http://sor.w2hm.com/files/image/a/15.gif (http://sor.w2hm.com)
http://sor.w2hm.com/files/image/e/2.gif (http://sor.w2hm.com)
التبئير Focalisation المقصود به عمليّة جعل العنصر أو المكوِّن بؤرةً في الكلام Focus
وقد استُعمل مصطلَحُ البؤرة والتبئير في اللسانيات التّداوليّة قبل أن ينتقل إلى ميدان الرواية والنقد الروائي
البُؤْرَة كلمة عربيّة فصيحَةٌ تعني الحُفْرَة والفعلُ منها بأرَ يبأرُ بُؤرَةً والبؤرةُ ترجمةٌ عربيّة اقْتَرَحها أولّ مرّة د. أحمد المتوكّل اللساني الوظيفيّ التّداوليّ، في كُتُبِه، ثمّ شاعَت وانتشرَت بين اللسانيين العَرَب فيما بعدُ
ومصطَلَح التبئير يعنِي زاويةَ الرؤية أو وجهَةَ نظرِ المُلاحِظ، وجهة نظره في روايَةِ القصّة
مثْلَما اقتَرَح مصطلَح "وجهَة النّظر" Point de vue التي تُستعمَل في الخطابِ النّقدي الروائي أمّا مصطلَح التّبئير أو بؤرَة السّرد فهو خاصّ بالناقدَيْن كلينث بروكس وروبرت وارين ومنهما استُمدّ هذا المفهوم الإجرائي لتحليل البنية السّردية للروايَة وقد ميّزَ الباحثون في السّردياتِ بينَ ثلاثة أنماط من التبئير:
1- التبئير الأدنى أو الصفر
2- والتبئيرالداخلي الثابت والمتعدد وفيها توصف الوقائع كما تظهر لأحد شُخوص الرّوايَة، والمثالُ على ذلك طَريقَة "ميرسو" في سرْد الأحداث فى رواية "الغريب" l'étranger لألبير كامي A.Camus
أو السارد فى رواية "بحثا عن الزمن الضائع" A la recherche du temps perdu لمارسيل بروست Marcel Proust
3- والتبئير الخارجي وفيه تُسرَد الوقائعُ كما تَظهر للسارد الخارجي ،
والأمثلَة كثيرة من الرّواياتِ الكلاسيكيّة الواقعية كروايات بلزاك وإميل زولا.
من المهم عند النظر إلي الطريقة التي يُنقل بها خبر ما من خلال السرد، أن نميز بين من يرى؟ ومن يتكلم؟ أي بين صيغة السرد، وصوت السرد، ففي الحالة الأولي ـ "من يري" ـ فإن التحليل يكشف عن الشخصية التي توجه منظور السرد من خلال وجهة نظرها، أما في الحالة الثانية ـ "من يتكلم" ـ فإن البحث يتوجه ناحية مَن "السارد" الذي يحكي، وهنا يعترض ((جينيت)) علي ما كان سائدا قبله فيما يعرف "بوجهة النظر"، أو "الرؤية"؛ لأنه يرى في ذلك خلطا بين العنصرين معا ـ الصيغة والصوت ـ، فهو يسجل اعتراضه علي التنميط القديم "للسارد"
الذي كان علي النحو التالي:
السارد › الشخصية
السارد = الشخصية
السارد ‹ الشخصية
حيث في الحالة الأولي يبدو "السارد" وكأنه خبير عليم بكل شيء حتى بباطن الشخصيات، أما في الحالة الثانية فإن معلومات "السارد"
تتساوي مع معلومات شخصياته، فهو لا يقول أكثر مما تعلمه الشخصية،
أما في الحالة الثالثة فإن "السارد" يقدم معلومات أقل مما تعلمه
الشخصيات، وبدلا من هذه المصطلحات التي يرى ((جينيت)) أنها مفرطة في
مضمون بصري، يقترح مفهومه: "التبئير".
