منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    الـصيـغ السـرديـة

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    الـصيـغ السـرديـة Empty الـصيـغ السـرديـة

    مُساهمة   الجمعة يناير 01, 2010 6:40 am

    الـصيـغ السـرديـة وآليـات اشتغالـها

    في رواية "شرفات بحر الشمال" لواسيني الأعرج

    أ – زوزو نصيرة

    قسم الأدب العربي

    كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية

    جامعة محمد خيضر بسكرة



    تشكل الصيغة السردية إحدى الأصناف المشكلة للخطاب الروائي التي تنتظم وفق نمط معين يعطيها تميزها و تفردها عند كل كاتب. و هذا ما يدل عليه تعريفها التالي.

    1- مفهوم الصيغة (Le mode):

    الحديث عن الصيغة السردية أو نمط السرد كما يذكر تزفتان تودوروف (Tzvetan Todorov) هو حديث عن« الكيفية التي يعرض لنا بها السارد القصة، و يقدمها لنا بها» (1)

    و بعبارة أخرى نقول: إن البحث في نمط السرد، هو بحث يتعلق بالتساؤل التالي بخاصة: كيف يروي الراوي ما يرى، أو ما يعرف من أخبار ووقائع ؟ (2)

    ولفظة الصيغة مأخوذة أساسا من مجال النحو، خاصة نحو الأفعال (*) ومثل هذا التنوع الصيغي للأفعال موجودة في أدبنا العربي، فنجد صيغة الماضي، و صيغة المضارع، وصيغ المبالغة. ونقول « صيغة الأمر كذا و كذا؛ أي هيئته التي بني عليها» (3).

    فنحو الأفعال هذا هو ما يشير إليه جيرار جنيت (Gérard Genette) ، و يعول عليه في دراسة للخطاب السردي، إذ تستطيع الحكاية أن تزود القارئ بتفصيلات كثيرة أو قليلة، و بطريقة أكثر مباشرة أو أقل، و هي في ذلك تضع نفسها على مسافة بعيدة أو قريبة مما تحكيه(4).

    وتعرض هذه التفصيلات على طريقتين، فهناك ما يقوله السارد أو الراوي، و ينقله من أحداث ومعلومات، و ما تخبر به الشخصيات ذاتها .

    من هنا جاء تقسيـم البويطيقـي "تودوروف" لأنمـاط السرد إلى الحكي و التمثيـل أو العرض، و يضرب لذلك مثالين بالقصة التاريخية التي تعتمد على المؤلف فقط في نقل وقائعها، والدراما التي تعبر فيها الشخصيات مباشرة عن نفسها، و ما يجول بخاطرها دون وساطة المؤلف . (5)

    وإذا أرجعنا البصر إلى الوراء، نجد أن أفلاطون أول من ميز بين صيغتين سرديتين، أسمى الأولى حكاية خالصة (Diégesis) و فيها يظهر الشاعر نفسه هو المتكلم، دون أن يشعرنا بوجود شخص آخر يقاسمه الكلام، على خلاف المحاكاة (Mimésis) التي يجهد فيها الشاعر نفسه؛ ليوهمنا بأن ليس هو المتكلم بل شخصية ما . (6)

    فإذا حاولنا اسقاط ما قلناه سابقا على الخطاب الروائي، تظهر طريقتا العرض والحكي كتشكيل إبداعي، يحاول الراوي المزاوجة بينهما، فقد يتخفى أحيانا وراء شخصياته حتى لا يكاد يظهر، حين يدع المجال لها مباشرة. من هنا كانت « الصفة الرئيسية في السرد القصصي انفتاحه، فهو يرصع المشاهد بالحوار، الذي يمكن أن يمثل» (7) و قد يعمد إلى السيطرة على الأحداث ككل .

    يتضح لنا من خلال ما سبق، أن المقصود بالصيغة عامة طريقة محددة، يعمد من خلالها الراوي إلى بناء عالم قصِّه و تقديمه للقارئ في لبوس خاص، يستعين فيه بسبل شتى. و من هذا المنطق جاء تنوع الصيغ السردية الذي سنعمد إلى تحديده في العنصر الموالي.

