منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    التحليل السيميائي للبنى السردية في رواية ((حمامة سلام))

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    التحليل السيميائي للبنى السردية في رواية ((حمامة سلام)) Empty التحليل السيميائي للبنى السردية في رواية ((حمامة سلام))

    مُساهمة   الجمعة يناير 01, 2010 6:50 am

    التحليل السيميائي للبنى السردية في رواية ((حمامة سلام)) للدكتور نجيب الكيلاني ـــ د.بلقاسم دفة- الجزائر
    مجلة الموقف الأدبي - مجلة أدبية شهرية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق - العدد 385 آيار 2003
    مقدمة:‏
    صدرت رواية "حمامة سلام" للكاتب العربي الألمعي الدكتور "نجيب الكيلاني" في طبعتها الرابعة سنة 1997م عن مؤسسة الرسالة ببيروت.‏
    والدكتور نجيب الكيلاني أحد الأسماء البارزة في الأدب المعاصر. وقد تميز بإسهاماته القصصية والروائية الكثيرة، فعرض لقضايا الفرد والمجتمع، والصراع بين الحق والباطل من خلال الرؤية الإسلامية، وبالأسلوب الروائي الإسلامي المتميز(1).‏
    واهتم نجيب الكيلاني في بداية عهده بالأدب عامة، والرواية والقصة بوجه خاص، ثم اتجه إلى الأدب الإسلامي منذ سنة 1952م، ولاسيما عندما قدم بحثه عن الشاعر محمد إقبال(2).‏
    وقد صدرت له أعمال روائية كثيرة، تزيد عن الثلاثين، ولعل من أهمها: قاتل حمزة، حكاية جاد الله، حكاية طبيب، أهل الحميدية، رأس الشيطان، نور الله، الرجل الذي آمن، مواكب الأحرار، الذين يحترقون.‏
    لا ريب أن المناهج النقدية الحديثة قد أولت اهتماماً بالغاً للنص الأدبي، وزودت الناقد بأدوات إجرائية تمكنه من اكتشاف كوامن النص وطاقاته التواصلية أو الإبلاغية، وجعلت النص الأدبي يتجدد بتجديد القراءة؛ القراءة التي تلقي الضوء على مواضع الشك، وتوسع من دائرة اليقين، غير أن أول ما يواجه الدارس العربي اختياره للمنهج، بمعنى هل نأتي بمنهج غربي جاهز أفرزته ظروف عملية وثقافية، واجتماعية مغايرة للظروف التي أفرزت للنص الأدبي الغربي، ونسقطه بكل حذافيره عليه؟ أم نأتي إلى النص نحاوره حتى إذا ما عثرنا على علامة أو أمارة للكشف عن أسراره، وإشارة نهتدي بها إلى خباياه ومضامينه ذهبنا عند ذلك نكيف منهجاً مع معطيات النص الإبداعي العربي مراعين خصوصياته الجمالية.‏
    لقد اخترنا هذا النص وحاورناه فأومأ بالإشارة، ونطق بأسراره الدلالية، فرحنا عند ذلك نطبق المنهج السيميائي لمقاربته وفك شفراته اللغوية الإيجابية، واعتبرنا اللغة نظاماً إشارياً (سيميائياً) يحرر المعنى من القيود المعجمية.‏
    إنني لم أعتمد على المنهج السيميائي كلياً، بل أخذت منه ما يلائم طبيعة النص العربي آخذاً بواحدية س الدال، وتعددية المدلول، ولم أتوقف عند المعنى المعجمي للدلالة، بل تجاوزت ذلك إلى البحث عن كوامن النص الإيحائية المضمرة خلف الإشارات والرموز.‏
    وتناول البحث النقاط الآتية:‏
    1 ـ سيميائية العنوان، 2 ـ سيميائية الغلاف. 3 ـ سيميائية الأسماء. 4 ـ إشكالية الشخصية الرئيسة وتواترها في النص السردي. 5 ـ الوظائف السردية للشخصيات. 6 ـ البناء الخارجي للشخصيات. 7 ـ البناء الداخلي للشخصيات. 8 ـ الزمان والمكان والعلاقة بينهما. بالإضافة إلى خاتمة.‏
    1 ـ سيميائية العنوان:‏
    لقد اهتم علم السيمياء اهتماماً واسعاً بالعنوان في النصوص الأدبية، باعتباره علامة إجرائية ناجحة في مقاربة النص بغية استقرائه وتأويله.‏
    لقد أبدى علم السيمياء "أهمية العنوان في دراسة النص الأدبي، وذلك نظراً للوظائف الأساسية التي تحدث عنها رومان جاكبسون (المرجعية والإفهامية، والتناصية) التي تربطه بهذا الأخير وبالقارئ، ولن نبالغ إذا قلنا: إن العنوان يعتبر مفتاحاً إجرائياً في التعامل مع النص في بعديه: الدلالي والرمزي".(3).‏
    ولعل القارئ يدرك أن العنوان يرتبط أشد الارتباط بالنص الذي يعنونه؛ فهو ـ إن شئت ـ نص مختصر، يتعامل مع نص كبير يعكس كل أغواره وأبعاده. فالعنوان لذلك يعد من مظاهر الإسناد والربط. وبالتالي فالنص إذا كان بأفكاره المشتتة مسنداً، فإن العنوان مسند إليه، فهو الفكرة العامة، بينما الخطاب النصي يشكل الأفكار الأساسية للفكرة العامة، التي يحتويها العنوان، والعنوان في رأي جون كوهن‏
