يومية سياسية تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر - حمص
اللسـانيـات وتطبيقـاتهـا بين العلـم والأدب
الثلاثاء4/12/2007
( الـواقـع والطمـوح) في حـوار مع الباحث الدكتـور مـازن الوعـر...يعتبر علم اللسانيات من العلـوم
الحديثة و الهامـة التي تبحث في اللغات البشرية بأصواتها و تراكيبها ودلالاتها، وتدرسها دراسة صوتية ونحوية ودلالية، ومعجمية، وصرفية صارمة، كما تدرس علاقتها بالعلوم المعرفية الأخرى كعلم الاجتماع ، وعلم النفس، وعلم الانثروبولوجيا وعلم البيولوجيا، والفلسفة، والجغرافية، والرياضيات والهندسة... الخ. ولإلقاء الضوء على علـم اللسانيات آثـرنا أن نلتقي الباحث الدكتـور مازن الوعر أستاذ اللسانيات والدراسات العربية الأجنبية في جامعة دمشق و أجرينا معه الحوار التالي في مركـز الدراسات والبحوث اللغوية الحديثة الذي يشرف عليه. النشأة والبدايـة- عندما ألتقي باحثاً أو مبدعاً في أي جنس أدبي أحاول أن أتغلغل قليلاً في أعماق حياتـه، و أن أتعرف إلى نشأتـه، لأرسم صـورة عن طفولتـه، وعن مدارج الصبا، وكيف نمت تلك الموهبـة لتشكل البنيـة الفكرية عنده... فماذا عن نشأة الباحث الدكتور مـازن الوعـر؟* نشأت في بيئة فقيرة ومتواضعة ، وعشت طفولـة لم تكن طبيعية ... كنت أعمل في الصيف وأدرس في الشتاء، وبكلمـة مختصـرة كانت طفولتي شقيـة و مترعة بالعذابات والحـرمان والمرارة. أبي وأمي كانا أميين، وقد عانا من الفقر الكثير. وقد توفي الوالد وكان عمري ثلاث سنوات فأرادت أمي أن تدخلني مدرسة داخلية، و دخلت المدرسة الابتدائية في الميتم الإسلامي التي كان لها الفضل الأول عليّ ... وفي ظل نظـام مدرسي دقيـق ومنضبط وصارم تشكلت شخصيتي و كان همي الأول الدراسـة الجدية ... بعد ذلك انتقلت إلى مدرسة الحسن بن الهيثم الإعدادية ثم ثانوية عبد الحميد الزهراوي و الفارابي التي حصلت على شهادتها بعلامات ممتازة وفرت لي منحة إلى روسيا لدراسة الإخراج السينمائي و لكنني فضلت أن ألج أبواب جامعة دمشـق لأدرس الأدب الإنكليزي ، إلاّ أنه و لظروف معينـة انتقلت لدراسـة الأدب العربي و في المراحل الأولى من الدراسـة الجامعية بدأت الكتابـة في جـريدة العروبـة حول الأدب ودراسته ونقده ، ومن أهم الدراسات التي نشرتها آنذاك ( أوروبة الثانيـة) و( نحو معرفة جديدة في الدراسـة الأدبيـة) و( أبو حيّان التوحيدي) و ( ودراسة تحليلية لقصيدة الشاعر بشار بن برد) ، إضافة إلى دراسات أخرى . ومازلت حتى الآن أتابـع النشـر في هذه الجريـدة التي تهتم بالأدب والدراسات الأدبيـة والنقديـة.اختيار اللسانيات كإختصاص- لماذا اخترت دراسـة اللسانيات تحديداً وأين كانت دراستك الأكاديميـة؟ * عندما كنت طالباً في جامعـة دمشق شغفت كثيـراً بالدراسات النقدية والأدبية وتفوقت بها، و أتذكـر أنّ رئيس القسم الدكتور حسام الخطيب كان يدعـو كل سنة عالماً من علماء العـربية ليلقي محاضـرات على طـلاب الدراسات العليا، وقد لفت نظري هذا الاختصاص الذي اسمـه اللسانيات من باحث عربي جزائري يُعدّ أباً للسانيات في الوطن العربي ، فهو حاصل على دكتوراه دولة في اللسانيات من فرنسا ودكتـوراه في اللغـة العربية من جامعـة الأزهر فامتزجت الثقافتان في بوتقة واحدة و جاء يومها ليعطينا هذا المزيج من الثقافتين و قد كـان اهتمامـه منصباً على جهـود عالم اللسانيات تشـومسكي مما حفـزني لمتابعـة هذا الاختصاص” اللسانيات”.وهنا أذكـر جميلاً كبيراً للقائـد التاريخي الـراحل حافظ الأسد الذي أتاح لي ولكل أبناء الفقراء الفرصة للدراسة في الجامعات و الالتحاق بالبعثات العلمية ، وبهذا غيّر مجـرى حياة الكثيرين منا ممن عشقـوا العلم وتفانوا في الحصول عليـه. وقد استفدت من منحة أمريكية مقدمة من جامعة جورج تاون ضمن برنامج التبادل الثقافي للطلاب المتفوقين في العالم لدراسـة اللسانيات. المصطلـح- ثمة خلاف حول التسمية فهل نقول “اللسانيات” أو “الألسنية” أو “الدراسات اللغويـة الحديثة” وبأي شكل استقر المصطلح أخيراً ؟* الخلاف حول التسمية “ اللسانيات “ هو خلاف ناتج عن فوضى المصطلح العلمي العـربي ومنه مصطلح اللسانيات ولكن بعد تجربة ثلاثين عاماً استقر المصطلح حول “ اللسانيات “ مع أنّ آخـر معقل كان يستخدم مصطلـح “ علم اللغة “ و أقصد بهذا المعقـل مصر بدأ يستخدم مصطلـح “ اللسـانيـات “. اللسانيات: تعـريفاً وموضـوعاً وهدفـاً- في أي المجالات يبحث علم اللسانيات وما الموضـوعات التي يتناولهـا والأهداف التي يسعى إليها ؟