و هذا تفصيل آخر في الموضوع
"التبئير":
بدلا من التقسيم السابق بين "السارد" و"الشخصية"، يصبح هناك "التبئير"، وبالتالي فهناك الرواية "غير المبأرة"، أو ذات التبئير الصفر، وهي تلك التي لا يوجد فيها شخصية تنقل لنا من بؤرة ما، ما تراه، وهناك الرواية ذات "التبئير الداخلي"، سواء أكان ثابت، أي أن الشخص الذي ينقل لنا من البؤرة التي يري منها الأحداث هو نفسه طوال الوقت، أم "تبئير داخلي متغير" فيختلف عدد الذين يبئرون الأحداث داخل الرواية، أو تبئير داخلي متعدد، والفارق هنا أن أكثر من مبئر ينقلون لنا
الحدث الواحد من بؤر متعددة، وليس الأحداث المختلفة كما في المتغير، وأخيرا الحكاية ذات "التبئير الخارجي"، وهي التي تتصرف فيها الشخصيات أمامنا دون أن نعرف دواخلها أو بواطنها أو عواطفها، وهنا سنجد أننا نحن أنفسنا الذين نقوم "بالتبئير" تجاه الأحداث.
مهما تكن التسميات التي يتقنّع بها مصطلح "التبئير" في السرديات، فإنه في الحالات جميعاً يعني: "التقنية المستخدمة لحكي القصّة المتخيّلة" (1)، أي موقع الراوي من عملية القصّ وعلاقته بالشخصية الحكائية.
وكثيراً ما يُسهم ذلك الموقع في تحديد الاتجاه الفنّي الذي ينتمي إليه النصّ الإبداعي، فالأعمال الواقعية غالباً ما تلجأ إلى تقنية الراوي المحايد، أي الراوي الذي يكتفي بعرض الأحداث من دون تفسير لـها أو تأويل، والأعمال الرومانسية، والتقليدية عامّة, غالباً ما تلجأ إلى تقنية الراوي العالم بكلّ شيء، والقادر على النفاذ إلى أعماق الشخصيات، والذي لا يكتفي بتقديم الأحداث، بل يعطيها تأويلاً معينّاً، ويدفع المتلقي إلى الاعتقاد بها(2).
وإذا كان "تودوروف" قد ميّز، في هذا المجال، بين ثلاثة أنواع من الرواة في السرد عامة: الراوي الذي يكون أكبر من الشخصية الحكائية، والراوي الذي يساوي الشخصية الحكائية، والراوي الذي يكون أصغر من الشخصية الحكائية، فإن معظم فعّاليات القصّ في نصوص التسعينيات، تنتمي إلى النوع الأول، أي إلى ما يكون فيه الراوي أكبر من الشخصية الحكائية، ومطلعاً على أسرارها، ومدركاً رغباتها الخفية، وينتمي جزءٌ قليل من تلك النصوص إلى النوع الثاني، بينما يضمر الثالث ضموراً واضحاً، ويكاد يمّحي تماماً ما يجمع بين هذه الأنواع جميعاً، أي ما يسمّى بتعدّد الأصوات.
وعلى نحو أدقّ، فإنّ معظم قصّ التسعينيات يترجّح بين شكلين فحسب من أشكال القصّ: "القصّ الموضوعي" (objectif) الذي ينتجه ضمير الغائب، و"القصّ الذاتي" (subjectif) الذي ينتجه ضمير المتكلم.
تجهر مجموعتا فاضل السباعي: "اعترافات ناس طيبين"، و"آه يا وطني" بالترجّح المشار إليه آنفاً، إذ ترتهن سبعة من نصوص المجموعة الأولى إلى ضمير المتكلم الذي ينهض بأعباء القصّ، مستبداً بحركته، ومحدداً وحده طبائع الشخصيات وتطّور الأحداث.
والرواة جميعاً في تلك النصوص شخوص رئيسية تسهم في صنع الحدث وتحدد سيرورته أحياناً. ولعله غير خاف أن عنوان المجموعة: "اعترافات" يشير، على نحو مباشرة، إلى الدور الذي سينهض به الضمير نفسه في فعاليات القصّ، فالاعترافات نوع من السيرة الذاتية التي غالباً ما يتم عرضها بصيغة السارد المتماهي بمسروده، والتي لا تقنع قارئها إلا بصدورها عبر تلك الصيغة وحدها. مسّوغ ذلك انصياع المحكي القصصي في تلك النصوص إلى ما خبره القاص بنفسه في الحياة، أي إلى ما كان شاهداً عليه، أو مشاركأ فيه، أو صانعاً لـه، ويمكن تبيّن تلك السمة في النصوص التي تبدو نتاج عمل القاص في غير مؤسسة اجتماعية، كما في: "سرّ ساكن الجبل"، وعمله في الجامعة، كما في: "القلعة".