    (J.cohen) يرتبط بالنص النثري الأدبي والعلمي(4). لأن النثر يتسم بالانسجام والاتساق، بينما الشعر ـ ويخص القديم هنا ـ فيمكن أن يستغني عن العنوان، لأنه في الأغلب يفتقر إلى الفكرة العامة التي توحد النص، فقد يكون مطلع القصيدة عنواناً، وهكذا فالعنوان في رأي كوهن يرتبط بالنثر أكثر منه في الشعر. إذ يقول:"نلاحظ مباشرة أن كل خطأ نثري علمياً كان أم أدبياً، يتوفر دائماً على عنوان، في حين أن الشعر يقبل الاستعناء عنه"(5).‏
    إن العنوان بالنسبة للسيميائي يعد نواة أو مركزاً للنص الأدبي، يمده بالمعنى النابض، يقول محمد مفتاح: "إن العنوان يمدنا بزاد ثمين لتفكيك النص ودراسته، ونقول هنا: "إنه يقدم لنا معرفة كبرى لضبط انسجام النص وفهم ما غمض منه، إذ هو المحور الذي يتوالد ويتنامى ويعيد إنتاج نفسه وهو الذي يحدد هوية القصيدة فهو ـ إن صحت المشابهة بمثابة الرأس للجسد ـ والأساس الذي تبنى عليه، غير أنه إما أن يكون طويلاً فيساعده على توقيع المضمون الذي يتلوه، وإما أن يكون قصيراً، وحينئذٍ، فإنه لابد من قرائن فوق لغوية توحي بما يتبعه".(6).‏
    فالعنوان إذن هو الموجه الرئيس للنص بنوعيه، والعنوان من خلال طبيعته المرجعية والإحالية يتضمن غالباً أبعاداً تناصية، فهو دال إشاري وإحالي يوحي إلى تداخل النصوص وتلاقحها وارتباطها ببعض عبر المحاورة، ويعلن كذلك عن قصدية المبدع أو المنتج وأهدافه الإيديولوجية والفنية، إنه إحالة تناصية وتوضيح لما غمض من علامات وإشارات. فهو إذن النواة المتحركة التي خاط المؤلف عليها نسيج النص.‏
    إن رواية "حمامة سلام" تتكون من مقطع واحد، تتألف بنيته من مسند (خبر)، يتمثل في لفظ "حمامة" المضاف إلى "سلام". وهذا المضاف يفيد الاختصاص، أما المسند إليه (المبتدأ) فمحذوف لوضوحه وسهولة تقديره، والتقدير مثلاً: هذه حمامة سلام.‏
    والحمامة التي خصت بهذه التسمية ينتظر منها أن تنشر السلام أو السلم في مكان ما.‏
    وكثيراً ما يرمز بهذا الطائر الجميل إلى المرأة أو إلى السلم. ولعل الكاتب رمز بـ"حمامة" إليهما معاً؛ فالحمامة ـ في هذه الرواية ـ يشار بها إلى سكينة بنت الشيخ عبد الحميد عوض. وقد خاطبها زوجها عبد الودود رضوان بـ"حمامة السلام" في نهاية الرواية، حيث يقول: "لم أذق طعم الحب الحقيقي إلا يوم أن رأيتك... يا حمامة السلام".‏
    ويتسم مقطع العنوان بوضوح المعنى وتشويق القارئ إلى معرفة كنه ذلك السلام ولمن سيحمل؟... يتبين القارئ بعد تتبع أحداث الرواية أن حمامة السلام، جسدت في شخص "سكينة"، وهي شخصية رئيسة، تعد الشخصية الثانية من حيث الوظيفة التي أسندت إليها، ومن حيث تواترها على مسرح الأحداث، حيث بلغ ستاً وستين (66) مرة. وقد أسهمت بقسط كبير بمعية بعض رجالات القرية في إطفاء نار الفتنة ودفع عملية السلام، وذلك بإقناع زوجها (عبد الودود) على عدم مواصلة انتقامه من فلاحي القرية، وظلمهم والزج بهم في السجون، واقتناعه كذلك بعدالة قضية الفلاحين. فالقضية الأساسية التي أثارها الروائي هي قضية الإقطاع وارتباطه بالأوضاع الاستعمارية، حيث كانت فئة من الناس تسيطر على المساحات الشاسعة من الأراضي الزراعية، وتسخر الفلاحين والعمال، وتستغل جهودهم لفائدتها. ومن هنا تبرز مسألة الظلم الفادح الذي وقع على الفلاحين الذين اضطروا إلى العمل من أجل لقمة العيش، والحفاظ على الحياة لهم ولأسرهم، ومع ذلك فلقد كان الفلاحون يسامون سوء المعاملة وشتى أنواع الأذى والإذلال والمهانة.‏
    وجعل الكاتب شخصية "الحاج عبد الودود رضوان" مثلاً لممارسات الإقطاع، وجعل منه شخصية رئيسة في الرواية تسعى للحصول على التوسع أكثر في الثروة. وأما علاقته بالفلاحين فهي علاقة السيد المتغطرس بالعبيد المهانين الذين يعاملون بأبشع ألوان الإذلال والاحتقار. وهم في نظر عبد الودود "كلاب لا تفهم، وبهائم لا تستحق الحياة، ولا ينفع معها إلا التجويع والسياط.‏
    وإذا ما تتبعنا الأفكار الواردة في مقاطع الرواية نجدها ترتبط بالعنوان ارتباطاً وثيقاً، حيث تحدث الروائي في البداية عن الثراء العريض للحاج عبد الودود، ثم أخذ في الحديث عن مزروع القطن الذي أصيب بالإتلاف، وعن المستأجرين الذين صعب عليهم دفع مستحقات الإيجار لعبد الودود بعد إصابة محصولهم. ثم تحدث عن الطالب الأزهري الذي صعد إلى منبر المسجد الكبير عندما غاب الإمام، وأخذ يهاجم الذين لا يبرون بالفقراء، وينعي على الظلم الذي ملأ السماء والأرض حتى وقع‏
