد القائم بين أفق الانتظار الموجود مسبقا والعمل الجديد والذي يستطيع التلقي ان ينتج فيه «تغيراً في الأفق» ذهابا الى لقاء التجارب المألوفة أو إذ يجعل تجارب أخرى تم التعبير عنها للمرة الأولى، تصل الى الوعي، فان هذا الانزياح الجمالي الذي قيس بمقياس سلم ردود أفعال الجمهور والأحكام النقدية (نجاحات مباشرة، رفض أو فضيحة، موافقة أفراد معزولين، فهم يتقدم أو يتأخر) ليستطيع أن يصبح معيارا للتحليل التاريخي».(jauss 1978: 53)
ان أفق التوقع الذي يحيل إليه ياوس لكي يحدد موقع النصوص الأدبية، ليستطيع أن يكون منتجا بالاحرى أكثر بكثير اذا توقفنا عن ان نرى فيه نتيجة للجمالية التقليدية ونتيجة لتجارب جمالية مكتسبة. ولذا، يجب تعريفه بالأحرى بوصفه استعدادا معقدا، تتحرك في إطاره المعايير ليس الجمالية فقط، ولكن الاجتماعية أيضا، والاخلاقية والدينية الى آخره. وعمليا، فان أفق التوقع يتحول الى واقع بتشكيل نفسه في قالب الموقف الواقعي للقارئ في بداية اجراء التلقي. وهكذا ، فان أفق التلقي يصوغ التحديد العام والذي انطلاقاً منه فان كل لبس أدبي يستطيع أن يظهر نفسه في ازار خصوصيته. فإذا أخذنا أفق التوقع من خلال هذا القبول الأكثر سعة، حينئذ- لكي نأخذ مثلاً- فان الاختلاف الذي ظهر، في عام 1857، أثناء المحاكمة التي أقيمت لفلوبير من أجل رواية «مدام بوفاري» ، بين أفق توقع القراء الذين يمثلهم الادعاء والرواية نفسها، لا يترك مجالاً للاختزال، كما هي الحال عند ياوس، لكي يحصر في اختلاف جمالي محض:
«إن الصيغة الادبية الجديدة التي كانت ترغم جمهور فلوبير كي يدرك بطريقة غير معتادة «ان الموضوع مبتذل» قد تمثلت في «الخطاب الحر على نحو غير مباشر» والذي كان فلوبير يمارسه ببراعة وبخصوصية تامة(jauss 1978:76.)
ان السرد غير الشخصي والاسلوب الحر غير المباشر، واللذين بيّن ياوس هنا بأنهما يمثلان الأعراض الجمالية لشك أساسي، كانت الرواية قد جعلت القارئ يغطس فيهما وهو مزود بمثل وبمعايير تنظم عالمه المألوف. ولقد أصبحت الرواية اشكالية بالضرورة بالنسبة الى القارئ المعاصر: يرى القارئ نفسه منخرطاً في فعل كان معروفا بالنسبة اليه، بالتأكيد، ولكنه كان يذهب مع ذلك بعكس متصوراته الاخلاقية، من غير ان يكون مع ذلك قادراً على وضع حكم بخصوص الاحداث المروية. ولقد صنع لنفسه بهذا خلقاً بين أقطاب العادة والجدة الى درجة ان وجوها جوهرية للرواية قد ظهرت بوصفها وجوهاً ملتبسة.ولقد تجلى هذا على مستوى التقانة السردية غياباً للراوي المهيمن، والذي كان باستطاعته ان يعرض عليهم امكانية للحكم وللتقييم.
لقد حرر رجل القانون محضرا كاملا بهذا الوضع للتلقي، وللقضايا التي وجد انها مرتبطة به. وعاب على الرواية أنها لا تحيل الى المعايير المعمول بها في المجتمع البرجوازي، أي أنها لا تحيل الى ما هو معروف ومحدد. ويمكننا ان نؤول هذا الكلام ما لو انه محضر ضبط لتلق مخفق، ولعدم القدرة على اعادة ادماج الرواية في الاطار التداولي المقبول. ويعد هذا ظاهرا على نحو خاص إذ يلاحظ غياب كل معيار أخلاقي في الرواية ويدينه:
«من يدين هذه المرأة في الكتاب؟ لا أحد. هذه هي الخلاصة، إذ لا توجد في الكتاب شخصية حكيمة، وإذا وجدتم فيه مبدأ واحداً بفضله يوصم الزنى بالعار، فأنا مخطئ. وإذا لم توجد في كل الكتاب إذن فكرة واحدة، وسطر واحد بفضله يكون الزنى مفضوحا، فأنا الذي أملك الحق، ويعد الكتاب كتاباً غير أخلاقي»(Flaubert: 345.)
