دراسات عن البردوني
الموسيقى في شعر البردوني.. الدكتور سالم عباس خدادة
كانت الموسيقى، وستبقى، عنصراً جوهرياً في بنية الشعر، والشعراء الكبار أشد حرصاً على حضور الموسيقى المتميز في شعرهم، والشاعر عبدالله البردوني هو أحد الشعراء البارزين الذين منحوا الشعر عطاءً، يشار إليه عند من يقدرون الشعر حق قدره، وكانت الموسيقى في شعره نهراً متدفقاً حيناً آخر، حملا في كلا الحالين سفائن شعره، في رحلة مفعمة بالخيال والدلالة، خيال الشاعر الأصيل، ودلالة صاحب الرؤيا في موقفه من الحياة المتموجة والناس المختلفين.
لا يستطيع منصف أن يتجاهل أهمية العنصر الموسيقي في الشعر عموماً وفي الشعر العمودي على وجه الخصوص، بل إن أنصار ما يسمى بقصيدة النثر راحوا جاهدين يصرون على شيء من ذلك حين أكدوا دور الإيقاع في بنية القصيدة، وإن لم تسعفهم الأدوات النقدية لرصدها الرصد الموضوعي المقنع لارتباط طبيعة التجربة الشعرية في هذا اللون من الكتابة بمفهوم التجريب المستمر، والتعبير عن التجارب المتموجة والحياة الجديدة على حد تعبير أحد الشعراء النقاد.
ومن يتصفح ديوان الشاعر البردوني في جزأيه يجده ثريا بأغنيات شجية، لحنُها ولأول وهلة قد لا يكون غريباً لقارئ دواوين الشعراء الكبار، فالشاعر عزف ألحانه على إيقاعات البحور المشهورة كالبسيط والرمل والخفيف والمتقارب والكامل والطويل والسريع والمتدارك وبعض المجزواءت، وهو في كل ذلك، لا يتجاوز الإيقاع المعهود في ظاهر الأمر، ولكن واقع النصوص الشعرية للبردوني تقول غير ذلك، لأمرين: أولهما أن لغة كل شاعر أصيل تضيف ملامحها الخاصة على الإيقاع من خلال اختياره المتميز للألفاظ والتراكيب، وثانيهما أن البردوني- كما سنرى بعد قليل- حقَّق للقصيدة العمودية ما لم يحققه الآخرون، بفضل معالجته المتميزة لكثير من القضايا الاجتماعية والسياسية، وهي معالجة تعتمد الحوار على نحو لافت.. وإذا ما تجاوزنا هذه المقولات العامة إلى شيء من التخصيص الكاشف لأبعاد الموسيقى في شعر البردوني، فإننا سنلحظ أمراً مهماً هو التكرار، التكرار بشتى صوره، تكرار الحروف،وتكرار الكلمات، وتكرار التراكيب على نحو يحدث ضربا من الإيقاع المتميز، وهو إيقاع يشتبك مع العناصر الأخرى في التجربة الشعرية فيمنحها الشعرية التي تليق بشاعر كبير مثل البردوني.
أما تكرار الحروف- والحرف هنا ليس بالدلالة النحوية، فهو مما تقوى به موسيقى البيت الشعري وبخاصة إذا كان لتكرار هذا الحرف علاقة بصوت القافية أو الكلمة المشتملة على صيغة القافية فكيف إذا كان هذا الحرف بيت القصيدة ووصلها في الوقت نفسه لنقرأ هذا النموذج:
اليوم أرض مأربَ
كأمها موجهة
يقودها كأمها
فأر وسوط (أبرهة)
فما أمر أمِّها
ويومها ما أشبهه
تبيع لون وجهها
للأوجه المموهةْ
(تموز) في عيونها
العانس المولهة
والشمس في جبينها
كاللوحة المشوهة
فانظر إلى حرف الهاء وتكراره في مواضع بعينها، إضافة إلى ضرب من التوازي اللافت في البيتين الأخيرين حيث نجد جملة اسمية خبرها شبه جملة متصل بتشبيه بواسطة الكاف، والمشبه به معروف باللام في الحالين، وموصوف في الحالين أيضاً.. وقريب من هذا أن تتضمن بعض الكلمات القريبة من القافية حروفاً تتصادى محدثة إيقاعاً لا يخفى، كحرف الشين وحرف الحاء مكسورة في قوله:
"حبيب" تسأل عن حالي وكيف أنا
شبابة في شفاه الريح تنتحب
وحرف الراء في قوله:
إذا امتطيت ركاباً للنوى فأنا
في داخلي.. أمتطي ناري واغترب
وقوله المتضمن حرف الخاء:
قبري ومأساة ميلادي على كتفي
وحولي العدم المنفوخ والصخب
إلى غير ذلك وهو كثير في شعره، أما تكرار الكلمات، فلعل ذلك أن يكون بأشكال مختلفة أبرزها ما يتصل بفن رد الإعجار على الصدور، وهو فن بلاغي حدد مواضعه السكاكي في "مفتاح العلوم" وهي مواضع تحدث جرساً في البيت الشعري إذا مَا بَعُدَ الشاعر عن التكلف، وشاعرنا البردوني أبعد ما يكون عن التكلف والمتكلفين..