* بادئ ذي بدء اللسانيات هي الدراسة العلمية الصارمـة للغات البشـرية من خـلال استخدام المعاييـر والمقاييس الموجودة في العلـوم الطبيعية ومنها وضـع الفرضية... استخـدام النموذج الرياضي... وضع المنهج واختياره... وضع النظرية المتعددة المناهج ... الدقـة والشموليـة والموضـوعيـة ... الخ. حتى أصبحت هذه المقاييس المستخدمة في العلوم الطبيعيـة جزءاً لا يتجزأ من علـم اللسانيات. أما الموضوعات التي يبحثها فهي اللغات البشرية بأصواتها وتراكيبها ودلالاتها وبدل أن تبحث اللسانيات في المختلفات في اللغات البشرية كما فعلت الدراسات الماضيـة أصبحت تركز على المؤتلفات أو الكليات مـن أجل الوصول إلى صيغة صوتية و نحوية ودلالية يمكن برمجتها وفق برنامج معلـوماتي معيـن و إدخالها الحوسبـة اللغوية من أجل أن تخدم أهدافاً أخرى مثل الترجمات الآلية ،والإحصاء اللغوي، و البحث اللغوي الدقيق والسريع. إنّ امتـزاج اللسانيات بالعلوم الأخرى ولّد علوماً فرعية منها: - اللسانيات التطبيقيـة (علاقـة اللغـة بتعليم اللغات القـوميـة والأجنبيـة ). - اللسانيـات والتخطيط اللغـوي ( المحلي والقـومي والإقليمي والـدولي ). - اللسانيات البيولوجية (تطوراللغة في الدماغ ـ اكتساب اللغة ـ الأمراض اللغوية...) - اللسانيات الرياضية والحاسوبية والمعلوماتية(وضع اللغات في صيغ رياضية_ برمجتها في الحاسوب). - اللسانيات الاجتماعية والأنثروبولوجية (علاقـة اللغة بالمجتمع والأجناس). - اللسانيات الأدبية ( علاقة اللغة بالأدب ـ الأسلوبية ـ تحليل الخطاب الشعري والـروائي والقصصي والمسرحي )... الخ. - اللسانيات والترجمة (الإنسانية ـ الآلية ). أماهدف اللسانيات فهو بسيط جداً كان قد عبّر عنه الجاحظ في كتابه “البيان والتبيين” عندما قال: إنّ الهدفهو” معرفـة سر آلة اللغة “ أي كيف تعمل اللغة وبعبارة تشومسكي الأمريكي هو معرفة “المعرفة اللغـوية الموجودة في الدماغ البشري “ وعلاقتها بالمعارف الأخرى الموجودة أيضاً في الدماغ وهنا يريد تشومسكي أن يقول هل اللغـة عضو بيولـوجي كبقيـة الأعضاء البيولوجية في الإنسان أم أنها مـوضوع خارجي يتلقفـه الإنسان من المجتمع... كما يقول بأن كـل طفل عنده جهاز بيولـوجي عبارة عن صفحـة بيضاء مهيـأة لتلقف النظام اللغوي.... فاللغة ليست شيئاً خارجياً عند الإنسان والدليـل على ذلك أنّ أذكى الأطفال وأغباهم يتعلم اللغـة بمجرد أن يصبح في الرابعة من عمـره. اللسانيات و الأدب- مامدى الإستفادة من علم اللسانيات في مجالي الأدب والنقـد ؟ *النظريات والمناهج النقدية والأدبية كانت تخضع للمقاييس الإنسانية والفلسفية. لكن عندما جاءت اللسانيات بهذه المنهجية العلمية الموضوعية الصارمة فقد تمت الاستفادة من نتائج هذا العلم و استثمر استثماراً كبيـراً في مجال النقد والأدب، والدليل على ذلك أنّ مفهوم الأدب قد تغيرّ فنحن لا نعـرف عن الأدب إلاّ هذا الذي يمكن أن يكون مكتوباً،ولا يمكننا تصنيفه إلاّ ضمن الأجناس الأدبية المعروفة ... أما اللسانيات فإنها تقـول بأنّ الأدب يمكن أن يكون منطوقاً أو مكتوباً ، وتقول أيضاً بأنّ هناك نصوصاً أدبية تأتي من التراث الشفهي المنقول. فالحكايـة الشعبيـة هي أدب والزجل هو أدب بل إنّ حديثاً بين أصدقـاء هو أدب . إنّ النصوص المكتوبة مثل النص الشرعي والقانوني والطبي والديني والسياسي تُحلل لسانيًا كما يُحلل “الأدب” بمفهومـه المتداول. وبعبارة أخرى إنّ أي نص منطـوق ، أو مكتـوب يخضع للدراسـة اللسانية الصارمة ، ونقصد بالصارمة أنّ هناك مثلاً منهجاً اسمه “ منهج الإحصاء اللغـوي” ومهمته دراسة النص سواء أكان منطوقاً أو مكتوباً ومعرفة نسبة الجملة الفعلية إلى الجملة الاسميـة، و نسبة الفعل إلى الاسم ونسبـة الاسم إلى الصفة ونسبة تداخل الجمل فيما بينها وكثافة هذا التداخل و كل هذا سوف يعزز نتائج ضروريـة للناقد للحكم على العمل الإبداعي. مثلاً هناك ما يسمى بالمنهج الأسلوبي الجغرافي “ جغرافية المكان” الذي يضيف إلى التحليل اللساني للنصوص بعداً آخر لم يكن في السابـق . و يمثـل هذا الإتجاه الباحث العربي سعد مصلـوح في كتابـه “ في البلاغة العربيـة والأسلوبيات اللسانية آفاق جديدة “. والخلاصة أنّ هناك مناهـج لسانية جديدة لتحليل الأدب وغير الأدب يمكن من خلالها أن ننصف الكاتب المبدع ونقومه بما يستحـق. و يمكن تلخيص هذه الأمـور بما يلي: بدأ التحليل اللساني مع “بلومفيلد” الأمريكي في كتابه “اللغة” عام1933 بتحليل الكلمـة والصـوت و ما أشبه ذلك ، وفي عام1957 عندما جاء تشومسكي بدأ التحليل بالجملـة واعتبرها أكبر وحدة لسانيـة في النص،و في عام 1970 انشقّ فريق عن تشومسكي وبدأ بتحليل اللغة اجتماعياً... أي تحليل اللغـة ضمن بوتقتهـا الاجتماعية، وقد طور هذا الفريق نفسه عن طريق تحليل الخطاب المنطوق والخطاب المكتوب... وبعد ذلك جاءت الأمريكية “ ديبورا تانن” وربطت المنطـوق والمكتوب بالتراث الثقافي... إذ لا يمكننا تحليل أي نص دون الرجوع إلى الثقافة التي نشأ فيها. وهذا ما تلقفـه عبدالله الغذامي وكتبـه في كتاب سماه “النقد الثقافي” الذي هو ليس إلاّ ترجمة لأفكار” تانن” وهذا ما ولد علماً اسمه “ تحليل الخطاب”.بلاغة الخطاب وعلم النص- هناك كتاب للدكتـور صلاح فضل حول” بلاغـة الخطاب وعلم النص” و ما ذكرتـه سابقاً يعكس فوضىالمصطلح النقدي وإشكالية تداخل المعرفة... و أذكر أنك تناولت هذا الموضـوع في الندوة العلمية حـول “صوغ المصطلح العلمي وتوحيده” التي أقامها مجمع اللغـة العربيـة في طرابلس الغرب ما بين 22 و24 تشرين الأول 2007 . حبذا لو تعطينا بعض التفصيلات في هذا الشأن؟* يبقى السر الكامن من خلف أي عمل علمي، استطاعته اكتشاف ما لم يستطع الآخرون اكتشافه، وذلك من خلال مصطلحات علمية ثابتة ومدلولات دقيقة وواضحة لتلك المصطلحات . وبذلك يتم تحريك الحياة العقلية لتكون أكثر حركية لدراسة الظاهرة الفيـزيائيـة التي تحيط بالكـون والإنسان. من هذا المنظـور النقدي الموضوعي فإنّ الدراسـة تعرض لإشكالية تداخل المعارف وفـوضى المصطلح العـربي من خلال كتاب “ بلاغة الخطاب وعلم النص” لصلاح فضل منطلقة من البعد الفلسفي الآني (التزامني) في دراسة الظاهرة..