الترجمة الإلكترونية .. آفاق الحاضر والمستقبل
الباحث : الدكتور روحي البعلبكي
الباحث : الدكتور روحي البعلبكي
هل دخلت الترجمة البشرية مرحلة التكتُّف القسري والانكفاء المهمَّش أمام اكتساح الآلة؟ وهل نستطيع أن نركن إلى الترجمة الإلكترونية ونثق بنتائجها وثوقاً كبيراً فنستغني عن تدخل العنصر الإنساني المميز؟ ما هي الحدود والامكانات والآفاق؟
الترجمة الآلية أو الإلكترونية هي ترجمة مُحَوسَبَة، تستعمل الحاسوب بوصفه الجهاز المركزي لمبتكرات التقانة المعلوماتية التواصلية اللحظوية المتنامية، وتؤمن قدراً هائلاً من الانتقال شبه الفوري من لغة تسمى لغة الأصل إلى لغة تسمى لغة الهدف، دون تدخل بشري.
فمنذ أن اخترع الحاسوب في الاربعينات من القرن الماضي، بدأ البحث يجري بانتظام حول سبل استخدامه أو الاستفادة من مختلف وجوه تطبيقاته، في مجال الترجمة، بحيث يمكن القول إن نظم الترجمة الآلية قد شُرِعَ في رسم تصوُّرها وإطار تطوُّرها منذ أكثر من 55 سنة
نشوء الترجمة الإلكترونية وتطوُّرها
في العام 1949، على وجه التحديد، أدلى وارن ويفر نائب رئيس مؤسسة روكفلر الأميركية بتصريح رسمي حول الترجمة بواسطة الحاسوب، نُشر في كتيب ووُزَّع على الجهات العلمية في الولايات المتحدة. وما لبثت أن أعقبتهُ دراسات وأبحاث تولتها مراكز مرموقة من مثل معهد MIT (ماساتشوستس للتكنولوجيا)، كما عقد المؤتمر الأول للترجمة الآلية First Conference on machine Translation عام 2591، الذي نجم عنه تشكيل لجنة عمل في جامعة جورجتاون مهمتها اجراء أول تجربة عملية تضع مبدأ الترجمة الآلية موضع التنفيذ. وفي عام 1954 أقيمت التجربة وعرضت، ولكنها كانت بالطبع بدائية بل جنينية. وبعد عشرة أعوام (1964)، شكلت اللجنة الاستشارية لمعالجة اللغات آليا Automated Language Processing Advisory Committee في رحاب الأكاديمية الوطنية الأميركية للعلوم American National Academy of Sciences لدراسة مدى الحاجة إلى هذا النوع اللابشري من الترجمة وجواه الاقتصادية، وطلعت اللجنة بتقرير سلبي اللهجة، سوداوي التوقعات، الأمر الذي ألقى ظلالاً قاتمة على الفكرة، لا سيما بعد أن كانت وكالة الاستخبارات الأميركية CIA قد أنفقت قرابة العشرين مليون دولار لتغطية أبحاث مماثلة دونما فائدة تذكر.
على أن الثمانينات أعادت الحياة إلى المشروع، وبخاصة لدى بروز اهتمام كبير من قبل القطاع الخاص في اليابان والولايات المتحدة وفرنسا وكندا، فضلاً عن اهتمام حكومي في الاتحاد السوفياتي السابق.
ومع نشوء علم الألسنيات الحاسوبية أو المحوسبة Computational Linguistics منذ قرابة العشرين عاماً، انتقل التعامل مع الترجمة الآلية من الأسلوب المباشر الذي يكتفي بالاعتماد على تحليل بسيط للعبارات مبني على القواميس الثنائية اللغة، إلى الأسلوب غير المباشر أو التجريدي حيث يجري تحليل النص الأصلي بلغته المصدر توصلاً إلى تجريد المعاني أو تفتيت النص وفقاً للتحليل (أو التركيب) الصرفي morphology، والتحليل النحوي (أو تركيب العبارة) syntax، والتحليل المعنوي (أو الغموض التعبيري) semantics، بحيث يِزال كل التباس محتمل ويصبح في الإمكان القيام بعملية استيلاد متناسق في لغة هدف واحدة أو أكثر.
ويسعى الأسلوب غير المباشر إلى أن يكوِّن لغة وسيطة كأداة قياسية مجردة، متحرراً بواسطتها من الارتباط الكلي بأية لغة، فتصبح هذه اللغة القياسية الوسيطة Interlingua مجاله الرحب وصلة وصله بين سائر اللغات. وهذا يعني، عملياً، أن الترجمة تجري على دفعتين: أولاً من اللغة الأصل إلى اللغة الوسيطة، ومن ثم من اللغة الوسيطة إلى اللغة الهدف، أو على ثلاث دفعات: تجريد معاني النص الأصلي، نقل Transfer التجريد المعنوي إلى مماثل له في اللغة الهدف، صياغة النص الأخير باللغة المطلوبة.
أما مؤدى ذلك، في سياق التطور العالمي، فهو أنه حصل ابتكار للغة قياسية تجريدية عالمية يحال إليها كل نص تُطلب ترجمته مهما كانت لغة المصدر ومهما كانت لغة الهدف أيضاً، وذلك بمقدار ما تعتمد هذه الانترلينغوا على قواعد لغوية ثابتة ومبادئ معجمية عامة بصفة تجريدية رفيعة تُمكنها من استيعاب الفروق والتباينات بين مختلف اللغات وتجاوز خصوصياتها الصرفية والنحوية. ولا ريب أن هذه اللغة ستلعب دور اللغة المركزية وستسهم في بلورة عولمة لغوية فائقة.
مراحلها وهندستها
تمّر الترجمة الإلكترونية بمراحل أساسية تشمل:
1 ـ تحليل النص الأصلي أو تجريده: صرفياً، وتركيبياً.
2 ـ نقله إلى اللغة المطلوبة أو الوسيطة: لفظياً، وتركيبياً.
3 ـ استيلاده في لغة الهدف: نحوياً، وصرفياً، ودلالياً.