إن التصدير أو رد الإعجاز على الصدور مما شاع في شعر البردوني. ففي قصيدته "الفاتح الأعزل" يفتتحها بتصديرٍ في قوله:
ساه.. في مقعده المهمل
كسؤال ينسى أن يسال
ويختتمها بتصدير أيضاً:
فيعود يشكل ما ألغى
أو يمضي يمحو ما شكَّل
وبين الافتتاح والختام كان للتصدير حضور فعال كما في هذه الأبيات المتتابعة تقريباً:
فيشم خطى الفجر الآتي
في منتصف الليل الأليل
ويضيع جمالا مبذولا
في الكشف عن العدم الأجمل
يشدو للزاوية الكسلى
ويصيخ إلى الركن الأكسل
وقد يتضمن التصدير أحياناً ضرباً من الجناس وإن كان البردوني لا يلح عليه كالذي نجده من الجناس غير التام في قوله:
قالوا هم البشر الأرقى وما أكلوا
شيئاً.. كما أكلوا الإنسان أو شربوا
أما تكرار التركيب، وهو تكرار يدخل في إطار التوازي، فإنه كثير لدى البردوني ولو قرأنا مقطعاً من قصيدته "الغزو من الداخل" لأدركنا شيوع هذا الأمر:
فظيع جهل ما يجري
وأفظع منه أن تدري
وهل تدرين يا صنعا
من المستعمر السري؟
غزاة لا أشاهدهم
وسيف الغزو في صدري
فقد يأتون تبغا في
سجائر لونها يغري
وفي صدقات وحشيٍّ
يؤنْسنَ وجهه الصخري
وفي أهداب أنثى في
مناديل الهوى القهري
وفي سروال أستاذ
وتحت عمامة المقري
وفي أقراص منع الحمل
في أنبوبة الحبر
وفي حرية الغثيان
في عبثية العمر
وفي عود احتلال الرأس
في تشكيله العصري
وفي قنينة الويسكي
وفي قارورة العطر
ويستخفون في جلدى
وينسلُّون من شعري
وفوق وجوههم وجهي
وتحت خيولهم ظهري
غزاة اليوم كالطاعون
يُخفى وهْو يستشري
يحجر مولد الآتي
يوشي الحاضر المزري
فظيع جهل ما يجري
وأفظع منه أن تدري
فهذا المقطع الذي ذكرناه كاملاً من القصيدة المذكورة يتضمن ملامح أساسية للإيقاع في شعر البردوني، فتكرار العبارات تَواصَل على مدى مجموعة من الأبيات مشكلاً إيقاعاً آخر يضاف للإيقاع العروضي الذي جاء على مجزوء الوافر، ومن الملحوظ أن الأبيات لا تبدأ به، وإنما ولدت هذه العبارات نسقا من التعبير خرج على بداية النص، واستمر، ثم خرج الشاعر إلى ضرب من المقابلة، والمقابلة تحدث نوعاً من الموسيقى أيضاً، ثم ختم المقطع بما بدأ به مكرراً البيت نفسه.. إن البردوني بهذا الصنيع يشكل موسيقاه الخاصة التي لا تخصه إلا لدواعي تجربته، ورغبته في التعبير عن أزمة حقيقية يعيشها الإنسان اليمني، والعربي بشكل عام، ومن ثم جاء تكرار البيت الأخير على غير المعتاد ليكرس الدلالة التي يرمي إليها من خلال إعادة الأصوات التي صرخ بها في البداية.