    العالم في حرب طاحنة... حرب على رأسها هتلر..."(Cool. ثم عاد "إلى الحديث عن الآفات التي أصابت القطن، وعن أصحاب الأرض الذين يأبون أن يتهاونوا قيد شعرة فيما قرروه من إيجارات(9). وتكلم بعد ذلك عن صدى وأثر ذلك الخطاب في أهل القرية، وما أنجز عنه من اعتقالات للفلاحين الذين تصدوا لعبد الودود. كما تحدث عن دور سكينة في إقناع زوجها بعدالة الفلاحين، ودور كل من الشيخ عبد الباقي (شيخ الطريقة الصوفية)، وأبناء عبد الودود المثقفين ـ الطبيب، المدرس، المحاسب، المهندس ـ في إقناع طرفي النزاع بقبول الصلح. وبذلك هدأت العاصفة، وساد القرية السلام والأمن.‏
    إن هذه الأفكار وغيرها تتعلق بالعنوان الذي يعني في بعض مكوناته الدلالية السلم والأمن، ويتضح من مضمونها إيديولوجية الكاتب المدافع عن الحق والعدل والسلام، وهي رؤية إسلامية، ولذلك يمكن أن تقول: إن العنوان فني، فقد طوى كلاماً كثيراً في جملة واحدة اتسمت بالاختصار.‏
    2 ـ سيميائية الغلاف:‏
    إن الغلاف يعد بمثابة عتبة تحيط بالنص، من خلالها يعبر السيميائي إلى أغوار النص الرمزي والدلالي، ويدخل النص الموازي‏
    (Pataxe).‏
    والنص الموازي عند جيرار جنيت‏
    (G.Genette) هو "ما يصنع به النص من نفسه كتاباً، ويقترح ذاته بهذه الصفة على قرائه، وعموماً على الجمهور، أي ما يحيط بالكتاب من سياج أولي وعتبات بصرية ولغوية(10).‏
    ويحلله (جنيت) إلى النص المحيط والنص الفوقي. ويشمل النص المحيط كل ما يتعلق بالشكل الخارجي للكتاب كالصورة المصاحبة للغلاف.‏
    والصورة المصاحبة للغلاف ـ في هذه الرواية ـ صورة حمامة بيضاء باسطة جناحيها في الفضاء الذي تكتنفه سحب بيضاء، وهي تحلق فوق مساحة خضراء. وفي الصورة مسحة من اللون الأبيض الذي يخالطه لون أحمر.‏
    وصورة الحمامة البيضاء لاشك أنها ترمز إلى السلام، أو ترمز إلى امرأة ـ كما ذكرت في سيميائية العنوان ـ تقوم بدور نشر السلام كما يوحي العنوان بذلك.‏
    أما اللونان الأبيض والأخضر المنتشران على مساحة أكبر فلعلهما إيماءة إلى التنبؤ بالسلم والأمن والرخاء والسعادة... ولعل اللون الأحمر الذي كان له حيّز أقل على مساحة الغلاف يوحي إلى الفتنة والدماء والحرب؛ الحرب العالمية الثانية التي كانت تدور رحاها زمن أحداث الرواية. والفتنة التي كادت أن تعصف بقرية من مصر في خضم تلك الأحداث؛ وبسبب تفاقم الوضع الاجتماعي المزري، وغياب الوازع الديني والأخلاقي.‏
    ولذلك يمكن القول: إن ما ترمز إليه صورة الغلاف يوشك أن يطابق عنوان الرواية "حمامة سلام"؛ فهما إذن يعتبران مفتاحاً إجرائياً للولوج إلى مداخل النص، وليس معنى هذا أن صورة الغلاف لأي عمل أدبي تعد مفتاحاً للولوج في أعماق النص، ومضامينه، فقد تكون صورة غير دالة، أي لا تحمل شفرات غير لسانية.‏
    3 ـ سيميائية الأسماء:‏
    للتسمية في التراث العربي سمات‏
    ودلالات تحدث عنها قديماً الجاحظ في أكثر من موضع(11). ولذلك استدعى اهتمامي أسماء الشخصيات التي لا شك أنها اختيرت عن قصد، بحيث تشير إلى دلالة معينة يوحي بها الاسم بعد أن تتضح صورته في ذهن المتلقي. فاسم مثل "سكينة"، لا ريب أنه يوحي إلى أن المسمى يتسم بالسكينة والوقار والهيبة... واسم كـ"عبد الودود"، و"عبد الباقي"، و"عبد الحميد" ـ وكلها مركبة من "عبد" واسم من أسماء الله الحسنى ـ تدل ولا شك على أن هذه الأسماء الدينية لها مقام في الوسط الاجتماعي.‏
    ونريد الآن أن نتعمق أكثر حول سيميائية الأسماء؛ ونتوقف لدى أهم شخصيات الرواية لنحاول تحليل بنية دلالة الأسماء.‏
    1 ـ الحاج عبد الودود رضوان: إن شخص عبد الودود هو صاحب المقام الأول في الحضور السردي بالقياس إلى كل الشخصيات الأخرى، حيث بلغ تواتره:‏
    (154) مرة.‏
    وإن "الودود" صيغة "فعول" من صيغ المبالغة، وهو من أسماء الله الحسنى. والودود: من ودّ، يَوَدّ، وَدّا، وَوَدَاداً، ومَوَدَّةً، والوَدّ: الحب، والودُودُ: الكثير الحب، وهو المحبوب، يقال: هو ودود، وهي ودود.‏