وقـد توصلت الـدراسـة إلى نتيجـة خطيـرة وهي أنّ أغلب الباحثين العـرب يخلطـون بين شيئيـن:الأول: عدم ثبوتية المصطلح الذي ظلّ يتأرجح بين الترجمـة أو التعريب أو النقل الحـرفي عن المصطلح الأجنبي ، الأمر الذي يخل بالمنهـج أولاً وبالنتائـج التي يريد الباحث التوصل إليها ثانيـاً.الثاني: عدم وضوح المعرفة التي يدرسونها، فهم يخلطونها بمعارف عدة ، الأمر الذي يؤدي إلى الغمـوض في دراسة الظاهرة ... وكتاب “بلاغة الخطاب وعلم النص” شاهد على هذين الشـرطين.اللسانيات والشعر- هل قدّم علم اللسانيات خدمة للشعـر على اعتبار أنّ الشعـر يمثل لحظة توهج حقيقية عند الشاعـر ؟ وما رأيك ؟ باختصار بالحركة الشعرية العربية الحديثة ؟* ما قلناه حول النص المنطوق والمكتوب يقع ضمن إطاره الشعر ذلك أنّ الشاعر عندما تأتيه لحظة الوهج فلا بدّ أن تنقلب إلى كتابة ... وهذه الكتابة ليست مجانية بل كتابة محسوبة. لذلك فإنّ اللسانيات عندما تتناول النص الشعري فإنها تبين الخصائص الموضوعية التي يتميز بها هذا النص. ولكي أكـون واضحـاً في هذه المسألة سأعطي مثالاً على ذلك: هو قول الشاعر كثيّـر عـزة :ولما قضينا مـن منىً كل حاجـة ومسَّـح بالأركان مـن هو ماسـحأخذنـا بأطـراف الأحاديث بيننـا وسالـت بأعنـاق المطيّ الأباطـحفاللسانيات تأخذ بشئ اسمـه جغرافية المكان و الزمان الذي يشع دلالات محفورة في ذاكرة الإنسان العربي غير الدلالات التي تولدها الكلمات والجمل التي أتى بها الشاعـر. جغرافيـة المكان و الزمان هي الآن منأبحاث اللسانيات في الأدب . وبكلمة أخرى إنّ شاعرية هذه الأبيات تأتي من جغرافية المكان والزمان المشعة بالـدلالات المحفـورة في ذاكرة الإنسان العربي. أي لما فرغنا من الحج ركبنا الطريق راجعين و تحدثنا على ظهور الإبل كما يقـولابن جني في خصائصه( ج ،ص 218). فهنا لا بدّ من نظرة ثاقبة لإدراك أسرار المعاني ومعاقد الأغراض وربما تأتي اللسانيات الأدبيـة بمناهجها المختلفـة لتكشف ذلك.ومثال آخر على ذلك هو أن العرب كانوا يمجدون ما يسمى بالرمح الرُديني ودليلنا على ذلك قول الشاعـر مالك بن الريب: تذكـرت من يبكي عليّ فلم أجدسوى السيف والرمح الرديني باكيـا ولكن بعد أربعمائة سنة نرى أنّ المتنبي غيّر القيمة الدلالية للرمح الرديني عندما مدح سيف الدولة بقـوله:حقرت الردينيات حتى طرحتها فكـأن السيـف للـرمـح شـاتـمالحقيقة هي أنّ التناص يأخذ بعداً آخر هنا. إنه تناص شعري بين لحظة تاريخيـة لهـا منظومتها الثقافيـة ولحظـة معاصرة للمتنبي لها منظومتهـا الثقافية المختلفة. ويمكـن أن نسمي هذا النـوع من التناص بـ “ التناص المتطـور”.يتقدم السيف على الرمح... لأنه أقصـر من الرمح وفي هذا دلالـة على شجاعـة سيف الدولـة. حتى أن الشجاعة نفسها قد تغير مفهومها. فهي عند المتنبي حالة معينة تجاوزها سيف الدولة إلى ما بعد الشجاعـة: تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى إلى قـول قـوم أنت بالغيب عالـموآخر مثال عن جغرافية المكان هو ذلك التعالق والتناص مابين قصة الشاعـر نسيب عريضـة التي حملت عنوان “قصة ديك الجن الحمصي ... حكاية غرام شاعر عربي قديم” وقصة “الأثر” لدريد يحيى الخواجة في مجموعته “ وحوش الغابة “. فالتناص واضح بين الكاتبين في وصف الطبيعة ... طبيعة العاصي وطـريق الخراب وزقزقات العصافير وصوت خرير المياه والشمس الساطعة، إنه تناص في المكان والـزمان... أتى من شاعرية مبدعة سكب شيئاً في وصف جغرافية الدوير والعاصي والشجر والمياه والسماء الزرقاء وأشعة الشمس . وأتى أيضاً من مبدع قصصي يتميز بحرفـة متناهيـة فيما يسميـه اللسانيـون بـ “ التفصيليـة”و” التخييلية”. هذا التناص يمكن أن نسميه بـ “التناص الشعـري ـ القصصي” . فاللسانيات عندما تتنـاول الشعـر والقصـة والـرواية فإنها تنصف الكاتب بدقـة متناهية و تعلمه في الوقت نفسـه تقنيات الكتابـة واستراتيجياتها صوتياً ونحـوياً ودلالياً.وفيما يتعلق بالشق الثاني من السؤال حول الحركة الشعرية المعاصرة، نستطيع أن نقول هناك قصائد تتفاوت في قيمتها الإبداعية بين شاعر وآخر ولكن الخط العام للحركة الشعرية المعاصرة لا يشجع المتلقي لقـراءة مثل هذه القصائد. لذلك أتمنى على الشعراء المعاصرين الاستفادة قدرالإمكان من العلوم المعرفية المتنوعـة ومنها اللسانيات كي يسكبوا وهجهم الشعري في لغة متماسكة وجذابة وجميلة تشدّ القارئ وتنقله إلى عالمهم. استفادة الأدب من اللسانيات- هناك مقولة متكررة تؤكد أنّ الأدب العـربي عامـة ، والأدب في سوريـة خاصة لم يستفد كثيراً من تطبيقات اللسانيات ... فهل تؤيـد صحـة هذا الطـرح ؟ * نعم أنا أؤيد صحة هذا الطرح ذلك لأنّ الأدب العربي عامة، والأدب في سورية خاصة لم يستفد كثيراً من تقنيات اللسانيات ، والسبب في ذلك بسيط جداً وهـو أنّ اللسانيات كعلم لها فـروع كثيـرة جداً ، ومنهـااللسانيات الأدبية التي لم توضع في مكانها الصحيح في الوطن العربي وفي سورية بالتحديد، ذلك أنّ الذيـنيفهمون اللسانيات أقلاء جداً، والذين يطبقون اللسانيات الأدبية على الأجناس الأدبية وغيرها أقلاء في الوطن العربي ، بل يعدون على الأصابع ومنهم الباحث سعد مصلوح من مصر، والباحث عبد السلام المسدي من تونس ... ثمّ إنّ هناك صعوبة في تطبيق اللسانيات الأدبية على الأدب العربي تتمثل في أنّ المترجمين الذين يترجمون المناهج النقدية اللسانية غير مطلعين على المناهج النقدية اللسانية الحديثة ، ثم إنّ تطبيقاتهم يكتنفها إشكالية تداخل المعارف، وإشكالية فوضى المصطلح اللساني العربي... يضاف إلى ذلك عـدم وجود تعاون جماعي بين الأدباء والشعـراء والـروائيين والقاصيّن وبين المختصيـن باللسانيات الأدبيـة.ولا أخفيك سـراً بأن أقول بأنّ تطبيق اللسانيات الصارمـة على اللغـة العربيـة إنما هو قليل جداً واقصد بالتطبيقات النحوية والصوتية والدلالية والمعجمية والحاسوبية والاجتماعية والبيولوجيـة والانثروبولوجيـة والتقنيـة ...الخ. فما بالك من تطبيقات اللسانيات الأدبيـة على الأدب ؟!! و بكلمة أخرى هناك مهتمـون باللسانيات وهم كثر وهناك أخصائيون باللسانيات وهـم أقلاء.إلاّ أنّ هناك بعض التطبيقات التي ظهـرت مؤخـراً في دراسات بعض الباحثين ولاسيما عند الباحث سعد مصلوح الذي استخدم المنهج الأسلوبي وقارنه مع المنهج البلاغي عند العرب ليخرج بآفاق جديدة ويطبقهـا على بعض الأجناس الأدبية من خلال كتابه “البلاغة العربية والأسلوبيات: نحو آفاق جديدة “. وأذكر في هذا المجال أيضاً الدراسة الجادة التي طرحها الباحث عبد السلام المسدي في كتابـه “ السياسة وسلطة اللغـة “ مستفيداً من تطور البلاغة الغربيـة لتصبح في إطار الأسلوبيات و من تطور الأسلوبيات لتصبح في إطـار علم جديد هو علم تحليل الخطاب. وبكل تواضع أقول لي بعض الدراسات التي استفدت فيها من اللسانيـات الأدبيـة وطبقتها على أجناس أدبية مختلفة مستخدماً المنهج الإحصائي والرياضي والأسلوبي منها “ مقاييس تعقد الأسلوب: رواية “” قارب الزمن الثقيل أنموذجاً” . فقد درست هذه الروايـة لعبد النبي حجازي دراسـة تحليلية خطابية من وجهة نظر رياضية تنبئ بتداخل الجمل فيما بينها ( طولها- قصـرها- كثافتهـا- عمق التداخل... الخ) واستخدمت أيضاً منهج عالم اللسانيات الأمريكي “ وولتر كوك “ الذي طبقـه على روايـة“ العجـوز والبحـر” لآرنست همنغواي. وهناك أيضا دراسة بعنوان “ اللسانيات وتحليل الخطاب السياسي” تناولت فيها بعض النصوص الخطابية للرئيس الراحل حافظ الأسد التي أفـرزت نتائج جيدة في علم تحليل الخطاب. كما قمت بدراسة حول البنيـة القصصية عند القاص دريد يحيى الخواجة تناولت فيها مجموعتـه القصصية “وحوش الغابة” وقد طبقت علم تحليل الخطاب على هذه القصص التي خرجت منها بنتائج طيبة. الطمـوح نحـو المستقبل- هـل لديك منجـزات راهنـة لـم تنشـر في مجال اللسانيات وتطبيقاتهـا ؟* نعم هناك منجـزات لم تنشـر بعد وهي قيد الدرس والبحث منها مثلاً: مشروع كتاب حـول “ اللسانيات وتحليل الخطاب المنطوق والمكتوب “ ومنها أيضاً مشروع كتاب “ التفكير اللغوي عند الجغرافيين و الرحالة العرب في ضوء اللسانيات الجغرافية المعاصرة “ ، وهناك مشروع لكتاب آخر يدور حول “ التفكير اللغوي عند الموسيقيين والملحنين العرب في ضوء الصوتيات المعاصرة “. أما المشروع الأخير فهو يدور حول التفكير اللغوي عند الفلاسفة العرب في ضوء العلاقة القائمة بين اللسانيات والمنطـق في العصـر الحديث.اللسانيات والسياسة- للسانيات دور مهم في الجانب السياسي مثّله الرائد اللساني تشومسكي ... فهل تعتقد بعمق تأثيـر هذاالدور في المعرفة البشرية واتجاهاتها في الوقت الحاضر،وهل لدينا في الوطن العربي من قام بهذا الدور؟* إذا كان هناك كما قال تشومسكي علاقة بين اللسانيات والسياسة فهي تتجلى في المستوى التجريدي تقريباً إنّ المعرفة اللسانية الخاصة والمتعلقة باللغة ليس لها أي تأثير على المسائل السياسية والاجتماعية، فكل شئ مثلاً كتبه اللساني والسياسي تشومسكي حول الموضوعات السياسية والاجتماعية كان يمكن أن يكتبه شخص آخر. فليس هناك ارتباط مباشـر بين النشاط السياسي والنشاط اللساني على الرغم من أنّ اللغـة إلى حد ما ربما تقتبس من افتـراضات ومـواقف فيما يخص الملامـح الأساسيـة للطبيعـة الإنسانيـة... ويبدو لي أنّ التحليل النقدي في الساحة الإيديولوجيـة مسألة عادلة عند مقارنتـه بتحليل يتطلب درجـة من التجريد الفكـري بشكل عـام.السيميائية وحضورها في النقد- السيميائية فرع من إنتاج اللسانيات هل تذكر لنا بعض الإنجازات العربيـة التطبيقية في هذا المجـال ، وهـل كان للسيميائيـة حضـور في النقـد العـربي القـديم ؟ * سأحاول أن أقلب الصورة التي تتحدثين عنها... بعض الباحثين القدامى في الغـرب ؟ أمثال فرديناند دي سوسو يعد اللسانيات فرعاً من علم كبير اسمه “ السيميائية “. ولكن بعد تطـور علم اللسانيات وعلاقتـه مع العلوم الأخرى ، وبعد أن أصبح علماً قائماً بذاته يتميز بالاستقلالية عن العلوم الأخرى ، وبالعلمية الصارمة أيضاً لم يعد الحديث عن اللسانيات على أنها فـرع من السيميائيـة.أما حول الإنجازات العربية التطبيقية في هذا المجال فنستطيع أن نقول بأنّ هناك دراسات عربية تطبيقية في هذا المجال استفادت من علم السيميائية وطبقته على أجناس أدبية كثيرة ولا سيما المسرح... وهذا يذكـرنا بالنقد العربي القديم ، إذ كان للسيميائية حضـور متميز فيه ولاسيما عند ابن جني في كتابـه “ الخصائص” وكتابـه “ الفسـر”