    2- أنواع الصيغ السردية :

    انطلاقا مما ينقله السارد من أحداث ووقائع، وما تقوله الشخصيات بوساطة السارد أو دونه؛ أي بين الحكي و التمثيل أو العرض، ميز "جنيت" فيما أسماه بالمسافة بين حكاية الأحداث و حكاية الأقوال .

    ففي النوع الأول يحكى ما تقوم به الشخصيات أو ما يقع لها، ويورد لهذا النوع مقطعا سرديا مكثفا بأقوال الشخصيات لإلياذة هوميروس، يعيد أفلاطون صياغته بحذف ما يراه منافيا للحكاية الخالصة؛ أي أيّ أثر للمحاكاة .(Cool

    أما النوع الثاني، فيتعلق بكلام الشخصيات التي يجعلها السارد موضوع سرده، وفي هذه الحالة إما أن يصبح السرد شفافا أين ينمحي السارد أمام الشخصية، و يعيد إنتاج كلامها كما تم التلفظ به واقعيا، أو أن يكون أكثر تعتيما حين يدمجه في خطابه الخاص. (9)
    من ثم نجد جنيت يميز بين ثلاثة أنواع لصيغ الخطاب هي: (10)

    2-1- الخطاب المسرد أو المحكي (Le discours narrativisé) :

    و يتعلق الأمر بايراد السارد أفكار الشخصية لا أقوالها، و هو أبعد الحالات مسافة. من ذلك قول "مارسيل" بطل رواية بحثا عن الزمن الضائع "a la recherche du temps perdu" لأمه: "أخبرت أمي بعزمي على الزواج بألبيرتين" .

    2-2- الخطـاب المحـول بالأسلـوب غيـر المباشـر(Le discours transposé au style indirect)

    وفيه يعمل السارد على نقل أقوال الشخصيات بطريقة غير مباشرة؛ أي التعبير عنها بأسلوبه الخاص. مثل: "قلت لأمي إنه لم يكن لي بد من الزواج بألبيرتين" .

    وعلى الرغم من أن هذا الشكل أكثر محاكاة من الخطاب المسرد، إلا أنه لا يقدم للقارئ عموما إحساسا بأمانة حرفية هذه الأقوال؛ لأنه يخضع لتصرف الرواي فيه.

    ويدخل ضمن الخطاب المحول نوع آخر و إن كان يختلف عنه، يسمى الأسلوب غير المباشر الحر(Le style indirect libre) الذي يغيب فيه الفعل التصريحي مثل "قصدت أمي: لم يكن لي بد من الزواج من بألبيرتين" .

    على أن هذا الشكل قد يحدث خلطا مزدوجا؛ إذ قد تعبر الجملة الثانية عن أفكار مارسيل وهو قاصد أمه، والأقوال التي خاطبها بها؛ أي بين الخطاب الداخلي و الخطاب المصرح به من جهة ، و خطاب الشخصية و خطاب السارد من جهة أخرى .

    2-3 الخطاب المنقول (Le discours rapporté):

    وهو من النمط المسرحي و أكثر الأشكال محاكاة؛ ففيه يفسح السادر المجال للشخصية، لتعبر عن نفسها بطريقة مباشرة، مثل "قلت لأمي: لا بد لي من الزواج من ألبيرتين".

    فالراوي هو المؤطر العام لمثل هذه الأنواع من الصيغ، و هو المتحكم الأوحد في طريقة عرضه لها ضمن الخطاب .

    و يفترض جنيت - في الأخير - بدء رواية ما بجملة "لا بد لي من أن أتزوج بألبيرتين" لتستمر محصورة ضمن أفكار البطل و أفعاله حتى نهايته، وهو ما يقترح تسميته بالخطاب المباشر (Le discours direct) بدل المونولوج الداخلي (le monologue intérieur) وهو في ذلك يدعو إلى ضرورة التفريق بينه و بين الخطاب غير المباشر الحر، إذ يختفي السارد في النوع الأول لتحل محله الشخصية على خلاف الثاني، أين يتكلم السارد بلسان الشخصية . (11)

    هذه هي -إذن -صيغ الخطاب الروائي، التي تظهر أقصى درجات دقتها في الخطاب المباشر، كما يقول "تودوروف"؛ أي الخطاب المنقول، وأدناها في قص الوقائع غير اللفظية(12) ؛ أي حكاية الأحداث كما سماها "جنيت" .