ومن اللافت للنظر أن نصوص مجموعته الثانية تتوزع على نحو متساو بين الضميرين، إذ ينهض ضمير الغائب بصوغ محكيات ستة نصوص، وضمير المتكلم بصوغ مثيلتها في ستة أخرى. ومن اللافت للنظر أكثر أنّ الرواة في النصوص التي تنتمي إلى الحقل الأول ليسوا شخصيات مشاركة في الحدث، كما أنهم، في أغلبهم الأعم، ليسوا شهوداً عليه، ولعلّ مسوّغ ذلك أنّ الشخصيات الرئيسية في تلك النصوص من الفتيات والنساء.
وعلى الرغم من طغيان السمات نفسها في قصّ غسان كامل ونوس، فإنّ ثمّة ما يميز ذلك القصّ في هذا المجال، ومن أمثلة ذلك قصة "أحمر..أبيض" التي تتسم بتعدّد ضمائر الخطاب التي تصوغ محكيها، والتي تتوزّع بين سارد ليس جزءاً من هذا المحكي، أو شاهداً عليه، فالمتكلم /الرجل، ثمّ المتكلم/ المرأة، فالرجل الذي يحوز مسافة وفيرة من فعاليات صوغ ذلك المحكي، على الرغم من أنّ هذا التعدّد لا يعكس تعدّداً لسانياً، أو "سوسيو لفظياً" بتعبير "باختين".
والمتتّبع لأشكال التبئير، التي صاغ بوساطتها، وعبرها، وليد إخلاصي الموادّ الحكائية لنصوص مجموعته: "ما حدث لعنترة"، يخلص إلى أنّ النصوص جميعاً ترتهن إلى ما يبدو الراوي فيه مساوياً للشخصية الحكائية تماماً، أو ما يسمّيه "تودوروف": "الرؤية مع" (vision avec) أو "الرؤية المحايثة"(3) فالرواة، في تلك النصوص، شخصيات حكائية موجودة داخل الحكي القصصي، إمّا بوصفهم شهوداً على الأحداث، كما في نصوص: الأنتريك، وأذن الفيل، وأخبار الشيخة إبراهيم، وابنة خالتي الغائبة، وإمّا بوصفهم شخصيات رئيسية صانعة للأحداث ومشاركة فيها، كما في نصوص: شجرة جوز لـهذا الزمن، وأحلام العمّة، وما حدث لعنترة.
وتتوّزع فعاليات التبئير في مجموعة نيروز مالك: "ما رواه الجليل" بين ثلاثة أشكال: الراوي العالم بكلّ شيء، والذي ينتجه ضمير الغائب في نصوص: تلّ، وأسطورة أخرى، وسروال البحر، ونجوم عالية، وفوق البحر، وامتحان، ورأس مال، وما رواه الجليل، والراوي المساوي للشخصية الحكائية، كما في نصوص: أسيان، والعودة إلى الجبهة، وثالث يستخدم تقنية تعدّد الأصوات، كما في نصّي: "أحزان مختارة"، و"أفكار ومشاعر"، بمعنى أنّ ضمير الغائب يستبدّ بفعّالية القصّ في معظم النصوص، ويمارس سطوة واضحة على ما عداه من ضمائر خطاب أخرى.
ومن اللافت للنظر توزّع النصوص العشرين في مجموعة أحمد زياد محبّك: "حلم الأجفان المطبقة"، وعلى نحو يكاد يكون متساوياً، بين ضميري خطابٍ قصصييّن: الغائب، والمتكلم. إذْ تنهض عملية القصّ في ثمانية نصوص على الأول، ويستأثر الثاني بثمانية نصوص أيضاً، بينما تُنتج نصوص: "نزوة"، و"البحث عن الحب"، و"حادث في الشارع الخلفي"، ضميراً ثالثاً، هو الصوت الداخلي للشخصية الساردة.