وهكذا نشأت تقانة خاصة هي تكنولوجيا اللغة Language Technology كمصدر أولي لـ تكنولوجيا الترجمة Translation Technology، تبنى على قواعد هندسية ومبادئ لغوية باتت تعرف باسم هندسة اللغة Language Engineering هدفها الارتقاء بالترجمة الآلية أو الالكترونية إلى أعلى مستوى. وفي هذا السبيل، تتوسل تكنولوجيا اللغة علوماً لغوية، ألسنية ومعجمية Linguistics and Lexicogy، فضلاً عن علوم آلية تطبيقية كعلم اللسانيات الحاسوبية، وعلم المعجمات الحاسوبية أو المُحَوسَبَة Computational Lexicography، والمدونات الألسنية أوالذخائر Corpus Linguistics، واللسانيات الاحصائية Statistical Lingustics فتداخلت بذلك علوم الحاسوب بعلوم اللغة بهدف تطبيق تقانة المعلومات كمبيوترياً وإسقاطها على قواعد الصرف والنحو والدلالة والمعجم، إلى درجة بات في مقدورنا التحدث عن تقانة اللغة أو تكنولوجيا اللغة Language Technology وتسعى هذه الأخيرة إلى رسم صيغة تنفيذية لعلوم الألسنيات والمعجميات والمدونات الحاسوبية من خلال البرمجيات والأجهزة العملية المختلفة ومنها: الترجمة الآلية، القواميس الالكترونية، الموسوعات الإلكترونية، بنوك المصطلحات، قواعد البيانات المعجمية، الفهم الآلي للكلام، التدقيق الهجائي والنحوي آلياً، الفهرسة الآلية، الخ، وهي جميعها فروع معلوماتية من علم هندسة الترجمة الذي يعتبر بدوره أحد تشعبات الشجرة الكبرى المسماة هندسة المعرفة.
الخريطة التكنولوجية للترجمة الإلكترونية
ولكي لا يبدو الموضوع عويصاً، يمكننا تقريب الصورة بالقول إن الخريطة التكنولوجية تشمل صيغاً مختلفة تستعين بالحاسوب لغرض الترجمة Computer Aided Translation وتضم بالإجمال:
1 ـ نظماً شمولية للترجمة الآلية.
2 ـ نظماً مساعدة للمترجم البشري، بما في ذلك البرمجيات المعجمية والبنوك المصطلحية.
أما النظم المساعدة او الداعمة للمترجم البشري فتنطوي على أدوات برمجية، من لغوية ومعجمية ومصطلحية، تتركز حول ما يلي:
(1) بنوك المصطلحات الآلية: وهي عبارة عن قاعدة (قواعد) بيانات أو معطيات data base(s) تخزن المصطلحات وتعالجها وتسترجعها بصور متعددة، وتتسم بسهولة البحث، وإمكانية إجراء التقابل والمقارنة والتمييز بغية اختيار المقابل الأنسب، مع توفير معلومات مختلفة عن تاريخ المصطلح وسيرورته ودرجة اعتمادية ومرادفاته، وإمكانية القيام باضافات سريعة أو إجراء تعديلات فورية أو إدخال تحديثات مباشرة عليها على نحو أسرع من القاموس الورقي المعروف، فضلاً عن إمكانية تنسيق مفردات معينة في حقل مطلوب بأسرع وقت حسب رغبة المترجم.
وثمة اليوم العديد من بنوك المصطلحات في دول أميركا وأوروبا، منها بنك لكسيس Lexis، وبنك تيم Team، وبنك تيرميوم Tennium، وبنك يوروديكوتوم Eurodicautom، وبنك تيرمدوك Termdok، وهي لاتزال تشهد تنامياً متعاظماً، من حيث العدد كما الفعالية.
أما اهمها في الوطن العربي فهي البنك الآلي السعودي للمصطلحات (باسم) في مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية بالرياض، وبنك معربي للمصطلحات التابع لمعهد الدراسات والأبحاث للتعريب بالرباط، وبنك قمم التابع لمعهد المقاييس الصناعية في تونس، وبنك المصطلحات التابع لمجمع اللغة العربية في عمّان الأردن.
(2) القواميس الإلكترونية: وتتأتى في مقدمتها القواميس الثنائية اللغة، والمتعددة اللغات (بالطبع فضلاً عن القواميس الأحادية)، سواء كانت صامتة أم ناطقة، محمولة أم في شكل برمجيات مخزنة على أقراص مدمجة أو ليزرية، جامدة أم قابلة لإضافة رقائق لغوية تحمل قواميس أو موسوعات إضافية.
وقد كان أولها، ولايزال في طليعتها، قاموس المورد الإلكتروني على أقراص مدمجة أو ليزرية، والمورد الناطق Bookman الصادر بالتعاون بين دار العلم للملايين والشركة الدولية في السعودية وكلية شركة فرانكلين العالمية لإصدار القواميس الإلكترونية، ويحتوي على قاموس المورد إنكليزي ـ عربي تأليف والدي المغفور له الأستاذ منير البعلبكي، والمورد عربي ـ إنكليزي تأليف كاتب هذا البحث.
(3) قواعد البيانات: وهي توفر معطيات شاملة عن القواميس الورقية وسائر الكتب والمراجع المطبوعة ذات الصلة، وتخصصها، وكيفية استخدامها، ولمحة عن الكتب المترجمة، والنصوص المترجمة، ودور النشر، ومعاهد الترجمة، ومراكز الابحاث والدراسات والمترجمين الخ.
(4) ذاكرات الترجمة Translation Memories: وهي نظم تُمَكِّن من الاحتفاظ بنتائج الترجمة لإعادة استخدامها في نصوص مماثلة أو مشابهة، وبخاصة كلما كانت النصوص مكررة أو نمطية، ككراريس الشركات وكتالوجاتها، وتقارير المؤسسات، ومستندات المنظمات، بحيث تؤدي دور المحفوظات أو الأرشيف الجاهز الذي يؤمن حلولاً ترجمية مدروسة. وتسمح الذاكرة بتخزين نصوص أصلية مقابل نصوص ترجماتها واسترجاعها، فتُظهرُ أسطراً متقابلة على الشاشة يستعرضها الباحث المترجم ويقارنها، وله أن يتبناها أو يُعدِّلها. وهذه العملية تساعد على بناء مجموعات كبيرة من الترجمات الموثوقة والمتعمدة بفضل تميزها بالدقة والجودة المجربتين.
(5) أدوات التحليل والتحرير: وهي برمجيات تنسق الكلمات وتدقق الوثائق وتضبط الأسلوب، ومنها: منسق النصوص word processor، والمدقق الإملائي spell checker، والمصحح النحوي grammar checker، والمحلل الصرفي، والمحلل الدلالي، والمُشكِّل الإلكتروني.