.- حاورته نجاح حلاّس
اللسـانيـات وتطبيقـاتهـا بين العلـم والأدب
الثلاثاء4/12/2007
( الـواقـع والطمـوح) في حـوار مع الباحث الدكتـور مـازن الوعـر...يعتبر علم اللسانيات من العلـوم
الحديثة و الهامـة التي تبحث في اللغات البشرية بأصواتها و تراكيبها ودلالاتها، وتدرسها دراسة صوتية ونحوية ودلالية، ومعجمية، وصرفية صارمة، كما تدرس علاقتها بالعلوم المعرفية الأخرى كعلم الاجتماع ، وعلم النفس، وعلم الانثروبولوجيا وعلم البيولوجيا، والفلسفة، والجغرافية، والرياضيات والهندسة... الخ. ولإلقاء الضوء على علـم اللسانيات آثـرنا أن نلتقي الباحث الدكتـور مازن الوعر أستاذ اللسانيات والدراسات العربية الأجنبية في جامعة دمشق و أجرينا معه الحوار التالي في مركـز الدراسات والبحوث اللغوية الحديثة الذي يشرف عليه. النشأة والبدايـة- عندما ألتقي باحثاً أو مبدعاً في أي جنس أدبي أحاول أن أتغلغل قليلاً في أعماق حياتـه، و أن أتعرف إلى نشأتـه، لأرسم صـورة عن طفولتـه، وعن مدارج الصبا، وكيف نمت تلك الموهبـة لتشكل البنيـة الفكرية عنده... فماذا عن نشأة الباحث الدكتور مـازن الوعـر؟* نشأت في بيئة فقيرة ومتواضعة ، وعشت طفولـة لم تكن طبيعية ... كنت أعمل في الصيف وأدرس في الشتاء، وبكلمـة مختصـرة كانت طفولتي شقيـة و مترعة بالعذابات والحـرمان والمرارة. أبي وأمي كانا أميين، وقد عانا من الفقر الكثير. وقد توفي الوالد وكان عمري ثلاث سنوات فأرادت أمي أن تدخلني مدرسة داخلية، و دخلت المدرسة الابتدائية في الميتم الإسلامي التي كان لها الفضل الأول عليّ ... وفي ظل نظـام مدرسي دقيـق ومنضبط وصارم تشكلت شخصيتي و كان همي الأول الدراسـة الجدية ... بعد ذلك انتقلت إلى مدرسة الحسن بن الهيثم الإعدادية ثم ثانوية عبد الحميد الزهراوي و الفارابي التي حصلت على شهادتها بعلامات ممتازة وفرت لي منحة إلى روسيا لدراسة الإخراج السينمائي و لكنني فضلت أن ألج أبواب جامعة دمشـق لأدرس الأدب الإنكليزي ، إلاّ أنه و لظروف معينـة انتقلت لدراسـة الأدب العربي و في المراحل الأولى من الدراسـة الجامعية بدأت الكتابـة في جـريدة العروبـة حول الأدب ودراسته ونقده ، ومن أهم الدراسات التي نشرتها آنذاك ( أوروبة الثانيـة) و( نحو معرفة جديدة في الدراسـة الأدبيـة) و( أبو حيّان التوحيدي) و ( ودراسة تحليلية لقصيدة الشاعر بشار بن برد) ، إضافة إلى دراسات أخرى . ومازلت حتى الآن أتابـع النشـر في هذه الجريـدة التي تهتم بالأدب والدراسات الأدبيـة والنقديـة.اختيار اللسانيات كإختصاص- لماذا اخترت دراسـة اللسانيات تحديداً وأين كانت دراستك الأكاديميـة؟ * عندما كنت طالباً في جامعـة دمشق شغفت كثيـراً بالدراسات النقدية والأدبية وتفوقت بها، و أتذكـر أنّ رئيس القسم الدكتور حسام الخطيب كان يدعـو كل سنة عالماً من علماء العـربية ليلقي محاضـرات على طـلاب الدراسات العليا، وقد لفت نظري هذا الاختصاص الذي اسمـه اللسانيات من باحث عربي جزائري يُعدّ أباً للسانيات في الوطن العربي ، فهو حاصل على دكتوراه دولة في اللسانيات من فرنسا ودكتـوراه في اللغـة العربية من جامعـة الأزهر فامتزجت الثقافتان في بوتقة واحدة و جاء يومها ليعطينا هذا المزيج من الثقافتين و قد كـان اهتمامـه منصباً على جهـود عالم اللسانيات تشـومسكي مما حفـزني لمتابعـة هذا الاختصاص” اللسانيات”.وهنا أذكـر جميلاً كبيراً للقائـد التاريخي الـراحل حافظ الأسد الذي أتاح لي ولكل أبناء الفقراء الفرصة للدراسة في الجامعات و الالتحاق بالبعثات العلمية ، وبهذا غيّر مجـرى حياة الكثيرين منا ممن عشقـوا العلم وتفانوا في الحصول عليـه. وقد استفدت من منحة أمريكية مقدمة من جامعة جورج تاون ضمن برنامج التبادل الثقافي للطلاب المتفوقين في العالم لدراسـة اللسانيات. المصطلـح- ثمة خلاف حول التسمية فهل نقول “اللسانيات” أو “الألسنية” أو “الدراسات اللغويـة الحديثة” وبأي شكل استقر المصطلح أخيراً ؟* الخلاف حول التسمية “ اللسانيات “ هو خلاف ناتج عن فوضى المصطلح العلمي العـربي ومنه مصطلح اللسانيات ولكن بعد تجربة ثلاثين عاماً استقر المصطلح حول “ اللسانيات “ مع أنّ آخـر معقل كان يستخدم مصطلـح “ علم اللغة “ و أقصد بهذا المعقـل مصر بدأ يستخدم مصطلـح “ اللسـانيـات “. اللسانيات: تعـريفاً وموضـوعاً وهدفـاً- في أي المجالات يبحث علم اللسانيات وما الموضـوعات التي يتناولهـا والأهداف التي يسعى إليها ؟* بادئ ذي بدء اللسانيات هي الدراسة العلمية الصارمـة للغات البشـرية من خـلال استخدام المعاييـر والمقاييس الموجودة في العلـوم الطبيعية ومنها وضـع الفرضية... استخـدام النموذج الرياضي... وضع المنهج واختياره... وضع النظرية المتعددة المناهج ... الدقـة والشموليـة والموضـوعيـة ... الخ. حتى أصبحت هذه المقاييس المستخدمة في العلوم الطبيعيـة جزءاً لا يتجزأ من علـم اللسانيات. أما الموضوعات التي يبحثها فهي اللغات البشرية بأصواتها وتراكيبها ودلالاتها وبدل أن تبحث اللسانيات في المختلفات في اللغات البشرية كما فعلت الدراسات الماضيـة أصبحت تركز على المؤتلفات أو الكليات مـن أجل الوصول إلى صيغة صوتية و نحوية ودلالية يمكن برمجتها وفق برنامج معلـوماتي معيـن و إدخالها الحوسبـة اللغوية من