    واللقب: رضوان: من رضا، رضوا: غلبه في الرضاء، ففيه دلالة على الرضا أو الارتضاء، وفيه فأل حسن ترتاح النفس إلى سماعه. ومنه ـ كذلك ـ رضوان (بضم الراء وكسرها). والرضوان: الاقتناع بالشيء وقبولـه عن طيب نفس. وإن شخصية "عبد الودود، رضوان" لها قابلية للرضا والاقتناع والحب. فقد غيرت زوجته سكينة وبعض رجالات القرية سلوك الأنانية، والكبرياء والظلم فيه، وأضحى رجلاً سوياً في نهاية المطاف، بأن تأسف وحزن ـ مثلاً ـ على قتل "عرفان جراد"‏
    (12): "وتمتم في ألم حقيقي"، قائلاً: "رحم الله عرفان المسكين.. لقد ظلمته".(13).‏
    2 ـ سكينة: لفظ "سكينة" من مادة "سكن"، يقال: سكن إليه: ارتاح واطمأنَّ ووقر. ومنه السكن، وهو كل ما يستأنس به ويسكن إليه. ففي معنى السكينة الارتياح والطمأنينة والوقار والمهابة. وكلها تدل على أن هذه الشخصية قد وفرت الهدوء والارتياح والأمن والطمأنينة لزوجها، وجنبت القرية أهوال الفتنة والدمار. ولذلك استحقت الثناء والشكر من قبل الزوج عبد الودود الذي قال يوماً: ".... هذا حق... لم أذق طعم الحب الحقيقي إلا يوم أن رأيتك... عند ذاك أيقنت أن الحب شيء كبير... فوق الكبرياء... فوق كل شيء... يا حمامة السلام".(14).‏
    فاسم "سكينة" إذن موظف لوظيفة سردية جمالية واجتماعية.‏
    3 ـ جلال الدين (طالب أزهري): هذا الاسم مركب إضافي، يحس العربي بأن لفظ "جلال"، لابد أن تكون له صلة بالجلال الذي من معانيه العظمة والتنزه والرفعة. وقد أضيف إلى "الدين" فكان هذا الاسم رفيع الشأن، عالي الهمة، فقد أخذ جلال الدين يهاجم ـ وهو على منبر مسجد القرية الكبير ـ "الذين لا يبرون بالفقراء، وينعي على الأخلاق الفاسدة، وعلى الظلم الذي ملأ السماء والأرض....".(15)، فكان خطابه وقعاً على الظلم والظالمين، وفاتحة خير على أهل القرية.‏
    4 ـ الشيخ عبد الباقي (شيخ الطريقة الصوفية): هذا الاسم مركب إضافي، يتألف من لفظ "عبد" المضاف إلى "الباقي"، و"الباقي": من أسماء الله الحسنى، وهو مشتق من البقاء الذي يراد به: الثابت الخالد، وهو لله تعالى وحده. و"الباقي": اسم فاعل، وهو من حيث مخرجه سهل النطق على العربي، لطيف الصوت عند التهجي، عذب السمع عند التلفظ، لأن الصيغة في حد ذاتها جارية على الألسن، سارية في المسامع، حسنة لدى الأذواق. ولعل بعض ذلك ما جعل هذا الاسم يجري على كل لسان، ويسري في كل جنان، ويستمع إليه كل رجال القرية، وكلامه مسموع معمول به.‏
    والروائي يومئ بهذه التسمية إلى أن صاحبها رأيه ثابت باق، وقد التزم بالوعظ والإرشاد، ودعا إلى الصلح من أول ظهور على مسرح الأحداث حتى تم له ذلك في النهاية.‏
    4 ـ إشكالية الشخصية الرئيسية وتواترها في النص السردي:‏
    الكثير من الدارسين للرواية والقصة يحكم برئيسية الشخصية على علاقتها بغيرها وتأثيرها فيها، وتأثرها بها، لا على اعتبارات إحصائية، وإنما، يستخدم الإحصاء لترتيب الشخصيات داخل عمل سردي ما، وهو مفيد ولاشك في التحليل الروائي.‏
    وفي ترتيب الأهمية للشخصيات يستحسن إبعاد التواتر من الاعتبار، حيث إن شخصية مثل، جلال الدين على عدم بروزها كثيراً على الحيز النصي، إلا أنها تتسم بالدينامية في مجرى المسار السردي، بينما شخصية أم ربيع ـ مثلاً ـ تصنف إحصائياً في المرتبة السادسة، ومع ذلك لم يكن لها كبير الشأن في السياق السردي. من أجل ذلك نميل في تحديد مركزية الشخصية إلى الوظيفة المسندة إليها في النص السردي.‏
    وقد اتضح لنا من خلال الوظائف التي قامت بها الشخصيات في نص "حمامة سلام"، أن ترتيبها يمكن أن يكون كالآتي:‏
    المرتبة الأولى: الحاج عبد الودود رضوان، وردت بتواتر بلغ /154/ مرة.‏
    المرتبة الثانية: سكينة بنت الشيخ عبد الحميد عوض، وردت/66/ مرة.‏
    المرتبة الثالثة: ربيع بن الحاج عبد الودود، وردت /55/ مرة.‏
    المرتبة الرابعة: الشيخ عبد الباقي، وردت بتواتر بلغ /18/ مرة.‏
    المرتبة الخامسة: الشيخ عبد الحميد عوض، وردت /10/ مرات.‏
    المرتبة السادسة: أم ربيع، وردت /8/ مرات.‏
    المرتبة السابعة: جلال الدين، وردت /6/ مرات.‏
    ونزعم أن هذه الشخصيات المذكورة مركزية مع تفاوت فيها في الأهمية الوظائفية. ولعل ما يزيد من التباين بين الشخصيات وتجسيد إحساسها بالوحدة والضياع والخوف، وبالتالي تقاطع مصائرها الثوابت. والرموز التي استخدمها الروائي أضفت على الرواية أبعاداً فكرية عميقة.‏