(6) برمجيات التعرف على الكلام Speech Recognition: أي ترجمة الخطاب البشري المنطوق ترجمة فورية، غير أن ترجمة الكلام، وإن تكن تستقطب اليوم استثمارات مالية كبرى واهتماماً عملانياً فائقاً، فإنه من غير المتوقع أن تحقق اختراقات ممتازة في القريب المنظور، وتجدر الإشارة إلى أن اليابان تركز جهدها في هذه الفترة على تطوير أنظمة للترجمة الآلية للمخابرات الهاتفية البسيطة في مجال الاستفسار السياحي والحجز الفندقي وتسجيل الأسماء في الندوات والمؤتمرات. وتعمل ألمانيا كذلك على إعداد برامج تترجم الكلام البشري فورياً، يتوقع أن تتبلور صيغتها العملية خلال عشر سنوات.
(7) برمجيات توطين النصوص: أي تكييف النص من الوجهة الثقافية والحضارية، وحتى لجهة اللهجة المحلية المطلوبة، بحيث يوائم البيئة الخاصة بلغة الهدف.
وهكذا تتضافر جميع هذه النظم المساعدة لتشكل روافد داعمة تصب معاً في خدمة نهر الترجمة الآلية الشمولي الكبير. وجدير بالملاحظة ها هنا، أن هذه الوسائل المساعدة لا تسهل عملية الترجمة كغرض نهائي فحسب، بل إنها تُعين على توحيد قواعدها أو تقييسها standardization، ومعايرة منهجياتها أو تقويمها calibration, gauging، وكذلك بمقدار ما ترسخ مبادئ التناسق التماثلي والتوحّد القياسي والتطوير الاتساقي لغوياً وبرامجياً، طالما بقيت عملية الترجمة الإلكترونية رمزاً لقمة التحديات التكنولوجية بوصفها إحدى أصعب وأدق العمليات الإلكترونية التي يفترض بها أن تتم قدر المستطاع دون جهد بشري.
فما هي الصعوبات القائمة، وما هي التقنيات المتوافرة؟
أهمية اللغة
في الأصل كانت اللغة، وهكذا ستبقى. إنها المركبة، الوسيلة، الجهاز، الأداة، وهي في كل تلك الحالات تستحق صفة الأولى. فضائياً وأرضياً (على الصعيد الإعلامي اللحظوي)، وتواصلياً (في كل مضمار للنشاط الإنساني)، وإلكترونياً (في كل البرمجيات والتقنيات)، لا يمكن أن نرسي أي أساس بدون اللغة، فنشاط من دون لغة هو نشاط بلا أساس.
وتتعاظم أهمية اللغة بتعاظم الحاجة إلى تبادل الفهم والتخاطب بين الشعوب المتحدثة بلغات مختلفة، وبالتالي بتعاظم الحاجة، وعلى نحو مستمر، إلى ترجمة ونقل من لغة إلى أخرى.
وكلما تنامت النصوص المفترض ترجمتها ـ وهي في حقيقة الأمر تتنامى على نحو يفوق التصور ـ اشتدت الحاجة إلى ترجمة إلكترونية، ذلك أن استحالة تأمين طاقات بشرية من جحافل من المترجمين المؤهلين والعاملين على مدار الساعة وبالسرعة الإنتاجية المرغوب فيها، إنما تُحتم اللجوء إلى ترجمة مُحَوسَبَة تفوق سرعتُها السرعة البشرية وطاقاتُها الطاقة البشرية.
صحيح أن لغة النشر العلمي والاستعمال التكنولوجي الأولى في عالم اليوم هي الإنجليزية وبأشواط بعيدة عن تالياتها، وصحيح أن العولمة تكاد تجعل من هذه القرية الإلكترونية التي نعيش فيها منزلاً متعدد الغُرف لشعوب متمازجة وأفكار متماوجة، لكن الحاجة إلى الترجمة لا تعرف حدوداً، بل نجدها تتزايد إحصائياً على قاعدة ازدياد الحاجة إلى التفاهم بين الشعوب لعدم قدرة أي لغة على فرض ذاتها على جميع المجتمعات في مختلف المجالات مهما بلغت سطوتها.
واللغة، من حيث كونها مادة الترجمة وروحها وإشكاليتها ومبرر وجودها، إنما تجعل الترجمة موضوعاً ديناميكياً ومتشعباً ومعقداً بقدر ما هي كذلك، وهنا حدث ولا حرج عن ديناميكية كل لغة وتشعبها وتعقدها. ويقال، في هذا الصدد، إن اللغة كالثوب الممزق، أو كالغور الذي لا قرار له، أو كالزئبق الحرون، عصية على الالتقاط، عميقة الغور، سهلة التفلت والانزلاق، ولعل كل ذلك هو ما حدا بالتكنولوجيا الى الجنوح صوب الاتجاه الهندسي والتجريدي للضبط والاستخلاص والتقعيد وفقاً لتقانات مُقَوننة كما رأينا.
إذا كانت تلك حالة اللغة عموماً وفي المطلق، فما هي وضعية اللغة العربية على الخصوص في سياق الترجمة الإلكترونية؟
تمتاز العربية بأقصى درجات الغنى اللغوي، والثراء التركيبي، والتنوع الألسني، والتعدد المصطلحي، فضلاً عن فضاء بلاغي رحيب، ومرونة نحوية رهيبة، وأسلوبية تعبيرية منمقة، وتشعب يكاد يكون غير محدود في ظلال المعاني وأوجه الدلالات.
ويصعب تصوُّر فهم بنية اللغة العربية من غير تشكيل أو تحريك. فكيف نميِّز بين مولد ومُوَلَّد؟ وكيف نفرق بين لِيَومٍ واحِدِ ولَيَومٌ واحِدٌ دون تشكيل؟ أو بين عَلِمَ وعُلِمَ وعَلَّمَ وعِلم وعَلَم؟ أو بين تَصَدَّرَ وتَصدُرُ وتُصدِرُ وتُصَدِّرُ وتُصَدَّرُ وتَصَدُّر؟ ولذا قيل إن العربية هي اللغة الوحيدة التي عليك أن تفهمها قبل أن تقرأها، في حين ان سائر اللغات تقرؤها قبل أن تفهمها.