وبهذا المعنى، فإنّ القاصّ ينّوع في طرائق تقديمه للأحداث، ولا يستسلم لتقنية محدّدة. وقد يبدو مهمّاً الإشارة هنا، إلى أنّ عدداً من النصوص، في تلك المجموعة، يستخدم غير ضمير خطاب في النصّ القصصي الواحد، كما في نصّ "زيارة" الذي تترجّح فعالية القصّ فيه بين ضميرين: ضمير الغائب الذي ينهض به الراوي من جهة، والصوت الداخلي للشخصية الساردة من جهة ثانية. ويلجأ القاصّ، في الوقت نفسه، إلى تقنية السيناريو التي لا ترتهن إلى ضمير خطاب محدّد، كما في نصّ "عودة الموظف إدريس إلى بيته"، الذي تترى حركة القصّ فيه مستخدمة صيغة الحال في الأفعال المضارعة، وكأنّ القاصّ يُنتج مشاهد درامية: "منيبة في المطبخ وحدها تنتظر، بين يديها كرة الصوف، تغزل، وتنتظر.. منى ابنتها تأخرت، وزوجها إدريس تأخّر".
ويستأثر ضمير الغائب بمعظم فعاليات القصّ في مجموعة لؤي علي خليل: "أشياء ضائعة"، على حين تلجأ خمسة نصوص فحسب إلى ضمير المتكلم. ومن اللافت للنظر أنّ النصوص التي تعتمد ضمير الغائب هي، في أغلبها الأعمّ، النصوص التي تتّسم محكياتها بما هو عجائبي، أي بما يجعل تلك المحكيات مُفارقة لعالم الواقع، وداخلة في سديمه، ومتجاوزة قوانينه الموضوعية. على حين تنتمي النصوص التي تستخدم ضمير المتكلم إلى ما هو واقعي في أغلب الأحيان. وإذا كان العجائبي يمتلك سمات المغايرة لمنطلق الواقع واختراقه والتمرد على رتابته، فإن ما يطبع طرائق القصّ في النصوص التي تنهض عليه في المجموعة، هو توحيده الظاهر بين عالم الرواة وعالم الشخصيات الحكائية من جهة، وبين الرواة والشخصيات والقارئ من جهة ثانية.
ولعلّ أهمّ ما تتّسم به مجموعة بسام كوسا: "نصّ لصّ" في هذا المجال ابتكار القاص ضمير خطابٍ ثالثاً، يعبّر عن الصوت الداخلي للشخصية القصصية، ويتجلى ذلك في قصة "أنا وهو" خاصة، التي تتوزّع فيها أنا الراوي بين ذاتين: ذات عيانية تعبّر عن الوجه الزائف للشخصية، وأخرى مضمرة تعبّر عن حقيقتها المقنّعة بفعل عوامل اجتماعية سالبة. وتعدّ تلك القصة، في هذا المجال، أكمل قصص المجموعة على المستوى الفنّي، ليس بسبب كفاءتها في استخدام هذا النوع من ضمائر الخطاب فحسب، بل بسبب كفاءتها أيضاً في إنتاج قصّ سابر لتمزّق الشخصية بين واقعين يتضادّان سراً، ويتآزران جهراً.
وتتمّ فعاليات التبئير في قصّة مالك صقور: "حبّة شجاعة" من خلال ثلاث شخصيات: السارد، الصحفي، الذي يبدو جزءاً من الحدث القصصي (شاهدا عليه فحسب وليس فاعلاً فيه)، والذي أتعبته مهنته وسلبته أعصابه وعلمته الكثير كما يقول، والذي نشر مقابلة أجراها صديقه مع "حضرة المحترم"، والمخترع عارف الذي يبدو هو هذا الحدث نفسه والفاعل فيه، والذي يتكفل صديقه الصحفي بتقديم الصفات الأكثر بروزاً في شخصيته، إذ صار بوسعه استحضار أرواح الميتين، ولا سيّما العلماء والأدباء وكبار السياسيين، بلمسة زرّ، وكان دليله العقلي والروحي إلى ذلك الشاعر عمر الخيّام الذي مكنه توحّده به من الوصول إلى ذلك الاختراع المثير الذي أطلق عليه اسم وأخيراً شخصية "الرجل المهمّ" أو "حضرة المحترم"، المنفعل بالحدث، والذي ينهض بمهمّة التعبير عن شاغل القصّ والمغزى منه.
هوامش وإحالات:
1 ـ لحمداني، د. حميد. "بنية النصّ السردي من منظور النقد الأدبي". ص (46).
2 ـ انظر: المرجع السابق، ص (46).