    وليس من اليسير تتبع شخصيات الرواية التي تزيد عن عشرين شخصية تواترت في نص سردي ولو أنه متوسط الحجم. وكان أن استخدمت الإحصاء لأصل إلى مراتب الشخصيات وتواتر ذكرها عبر هذا النص السردي الذي يقع في إحدى عشرة ومائة صفحة.‏
    ولقد أبعدت حين الإحصاء الضمائر العائدة على الشخصيات، بل أبعدت الضمائر المعينة لها صراحة، نحو: أنا، أنت، أنت، هي...، وقد أهملت هذه الضمائر عن قصد، ولو أنها تقوم مقام الاسم في وظيفته النحوية، وذلك لأننا لو اعتمدنا الضمائر المنفصلة، فإنها تجرنا إلى إحصاء الضمائر المتصلة، وحينئذٍ فإن الصعوبة الإحصائية ستزداد، ولن يضبط الإحصاء إلا حاسوب يبرمج لهذا الغرض، وأبعدت كذلك الصفات التهجينية عند الذم، والصفات التعظيمية عند المدح.‏
    5 ـ الوظائف السردية للشخصيات:‏
    إن أكثر الشخصيات تأثراً هي شخصية "سكينة" التي أسندت إليها جملة من الوظائف السردية في هذا النص، ولعل أهمها:‏
    1 ـ الحب والغواية: يتجسد ذلك في هيامها بـ"ربيع" بن عبد الودود أولاً، ثم قبولها ثانية بعبد الودود زوجاً لها. أما الوظيفة السردية المركزية التي اضطلعت بها، فكانت أن أوقعت "ربيع" في شباكها، .... فهي فاعلة متفاعلة معاً. وقد كان لهذه الشخصية أثر كبير في إضفاء صفة التشويق على الأحداث وإلهاب العواطف وتأجيج الصراع. ويبدو أن الكاتب ما يزال متأثراً بأسلوب الرواية الحديثة، أقصد الغربية المهيمنة على اللون الأدبي، فالمرأة ضرورية، وحضورها يتطلب شيئاً من المغامرات العاطفية. ولا يعني اهتمام الكاتب بالمرأة، لأنها تمثل الجنس والمتعة فقط، بل اهتمامه بها أيضاً، لأنها نصف المجتمع، ولأن مسؤوليتها في الحياة لا تختلف ولا تقل عن مسؤولية الرجل.‏
    2 ـ علاقة زواج: على الرغم من أن القدر حرمها من الزواج من ربيع، فقد وجدت في أبيه الحاج عبد الودود سنداً لها.‏
    3 ـ النصح: فقد كانت وراء موقف زوجها (عبد الودود ) المعادي لأهل القرية، ناصحة له بالابتعاد عن إشعال نار الفتنة، والميل إلى فعل الخير، من أجل إسعاد نفسه، وإسعاد أهل قريته.‏
    ومن جملة ما جاء على لسانها:‏
    1 ـ "لماذا لا ترحمني وترحم نفسك؟ لسنا في حاجة إلى المال، لكننا في حاجة ماسة إلى الكرامة".(16).‏
    2 ـ "إن اليد التي أتلفت زرعك تستطيع أن تشتط في إجرامها".(17).‏
    3 ـ "ماذا لو اعتبروني وسيطة من أجلهم... من أجلك، من أجل الحياة السعيدة التي نحلم بها.. من أجل أن يسود السلام هذه القرية التعسة، وأهلها المساكين، إن انتصارك للمعاني الطيبة هو الكرامة بعينها، أتوسل إليك يا حاج، أنا لا أنام الليل يا حاج، إن لم تشأ أن ترحمهم فلترحمني..."(18).‏
    6 ـ البناء الخارجي للشخصيات:‏
    يتسم هذا النص السردي برسم الملامح الخارجية، فقد رسمت بعض الشخصيات رسماً دقيقاً حتى كأن النص ارتد إلى صورة قد رسمت بيد رسام، فلم يترك وجهاً، ولا فماً، ولا شعراً، ولا لوناً، ولا قامة، ولا صوتاً، ولا عيناً، ولا أطرافاً، إلا رسم بشيء من التفصيل.‏
    ولنتأمل كيف كان البناء الخارجي للشخصية المركزية الأولى، وهي شخصية الحاج عبد الودود، حيث ركز النص عليه اهتماماً شديداً، فقد تابع النص، شكل وجهه وجبهته، وأنفه وعينيه.. قبل أن يتدرج إلى سلوكه ومزاجه، وأول شيء قدمه النص به، أنه يقول: "هو ذو أنف معقوف، ورأس كبيرة، وجبهة عريضة، وعينين نفاذتين يظللهما حاجبان كثيفان، وعود قصير مكنز يتدرج به في بطء وتأن".(19) لعله يوحي بقوله: "رأس كبيرة" إلى قوة تدبره وتفكيره. وبقوله: "وعينين نفاذتين يظللهما حاجبان كثيفان"، إلى دقة نظره ونفاذ بصيرته، وعظيم هيبته وحنكته.‏
    فمن هذا التقديم لهذه الشخصية نعرف كثيراً من ملامحها. ونجد النص يولع كثيراً برسم ملامح الشخصيات، إذ وصفت "سكينة" بأنها: "كانت تلبس ثياباً ضافية، وتحيط وجهها القمري بشال أسود، فيبرز فتنتها كأروع ما تكون الفتنة".(20) وقد "قالت سكينة بصوت منغوم حلو: بل ستشرب الليمون من يدي".(21) ويقول: "أذكر أني رأيتك وأنت طفلة صغيرة في السابعة من عمرك... كنت تذهبين إلى المدرسة، وكنت تلبسين فستاناً أحمر، لكن لم تكوني على هذه الصورة من الجمال"(22) .‏
    في هذه النصوص تصور خارجي لمظهر سكينة ذات الصورة البديعة الفاتنة.‏