ألا يقتضي ذلك أن تُضبَطَ الكتابة العربية وتُحَرَّكُ كما ينبغي؟، لا سيَّما وأن الكتابة العربية انتقلت من طور كانت فيه غير منقوطة فنُقِّطَت، ومن طور كانت فيه غير مشكولة فشُكِّلَت؟ أم ترانا نبغي العودة إلى الوراء ونسعى إلى أن نرجع القهقرى؟
صحيح أن الكتابة العربية غير المشكولة وغير المهموزة وغير المشدودة تثير لبسا وغموضاً وصعوبات، ولكن البديهي أن كل ذلك هو جزء لا يتجزأ من حياتها وحركيتها بل وحيويتها بالذات. وإلا فما الفرق بين بانَ وبَاَن وبِاَنَّ؟
إلكترونياً، تعاني برمجيات الترجمة الآلية العربية ـ وكما هو متوقع ـ من صعوبات شتى ناجمة إما عن خصوصية العربية أو عن عدم التوحُّد القياسي في كتابتها، وفي مقدمتها الصعوبات التالية. كثرة المعاني، وتنوُّع الظلال، وتشعُّب الدلالات للمفردة الواحدة، عدم توحيد المصطلحات أي الاشتراك اللفظي أو استعمال عشرات الكلمات للدلالة على اسم واحد أو معنى بعينه، كثرة الترادف، كون اللفظة الواحدة تحتمل المعنى وضده في آن، شيوع الدلالة المجازية، وفرة الخصوصيات التعبيرية المحلية والقطرية، وفرة العبارات الاصطلاحية، وفرة المُحَسِّنات البديعية والتفنُّنات البلاغية والتخريجات الجمالية، صعوبة كتابة العدد، التأنيث والتذكير، المثنى والجمع وجمع الجمع، إهمال كتابها عموماً للاستعمال المنضبط أو الواضح لوسائل الترقيم والترابط (الفاصلة والنقطة والشَّولَة المنقوطة والجُمَل الاعتراضية) مما قد يثير التباساً في المعنى، تعدد أشكال الكتابة الإملائية (ديمقراطية، دمقراطية، دموقراطية ـ أوكسجين، أكسجين، أكسجين ـ شئون، شؤون ـ جغرافيا، جغرافية).
إن كل ذلك لا يقلل من مكانة هذه اللغة العظيمة، غير أنه يطرح مشكلات آلية على الترجمة الإلكترونية. ومؤسف أن نلاحظ أن علينا أن نضيف إلى تلك المشكلات، الأخطاء اللغوية الفاضحة التي يرتكبها معدو بعض البرمجيات الإلكترونية، ونَحرَهم للقواعد الصرفية والنحوية وحتى الدلالية، وإقلاقهم المستمر لراحة نفس المسكين سيبويه. وحسبنا أن نذكر أن أحد نظم الترجمة الآلية يعطيك فعل الأمر من وقى على شكل وق بدلاً من قِ، في حين يتخبط سواه في فيافي اللحن والركاكة رغم ادعائه أن برنامجه ـ في عُرْفِه وعلى قدر معرفته ـ يتمتع بأقصى درجات الدقة والفصاحة.
الترجمة الإلكترونية العربية
مهما يكن من أمر، فقد صدرت بعض برمجيات الترجمة الإلكترونية العربية، ولا سيّما تلك التي تتولى النقل من الانجليزية إلى العربية وبالعكس، كبرنامج المترجم العربي (ومختصره الوافي) الذي يعمل على الحواسيب الشخصية ولكنه لا يقبل سوى الانجليزية البريطانية دون الأمريكية، ونظام أبتيك Apptek، وبرنامج الناقل العربي لشركة سيموس Cimos صاحبة نظام MLTS، ونظام عربترانز من شركة آراب نت Arab Net، وبرنامج النشر العربي Rapid Publish من شركة Knowledge View، وبرامج شركة صخر (القارئ الآلي، سندباد، ناشر نت إلخ)، وتقوم هذه البرمجيات بتحليل التراكيب الصرفية والنحوية والدلالية للنص الانكليزي لتقدم نصاً مترجماً باللغة العربية بمعدل سرعة تتراوح بين 500 وألف كلمة في الدقيقة (30 إلى 60 ألف كلمة في الساعة). وقد لاقت قبولاً و/ أو استحساناً في مجال ترجمة النصوص التقنية ككتّيبات الصيانة وكتالوجات الإرشادات وكراريس التعليمات للمستعمل وبيانات التعريف بالأدوية وما شابهها من نصوص منمطة منمذجة.
غير أن جلّها يعاني من انخفاض مستوى الدقة، ولا يزال بالتالي في حاجة ماسة إلى تطوير وتحسين، وبخاصة على يد خبراء في الترجمة، وليس فقط في الهندسة كما يحصل عادة. وقد اطّلعت شخصياً على عروض قدّمتها الشركات المنتجة للبرامج المذكورة، وحاولت خلالها بالطبع إظهار أقصى قدراتها وأفضل إمكاناتها، فلمست نقصاً هائلاً في الدقة المطلوبة. مثلاً : ترجمت عبارة صدر الاسلام أي بدايته بـ : Chest of Islam أي ما بين العنق والبطن، وترجمت عبارة القرن الثالث للهجرة هكذا : Third century of migration، وعبارة المشتغل بهما هكذا : The worker by them were.
وفي الترجمة إلى العربية ترجمت If you require..., do not hesitate to contact us هكذا : إذا أنتم تطلبون.. لا تترددوا للاتصال بنا. وترجمت We are sure you will be pleased هكذا : نحن واثقون أنتم فرحون. وترجمت عبارة Our fabrics which are famous هكذا : أقمشتنا التي مشهورة. وترجمت عبارة To hear the good news هكذا : لسمعٍ بالأخبار الجيدة.
وإذا أضفنا إلى ذلك كون معظم نصوصها غير مشكولة، فإننا لا ندري كيف تستطيع أن تترجم إنه كريم غير المشكولة فهل هي تعني الكرم كصفة، أم اسم علم كريم، أو تشبيهاً للشخص بالريم أي الغزال، وكيف ستتمكن من أن تترجم بعض العبارات ذات المعاني الملتبسة من مثل يقيني يقيني أي ثقتي تحميني أو اقتناعي يصونني، ناهيك ببعض الكلمات التي قد تكتب بطريقة صحيحة إملائياً ولكنها تكون خاطئة نحوياً، مثلاً : اجتمعتُ بجماعة الموظفون.