ولعل البردوني كان أبرز الشعراء الذي أعادوا للقصيدة العمودية شبابها، وحيويتها، وكان جهده الجلي من أجل ذلك هو إثراء النص الشعري بالحوار، وقد يسأل سائل وما علاقة الحوار بالموسيقى؟ نقول علاقة وطيدة، وبخاصة في القصيدة العمودية حيث الوزن يحاصر الشعراء، والقافية تقطع عليهم التدفق في الخطاب، وهذان الأمران: الحصار والقطع، وهْمَان أسقطهما البردوني على نحو لم يسبقه إليه شاعر آخر، وفي هذا ما فيه من علامات على موهبة أصيلة، فهو يتحكم بالوزن كما يشاء ويدير الحوار كما يريد وبمرونة منقطعة النظير.. لننظر في قصيدته "سند باد يمني في معهد التحقيق":
كما شئت فتش.. أين أخفي حقائبي
أتسألني من أنت؟.. أعرف واجبي
أجب، لا تحاول، عمرك، الاسم كاملاً
ثلاثون تقريباً.. (مثنى الشواجبي)
نعم، أين كنت الأمس؟ كنت بمرقدي
وجمجمتي في السجن في السوق شاربي
لقد جاءت هذه القصيدة على وزن مشهور،وشائع لدى القدماء بل هو الأشيع على وجه الإطلاق في الشعر العرب القديم: فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن.. وصورته هذه هي أكثر استعمالاً لدى الشعراء.. والبردوني لم يخرج في حقيقة الأمر عن هذا الإيقاع فالقصيدة من أولها إلى آخرها تعتمد عليه، ولكن البردوني لجأ إلى الحوار في معالجة موقفه من التحقيق والمحققين التافهين ومن سمع البردوني، ومن قرأ له هذه القصيدة القراءة التي أرادها الشاعر من خلال الوقوف عند نهايات الجمل التي حددها بعلامات الاستفهام والفواصل وغير ذلك، سيجد أن طريقة البردوني تشكل إيقاعاً خاصاً يضاف إلى إيقاع الطويل، بل إن التوقف عند مقاطع معينة واللجوء للتنغيم، قد يشعر المتلقي بإيقاعات جديدة قد لا تسمح بتواصل إيقاع الطويل، بل قد تعطل ذلك التواصل فيه، والقصيدة تحتاج إلى وقفة نقدية متأنية وهذا ما سوف نقوم به في وقت قريب بإذن الله.
(مجلة الكويت العدد 227 الصادر في 1سبتمبر2002)
طباعة أرسل الخبر
كامل الحقوق محفوظة لوزارة الثقافة.. اليمن
تصميم مركز رؤى للإنتاج الثقافي والإعلامي
الموسيقى في شعر البردوني.. الدكتور سالم عباس خدادة
كانت الموسيقى، وستبقى، عنصراً جوهرياً في بنية الشعر، والشعراء الكبار أشد حرصاً على حضور الموسيقى المتميز في شعرهم، والشاعر عبدالله البردوني هو أحد الشعراء البارزين الذين منحوا الشعر عطاءً، يشار إليه عند من يقدرون الشعر حق قدره، وكانت الموسيقى في شعره نهراً متدفقاً حيناً آخر، حملا في كلا الحالين سفائن شعره، في رحلة مفعمة بالخيال والدلالة، خيال الشاعر الأصيل، ودلالة صاحب الرؤيا في موقفه من الحياة المتموجة والناس المختلفين.
لا يستطيع منصف أن يتجاهل أهمية العنصر الموسيقي في الشعر عموماً وفي الشعر العمودي على وجه الخصوص، بل إن أنصار ما يسمى بقصيدة النثر راحوا جاهدين يصرون على شيء من ذلك حين أكدوا دور الإيقاع في بنية القصيدة، وإن لم تسعفهم الأدوات النقدية لرصدها الرصد الموضوعي المقنع لارتباط طبيعة التجربة الشعرية في هذا اللون من الكتابة بمفهوم التجريب المستمر، والتعبير عن التجارب المتموجة والحياة الجديدة على حد تعبير أحد الشعراء النقاد.
ومن يتصفح ديوان الشاعر البردوني في جزأيه يجده ثريا بأغنيات شجية، لحنُها ولأول وهلة قد لا يكون غريباً لقارئ دواوين الشعراء الكبار، فالشاعر عزف ألحانه على إيقاعات البحور المشهورة كالبسيط والرمل والخفيف والمتقارب والكامل والطويل والسريع والمتدارك وبعض المجزواءت، وهو في كل ذلك، لا يتجاوز الإيقاع المعهود في ظاهر الأمر، ولكن واقع النصوص الشعرية للبردوني تقول غير ذلك، لأمرين: أولهما أن لغة كل شاعر أصيل تضيف ملامحها الخاصة على الإيقاع من خلال اختياره المتميز للألفاظ والتراكيب، وثانيهما أن البردوني- كما سنرى بعد قليل- حقَّق للقصيدة العمودية ما لم يحققه الآخرون، بفضل معالجته المتميزة لكثير من القضايا الاجتماعية والسياسية، وهي معالجة تعتمد الحوار على نحو لافت.. وإذا ما تجاوزنا هذه المقولات العامة إلى شيء من التخصيص الكاشف لأبعاد الموسيقى في شعر البردوني، فإننا سنلحظ أمراً مهماً هو التكرار، التكرار بشتى صوره، تكرار الحروف،وتكرار الكلمات، وتكرار التراكيب على نحو يحدث ضربا من الإيقاع المتميز، وهو إيقاع يشتبك مع العناصر الأخرى في التجربة الشعرية فيمنحها الشعرية التي تليق بشاعر كبير مثل البردوني.