    ونجد رسماً لشخص والد سكينة الشيخ عبد الحميد عوض، يقول: "ومدّ عبد الحميد يداً مرتجفة، وكان وجهه الأسمر النحيل، وعيناه الواسعتان القلقتان تفيضان بالحب والبراءة، وعمامته البيضاء... كل شيء فيه كان يشرق ويومض بالفرحة".(23)‏
    يفهم من هذه الأوصاف أن الرجل من أسرة متواضعة.‏
    ونال ربيع هو الآخر اهتمام الكاتب فرسم صورته، ووصفه على لسان فاتنته سكينة التي "تحلم بيوم المنى، وليس في ذهنها سوى صورة ربيع الضخم،.... الطيب... الذي تاسرها سذاجته وعنفه وقلبه الأبيض... ويده الخشنة."(24) ويقول:".... وأفاق من دهشته على ذراعين عاريين... يطوقان عنقه الغليظ الأسمر الذي لوحته شمس الحقول الساطعة، وأخذت تمسح وجهها المبلل بالدموع في جلبابه الصوفي الخشن".(25)‏
    توحي هذه الأوصاف بأن "ربيع" رجل قوي البنية الجسمية، وأنه ارتبط بفلاحة الأرض.‏
    7 ـ البناء الداخلي للشخصيات:‏
    استطاع نجيب الكيلاني أن يغوص في أعماق نفسيات شخصياته؛ فيرسم عالمها الداخلي دون أن يتورط في التناقضات، ويركز على بعض الشخصيات الرئيسة في الرواية.‏
    أ ـ الحاج عبد الودود رضوان: أول من بدا لنا من حال تلك الشخصيات رسم شخصية عبد الودود، حيث قدم على أنه فطن حكيم...، فهو: "يفحص الطريق، مخافة أن يتفجر من تحت قدميه خطر غامض، إنه دائماً في حالة تيقظ واستعداد "دقيق حكيم"، يتخيل كل الاحتمالات قبل أن يقع فريسة مأزق من المآزق".(26)‏
    وقد كانت هذه الشخصيات قوية رغم الصراع القوي المرير المتكرر مع الفلاحين المتمردين الرافضين دفع مستحقات الإيجار. كما ترسم شخصية عبد الودود على أن شيئاً لم يك أحب إليها من العنف والغضب والبطش، حيث إن غضب عبد الودود انصب أول الأمر على خيبة ولده ربيع الذي لا يحسن اختيار الزوجة المناسبة، ولا يجيد التفكير، حيث صاح "في اشمئزاز وضيق: هل جننت؟ ما الذي يعجبك في سكينة؟... أكمل أيها الغبي... ثم اقترب من ابنه وأمسكه من طوقه في عنف وهتف: انظر أمامك. وسدد ربيع نظرات حزينة إلى أمه الدميمة..."(27)، إنه يصور انفعال كل من عبد الودود وولده ربيع، فقد بدا الأول ثائراً والثاني حزيناً يائساً.‏
    ويكاد الانفعال لا يفارق هذه الشخصية، فها هو يثور في وجه ولده (ربيع)، وقد دق "الأرض في غيظ: أيها الكلب تريد أن تتزوج صعلوكة مثلك؟".(28)‏
    وبعبارة أخرى فإن انفعال عبد الودود وعنفه لا يلبثان حتى يعودا من جديد، وقد هدأ غضبه وارتاحت نفسه لما أن تزوج سكينة، فقد أدخلت على نفسه سعادة وبهجة؛ "لقد طوقها بذراعيه وضحك ملء شدقيه، وقال: لا تخافي يا قطتي الصغيرة".(29)‏
    وشاء الكاتب أن يبدل سلوك الحاج تدريجياً على يد سكينة، والشيخ عبد الباقي اللذان طالما نصحاه بأن يقبل الصلح، ويعزف عن استغلال الفلاحين، يقول: "تضايق بادئ الأمر لجرأة الفلاحين ونواياهم الشريرة، لكن شعر بارتياح انصرافهم عن الغدر به، فطابت نفسه لكلمات الشيخ، ووجد نفسه، يقارن بين كلمات سكينة ذات مساء وكلمات الشيخ عبد الباقي بالأمس القريب".(30)‏
    ب ـ ربيع: أول ما طالعنا الكاتب من رسم لهذه الشخصية أنها مماثلة لشخصية الأب (عبد الودود)، وقد تكون مطابقة في كثير من الأحيان، حيث "إن ربيع يكاد يكون نسخة كاملة لشخصية أبيه... إنه يشبهه في أفكاره وصرامته ومنطقه المادي الجاف".(31)‏
    ويصور لنا جانباً آخر من هذه الشخصية الرقيقة التي اكتوت بنار حب عاصف جارف، فقد أحب سكينة بنت الشيخ عبد الحميد عوض، وهي فتاة جميلة في عنفوان الشباب، وقد ملأت حياته بهجة وحبوراً، يقول الكاتب: "ويمتلئ سعادة وحيوية، ويتردد بين البيت والغيط في خفة الطائر المرح، ويخيل إليه أنه لا يمس الأرض بقدميه، بل يحلق في سماء زرقاء".(32)‏
    والنص السردي هنا صريح في أن ربيع، لم يعرف الحب قبل سكينة، ولذلك بدت سذاجته في أكثر من موقف، فقد ارتجف جسده كله، وارتعشت شفته السفلى، وسادت وجهه حمرة طارئة، وهم أن يفعل شيئاً، لكنه لم يستطع، لم يتعود هذه المواقف المتوترة."(33).‏
    وقد انتهى حب سكينة لربيع بزواجها من أبيه عبد الودود في مرحلة أخرى. ومن المألوف في الأعمال الروائية بأن الحب المبكر ينتهي في معظم الأحوال، بينما الحب المتأخر هو الذي يفضي إلى وصال، ولم تكن وظيفة السرد هنا، ولا وظيفة البناء الداخلي لشخصية ربيع وسكينة بدعا، مما نجده في الأعمال السردية الكلاسيكية البناء والمنهج.‏