ليس هذا الكلام تجنّياً على ما هو متوافر لدينا، فالحق يقال إن منتجي هذه البرامج هم مبدعون مبتكرون مقدامون يستحقون أعظم الشكر وأعطر الثناء. وإننا نعوّل كثيراً على بذلهم مزيداً من الجهود لإحراز نتائج أفضل. وقد حظيت معظم برامجهم بإعجاب وإطراء من عدد لا بأس به من المتخصصين حين عرضت في معارض عالمية، وبخاصة في جايتكس - دبي.
مستوى الدقة والتدخل البشري
هذا، ولا يتخيلن أحد أن مستوى الدقة في أنجح النظم الترجمية العالمية يتجاوز الثمانين أو التسعين بالمئة.
وهذا يعني أنه ما من ترجمة آلية إلا وهي في حاجة إلى تنقيح أو تهذيب أو تحرير أي مراجعة وإعادة نظر على يد مترجم متخصص. إذاً، يبقى تدخل الانسان التنقيحي ضرورياً ما دامت الترجمة الإلكترونية غير تامة، وحتى لو بلغت 09 % من الدقة. فيضطر المترجم إلى مراجعة الترجمة الخام Raw translation وتنقيحها تنقيحاً لاحقاً Post-editing أي إدخال التصحيحات الضرورية عليها. لكن ثمة الكثير من المترجمين الذين يفضلون أن يقوموا بالترجمة بأنفسهم بصورة كاملة مباشرة عن الأصل دونما مساعدة من الآلة، بدلاً من أ ينخرطوا في مراجعة نص مترجم بصورة ناقصة أو مشوهة والعمل على تهذيبه وضبطه حسب الأصل.
وقد ورد في الكتيّب التفسيري لبرنامج عربترانز فقرة معبرة جاء فيها : إن هذا البرنامج ليس بديلاً عن المترجم الأديب الذي ينقل روح النص، فالترجمة التي يقدمها تبقى بحاجة إلى إجراء بعض التعديلات لمعالجة بعض الأخطاء اللغوية وللتأكد من المعاني. والحق أن كل الشركات تقول كلاماً مشابهاً وتحرص على التنبيه إلى ضرورة تدخل المترجم الإنسان للقيام بعملية المراجعة والتدقيق والتثبت من المعاني والمفردات.
مميزات الترجمة الإلكترونية
من هنا، أؤكد أن أهمية الترجمة الآلية إنما تكمن في تفوقها على المترجم الإنسان من حيث السرعة وتقديم نصوص مترجمة طويلة ومسهبة بصورة شبه فورية، ولا سيما في موضوعات تخصصية وعلمية ومفعمة بالمصطلحات التقنية والفنية.
بكلام آخر، تمتاز الترجمة الإلكترونية بقدرتها على تنكّب دور تواصلي لحظوي للترجمة، وإن لم تكن مثالية الدقة. ولعل هذه السرعة هي التي تشفع لها عدم اكتمال دقتها حتى الآن. وإذا علمنا أن كثيراً من النصوص إنما ينبغي أن تنقل فوراً إلى لغات معينة، وإلا أفقدها التأخر كثيراً من قيمها أو فائدتها أو الحاجة إليها، لأدركنا خطورة الدور الرّيادي للترجمة الإلكترونية. ومعلوم أن متوسط قدرة المترجم البشري لا تتجاوز 200 كلمة في الساعة في حين قد تصل قدرة الآلة إلى عشرات أضعافه، وطبعاً من غير توقف أو استراحة.
يضاف إلى السرعة الفائقة والحجم الهائل للإنتاج الترجمي الإلكتروني، إذا ما قورن بالترجمة البشرية، ميزة الاطراد والاتساق والتناسق، أي التوحد القياسي في ترجمة المصطلحات والمفردات والعبارات. وتبرز أهمية هذه الميزة في الأعمال التقنية والعلمية حيث يتكرر استعمال مصطلح ما أو مجموعة مصطلحات، وحين ينبغي أن يكون استعماله أو استعمالها واحداً موحداً على الدوام. وإذا علمنا أن الجزء الأكبر من وقت المترجم البشري يخصص للتنقيب عن المصطلح الدقيق المناسب ومراجعة القواميس الموثوقة والمعتمدة، لاتضح لنا أثر هذه الميزة الإلكترونية الرائعة. وتتجلّى هذه الميزة أيضاً، أكثر ما تتجلّى، في ترجمة النصوص الدقيقة الطويلة كالتقارير ووثائق الشركات ومعاهد الأبحاث، وسائر الملفات الكبيرة ومستندات تشغيل الآلات المعقدة التي قد تصل إلى آلاف الصفحات. ولذا، فإن أبرز مستعملي هذه الترجمة اليوم هم فئة الشركات المتعددة الجنسية والمصدرة لآلات ومعدات وأجهزة إلى مختلف دول العالم، والتي تحرص على الاتساق المتواصل في استخدام التسمية نفسها والألفاظ ذاتها في مختلف نصوصها، دون تعديل في الكتالوج الواحد ودون تحريف كلما أصدرت كتالوجاً جديداً لموديل جديد لأحد منتجاتها. وفي كل تلك الحالات تمتاز الآلة بالدقة والسرعة وعدم الكلل، وبإمكانية حفظ الجداول والبيانات والقوائم والرسوم والأشكال.
وهكذا كلما كان المطلوب هو الحصول على معلومات عاجلة، ومفهومة بصورة مبدئية، وبالسرعة القصوي، ودون أسلوبية بلاغية رشيقة، بل حتى مع ركاكة مكشوفة فإن الترجمة الآلية توفر حلاً رائعاً. والواقع أن ثمة حالات عديدة يفضل فيها المستعمل الحصول على أي ترجمة مهما كانت ركيكة أو رديئة على عدم الحصول على أي نص مترجم على الإطلاق.
أما حين يكون المطلوب نصاً مثالياً ناجزاً، ومشهوداً له بأنه سليم نحوياً، بل وأنيق تعبيرياً، وأن يكون جاهزاً بصورة لائقة للنشر والتداول، فإن الترجمة الآلية تظل في حاجة إلى لمسات تدقيقية وتعديلية من عمل المترجم الخبير، ولا تعدو كونها -في هذه الحالة- مسوّدة أولية للترجمة. أي كلما كان النص المطلوب ترجمته أدبياً، كانت الحاجة إلى مترجم بشري أشدّ وأدعى.