أجل أن تخدم أهدافاً أخرى مثل الترجمات الآلية ،والإحصاء اللغوي، و البحث اللغوي الدقيق والسريع. إنّ امتـزاج اللسانيات بالعلوم الأخرى ولّد علوماً فرعية منها: - اللسانيات التطبيقيـة (علاقـة اللغـة بتعليم اللغات القـوميـة والأجنبيـة ). - اللسانيـات والتخطيط اللغـوي ( المحلي والقـومي والإقليمي والـدولي ). - اللسانيات البيولوجية (تطوراللغة في الدماغ ـ اكتساب اللغة ـ الأمراض اللغوية...) - اللسانيات الرياضية والحاسوبية والمعلوماتية(وضع اللغات في صيغ رياضية_ برمجتها في الحاسوب). - اللسانيات الاجتماعية والأنثروبولوجية (علاقـة اللغة بالمجتمع والأجناس). - اللسانيات الأدبية ( علاقة اللغة بالأدب ـ الأسلوبية ـ تحليل الخطاب الشعري والـروائي والقصصي والمسرحي )... الخ. - اللسانيات والترجمة (الإنسانية ـ الآلية ). أماهدف اللسانيات فهو بسيط جداً كان قد عبّر عنه الجاحظ في كتابه “البيان والتبيين” عندما قال: إنّ الهدفهو” معرفـة سر آلة اللغة “ أي كيف تعمل اللغة وبعبارة تشومسكي الأمريكي هو معرفة “المعرفة اللغـوية الموجودة في الدماغ البشري “ وعلاقتها بالمعارف الأخرى الموجودة أيضاً في الدماغ وهنا يريد تشومسكي أن يقول هل اللغـة عضو بيولـوجي كبقيـة الأعضاء البيولوجية في الإنسان أم أنها مـوضوع خارجي يتلقفـه الإنسان من المجتمع... كما يقول بأن كـل طفل عنده جهاز بيولـوجي عبارة عن صفحـة بيضاء مهيـأة لتلقف النظام اللغوي.... فاللغة ليست شيئاً خارجياً عند الإنسان والدليـل على ذلك أنّ أذكى الأطفال وأغباهم يتعلم اللغـة بمجرد أن يصبح في الرابعة من عمـره. اللسانيات و الأدب- مامدى الإستفادة من علم اللسانيات في مجالي الأدب والنقـد ؟ *النظريات والمناهج النقدية والأدبية كانت تخضع للمقاييس الإنسانية والفلسفية. لكن عندما جاءت اللسانيات بهذه المنهجية العلمية الموضوعية الصارمة فقد تمت الاستفادة من نتائج هذا العلم و استثمر استثماراً كبيـراً في مجال النقد والأدب، والدليل على ذلك أنّ مفهوم الأدب قد تغيرّ فنحن لا نعـرف عن الأدب إلاّ هذا الذي يمكن أن يكون مكتوباً،ولا يمكننا تصنيفه إلاّ ضمن الأجناس الأدبية المعروفة ... أما اللسانيات فإنها تقـول بأنّ الأدب يمكن أن يكون منطوقاً أو مكتوباً ، وتقول أيضاً بأنّ هناك نصوصاً أدبية تأتي من التراث الشفهي المنقول. فالحكايـة الشعبيـة هي أدب والزجل هو أدب بل إنّ حديثاً بين أصدقـاء هو أدب . إنّ النصوص المكتوبة مثل النص الشرعي والقانوني والطبي والديني والسياسي تُحلل لسانيًا كما يُحلل “الأدب” بمفهومـه المتداول. وبعبارة أخرى إنّ أي نص منطـوق ، أو مكتـوب يخضع للدراسـة اللسانية الصارمة ، ونقصد بالصارمة أنّ هناك مثلاً منهجاً اسمه “ منهج الإحصاء اللغـوي” ومهمته دراسة النص سواء أكان منطوقاً أو مكتوباً ومعرفة نسبة الجملة الفعلية إلى الجملة الاسميـة، و نسبة الفعل إلى الاسم ونسبـة الاسم إلى الصفة ونسبة تداخل الجمل فيما بينها وكثافة هذا التداخل و كل هذا سوف يعزز نتائج ضروريـة للناقد للحكم على العمل الإبداعي. مثلاً هناك ما يسمى بالمنهج الأسلوبي الجغرافي “ جغرافية المكان” الذي يضيف إلى التحليل اللساني للنصوص بعداً آخر لم يكن في السابـق . و يمثـل هذا الإتجاه الباحث العربي سعد مصلـوح في كتابـه “ في البلاغة العربيـة والأسلوبيات اللسانية آفاق جديدة “. والخلاصة أنّ هناك مناهـج لسانية جديدة لتحليل الأدب وغير الأدب يمكن من خلالها أن ننصف الكاتب المبدع ونقومه بما يستحـق. و يمكن تلخيص هذه الأمـور بما يلي: بدأ التحليل اللساني مع “بلومفيلد” الأمريكي في كتابه “اللغة” عام1933 بتحليل الكلمـة والصـوت و ما أشبه ذلك ، وفي عام1957 عندما جاء تشومسكي بدأ التحليل بالجملـة واعتبرها أكبر وحدة لسانيـة في النص،و في عام 1970 انشقّ فريق عن تشومسكي وبدأ بتحليل اللغة اجتماعياً... أي تحليل اللغـة ضمن بوتقتهـا الاجتماعية، وقد طور هذا الفريق نفسه عن طريق تحليل الخطاب المنطوق والخطاب المكتوب... وبعد ذلك جاءت الأمريكية “ ديبورا تانن” وربطت المنطـوق والمكتوب بالتراث الثقافي... إذ لا يمكننا تحليل أي نص دون الرجوع إلى الثقافة التي نشأ فيها. وهذا ما تلقفـه عبدالله الغذامي وكتبـه في كتاب سماه “النقد الثقافي” الذي هو ليس إلاّ ترجمة لأفكار” تانن” وهذا ما ولد علماً اسمه “ تحليل الخطاب”.بلاغة الخطاب وعلم النص- هناك كتاب للدكتـور صلاح فضل حول” بلاغـة الخطاب وعلم النص” و ما ذكرتـه سابقاً يعكس فوضىالمصطلح النقدي وإشكالية تداخل المعرفة... و أذكر أنك تناولت هذا الموضـوع في الندوة العلمية حـول “صوغ المصطلح العلمي وتوحيده” التي أقامها مجمع اللغـة العربيـة في طرابلس الغرب ما بين 22 و24 تشرين الأول 2007 . حبذا لو تعطينا بعض التفصيلات في هذا الشأن؟* يبقى السر الكامن من خلف أي عمل علمي، استطاعته اكتشاف ما لم يستطع الآخرون اكتشافه، وذلك من خلال مصطلحات علمية ثابتة ومدلولات دقيقة وواضحة لتلك المصطلحات . وبذلك يتم تحريك الحياة العقلية لتكون أكثر حركية لدراسة الظاهرة الفيـزيائيـة التي تحيط بالكـون والإنسان. من هذا المنظـور النقدي الموضوعي فإنّ الدراسـة تعرض لإشكالية تداخل المعارف وفـوضى المصطلح العـربي من خلال كتاب “ بلاغة الخطاب وعلم النص” لصلاح فضل منطلقة من البعد الفلسفي الآني (التزامني) في دراسة الظاهرة..