    ج ـ سكينة: أولى الكاتب اهتماماً لهذه الشخصية، وأرادها أن تكون شخصية سوية تارة، وللإثارة تارة أخرى، وقد بنى داخل هذه الشخصية على مبدأ الحب، وهي كأي فتاة تطمع في الزواج من غني أو ميسور الحال. وقدمها الكاتب مصوراً شخصيتها وجانباً من حياتها، فهي:"جريئة حتى لتحسب جرأتها انحلالاً، متحفظة ومبتذلة في آن واحد، ترى منها الجانب الذي تود هي أن تبرزه... تربت يتيمة من الأم؛ وقاست العذاب مع زوجة الأب... ولم يكن غريباً أن تنصب شباكها لـ(ربيع) بالذات".(34)‏
    واستطاع الروائي أن يصور لنا بدقة تفنن سكينة في كسب ود ربيع وجعله أسير هواها، ومن ذلك:‏
    1 ـ "...فشهقت في استغراب، ودقت على صدرها الناهد، وهتفت: يا خبر، أنت سيد الرجال، أنت دنياي يا ربيع".(35)‏
    2 ـ "... أرخت أهدابها في دلال، وأطرقت حياء، ثم قالت: الظروف لم تتهيأ‏
    بعد".(36)‏
    3 ـ "... فأبدت غضباً مصطنعاً، ثم غمزت بإحدى عينيها في إغراء... وضغطت على يده في ود، فسرى الخدر في أنحاء جسمه الضخم".(37)‏
    8 ـ الزمان والمكان والعلاقة بينهما:‏
    لعل من الفضول العلمي أن نستفسر عن الزمن الذي حدثت فيه هذه الرواية، وإلى أي مدى كانت تعود إلى الوراء لإبراز العناصر السردية ذات العلاقة بالمسرود، ورغبة في إظهار المسرود له؟ قد يعود الزمن في بعض الأعمال الأدبية إلى الوراء بعشرات السنين، فيضطرب في الامتداد عبر الماضي الطويل، ويسمى بالزمن التاريخي، كما يتجسد ذلك في كلام (جلال الدين)، وهو الطالب الأزهري خطب في مسجد القرية يوم الجمعة بدل الإمام الغائب، فقال:"لقد وقع العالم في حرب طاحنة لا يعلم إلا الله مداها... حرب على رأسها هتلر الذي أصبح اسمه يتردد على الألسن".(38)‏
    نجد في هذا النص زمناً محدداً في: "حرب على رأسها هتلر". فالسارد هنا يعود بالزمن إلى الحرب العالمية الثانية التي أشعل نارها هتلر سنة 1939م، وانتهت سنة 1945م.‏
    أما علاقة الزمان بالمكان ـ في هذه الرواية ـ فيمكن أن يتوصل إليها بواسطة السياق الذي يمكن الدارس من إدراك العلاقة بين الزمان والمكان؛ فقراءة: "ولم يبلغ الضيق بقريتنا مداه إلا عندما علمت أن رجال الشرطة قد قبضوا على الخطيب الشاب جلال الدين في مدينة طنطا في صحن المسجد الأحمدي"(39). وقولـه: "وأهل القرية المساكين بعد أن أدركوا حقيقة الوضع وقسوته وأوجسوا خيفة من المستحيل، لم يجدوا غير باب واحد يطرقونه... باب الحاج عبد الودود".‏
    يتضح من النص أن مدينة طنطا التي قبض في صحن أحد مساجدها على الخطيب هي إحدى المدن المصرية، وأما القرية التي جرت فيها أحداث الرواية هي ـ كذلك ـ قرية من قرى مصر.‏
    أما زمن الأحداث فكان زمن الحرب العالمية الثانية. فهذا إذن زمن ولا يجوز أن يفصل هذا الزمن عن أحداث الرواية وإطالها التاريخ، طالما كان النص يبتغي ذلك التقرير. فالنص هو المرجع، وتأويله هو الأمر الفاصل.‏
    وأعود لأقول: إن الزمن الذي ميز هذه الرواية زمن نحوي، وهو يتلون من صيغة إلى أخرى، فيتغير إثره مسار حركة السرد. إن علاقة السرد بالزمن تبدأ في الحاضر، كقوله: "الحاج عبد الودود ألمع شخصيات قريتنا على الإطلاق، فثراؤه العريض يجعله محطة نظرات الإعجاب... وأولاده الأربعة... يرفعون من مركزه"(41). هذا الحاضر سرعان ما يتوقف ليفسح المجال للماضي، "كانت الأمور تسير سيراً هيناً حسبما رسم الحاج عبد الودود رضوان وخاصة بعد أن كتب العقود مع الفلاحين... ,وانتزع منهم التوقيعات".(42) . ثم ما يلبث هذا الماضي أن يختفي، ليظهر الحاضر من جديد، "حتى يستطيع [أي عبد الودود]، في أي وقت من الأوقات أن يقرر إيجار الفدان حسبما يشاء".(43)، هذا الحاضر ينقلب إلى الماضي مرة ثانية، "ولكن شيئاً واحداً كان يؤرق الحاج ويبعث الضيق والألم في نفسه...".(44)‏
    ويلحظ أن الزمن الماضي ينتشر على مساحة واسعة من أحداث الرواية ليناسب زمن السرد في عدة مواقف: منها: "وسدد ربيع نظرات حزينة إلى أمه الدميمة وأطبق يائساً، بينما استطرد أبوه، إنها عارية من أي جمال... وجفف الأب عرقه، ثم هدأ قليلاً، وقال..."(45). أما الزمن الحالي والاستقبالي فكان حظهما أقل، من ذلك:"تصوري يا سكينة"(46). و"سيقول الناس إنك قد عشقت ولده... ثم أتعتقدين أن رفضك الزواج منه سيقربك من ربيع".(47).‏