ولعل أبهى مثال على ذلك هو نظام توم-ميتيو Taum-Meteo الكندي المخصص لترجمة تقارير الأرصاد الجوية وتوقعات حالة الطقس، فهذا النظام يعتبر الأدق في العالم، بل الوحيد الذي يقدّم ترجمة آلية كاملة قد لا تحتاج إلى مراجعة بشرية. فهو يترجم أخبار الطقس من الانجليزية إلى الفرنسية وبالعكس ملبياً حاجة الثنائية اللغوية الرسمية في كندا، ويؤمن ترجمة ما لا يقل عن 20 ألف كلمة يومياً بمعدل دقة يلامس 97 % ، نظراً إلى كونه يتعاطى بمادة محصورة النطاق، واضحة الحدود، محددة التعابير، وهي تقارير الأحوال الجوية.
هذا، ولا بد من الإشارة إلى أن بعض الأنظمة تقدم حلاً يمكننا أن نصطلح على تسميته بـ إسلوب التكييف (أو التهيئة) قبل الإدخال، بمعنى أن على المستعمل أن يعدّ النص المطلوب ترجمته (قبل إدخاله إلى الآلة) إعداد يضبط مفرداته وتراكيبه وفقاً لانساق معينة بحيث يسهل على الآلة أن تؤمن له ترجمة آلية تكون أقرب ما يمكن إلى المراد.
وثمة مجال آخر تؤدي فيه الترجمة الآلية مهمتها المطلوبة ووظيفتها الطبيعية، وذلك حين تستخدم في سبيل تبادل المعلومات الأولية أو العامة على الإنترنت بما في ذلك البريد الإلكتروني والدردشة وحتى صفحات الإنترنت والوب، حيث تنقل الترجمة الآلية المحتوى الأساسي للرسالة فوراً ولو بصورة سيئة بلاغياً. ولكنها تبدو وكأنها تؤدي دورها الأمثل والأشد التصاقاً بالواقع المقبول.
وقد بدأت بعض الشركات تؤمن خدمات ترجمية إلكترونية على شبكة الإنترنت وتلبي الطلب، وإن يكن محدوداً، عليها، ناهيك عن استعداد بعضها لإرسال نص منقح بشرياً. ومن أشهر هذه الشركات شركة بلجيكية اسمها لانت Lant التي كانت قد باشرت في أواخر عام 1997 بتقديم خدماتها الترجمية الآلية المتعددة اللغات في مجال البريد الإلكتروني، وصفحات شبكة الوب، وما يتبعها. وتوازيها شركة MTSU في سنغافورة التي تؤمن ترجمة آلية متعددة اللغات على الإنترنت، مصحوبة بتدقيق يتولاه خبراء في الترجمة. أما شركة كمبيوسرف CompuServe فقد دخلت حيّز الترجمة الإلكترونية على خطوط الدردشة (الحوار، المحادثة) الإلكترونية Chat، متنافسة مع شركة غلوبالينك Globalink المتعاونة مع شركة يونيفرس Universe، والتي تنتــج مـــا يسمى Power Translator، وســــرعان ما تنـــامى الطلب على هذه الخدمة في صورة فاقت كل توقع، إلى درجة أن اعتراضات وشكاوى لا تحصى تتدفق على الشركة صاحبة الخدمة المذكورة فور أن يصاب موقعها بتوقف عابر أو عطل مؤقت.
ولا بد أن نتـــوقع عما قـــريب دخـــول الشركـــات عــــــلى خـــط التجارة الإلكتــرونيـــة e-commerce لتأمين خدمة ترجمية آلية مباشرة.
بين الآلة والإنسان
ويحلو لي في هذا السياق ألاّ أنظر إلى العلاقة بين الآلة والإنسان على أنها علاقة تنافسية أو نزاعية، بل إني أؤثر أن أعتبرها علاقة تفاعلية تكاملية. بديهي أن تتفوق الآلة المترجمة على الإنسان المترجم في العثور المباشر على المصطلح المناسب، وفي إنجاز مطوّلات بسرعة فائقة، لكنها تبقى حتى اليوم قاصرة عن تقديم أي نكهة إنشائية جذابة.
بعبارة أخرى، لا نتصور الآن ولا حتى لمستقبل منظور نشوء احتكار إلكتروني للترجمة، ولا اندثاراً لمهمة المترجم الخبير، ولا حلولاً للآلة محله، ولا حتى تشكيلها خطراً على رزقه وقوته، بل لا ريب أننا سنظل في أمس الحاجة إلى خبرته وأدبه وذوقه وأسلوبه ورهافته، وبخاصة في صياغة المادة الأدبية والقانونية والفلسفية والاجتماعية وسائر مواد الإنسانيات. ولكن، وعلى الضفة المقابلة، فإن المترجم الخبير عجز وسيعجز عن مزاحمة الآلة ومضاهاة نتاجها الإلكتروني في حقول التخصص العلمي، والسرعة في العثور على المصطلح، والترجمة المبدئية على خطوط الإنترنت الإلكترونية، وذلك حتى لو شاء أن يكتفي بتقديم مسودات مترجمة من النوع الأولي أو الرديء.
زد على ذلك أن لجوء الشركات الكبرى إلى اعتماد الترجمة الإلكترونية له ما يبرره لجهة تحقيقها وفراً اقتصادياً ملحوظاً، إذ إن الأحجام الكبيرة للمستندات التي تضطر إلى ترجمتها تبرر التوظيف المالي الكبير الذي تقوم به هذه الشركات وبخاصة إذا ما بنت لنفسها قواعد بيانات لمصطلحاتها وقواميس تتابع تحديثها بصورة متواصلة لتضمن اتساق مفرداتها الخاصة التي تختلف عن مفردات أي جهة أخرى.
إن هذا الوفر الإقتصادي يبقى متحققاً حتى لو استعانت الشركات الكبرى (التي يتطلب عملها إنتاج ترجمات غزيرة) بخبراء لتولي مهمة المراجعة والتنقيح، ذلك أن العملية الإلكترونية كاملة تبقى أقل كلفة من الاستخدام الكامل للمترجمين البشر. وقد عمد البعض من هذه الشركات إلى توليد لغة انجليزية خاصة بالشركة هي عبارة عن نظام لغوي معدّل يقتضي من بعض المحرّرين وضع مستنداتهم بالصيغة المعدّلة ووفقاً لمصطلحات هذا النظام وتراكيب جُمله، بحيث تأتي نتائج الترجمة الإلكترونية أدق وأسلم وأقل لبساًَ. ويدخل ذلك ضمن ما بات يعرف بـ التحرير المسبق Pre-editing أو تجهيز النص، الذي سبق أن أشرنا إليه بأسلوب التكييف قبل الإدخال، أي عملية تحرير النص الأصلي وإعادة صياغته ليصبح جاهزاً لإدخاله إلى الحاسوب في أفضل شكل مناسب لبرنامج الترجمة الإلكترونية. وفضلاً عن ذلك، تتولى بعض أنظمة الترجمة الإلكترونية الضخمة مهمة ما يسمى بـ توطين النص المترجم، أي تكييفه مع بيئة المستعمل ومستنداته، كما أسلفنا.