وقـد توصلت الـدراسـة إلى نتيجـة خطيـرة وهي أنّ أغلب الباحثين العـرب يخلطـون بين شيئيـن:الأول: عدم ثبوتية المصطلح الذي ظلّ يتأرجح بين الترجمـة أو التعريب أو النقل الحـرفي عن المصطلح الأجنبي ، الأمر الذي يخل بالمنهـج أولاً وبالنتائـج التي يريد الباحث التوصل إليها ثانيـاً.الثاني: عدم وضوح المعرفة التي يدرسونها، فهم يخلطونها بمعارف عدة ، الأمر الذي يؤدي إلى الغمـوض في دراسة الظاهرة ... وكتاب “بلاغة الخطاب وعلم النص” شاهد على هذين الشـرطين.اللسانيات والشعر- هل قدّم علم اللسانيات خدمة للشعـر على اعتبار أنّ الشعـر يمثل لحظة توهج حقيقية عند الشاعـر ؟ وما رأيك ؟ باختصار بالحركة الشعرية العربية الحديثة ؟* ما قلناه حول النص المنطوق والمكتوب يقع ضمن إطاره الشعر ذلك أنّ الشاعر عندما تأتيه لحظة الوهج فلا بدّ أن تنقلب إلى كتابة ... وهذه الكتابة ليست مجانية بل كتابة محسوبة. لذلك فإنّ اللسانيات عندما تتناول النص الشعري فإنها تبين الخصائص الموضوعية التي يتميز بها هذا النص. ولكي أكـون واضحـاً في هذه المسألة سأعطي مثالاً على ذلك: هو قول الشاعر كثيّـر عـزة :ولما قضينا مـن منىً كل حاجـة ومسَّـح بالأركان مـن هو ماسـحأخذنـا بأطـراف الأحاديث بيننـا وسالـت بأعنـاق المطيّ الأباطـحفاللسانيات تأخذ بشئ اسمـه جغرافية المكان و الزمان الذي يشع دلالات محفورة في ذاكرة الإنسان العربي غير الدلالات التي تولدها الكلمات والجمل التي أتى بها الشاعـر. جغرافيـة المكان و الزمان هي الآن منأبحاث اللسانيات في الأدب . وبكلمة أخرى إنّ شاعرية هذه الأبيات تأتي من جغرافية المكان والزمان المشعة بالـدلالات المحفـورة في ذاكرة الإنسان العربي. أي لما فرغنا من الحج ركبنا الطريق راجعين و تحدثنا على ظهور الإبل كما يقـولابن جني في خصائصه( ج ،ص 218). فهنا لا بدّ من نظرة ثاقبة لإدراك أسرار المعاني ومعاقد الأغراض وربما تأتي اللسانيات الأدبيـة بمناهجها المختلفـة لتكشف ذلك.ومثال آخر على ذلك هو أن العرب كانوا يمجدون ما يسمى بالرمح الرُديني ودليلنا على ذلك قول الشاعـر مالك بن الريب: تذكـرت من يبكي عليّ فلم أجدسوى السيف والرمح الرديني باكيـا ولكن بعد أربعمائة سنة نرى أنّ المتنبي غيّر القيمة الدلالية للرمح الرديني عندما مدح سيف الدولة بقـوله:حقرت الردينيات حتى طرحتها فكـأن السيـف للـرمـح شـاتـمالحقيقة هي أنّ التناص يأخذ بعداً آخر هنا. إنه تناص شعري بين لحظة تاريخيـة لهـا منظومتها الثقافيـة ولحظـة معاصرة للمتنبي لها منظومتهـا الثقافية المختلفة. ويمكـن أن نسمي هذا النـوع من التناص بـ “ التناص المتطـور”.يتقدم السيف على الرمح... لأنه أقصـر من الرمح وفي هذا دلالـة على شجاعـة سيف الدولـة. حتى أن الشجاعة نفسها قد تغير مفهومها. فهي عند المتنبي حالة معينة تجاوزها سيف الدولة إلى ما بعد الشجاعـة: تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى إلى قـول قـوم أنت بالغيب عالـموآخر مثال عن جغرافية المكان هو ذلك التعالق والتناص مابين قصة الشاعـر نسيب عريضـة التي حملت عنوان “قصة ديك الجن الحمصي ... حكاية غرام شاعر عربي قديم” وقصة “الأثر” لدريد يحيى الخواجة في مجموعته “ وحوش الغابة “. فالتناص واضح بين الكاتبين في وصف الطبيعة ... طبيعة العاصي وطـريق الخراب وزقزقات العصافير وصوت خرير المياه والشمس الساطعة، إنه تناص في المكان والـزمان... أتى من شاعرية مبدعة سكب شيئاً في وصف جغرافية الدوير والعاصي والشجر والمياه والسماء الزرقاء وأشعة الشمس . وأتى أيضاً من مبدع قصصي يتميز بحرفـة متناهيـة فيما يسميـه اللسانيـون بـ “ التفصيليـة”و” التخييلية”. هذا التناص يمكن أن نسميه بـ “التناص الشعـري ـ القصصي” . فاللسانيات عندما تتنـاول الشعـر والقصـة والـرواية فإنها تنصف الكاتب بدقـة متناهية و تعلمه في الوقت نفسـه تقنيات الكتابـة واستراتيجياتها صوتياً ونحـوياً ودلالياً.وفيما يتعلق بالشق الثاني من السؤال حول الحركة الشعرية المعاصرة، نستطيع أن نقول هناك قصائد تتفاوت في قيمتها الإبداعية بين شاعر وآخر ولكن الخط العام للحركة الشعرية المعاصرة لا يشجع المتلقي لقـراءة مثل هذه القصائد. لذلك أتمنى على الشعراء المعاصرين الاستفادة قدرالإمكان من العلوم المعرفية المتنوعـة ومنها اللسانيات كي يسكبوا وهجهم الشعري في لغة متماسكة وجذابة وجميلة تشدّ القارئ وتنقله إلى عالمهم. استفادة الأدب من اللسانيات- هناك مقولة متكررة تؤكد أنّ الأدب العـربي عامـة ، والأدب في سوريـة خاصة لم يستفد كثيراً من تطبيقات اللسانيات ... فهل تؤيـد صحـة هذا الطـرح ؟ * نعم أنا أؤيد صحة هذا الطرح ذلك لأنّ الأدب العربي عامة، والأدب في سورية خاصة لم يستفد كثيراً من تقنيات اللسانيات ، والسبب في ذلك بسيط جداً وهـو أنّ اللسانيات كعلم لها فـروع كثيـرة جداً ، ومنهـااللسانيات الأدبية التي لم توضع في مكانها الصحيح في الوطن العربي وفي سورية بالتحديد، ذلك أنّ الذيـنيفهمون اللسانيات أقلاء جداً، والذين يطبقون اللسانيات الأدبية على الأجناس الأدبية وغيرها أقلاء في الوطن العربي ، بل يعدون على الأصابع ومنهم الباحث سعد مصلوح من مصر، والباحث عبد السلام المسدي من تونس ... ثمّ إنّ هناك صعوبة في تطبيق اللسانيات الأدبية على الأدب العربي تتمثل في أنّ المترجمين الذين يترجمون المناهج النقدية اللسانية غير مطلعين على المناهج النقدية اللسانية الحديثة ، ثم إنّ تطبيقاتهم يكتنفها إشكالية تداخل المعارف، وإشكالية فوضى المصطلح اللساني العربي... يضاف إلى ذلك عـدم وجود تعاون جماعي بين الأدباء والشعـراء والـروائيين والقاصيّن وبين المختصيـن باللسانيات الأدبيـة.