    من هنا كان تنوع استعمال هذه الصيغ السردية عند كل روائي، هو ما يميز أعماله عن باقي الكتابات الروائية، و سنحاول فيما يلي كشف طريقة بناء هذه الصيغ في رواية "شرفات بحر الشمال"، لنقوم بمحاولة تركيب نكشف من خلالها عن خصوصية الصيغة فيها.

    3- الصيغ السردية في رواية (شرفات بحر الشمال):

    ينطلق القص قبيل استعداد ياسين (الراوي/البطل) مغادرة أرض الجزائر؛ للارتماء في أحضان إحدى مدن بحر الشمال "أمستردام" بدعوى حضور مؤتمر للفنون الجميلة، وقد وجد الفرصة سانحة، مع رغبته المحمومة في نسيان ماضيه الأليم من جهة دون محاولة الارتداد إلى الوراء.. « عندما نريد أن ننسى دفعة واحدة علينا أن نتعلم كيف نتفادى النظر إلى الخلف حتى لا نُجرّ إلى نقطة البدء. كل التفاتة هي محاولة يائسة للبقاء»(13) والبحث عن "فتنة" المرأة التي سرقت راحته بغيابها الذي أوصله إلى عتبات الجنون من جهة أخرى. لكن هيهات فذاكرته تجره دوما إلى ماضيه البعيد، فتعيد استحضار أيام طفولته مع والدته، و إخوته "زليخة" و"عزيز" وحكايته مع "فتنة" و"غلام الله" لتزيد أمطار أمستردام و لقاء حنين الشاعرة الجزائرية التصاقا بها. و هذا ما يعبر عنه في حديثـه إليهـا:« لقاؤك بي الآن هو إيقاظ لهذه الجروح التي ليست في حاجة إلى من يزيد في غورها» (14)

    ليكتشف لاحقا حقيقة هذه المرأة، التي لم تكن سوى "نرجس" ذلك الصوت الإذاعي الذي عشقه، ودفعه إلى حب الكتابة و علمه سحر الكلمات. تعرف عليها صدفة من قبل ، وبالصدفة التقى بها مجددا في المنفى، وذاتها من قادته إلى "كليمونس" ليزور برفقتها قبر والدتها عازفة الكمان، وقد ظنها "فتنة"، ليبقى رهين هواجسه حتى تسلمه الأقدار مرة أخرى إلى رجل سكير، وشيخ مغربي قاده إلى قبر "تينا الوهرانية"، وقبور منسيين آخرين تعرف على جزء من حياتهم .. لينهي رحلته بمغادرة أمستردام إلى أمريكا.

    وسنعمل فيما يلي على رصد صيغ الخطاب الروائي السابقة التي يظهر فيها تناوب صيغتي المسرود والمنقول، لينضاف إليهما المحول في مرتبة تالية من حيث الكثافة.

    3-1- الخطاب المنقول ومؤشرات توقفه:

    تشغل الخطابات المنقولة الحيز الأكبر ضمن الرواية، و تأتي على شاكلتين يأخذ الحوار جانبا منها ليكمل النقل الحرفي المباشر لكلام شخصية ما الجانب الآخر.

    أما الكلام الفردي فيتنوع من قبل شخصيات عدة حاضرة أو غائبة، تساهم في تشكيل بنية خطاب الرواية مثل فتنة وزليخة و عزيز و غلام الله خاصة، كما يكون النقل على لسان شخصيات كثر. وهي جميعا أصوات روائية تتداخل ضمن الخطابات المنقولة لتؤدي أغراضا يكفلها الموقف ذاته، على أن هذا لا يمنع غلبة بروز إحداها على الأخرى؛ فللشخصيات السابقة الحظوة والرواج على شخوص أخرى.