بديهي أن كلفة الترجمة البشرية تبقى أقل من كلفة الترجمة الإلكترونية إذا كان المطلوب ترجمة نص محدد، مهما كان موضوعه، إذ لن يكون حينئذ ثمة مبرر للإنفاق الموسّع عل بناء القواميس الخاصة وتحديثها والقيام بالتحرير المسبق، ولن تبرز الحاجة إلى عمليات ترجمة متواصلة أو متكررة لنصوص مشابهة.
ميادين تخصّص وتفوّق
لئن كان الحاسوب لا يعرف التذمُّر من التكرار الممل، ولا الاجهاد نتيجة غزارة الصفحات المطلوبة، ولا النسيان في توحيد الألفاظ المصطلحة، ولا السهو عن النمطية المرجوة في ترتيب المفردات على نحو مضبوط تقنياً، فإنه لا يستطيع إقناعنا بالحلول محل الإنسان البارع في الترجمة اللغوية والفكرية ذات المستوى المرموق والذي لا يرضى بتقديم نص أقل من المستوى الصالح للنشر. ويسري هذا الحكم بصفة خاصة على الموضوعات الدقيقة كالعقود والاتفاقات والالتزامات القانونية وسائر المراسلات والمخاطبات الحرجة، وذلك على العكس من المراسلات والمحادثات على خط البريد الإلكتروني وصفحات الإنترنت حيث لا مجال لمناقشة الترجمة الإلكترونية علماً، ومؤدى ذلك أنه لا الآلة تستطيع أن تمتاز بمميزات الإنسان المحنك والمرهف والضليع بالمعاني المجازية والتراكيب المعقدة، ولا هو يستطيع أن يبزَّها في التذكر والصبر وسرد المصطلحات الأحادية المعنى وما إلى ذلك. وعليه، فإذا كنا نطمئن المترجم التقليدي المحترف بأن لا بديل مؤات له، ليس في مجال ابداعه اللغوي الفذ وأسلوبه التعبيري المميز فحسب، بل أيضاً في مجال التخاطب الكلامي بين الناس حيث لا مناص من دور يؤديه المترجم المحترف بين المفاوضين من رجال الأعمال أو بين المتحاورين من أهل الدبلوماسية وأصحاب المكالمات الهاتفية (لصعوبة تعرف الآلة على الكلام في التحاور)، فإننا مضطرون إلى اعتماد الترجمة الإلكترونية باقتناع كبير في ميادين جديدة من مثل الترجمة الفورية المدبلجة للأفلام السينمائية والبرامج التلفزيونية، ومساعدة كُتَّاب على كتابة نص أصلي بلغة غير لغتهم ولو بشكل مسَوَّدَة، وترجمة البيانات من بنوك المعلومات، واسترجاع المعطيات من شبكة المعلومات مثلما حصل أخيراً في مجال مكافحة الجريمة المنظمة ومحاربة انتشار المخدرات في أوروبا عبر مشروع أفنتينوس Aventinus ومماثلاته ضمن إطار مؤسسات العدالة الجنائية ومنع الجريمة، بل وسائر المؤسسات الحكومية والدولية، والشركات الكبرى المُصْدِرَة بكثرة لنشرات فنية.
ولا ننسى أن أولى استعمالات الترجمة الآلية إنما كانت ضمن المؤسسات العسكرية والدوائر المخابراتية من مثل وكالة الاستخبارات الأميركية CIA وسلاح الطيران الأميركي Air force، منذ مطلع السبعينات، وبخاصة لترجمة المستندات الروسية العلمية إلى الانجليزية، تلتها أمانة المفوضية الأوروبية لدول الاتحاد الأوروبي في لكسمبورج لتلبية الحاجة الماسة إلى الترجمة بين مختلف لغات دول أوروبا الموحدة، اعتباراً من عام 1976، مع بنوك مصطلحات آلية وبواسطة أنظمة مختلفة.
ومن أهم الأنظمة المذكورة الأنظمة التالية:
أنظمة الترجمة الإلكترونية المشهورة
1 ـ نظام سيستران Systran: وهو احد روّاد الترجمة الإلكترونية المسوقة، والذي تستعمله الجماعة الاقتصادية الأوروبية، والوكالة الأوروبية للطاقة النووية، وشركة جنرال موتورز، وشركة زيروكس Xerox.
2 ـ نظام وايدنر Weidner: وهو يترجم من الانجليزية الى العربية وتمتلكه اليوم شركة أومنيترانس الأميركية Omnitrans.
3 ـ نظام توم ـ ميتيو Taum - meteo: وهو النظام الحكومي الكندي المتخصص في ترجمة تقارير الأحوال الجوية، والمشهود له بالدقة، كما سبقت الإشارة.
4 ـ نظام لوغوس Logos: الذي ابتُكر لترجمة كراريس صيانة الآلات العسكرية من الانجليزية الى الفيتنامية خلال حرب فيتنام، وانتقل بعدئذ إلى الترجمة إلى الألمانية والفرنسية.
5 ـ نظام سبانام Spanam: المتخصص في ترجمة تقارير منظمة الصحة العالمية ومنظمة الصحة الأميركية من الاسبانية الى الانجليزية.
6 ـ نظام انغسبان Engspan: يشبه النظام السابق ويترجم الأبحاث وأعمال المؤتمرات وبرامج التدريب.
7 ـ نظام كالت Cult: وهو أحد أقدم وأشهر الأنظمة الالكترونية للترجمة، وتستعمله الصين لترجمة موضوعات فيزيائية وكيميائية ورياضية من الصينية إلى الانجليزية وبالعكس.
8 ـ نظام ميتال Metal: تملكه شركة سيمنز Siemens الألمانية وتستخدمه لترجمة متعددة اللغات لكُتِّيباتها وكتالوجاتها. ويسمى اليوم نظمام ليتراس Litras.
9 ـ نظام ألبس Alps: يستخدم أسلوب الترجمة التفاعلية أو التحاورية interactive translation حيث تتعاون الآلة مع المترجم الخبير مباشرة على الترجمة قبل إصدار النص.