ولا أخفيك سـراً بأن أقول بأنّ تطبيق اللسانيات الصارمـة على اللغـة العربيـة إنما هو قليل جداً واقصد بالتطبيقات النحوية والصوتية والدلالية والمعجمية والحاسوبية والاجتماعية والبيولوجيـة والانثروبولوجيـة والتقنيـة ...الخ. فما بالك من تطبيقات اللسانيات الأدبيـة على الأدب ؟!! و بكلمة أخرى هناك مهتمـون باللسانيات وهم كثر وهناك أخصائيون باللسانيات وهـم أقلاء.إلاّ أنّ هناك بعض التطبيقات التي ظهـرت مؤخـراً في دراسات بعض الباحثين ولاسيما عند الباحث سعد مصلوح الذي استخدم المنهج الأسلوبي وقارنه مع المنهج البلاغي عند العرب ليخرج بآفاق جديدة ويطبقهـا على بعض الأجناس الأدبية من خلال كتابه “البلاغة العربية والأسلوبيات: نحو آفاق جديدة “. وأذكر في هذا المجال أيضاً الدراسة الجادة التي طرحها الباحث عبد السلام المسدي في كتابـه “ السياسة وسلطة اللغـة “ مستفيداً من تطور البلاغة الغربيـة لتصبح في إطار الأسلوبيات و من تطور الأسلوبيات لتصبح في إطـار علم جديد هو علم تحليل الخطاب. وبكل تواضع أقول لي بعض الدراسات التي استفدت فيها من اللسانيـات الأدبيـة وطبقتها على أجناس أدبية مختلفة مستخدماً المنهج الإحصائي والرياضي والأسلوبي منها “ مقاييس تعقد الأسلوب: رواية “” قارب الزمن الثقيل أنموذجاً” . فقد درست هذه الروايـة لعبد النبي حجازي دراسـة تحليلية خطابية من وجهة نظر رياضية تنبئ بتداخل الجمل فيما بينها ( طولها- قصـرها- كثافتهـا- عمق التداخل... الخ) واستخدمت أيضاً منهج عالم اللسانيات الأمريكي “ وولتر كوك “ الذي طبقـه على روايـة“ العجـوز والبحـر” لآرنست همنغواي. وهناك أيضا دراسة بعنوان “ اللسانيات وتحليل الخطاب السياسي” تناولت فيها بعض النصوص الخطابية للرئيس الراحل حافظ الأسد التي أفـرزت نتائج جيدة في علم تحليل الخطاب. كما قمت بدراسة حول البنيـة القصصية عند القاص دريد يحيى الخواجة تناولت فيها مجموعتـه القصصية “وحوش الغابة” وقد طبقت علم تحليل الخطاب على هذه القصص التي خرجت منها بنتائج طيبة. الطمـوح نحـو المستقبل- هـل لديك منجـزات راهنـة لـم تنشـر في مجال اللسانيات وتطبيقاتهـا ؟* نعم هناك منجـزات لم تنشـر بعد وهي قيد الدرس والبحث منها مثلاً: مشروع كتاب حـول “ اللسانيات وتحليل الخطاب المنطوق والمكتوب “ ومنها أيضاً مشروع كتاب “ التفكير اللغوي عند الجغرافيين و الرحالة العرب في ضوء اللسانيات الجغرافية المعاصرة “ ، وهناك مشروع لكتاب آخر يدور حول “ التفكير اللغوي عند الموسيقيين والملحنين العرب في ضوء الصوتيات المعاصرة “. أما المشروع الأخير فهو يدور حول التفكير اللغوي عند الفلاسفة العرب في ضوء العلاقة القائمة بين اللسانيات والمنطـق في العصـر الحديث.اللسانيات والسياسة- للسانيات دور مهم في الجانب السياسي مثّله الرائد اللساني تشومسكي ... فهل تعتقد بعمق تأثيـر هذاالدور في المعرفة البشرية واتجاهاتها في الوقت الحاضر،وهل لدينا في الوطن العربي من قام بهذا الدور؟* إذا كان هناك كما قال تشومسكي علاقة بين اللسانيات والسياسة فهي تتجلى في المستوى التجريدي تقريباً إنّ المعرفة اللسانية الخاصة والمتعلقة باللغة ليس لها أي تأثير على المسائل السياسية والاجتماعية، فكل شئ مثلاً كتبه اللساني والسياسي تشومسكي حول الموضوعات السياسية والاجتماعية كان يمكن أن يكتبه شخص آخر. فليس هناك ارتباط مباشـر بين النشاط السياسي والنشاط اللساني على الرغم من أنّ اللغـة إلى حد ما ربما تقتبس من افتـراضات ومـواقف فيما يخص الملامـح الأساسيـة للطبيعـة الإنسانيـة... ويبدو لي أنّ التحليل النقدي في الساحة الإيديولوجيـة مسألة عادلة عند مقارنتـه بتحليل يتطلب درجـة من التجريد الفكـري بشكل عـام.السيميائية وحضورها في النقد- السيميائية فرع من إنتاج اللسانيات هل تذكر لنا بعض الإنجازات العربيـة التطبيقية في هذا المجـال ، وهـل كان للسيميائيـة حضـور في النقـد العـربي القـديم ؟ * سأحاول أن أقلب الصورة التي تتحدثين عنها... بعض الباحثين القدامى في الغـرب ؟ أمثال فرديناند دي سوسو يعد اللسانيات فرعاً من علم كبير اسمه “ السيميائية “. ولكن بعد تطـور علم اللسانيات وعلاقتـه مع العلوم الأخرى ، وبعد أن أصبح علماً قائماً بذاته يتميز بالاستقلالية عن العلوم الأخرى ، وبالعلمية الصارمة أيضاً لم يعد الحديث عن اللسانيات على أنها فـرع من السيميائيـة.أما حول الإنجازات العربية التطبيقية في هذا المجال فنستطيع أن نقول بأنّ هناك دراسات عربية تطبيقية في هذا المجال استفادت من علم السيميائية وطبقته على أجناس أدبية كثيرة ولا سيما المسرح... وهذا يذكـرنا بالنقد العربي القديم ، إذ كان للسيميائية حضـور متميز فيه ولاسيما عند ابن جني في كتابـه “ الخصائص” وكتابـه “ الفسـر”
.- حاورته نجاح حلاّس