ان الاتهام إذ يتلفظ بقرار اتهامه إنما يعطي ملمحاً أكثر دقة عن التلقي من الدفاع. والسبب بالضبط لأن هذا اللبس المعاب هو الذي يثبت المكانة التاريخية لرواية «مدام بوفاري» بوصفها صراعا بين النص الأدبي والعالم البرجوازي. وعلى العكس من هذا، فان الدفاع يحاول تبرئة الرواية بادماجها في قناة المعايير الأخلاقية. ثم انه اذ يحيل باستمرار الى السلوك النزيه لفولبير نفسه، بل خصوصاً إذ يجتهد كي يكتشف المبادئ الأخلاقية التي لا يستطيع الاتهام أن يراها، فانه يمنع في الوقت نفسه عن نفسه كل لبس دلالي:
«احذروا جيدا شيئا: ليس فلوبير إنسانا يزين لكم زنى لطيفا، لكي نصل بعد ذلك Deus ex mavhina ، لا. انكم تقفزون بسرعة كبيرة فوق الصفحة التي كنتم قد قرأتموها في الأخير. فالزنى عنده ليس سوى عذابات، وندم، وأسف، ومن ثم يصل الى مغفرة نهائية، ومرعبة، إنها مبالغ فيها. وإذا كان فلوبير يذنب، فذلك يأتي منه مبالغة، وسأقول لكم بعد قليل ممن هذه الكلمة، ان المغفرة لا ترهن نفسها للانتظار، وان الكتاب إنما يكون بهذا أخلاقياً للغاية ومفيدا، لأنه لا يعد المرأة الشابة ببعض من هذه السنوات لكي تستطيع ان تقول في نهايتها. من بعد هذا، يمكن أن نموت. لا! فمذ اليوم الثاني، تصل المرارة، والخيبة، وهكذا يوجد الانفراج، بالنسبة الى الاخلاق، في كل سطر من سطور الكتاب(Flaubert: 354..)
ولقد كان القضاة يمتلكون ما يكفي من الحكمة لكي لا ينضموا الى أي من التلقيين. وبالفعل، فقد وجب عليهم ان يضعوا حكما فيحيلون النص هم انفسهم الى واقع. ولقد تم التأكيد ، لحظة الحكم ان الرواية تتضمن بعض الجمل التي تجرمه فوق الحد. ولكننا نحدد بأنها ليست كثيرة، وأنها، بالإضافة الى هذا، مرتبطة بسياق معين. وكذلك ، فقد تم لفت نظر فلوبير الى انه يهمل أحياناً «القواعد التي يجب على أي كاتب يحترم نفسه ان لا يتخطاها». ولكن العوامل التي كانت حاسمة بالنسبة الى البراءة لا تأتي من هذه التلقيات الممكنة: إنها تمثل الشهادة الشخصية لفلوبير وللاحترام الذي يكنه للاخلاق الحميدة، والى كل ما يرتبط بالاخلاق الدينية(Flaubet: 399)
ولقد وجد القضاة انفسهم تقريباً في مقام الناقد الأدبي الذي يرى نفسه إزاء تلقيين متناقضين للنص نفسه. فلقد وجب عليهم بالفعل، بوصفهم ضامنين للنظام الاخلاقي وللقوانين البرجوازية، أن يدينوا رواية فلوبير. ولكنهم اذ لجأوا الى اعلان مقاصد الكاتب نفسه، فقد وجدوا إمكانية لتجنب الادانة. وبهذا المخرج، فقد تجنبوا أيضا إزالة شعرية النص، وهو الأمر الذي كان كل من الاتهام والدفاع يريد الحصول عليه، كل على طريقته ولقد برهن القضاة على كثير من الذكاء في موقفهم ازاء الأدب، فتركوا لبس الرواية معلقاً وكذلك الاضطرابات التي يثيرها. وإنهم اذ لم يدعوا أنفسهم تفتتن بأي من هذين التلقيين، فانهم ضمنوا للنص سمته الأدبية.