3 ـ انظر: تودورف، تزيفيتان. "الأدب والدلالة". ص (78). ويستخدم "توماتشفسكي" تعبير "السرد الذاتي" لـهذا النوع من أشكال التبئير.
http://sor.w2hm.com/files/image/e/2.gif (http://sor.w2hm.com)
التبئير Focalisation المقصود به عمليّة جعل العنصر أو المكوِّن بؤرةً في الكلام Focus
وقد استُعمل مصطلَحُ البؤرة والتبئير في اللسانيات التّداوليّة قبل أن ينتقل إلى ميدان الرواية والنقد الروائي
البُؤْرَة كلمة عربيّة فصيحَةٌ تعني الحُفْرَة والفعلُ منها بأرَ يبأرُ بُؤرَةً والبؤرةُ ترجمةٌ عربيّة اقْتَرَحها أولّ مرّة د. أحمد المتوكّل اللساني الوظيفيّ التّداوليّ، في كُتُبِه، ثمّ شاعَت وانتشرَت بين اللسانيين العَرَب فيما بعدُ
ومصطَلَح التبئير يعنِي زاويةَ الرؤية أو وجهَةَ نظرِ المُلاحِظ، وجهة نظره في روايَةِ القصّة
مثْلَما اقتَرَح مصطلَح "وجهَة النّظر" Point de vue التي تُستعمَل في الخطابِ النّقدي الروائي أمّا مصطلَح التّبئير أو بؤرَة السّرد فهو خاصّ بالناقدَيْن كلينث بروكس وروبرت وارين ومنهما استُمدّ هذا المفهوم الإجرائي لتحليل البنية السّردية للروايَة وقد ميّزَ الباحثون في السّردياتِ بينَ ثلاثة أنماط من التبئير:
1- التبئير الأدنى أو الصفر
2- والتبئيرالداخلي الثابت والمتعدد وفيها توصف الوقائع كما تظهر لأحد شُخوص الرّوايَة، والمثالُ على ذلك طَريقَة "ميرسو" في سرْد الأحداث فى رواية "الغريب" l'étranger لألبير كامي A.Camus
أو السارد فى رواية "بحثا عن الزمن الضائع" A la recherche du temps perdu لمارسيل بروست Marcel Proust
3- والتبئير الخارجي وفيه تُسرَد الوقائعُ كما تَظهر للسارد الخارجي ،
والأمثلَة كثيرة من الرّواياتِ الكلاسيكيّة الواقعية كروايات بلزاك وإميل زولا.
من المهم عند النظر إلي الطريقة التي يُنقل بها خبر ما من خلال السرد، أن نميز بين من يرى؟ ومن يتكلم؟ أي بين صيغة السرد، وصوت السرد، ففي الحالة الأولي ـ "من يري" ـ فإن التحليل يكشف عن الشخصية التي توجه منظور السرد من خلال وجهة نظرها، أما في الحالة الثانية ـ "من يتكلم" ـ فإن البحث يتوجه ناحية مَن "السارد" الذي يحكي، وهنا يعترض ((جينيت)) علي ما كان سائدا قبله فيما يعرف "بوجهة النظر"، أو "الرؤية"؛ لأنه يرى في ذلك خلطا بين العنصرين معا ـ الصيغة والصوت ـ، فهو يسجل اعتراضه علي التنميط القديم "للسارد"
الذي كان علي النحو التالي:
السارد › الشخصية
السارد = الشخصية
السارد ‹ الشخصية
حيث في الحالة الأولي يبدو "السارد" وكأنه خبير عليم بكل شيء حتى بباطن الشخصيات، أما في الحالة الثانية فإن معلومات "السارد"
تتساوي مع معلومات شخصياته، فهو لا يقول أكثر مما تعلمه الشخصية،
أما في الحالة الثالثة فإن "السارد" يقدم معلومات أقل مما تعلمه
الشخصيات، وبدلا من هذه المصطلحات التي يرى ((جينيت)) أنها مفرطة في
مضمون بصري، يقترح مفهومه: "التبئير".