أما تكرار الحروف- والحرف هنا ليس بالدلالة النحوية، فهو مما تقوى به موسيقى البيت الشعري وبخاصة إذا كان لتكرار هذا الحرف علاقة بصوت القافية أو الكلمة المشتملة على صيغة القافية فكيف إذا كان هذا الحرف بيت القصيدة ووصلها في الوقت نفسه لنقرأ هذا النموذج:
اليوم أرض مأربَ
كأمها موجهة
يقودها كأمها
فأر وسوط (أبرهة)
فما أمر أمِّها
ويومها ما أشبهه
تبيع لون وجهها
للأوجه المموهةْ
(تموز) في عيونها
العانس المولهة
والشمس في جبينها
كاللوحة المشوهة
فانظر إلى حرف الهاء وتكراره في مواضع بعينها، إضافة إلى ضرب من التوازي اللافت في البيتين الأخيرين حيث نجد جملة اسمية خبرها شبه جملة متصل بتشبيه بواسطة الكاف، والمشبه به معروف باللام في الحالين، وموصوف في الحالين أيضاً.. وقريب من هذا أن تتضمن بعض الكلمات القريبة من القافية حروفاً تتصادى محدثة إيقاعاً لا يخفى، كحرف الشين وحرف الحاء مكسورة في قوله:
"حبيب" تسأل عن حالي وكيف أنا
شبابة في شفاه الريح تنتحب
وحرف الراء في قوله:
إذا امتطيت ركاباً للنوى فأنا
في داخلي.. أمتطي ناري واغترب
وقوله المتضمن حرف الخاء:
قبري ومأساة ميلادي على كتفي
وحولي العدم المنفوخ والصخب
إلى غير ذلك وهو كثير في شعره، أما تكرار الكلمات، فلعل ذلك أن يكون بأشكال مختلفة أبرزها ما يتصل بفن رد الإعجار على الصدور، وهو فن بلاغي حدد مواضعه السكاكي في "مفتاح العلوم" وهي مواضع تحدث جرساً في البيت الشعري إذا مَا بَعُدَ الشاعر عن التكلف، وشاعرنا البردوني أبعد ما يكون عن التكلف والمتكلفين..
إن التصدير أو رد الإعجاز على الصدور مما شاع في شعر البردوني. ففي قصيدته "الفاتح الأعزل" يفتتحها بتصديرٍ في قوله:
ساه.. في مقعده المهمل
كسؤال ينسى أن يسال
ويختتمها بتصدير أيضاً:
فيعود يشكل ما ألغى
أو يمضي يمحو ما شكَّل
وبين الافتتاح والختام كان للتصدير حضور فعال كما في هذه الأبيات المتتابعة تقريباً:
فيشم خطى الفجر الآتي
في منتصف الليل الأليل
ويضيع جمالا مبذولا
في الكشف عن العدم الأجمل
يشدو للزاوية الكسلى
ويصيخ إلى الركن الأكسل
وقد يتضمن التصدير أحياناً ضرباً من الجناس وإن كان البردوني لا يلح عليه كالذي نجده من الجناس غير التام في قوله:
قالوا هم البشر الأرقى وما أكلوا
شيئاً.. كما أكلوا الإنسان أو شربوا
أما تكرار التركيب، وهو تكرار يدخل في إطار التوازي، فإنه كثير لدى البردوني ولو قرأنا مقطعاً من قصيدته "الغزو من الداخل" لأدركنا شيوع هذا الأمر:
فظيع جهل ما يجري
وأفظع منه أن تدري
وهل تدرين يا صنعا
من المستعمر السري؟
غزاة لا أشاهدهم
وسيف الغزو في صدري
فقد يأتون تبغا في
سجائر لونها يغري
وفي صدقات وحشيٍّ
يؤنْسنَ وجهه الصخري
وفي أهداب أنثى في
مناديل الهوى القهري
وفي سروال أستاذ
وتحت عمامة المقري
وفي أقراص منع الحمل
في أنبوبة الحبر
وفي حرية الغثيان
في عبثية العمر
وفي عود احتلال الرأس
في تشكيله العصري
وفي قنينة الويسكي
وفي قارورة العطر
ويستخفون في جلدى
وينسلُّون من شعري
وفوق وجوههم وجهي