يجب النظر الى رواية فلوبير بوصفها نتاجا للوضع التاريخي لحظة تكونها. فهي تعيد انتاج أشكال ومضامين يعدها المعاصرون مثل معايير ايجابية تسمح بتحديد قيم السلوك الخارجي والداخلي. ويعد اختيار القراءات لايمابوفاري كاشفاً: تلتقي هذه مع النماذج الاصولية للعصر. ولكن هذا العالم المعروف قد تحول وانفصل عن اطاره المرجعي المعتاد بشكل متزامن. فلقد أصبح غريبا، وغير معتاد، ولم يعد مألوفا، ولقد كان العمل يقاوم بهذا محاولات اعادة الادماج التداولية. ولذا، فان النص أصبح ممكناً ازاء أنساق معيارية كان يجب عليها ان تحدد التلقي. وان الفضيحة والمحاكمة اللتين تبعتا ظهور الكتاب لتشهدان في النهاية على وجود عقبات ربما يعانيها المعاصرون عندما يقتضي الحال اخضاع اللبس الى معايير حين يقدم نفسه في اطار قائمة من المواضيع ومن الحوافز التقليدية.
ان ما حاولنا ان نبينه بمساعدة المثل المضروب برواية «مدام بوفاري» لا يشكل تناقضاً إلا في الظاهر: لقد عرفنا العمل الأدبي بالفعل بوصفه عملا ثابتا تاريخيا من جهة، وبوصفه ممكن الحدوث تاريخيا من جهة أخرى. ويجب على التأويل، في مقابل التلقي، أن يقبل هذه العلاقة المزدوجة للأدب وللتاريخ وان يجعلها موضوعاً. وسيتجنب بهذا أن يحلل بشكل متميز العلاقات بين الفن والواقع. وإن التأويل لن يضيع قيمته إلا في الظاهر إذا تخلى عن التعبير بوضوح عن المعنى المحسوس للنصوص، وإذا باشر، على العكس من ذلك، بتفسير العلاقة المستقلة - ولكن ليست المجانية- والشبه سلبية، بين الادب والتاريخ.
وأخيرا، يستطيع مثل هذا التأويل أيضا ان يسند تحليل البنية الأدبية للنصوص وان يصونها من كل مجانية. وان التأويل ، إذا فهم بوضوح بوصفه مبدأ للكشف يريد ان يتجنب عقبة التلقي المحددة، فانه يحث على تحليل لشروط التحديد واللبس، كما يحث على تحليل لبنى النصوص الأدبية. ويستطيع التأويل، بفضل تعريفه، ان يوجه في وقت واحد تحليل البنى نحو الانجازات المحسوسة للنصوص. وان البحث الموجه نحو تحليل العوامل الشعرية والمكونات النصية سيربح قيمة وامتداداً إذا عين موقع السمة المتعددة الوظائف للعوامل وللمكونات في اطار منظور تزامن السمة التاريخية والسمة المحتملة الحدوث للنصوص الأدبية. وما دام هذا هكذا، فان البحوث، حتى الآن، حول المكونات النصية الشعرية لم تأخذ قط المقام التاريخي للنصوص بعين الاهتمام وكذلك، فان نتائجها لم تفض الى نتائج وظيفية مجردة، وبالاضافة الى هذا، فان هذه التحليلات تغامر بتقرير وجود تعددية للتلقي منفصلة عن كل نظرة تاريخية. فرولان بارت الذي أخذ يبتعد- وله حق في ذلك- عن تقاليد التأويل التاريخي وممارسته، قد كتب:
«... ما سيهم علم الأدب، هي التنوعات المتولدة للمعنى، واذا أمكن القول، فهي التنوعات القابلة للتوليد بوساطة الاعمال: لن يؤول علم الأدب الرموز، ولكنه سيؤول تعدد التكافؤ فيها. وبكلمة، فان موضوعه لن يكون المعاني الممتلئة للعمل، ولكن سيكون، على العكس من ذلك، المعنى الفارغ الذي يحملها جميعا(Barthes:57)
ولكن يبقى هذا البرنامج ونتائجه شكلانيين ضرورة، وتجريديين، وذلك ما دام المنظور التاريخي لم ينظر اليه باهتمام. فبارت محق عندما يرفض «علما للمضامين» (٥٧)،