و هذا تفصيل آخر في الموضوع
"التبئير":
بدلا من التقسيم السابق بين "السارد" و"الشخصية"، يصبح هناك "التبئير"، وبالتالي فهناك الرواية "غير المبأرة"، أو ذات التبئير الصفر، وهي تلك التي لا يوجد فيها شخصية تنقل لنا من بؤرة ما، ما تراه، وهناك الرواية ذات "التبئير الداخلي"، سواء أكان ثابت، أي أن الشخص الذي ينقل لنا من البؤرة التي يري منها الأحداث هو نفسه طوال الوقت، أم "تبئير داخلي متغير" فيختلف عدد الذين يبئرون الأحداث داخل الرواية، أو تبئير داخلي متعدد، والفارق هنا أن أكثر من مبئر ينقلون لنا
الحدث الواحد من بؤر متعددة، وليس الأحداث المختلفة كما في المتغير، وأخيرا الحكاية ذات "التبئير الخارجي"، وهي التي تتصرف فيها الشخصيات أمامنا دون أن نعرف دواخلها أو بواطنها أو عواطفها، وهنا سنجد أننا نحن أنفسنا الذين نقوم "بالتبئير" تجاه الأحداث.
مهما تكن التسميات التي يتقنّع بها مصطلح "التبئير" في السرديات، فإنه في الحالات جميعاً يعني: "التقنية المستخدمة لحكي القصّة المتخيّلة" (1)، أي موقع الراوي من عملية القصّ وعلاقته بالشخصية الحكائية.
وكثيراً ما يُسهم ذلك الموقع في تحديد الاتجاه الفنّي الذي ينتمي إليه النصّ الإبداعي، فالأعمال الواقعية غالباً ما تلجأ إلى تقنية الراوي المحايد، أي الراوي الذي يكتفي بعرض الأحداث من دون تفسير لـها أو تأويل، والأعمال الرومانسية، والتقليدية عامّة, غالباً ما تلجأ إلى تقنية الراوي العالم بكلّ شيء، والقادر على النفاذ إلى أعماق الشخصيات، والذي لا يكتفي بتقديم الأحداث، بل يعطيها تأويلاً معينّاً، ويدفع المتلقي إلى الاعتقاد بها(2).
وإذا كان "تودوروف" قد ميّز، في هذا المجال، بين ثلاثة أنواع من الرواة في السرد عامة: الراوي الذي يكون أكبر من الشخصية الحكائية، والراوي الذي يساوي الشخصية الحكائية، والراوي الذي يكون أصغر من الشخصية الحكائية، فإن معظم فعّاليات القصّ في نصوص التسعينيات، تنتمي إلى النوع الأول، أي إلى ما يكون فيه الراوي أكبر من الشخصية الحكائية، ومطلعاً على أسرارها، ومدركاً رغباتها الخفية، وينتمي جزءٌ قليل من تلك النصوص إلى النوع الثاني، بينما يضمر الثالث ضموراً واضحاً، ويكاد يمّحي تماماً ما يجمع بين هذه الأنواع جميعاً، أي ما يسمّى بتعدّد الأصوات.
وعلى نحو أدقّ، فإنّ معظم قصّ التسعينيات يترجّح بين شكلين فحسب من أشكال القصّ: "القصّ الموضوعي" (objectif) الذي ينتجه ضمير الغائب، و"القصّ الذاتي" (subjectif) الذي ينتجه ضمير المتكلم.
تجهر مجموعتا فاضل السباعي: "اعترافات ناس طيبين"، و"آه يا وطني" بالترجّح المشار إليه آنفاً، إذ ترتهن سبعة من نصوص المجموعة الأولى إلى ضمير المتكلم الذي ينهض بأعباء القصّ، مستبداً بحركته، ومحدداً وحده طبائع الشخصيات وتطّور الأحداث.
والرواة جميعاً في تلك النصوص شخوص رئيسية تسهم في صنع الحدث وتحدد سيرورته أحياناً. ولعله غير خاف أن عنوان المجموعة: "اعترافات" يشير، على نحو مباشرة، إلى الدور الذي سينهض به الضمير نفسه في فعاليات القصّ، فالاعترافات نوع من السيرة الذاتية التي غالباً ما يتم عرضها بصيغة السارد المتماهي بمسروده، والتي لا تقنع قارئها إلا بصدورها عبر تلك الصيغة وحدها. مسّوغ ذلك انصياع المحكي القصصي في تلك النصوص إلى ما خبره القاص بنفسه في الحياة، أي إلى ما كان شاهداً عليه، أو مشاركأ فيه، أو صانعاً لـه، ويمكن تبيّن تلك السمة في النصوص التي تبدو نتاج عمل القاص في غير مؤسسة اجتماعية، كما في: "سرّ ساكن الجبل"، وعمله في الجامعة، كما في: "القلعة".