10 ـ نظام سمارت Smart: يستعمل الترجمة التفاعلية ايضاً، وتستخدمه كندا في موضوعات التوظيف والعمالة والهجرة.
11 ـ أنظمة جامعية: منها برمجيات جامعة كارنيجي ميلون Camegie - Mellon، وهي جامعة أميركية تتعاون مع شركة IBM، ونظام سوسي Susy التابع لجامعة سارلانديس Saarlandes الألمانية، ونظام أريان Ariane الفرنسي الذي أنتجته جامعة غرينوبل والذي يقوم بترجمة متعددة اللغات (وكان يعرف سابقاً باسم جيتا Geta)، ونظام الأستاذ أنيس أبي فرح في كلية العلوم بالجامعة اللبنانية للترجمة الآلية من العربية الى الفرنسية، ونظام مركز القاهرة العلمي المسمى Translation Manager.
12 ـ أنظمة يابانية: وهي متعددة، وشائعة الاستعمال، ويُمَوِّلُها كلٌّ من القطاع العام والقطاع الخاص بالتعاون التام بينهما، وتخضع لتطوير مستمر إلى أن بلغ أحدها مستوى الدخول المباشر على الإنترنت On line للترجمة من الإنجليزية الى اليابانية وبالعكس. ومعلوم أن اليابان تعتبر الدولة الأكثر نشاطاً في مضمار الترجمة العلمية والتقنية، وقد بنت جزءاً من نهضتها المعاصرة عليها، وهي تُدَرِّسُ جميع العلوم باللغة اليابانية. وتضطر اليابان اليوم الى ترجمة معاكسة من اليابانية الى اللغات الحية الأخرى للمساعدة على تسويق منتجاتها الصناعية والتجارية. ومن أشهر الأنظمة اليابانية نظام Mu japanese الذي أنتجته جامعة كيوتو بالتعاون مع مركز المعلومات الياباني للعلوم والتكنولوجيا، ونظام آرغو Argo، ونظام NHK المخصص لترجمة نشرات الأخبار من الانجليزية إلى اليابانية.
13 ـ أنظمة سوفـــــياتية (روســـــية): منها نظام أمبار Ampar للترجمة من الانجليــــزية إلى الروســــــية، وشقـــــيقاه نظام نيـــربا Nerpa الذي يتــــرجم من الألمانية الى الروســـية، وفراب Frap الذي يتــرجم من الفرنسية الى الروسية، وكلها استعملها الاتحاد السوفياتي السابق وتستعملها روسيا اليوم.
وتُظهِرُ تجربةُ الهيئات المُشرِفة على أنظمة الترجمة الإلكترونية المذكورة، وكذلك تجربة شركات برمجيات الحواسيب، أنها اضطرت جميعاً إلى الانتقال من استعمال الحواسيب الكبيرة mainframes الى الحواسيب الشخصية Personal computers (مع الاعتماد بخاصة على نظام ويندوز) وإنتاج PC - translators وبالتالي تصغير برمجياتها مواكبة للتطور التكنولوجي.
المنظمة العربية للترجمة
ويسعدني ان أُنوه بنشوء المنظمة العربية للترجمة (والتي أتشرفُ بأن أكون أحد مؤسسيها، وعضواً في لجنتها التنفيذية، ومديرها المالي)، التي جاءت ثمرة لجهد عربي راقٍ، وتلبية لحاجة عربية متزايدة في ايصال العلوم والمعارف إلى الفكر العربي، وهي علوم ومعارف أساسية وعصرية غالباً أو دائماً ما تصدر في لغات أجنبية وفي الخارج، وتحتاج بالتالي إلى ترجمة إلى العربية، وبسرعة، في خضم تلاطم أمواج المعلومات وتفجرها، بل الطوفان المعرفي، وثورة المعلوماتية، وأوتوستراد المعلومات، وطفرة الاتصالات، وشيوع التقانات الترجمية الإلكترونية الميسرة، كي لا تبقى الأمة العربية على هامش العلم وخارج حلبة المعرفة. كل ذلك في عالم بات منقسماً الى من يعرف ومن لا يعرف بعد أن كان منقسماً فقط إلى شمال وجنوب (غني وفقر). فالمعرفة قوة والقوة سلاح والسلاح سلطة وأداة هيمنة، ومن يملك المعرفة يملك سطوة التحكم في عقول الآخرين. ومؤسف أن الطابع الغالب على أمتنا اليوم هو أن من يريد أن يتعلم ليس لديه مال، في حين أن من لديه مالاً لا يريد ان يتعلم. وهذا في زمن باتت فيه المعرفة تَجُرُّ المعرفة كالمال يَجُرُّ المال (فتزداد الهوة المعرفية مثلما تتعاظم تفاوتات الغنى)، وتتحكم بضع شركات عظمى بسوق الاتصال كما تسيطر دول معدودة على معظم براءات الاختراع في العالم. أفلا تستطيع تلك القوى المالكة لأدوات المعرفة فرض خياراتها وقيمها على الآخرين وغسل الأدمغة والأفكار بحيث تمارس احتلالاً أبيض وتدجيناً غير دموي؟
تأسست المنظمة العربية للترجمة منذ عامين ونيف (بيروت 1998)، مؤمنة بالعلاقة اللامنفصمة بين النهضة والترجمة، وبين اللغة والهوية، وبين التقنيات الإلكترونية والسرعة المرجوَّة، وبين الطابع القومي العام والعمل المؤسساتي المنظم. وهي منظمة مستقلة غير حكومية لا تسعى إلى تحقيق الربح بل تُنَسِّقُ الجهود العربية وتحفز وتنشط وتنتج، وتردم الهوة المعرفية، وتساعد على إزالة الأمية العلمية والتكنولوجية، وتتجاوب مع الإلحاحية في ضرورة أن نعرف، وتحدث قفزة مميزة في نشاط الترجمة إلى العربية ضمن استراتيجية عربية شاملة ومتكاملة.
يقول والدي الأستاذ منير البعلبكي رحمه الله، في مقابلة أجراها معه الأستاذ جهاد فاضل ونشرتها مجلة العربي الغراء عام 1993: إننا في حاجة إلى أن نترجم كل شيء، لأنه ليس لدينا شيء. ونحن في حاجة ماسَّة إلى ترجمة مختلف العلوم والفنون، ولن يستقيم لنا أمر الترجمة إلا إذا قامت مؤسسة عربية مركزية تضع م