    يقف إلى الجانب هذا الحوار كجزء متمم للخطابات المنقولة الفردية، ويقصر الحوار في مواضع ليطول في أخرى ليبلغ صفحة أو أكثر. وقد جاء معظمـه بين ياسين و فتنة وبينه و حنين، مثل ما دار بينهما من محاورة مطولة، استرسل فيها ياسين للحديث عن أيام طفولته حين كانت أمه و زليخة تجتهدان في صنع أواني فخارية و بيعها لكسب قوتهم، وكيفية تعلم هذه الحرفة منهما، وعشقه لصوت المذيعة نرجس، و تعلقه الشديد بحصتها وحكاية موت زليخة .. (15) أو في حواراته مع شخصيات أخرى أجنبية في أمستردام، مثل كليمونس، وفيلهام "مدير المؤتمر"، و نورما "موظفة بمديرية الأرشيف"و ماريتا"مستقبلة ياسين بالمطار"

    كما نجد نمطا آخر من الحوارات تنسجها مخيلة الراوي ياسين كمحاورته مع الرسام الهولندي "فان غوخ" (**)، أثناء زيارته لمتحفه:

    « - لا شيئ. لم تعد الدنيا كما أشتهيها، لو خرجت من هذا الدم حيا سأعاود الكرة

    - ماذا فعلت في نفسك ؟

    - لا شيء سوى أني أتمنى أن أجد إنسانا يأخذ أصابعي و يرسمني و أنا في هذه الحالة.

    - ماذا فعلت يا فان غوخ ؟ » (16)

    ويمكن أن نقول: إن تداخل أقوال الشخوص الفردية مع حواراتها المختلفة، هو ما يشكل بناء الخطابات المنقولة عموما.

    تضم "شرفات بحر الشمال" علامات نستدل من خلالها على توقف المنقول فيها، للانتقال به إلى صيغة المسرد عموما أو المحول و الأسلوب غير المباشر الحر .

    ومثل تلك المؤشرات ملفوظات بعينها تختص بها المحاورة، كالمكالمة الهاتفية التي دارت بين ياسين و ماريتا، انتهت بقوله: « شكرا أنا في الانتظار» (17)

    وقد نستدل بعلامات أخرى تنتشر في غير موضع، وهي نقاط متتالية لعدم إنهاء الكلام أو قطعه، توهم بعض الشيء بانهاء المنقول، ليوحي الفضاء الطباعي إلى جانبها بذلك، وهذا دليل عليها في محاورة جمعت ياسين وحنين:

    «- إذن كليمونس كانت معك وهي تعرف حقيقتك

    -و لكنها كانت تعرف كذلك أن في الدنيا مليون كليمونس

    - ولكن بالنسبة لك لا توجد مليون كليمونس أمها عازفة كمان، و قادمة من بلد غريب ومن ثقافة أخرى .

    -و لكن ... » (18)

    وقد يتم الانتقال فجاء؛ بانقطاعات يحدثها خطاب الراوي أثناء تداعيات أفكاره خصوصا. و هذا ما سيتوضح أكثر في حديثنا عن الخطاب المسرد.

    3-2- الخطاب المسرد وطرائق تشكيله، و مؤشرات توقفه و خلوها:

    يشغل الخطاب المسرد جانبا آخر يكمل الخطاب المنقول و يتكاثف معه؛ لاستكمال بناء الرواية. وهو ما يقوم على عاتق راوي الأحداث "ياسين"و بطل الرواية في الوقت ذاته، الذي يلعب الدور الرئيس، حين يعمل ذاكرته لسرد قصته بكل تفصيلاتها، مع ما يتخللها من أخبار مختلفة. من ثم كان أول عنصر ندرجه ضمن طرائق تقديم الحكي الإخبار:

    3-2-1- الإخبار:

    تتعلق المادة الإخبارية هنا بشكل عام بسيرة الرواي- البطل وما يداخلها من أحداث هامة و تفصيلات دقيقة. و هي معلومات تتدفق بصورة غير منتظمة في ترتيبها؛ نظرا لانقطاعات تستدعيها عودة إلى حاضر، سرعان ما يرتد إلى ماض يعود إلى أيام الطفولة التي يقاسمه لحـظاتها القارئ. فنـشهد معه انتقاله إلى أمسـتردام بعد أن فقد طـعم الحياة داخل وطنه. يقول: « عندما أقرأ كومة الأيام والسنوات التي مضت، ماذا أجد؟ مرض القلب الذي يتعاظم كل يوم، ذهاب عزيز في سن مبكر، لم يتح له القتلة فرصة النوم في حجر أمه للمرة الأخيرة، اندثار عمي غلام الله، معلم المدينة الذي ظل السبع السنوات ينشد قرآنه لمن أراد أن يسمعه، انتحار الذين أعرفهم والذين لا أعرفهم، وقلوب معلقة على الآتي الذي يكشف كل يوم وفي كل الأوقات، عن بعض سره المخيف » (19)

    وعلى رغم من ذلك، فقد ظلت هواجس الماضي تقض مضجعه مع ملامح حاضر ومستقبل غير واضحين. فكل خطوة يخطوها بأرض المنفى تذكره بوالدته، وزليخة وعزيز و فتنة و نرجس، وتدفعه إلى ما يزيد حزنه بمعرفة قصص أخرى كانت الصدفة السبب الأول فيها خلال رحلة بحثه عن فتنه.

    كل هذا نتمكن من معرفته من خلال ما يخبر به الراوي، الذي ينزاح في كثير من الأحيان عن قصته ليحيطنا علما بجوانب حياتية لشخصيات كثيرة لا مجال لانتقاء بعض منها دون الآخر؛ إذ إنها تتضافر جميعا لتؤلف عالما روائيا متكاملا.

    3-2-2- المونولوج:

    قد يعمد الراوي إلى طريقة أخرى يولجنا بوساطتها إلى أعماق ذاته، ليعبر عن أحاسيسه وهواجسه و مكنونات فؤاده بوصفه بطل الرواية.

    ولقد أمدتنا روايات تيار الوعي بنماذج من المونولوج مثل المونولوج الداخلي(le monologue intérieur) أين يتعرف القارئ مباشرة على أفكار الشخصية الداخلية وما يراودها، و يقترب أكثر من أحلامها المتداعية و تأملاتها. (20)

    فمثل هذا النوع -إذن- قادر على استبطان دواخل الشخصية البطلة و نقل ما يراودها من هواجس دفينة، و يتجلى ذلك في تساؤلات ياسين المريرة الدائبة، وهو يعقد مقارنة بين الحياة في وطنه، وما يعيشه بمدينة أمستردام:« لماذا أوطاننا تصر على الموت والرماد والدم؟ لماذا تحرم نساؤنا من أن يكن جميلات وعاشقات؟ لماذا يصر رجالنا على ذكورة هم أول من يدرك سخافتها؟ أم هو التوحش الذي نخرج منه أم علامات مرض قديم لا نشفى منه إلا لتلد إخفاقاتنا مرضا آخر مشابها له و أكثر تدميرا منه ؟» (21)

    ويقترن هذا النوع بمستوى تكنيكي آخر يعرف بمنجاة النفس، وتعني« تقديم المحتوى الذهني، والعمليات الذهنية للشخصية، مباشرة من الشخصية إلى القارئ بدون حضور المؤلف، ولكن مع افتراض وجود الجمهور افتراضا صامتا» (22)

    ومن ذلك مناجاة ياسين فتنة وقد سكنت ذاته، ولم يعد بقادر على الفكاك منها، إذ أضحت هاجسه الأوحد على متن الطائرة في رحلة السفر إلى أمستردام و هو ما يتجلى خلال الفصل الأول خاصة. يقول:«...أهذه أنتِ؟ ياه ؟ أين اختبأت كل هذا الزمن؟ ألم يكن من الممكن أن تأتي على دفعات ؟ مجيئك هكذا دفعة واحدة يضيعني. كدت أنسى هذا الوجه الرائع .. » (23)

    فهذا النوع من المناجاة لهذه الشخصية خاصة، يتكرر في غير موضع من الرواية؛ ويكون مرد ذلك طبيعة الرواية ذاتها، التي يعمل فيها الراوي أثناء انكفائه على نفسه، محاورة ذاته "وهي المتلقي هنا" بإعمال فكره لاسترجاع ذكرياته مع فتنة.