ومن اللافت للنظر أن نصوص مجموعته الثانية تتوزع على نحو متساو بين الضميرين، إذ ينهض ضمير الغائب بصوغ محكيات ستة نصوص، وضمير المتكلم بصوغ مثيلتها في ستة أخرى. ومن اللافت للنظر أكثر أنّ الرواة في النصوص التي تنتمي إلى الحقل الأول ليسوا شخصيات مشاركة في الحدث، كما أنهم، في أغلبهم الأعم، ليسوا شهوداً عليه، ولعلّ مسوّغ ذلك أنّ الشخصيات الرئيسية في تلك النصوص من الفتيات والنساء.
وعلى الرغم من طغيان السمات نفسها في قصّ غسان كامل ونوس، فإنّ ثمّة ما يميز ذلك القصّ في هذا المجال، ومن أمثلة ذلك قصة "أحمر..أبيض" التي تتسم بتعدّد ضمائر الخطاب التي تصوغ محكيها، والتي تتوزّع بين سارد ليس جزءاً من هذا المحكي، أو شاهداً عليه، فالمتكلم /الرجل، ثمّ المتكلم/ المرأة، فالرجل الذي يحوز مسافة وفيرة من فعاليات صوغ ذلك المحكي، على الرغم من أنّ هذا التعدّد لا يعكس تعدّداً لسانياً، أو "سوسيو لفظياً" بتعبير "باختين".
والمتتّبع لأشكال التبئير، التي صاغ بوساطتها، وعبرها، وليد إخلاصي الموادّ الحكائية لنصوص مجموعته: "ما حدث لعنترة"، يخلص إلى أنّ النصوص جميعاً ترتهن إلى ما يبدو الراوي فيه مساوياً للشخصية الحكائية تماماً، أو ما يسمّيه "تودوروف": "الرؤية مع" (vision avec) أو "الرؤية المحايثة"(3) فالرواة، في تلك النصوص، شخصيات حكائية موجودة داخل الحكي القصصي، إمّا بوصفهم شهوداً على الأحداث، كما في نصوص: الأنتريك، وأذن الفيل، وأخبار الشيخة إبراهيم، وابنة خالتي الغائبة، وإمّا بوصفهم شخصيات رئيسية صانعة للأحداث ومشاركة فيها، كما في نصوص: شجرة جوز لـهذا الزمن، وأحلام العمّة، وما حدث لعنترة.
وتتوّزع فعاليات التبئير في مجموعة نيروز مالك: "ما رواه الجليل" بين ثلاثة أشكال: الراوي العالم بكلّ شيء، والذي ينتجه ضمير الغائب في نصوص: تلّ، وأسطورة أخرى، وسروال البحر، ونجوم عالية، وفوق البحر، وامتحان، ورأس مال، وما رواه الجليل، والراوي المساوي للشخصية الحكائية، كما في نصوص: أسيان، والعودة إلى الجبهة، وثالث يستخدم تقنية تعدّد الأصوات، كما في نصّي: "أحزان مختارة"، و"أفكار ومشاعر"، بمعنى أنّ ضمير الغائب يستبدّ بفعّالية القصّ في معظم النصوص، ويمارس سطوة واضحة على ما عداه من ضمائر خطاب أخرى.
ومن اللافت للنظر توزّع النصوص العشرين في مجموعة أحمد زياد محبّك: "حلم الأجفان المطبقة"، وعلى نحو يكاد يكون متساوياً، بين ضميري خطابٍ قصصييّن: الغائب، والمتكلم. إذْ تنهض عملية القصّ في ثمانية نصوص على الأول، ويستأثر الثاني بثمانية نصوص أيضاً، بينما تُنتج نصوص: "نزوة"، و"البحث عن الحب"، و"حادث في الشارع الخلفي"، ضميراً ثالثاً، هو الصوت الداخلي للشخصية الساردة.