    ولاشك أن هذا التلون الزمني يجعل القارئ يتابع النص السردي باهتمام كبير.‏
    والخلاصة: إن الكاتب استطاع أن يغوص في أعماق الشخصيات فيصور ما يختلج في نفوسها من حب وكره، وفرح وحزن. وأقول: إنني ارتأيت في هذا البحث أن أعرض إلى تحليل البنية الداخلية لهذه الشخصيات بقليل من الاختصار، وكنت أقف موقفاً وسطاً في هذا الأمر، فلا أقتصر على دراسة شخصية واحدة، كما أنني لا أريد أن أنساق وراء كل الشخصيات أتابع بناءها الداخلي. فمثل هذا العمل لو نهجته لتحول هذا المبحث إلى فصل، وتحول المقام إلى فصول، وذلك ما لم نهدف إليه. وربما يسعفني الحظ لإتمام هذا العمل وإخراجه في بحث آخر موسع.‏
    وفي الختام نرى أن الدكتور نجيب الكيلاني قد زود مكتبة الأدب الإسلامي بعدد من رواياته التي يبرز فيها التصور الإسلامي للحياة، وتميزت بالكلمة الطيبة والفن الصادق، والتصوير الموحي والإشارات الذكية الدالة. وكان منها هذا العمل الذي بين أيدينا. ويقول عنه أحد الباحثين إنه في رواياته أكثر‏
    عمقاً ووضوحاً، وأكثر أصالة، وأصدق تعبير وفناً.(48)‏
    بقي أن نذكر أن الكيلاني قد استعمل الفصحى عموماً وأحياناً يستخدم العامية المصرية، إما عن طريق التركيب، أو عن طريق الألفاظ، واستخدم كذلك أسلوب السرد المباشر، فكان يتكلم باسم بطل القصة أو الشخصية المركزية، ويروي الحوادث ويفسرها، ويعلق عليها. ولكنه أيضاً استخدم أسلوب الحوار كثيراً. واستخدم أسلوب المراسلة، وطرح كثيراً من القضايا، واستخدم هذه الأساليب ليتحدث عن كثير من المسائل الشائكة التي يبتغي لها حلولاً.‏
    الهوامش:‏
    (1) ـ ينظر محمد حسن بريغش، دراسات في القصة الإسلامية المعاصرة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1984، ص35.‏
    (2) ـ ينظر: المرجع السابق، ص 36.‏
    (3) ـ عبد الرحمن طنكول، خطاب الكتابة وكتابة الخطاب في رواية مجنون الألم، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، بفاس، العدد 9، 1987، ص 135.‏
    (4) ـ ينظر جميل حمداوي، السيميوطيقا والعنونة، مجلة عالم الفكر، الكويت، المجلد 25، العدد 3، مارس 1997، ص 97.‏
    (5) ـ روبرت شولز(سيمياء النص الشعري)، اللغة والخطاب الأدبي، ترجمة واختيار سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 1993، ص 161.‏
    (6) ـ محمد مفتاح، دينامية النص، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط1،‏
    1987، ص 72.‏
    (7) ـ نجيب الكيلاني، رواية "حمامة سلام"، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط/4، 1997، ص 110.‏
    (Cool ـ م.س.ص19.‏
    (9) ـ م.س.ص20.‏
    (10) ـ GERAD, GENETE, Seuil, ed seuil, coll, poetique, Paris, 1987. p6.‏
    (11) ـ ينظر: أبو عثمان الجاحظ، الحيوان، تحقيق: عبد السلام هارون، دار الكتاب العربي، بيروت، 1969، 1/324 ـ 327، 2/ 1984 ـ 186.‏
    (12) ـ عرفان جراد: فلاح فقير، قتل غدراً على يد رجال الحاج عبد الودود، لأنه سخط على تصرفات الحاج. ينظر الرواية، ص 81.‏
    (13) ـ الرواية، ص 111.‏
    (14) ـ م.س.ص110.‏
    (15) ـ م.س.ص19.‏
    (16) ـ م.س.ص91.‏
    (17) ـ م.س.ص93.‏
    (18) ـ م.س.ص59.‏
    (19) ـ م.س.ص23.‏
    (20) ـ م.س.ص35.‏
    (21) ـ م.س.ص37.‏
    (22) ـ م.س.ص37.‏
    (23) ـ م.س.ص55.‏
    (24) ـ م.س.ص56.‏
    (25) ـ م.س.ص18.‏
    (26) ـ م.س.ص6.‏
    (27) ـ م.س.ص8 ـ 7.‏
    (28) ـ م.س.ص9.‏
    (29) ـ م.س.ص90.‏
    (30) ـ م.س.ص105.‏
    (31) ـ م.س.ص6.‏
    (32) ـ م.س.ص12.‏
    (33) ـ م.س.ص15.‏
    (34) ـ م.س.ص07.‏
    (35) ـ م.س.ص16.‏
    (36) ـ م.س.ص16.‏
    (37) ـ م.س.ص34.‏
    (38) ـ م.س.ص19.‏
    (39) ـ م.س.ص28.‏
    (40) ـ م.س.ص43.‏
    (41)ـ م.س.ص05.‏
    (42)ـ م.س.ص06.‏
    (43)ـ م.س.ص06.‏
    (44)ـ م.س.ص06.‏
    (45)ـ م.س.ص08.‏
    (46)ـ م.س.ص37.‏
    (47)ـ م.س.ص64.‏
    (48)ـ ينظر: محمد حسن بريغش، في الأدب الإسلامي المعاصر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1998، ص 145.‏

    Laughing

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 21, 2024 8:54 am