وتحت خيولهم ظهري
غزاة اليوم كالطاعون
يُخفى وهْو يستشري
يحجر مولد الآتي
يوشي الحاضر المزري
فظيع جهل ما يجري
وأفظع منه أن تدري
فهذا المقطع الذي ذكرناه كاملاً من القصيدة المذكورة يتضمن ملامح أساسية للإيقاع في شعر البردوني، فتكرار العبارات تَواصَل على مدى مجموعة من الأبيات مشكلاً إيقاعاً آخر يضاف للإيقاع العروضي الذي جاء على مجزوء الوافر، ومن الملحوظ أن الأبيات لا تبدأ به، وإنما ولدت هذه العبارات نسقا من التعبير خرج على بداية النص، واستمر، ثم خرج الشاعر إلى ضرب من المقابلة، والمقابلة تحدث نوعاً من الموسيقى أيضاً، ثم ختم المقطع بما بدأ به مكرراً البيت نفسه.. إن البردوني بهذا الصنيع يشكل موسيقاه الخاصة التي لا تخصه إلا لدواعي تجربته، ورغبته في التعبير عن أزمة حقيقية يعيشها الإنسان اليمني، والعربي بشكل عام، ومن ثم جاء تكرار البيت الأخير على غير المعتاد ليكرس الدلالة التي يرمي إليها من خلال إعادة الأصوات التي صرخ بها في البداية.
ولعل البردوني كان أبرز الشعراء الذي أعادوا للقصيدة العمودية شبابها، وحيويتها، وكان جهده الجلي من أجل ذلك هو إثراء النص الشعري بالحوار، وقد يسأل سائل وما علاقة الحوار بالموسيقى؟ نقول علاقة وطيدة، وبخاصة في القصيدة العمودية حيث الوزن يحاصر الشعراء، والقافية تقطع عليهم التدفق في الخطاب، وهذان الأمران: الحصار والقطع، وهْمَان أسقطهما البردوني على نحو لم يسبقه إليه شاعر آخر، وفي هذا ما فيه من علامات على موهبة أصيلة، فهو يتحكم بالوزن كما يشاء ويدير الحوار كما يريد وبمرونة منقطعة النظير.. لننظر في قصيدته "سند باد يمني في معهد التحقيق":
كما شئت فتش.. أين أخفي حقائبي
أتسألني من أنت؟.. أعرف واجبي
أجب، لا تحاول، عمرك، الاسم كاملاً
ثلاثون تقريباً.. (مثنى الشواجبي)
نعم، أين كنت الأمس؟ كنت بمرقدي
وجمجمتي في السجن في السوق شاربي
لقد جاءت هذه القصيدة على وزن مشهور،وشائع لدى القدماء بل هو الأشيع على وجه الإطلاق في الشعر العرب القديم: فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن.. وصورته هذه هي أكثر استعمالاً لدى الشعراء.. والبردوني لم يخرج في حقيقة الأمر عن هذا الإيقاع فالقصيدة من أولها إلى آخرها تعتمد عليه، ولكن البردوني لجأ إلى الحوار في معالجة موقفه من التحقيق والمحققين التافهين ومن سمع البردوني، ومن قرأ له هذه القصيدة القراءة التي أرادها الشاعر من خلال الوقوف عند نهايات الجمل التي حددها بعلامات الاستفهام والفواصل وغير ذلك، سيجد أن طريقة البردوني تشكل إيقاعاً خاصاً يضاف إلى إيقاع الطويل، بل إن التوقف عند مقاطع معينة واللجوء للتنغيم، قد يشعر المتلقي بإيقاعات جديدة قد لا تسمح بتواصل إيقاع الطويل، بل قد تعطل ذلك التواصل فيه، والقصيدة تحتاج إلى وقفة نقدية متأنية وهذا ما سوف نقوم به في وقت قريب بإذن الله.
(مجلة الكويت العدد 227 الصادر في 1سبتمبر2002)
طباعة أرسل الخبر
كامل الحقوق محفوظة لوزارة الثقافة.. اليمن
تصميم مركز رؤى للإنتاج الثقافي والإعلامي