وبهذا المعنى، فإنّ القاصّ ينّوع في طرائق تقديمه للأحداث، ولا يستسلم لتقنية محدّدة. وقد يبدو مهمّاً الإشارة هنا، إلى أنّ عدداً من النصوص، في تلك المجموعة، يستخدم غير ضمير خطاب في النصّ القصصي الواحد، كما في نصّ "زيارة" الذي تترجّح فعالية القصّ فيه بين ضميرين: ضمير الغائب الذي ينهض به الراوي من جهة، والصوت الداخلي للشخصية الساردة من جهة ثانية. ويلجأ القاصّ، في الوقت نفسه، إلى تقنية السيناريو التي لا ترتهن إلى ضمير خطاب محدّد، كما في نصّ "عودة الموظف إدريس إلى بيته"، الذي تترى حركة القصّ فيه مستخدمة صيغة الحال في الأفعال المضارعة، وكأنّ القاصّ يُنتج مشاهد درامية: "منيبة في المطبخ وحدها تنتظر، بين يديها كرة الصوف، تغزل، وتنتظر.. منى ابنتها تأخرت، وزوجها إدريس تأخّر".
ويستأثر ضمير الغائب بمعظم فعاليات القصّ في مجموعة لؤي علي خليل: "أشياء ضائعة"، على حين تلجأ خمسة نصوص فحسب إلى ضمير المتكلم. ومن اللافت للنظر أنّ النصوص التي تعتمد ضمير الغائب هي، في أغلبها الأعمّ، النصوص التي تتّسم محكياتها بما هو عجائبي، أي بما يجعل تلك المحكيات مُفارقة لعالم الواقع، وداخلة في سديمه، ومتجاوزة قوانينه الموضوعية. على حين تنتمي النصوص التي تستخدم ضمير المتكلم إلى ما هو واقعي في أغلب الأحيان. وإذا كان العجائبي يمتلك سمات المغايرة لمنطلق الواقع واختراقه والتمرد على رتابته، فإن ما يطبع طرائق القصّ في النصوص التي تنهض عليه في المجموعة، هو توحيده الظاهر بين عالم الرواة وعالم الشخصيات الحكائية من جهة، وبين الرواة والشخصيات والقارئ من جهة ثانية.
ولعلّ أهمّ ما تتّسم به مجموعة بسام كوسا: "نصّ لصّ" في هذا المجال ابتكار القاص ضمير خطابٍ ثالثاً، يعبّر عن الصوت الداخلي للشخصية القصصية، ويتجلى ذلك في قصة "أنا وهو" خاصة، التي تتوزّع فيها أنا الراوي بين ذاتين: ذات عيانية تعبّر عن الوجه الزائف للشخصية، وأخرى مضمرة تعبّر عن حقيقتها المقنّعة بفعل عوامل اجتماعية سالبة. وتعدّ تلك القصة، في هذا المجال، أكمل قصص المجموعة على المستوى الفنّي، ليس بسبب كفاءتها في استخدام هذا النوع من ضمائر الخطاب فحسب، بل بسبب كفاءتها أيضاً في إنتاج قصّ سابر لتمزّق الشخصية بين واقعين يتضادّان سراً، ويتآزران جهراً.
وتتمّ فعاليات التبئير في قصّة مالك صقور: "حبّة شجاعة" من خلال ثلاث شخصيات: السارد، الصحفي، الذي يبدو جزءاً من الحدث القصصي (شاهدا عليه فحسب وليس فاعلاً فيه)، والذي أتعبته مهنته وسلبته أعصابه وعلمته الكثير كما يقول، والذي نشر مقابلة أجراها صديقه مع "حضرة المحترم"، والمخترع عارف الذي يبدو هو هذا الحدث نفسه والفاعل فيه، والذي يتكفل صديقه الصحفي بتقديم الصفات الأكثر بروزاً في شخصيته، إذ صار بوسعه استحضار أرواح الميتين، ولا سيّما العلماء والأدباء وكبار السياسيين، بلمسة زرّ، وكان دليله العقلي والروحي إلى ذلك الشاعر عمر الخيّام الذي مكنه توحّده به من الوصول إلى ذلك الاختراع المثير الذي أطلق عليه اسم وأخيراً شخصية "الرجل المهمّ" أو "حضرة المحترم"، المنفعل بالحدث، والذي ينهض بمهمّة التعبير عن شاغل القصّ والمغزى منه.
هوامش وإحالات:
1 ـ لحمداني، د. حميد. "بنية النصّ السردي من منظور النقد الأدبي". ص (46).
2 ـ انظر: المرجع السابق، ص (46).
3 ـ انظر: تودورف، تزيفيتان. "الأدب والدلالة". ص (78). ويستخدم "توماتشفسكي" تعبير "السرد الذاتي" لـهذا النوع من أشكال التبئير.