    3-2-3- الوصف:

    يشغل الوصف جانبا من خطاب الرواية حاول الراوي بوساطته رسم بعض الملامح العامة لشخوصه باقتضاب، مثل الوصف الخارجي لكليمونس و بيدرو الفنان الأندلسي الذي التقى به أثناء إقامة المعرض، إلا في حالة واحدة عمد فيها الراوي على تتبع دقيق لتفاصيل وجه حنين بإسهاب، وما صاحب ذلك من عقد تشبيهات حاول إسقاطها عليه (24).

    ينضاف إلى هذا تشكيل لبعض الأمكنة التي مكث بها ياسين في أمستردام أو زارها، مثل غرفة الفندق ذات الطابع الكلاسيكي، ومنزل آن فرانك المزدان بلوحات مختلفة، مع وصف للوحة بيدرو، وتمثال كنزة الرخامي و لباس حنين(25)، و هي على العموم أوصاف مقتضبة، وغير مركزة و دقيقة، إلا في النادر من الأحيان.

    تستأثر الخطابات المسردة في هذه الرواية أيضا بعلامات نستدل من خلالها على الانتقال إلى المنقول غالبا، أو المحول و الأسلوب غير المباشر الحر أحيانا.

    على أن أكثر المؤشرات استئثارا دخول شخصية تنبئ بهذا الانتقال الصيغي. وقد ينعدم هذا الدليل في مواضع عدة، نستشعرها في انقطاعات يحدثها الخطاب المنقول بوساطة تناهي صوت مضيفة الطائرة إلى مسمع ياسين، و هو يعيش ذكريات تتداعى في مخيلته بشدة:

    « أنسى أنني أنا كذلك كنت في حاجة للتخبي في كمشة ريح ساخنة أو إلى يد طيبة

    تضعني داخل خزانة أو في كيس قمامة أقاتل بها القتلة

    -سيدي ...

    -من أين يأتي هذا الصوت مرة أخرى ......

    -يا سيدي ها أنذا ذي عدت مرة أخرى ....... » (26)

    فمثل هذه الانقطاعات المفاجئة تتكرر في غير موضع من خطاب الرواية، و تتضح أكثر في الفصل الأول منه.

    3-3- الخطاب المحول، و مؤشرات توقفه و خلوها:

    يتناثر الخطاب المحول في ثنايا الخطاب المنقول بخاصة أين يعمد الراوي إلى تحوير كلام شخوصه بأسلوبه الخاص، ويزاوج في هذه الحالة بين حديث شخصية معروفة الاسم أو مجهولة، أو نقل من مصدر غير محدد أو كلام أناس كثر، كهذا المقطع على لسان أشخاص حضروا المشهد الدرامي لانتحار أحد أصحاب مقبرة المنسيين:« الذين كانوا بالقرب من المشهد قالوا أنه بسرعة احترق كالحطبة اليابسة، ولم تمهله النار الحارقة حتى فرصة إخراج صرخة واحدة ».(27)

    يقف إلى جانب الخطاب المحول الأسلوب غير المباشر الحر، وهوأقل حظا من السابق، وقد جاء مكملا للخطابين المسرد و المنقول و متتما لهما.

    و يطرح الخطاب المحول دائما بعض الإشكاليات التي قد تحدث التباسا في ذهن المتلقي، فقد تتداخل مثلا صيغة هذا الخطاب مع جمل أخرى تُحدث ترددا في اعتبارها جزءا من خطاب الراوي أو شخوص روائية أخرى؛ للتداخل الشديد بين الأسلوبين.

    ومثلما جاء في الخطابات السابقة، تتشكل دلائل توقف الخطاب المحول ومعه الأسلوب غير المباشر الحر، حين تظهر كأحاديث مركزة، تختص بجانب معين حول شخصية ما أو قضية معينة، تنتهي بانتهائه، إذ بمجرد استكمال الحديث عنها ينغلق هذا الخطاب لينفتح على خطابات أخرى. bounce

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 21, 2024 5:15 am