دراسات نقدية: أجيال الحداثة الشعرية في العراق
فاضل ثامر
كان انبثاق حركة الحداثة الشعرية في العراق في أواخر أربعينات و مطلع خمسينات القرن الماضي بمثابة " قطيعة معرفية " حادّة على حد تعبير ميشيل فوكو ، نظراً للتراث الشعري الضخم الذي كان يشكله الشعر العربي الكلاسيكي الذي استمر مهيمناً على الذائقة العربية ، و على الإبداع الثقافي ، بوصفه فعالية أساسية تتقدم على بقية الفعاليات الإبداعية الأخرى .
و لذا فقد كان الخروج على السائد و المألوف في الممارسة الشعرية متمثلاً في الخروج على النظام العروضي و الموسيقى الداخلية للقصيدة الكلاسيكية ، و الشروع بتأسيس شعرية حداثية جديدة أمراً يصطدم بالكثير من العقبات الذوقية و العرفية و بمعايير تراثية يصعب تجاوزها بسهولة . إلا إن الوضع الاجتماعي و الثقافي في العراق ، و ربما في معظم البلدان العربية الأخرى ، و بالذات بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ، كان مساعداً على تحقيق مثل هذه النقلة . فالمجتمع العراقي كان يتطلع بقوة لتحديث بنيته الداخلية و الالتحاق بالعصر . و لذا فقد نشطت الكثير من مظاهر الإبداع الفكري و الثقافي فظهرت حركة متطورة للفن التشكيلي قادها رسامون بارزون منهم جواد سليم و فائق حسن و شاكر حسن آل سعيد ، كما راحت تتطور أساليب السرد القصصي و الروائي على أيدي قصاصين مجددين أمثال عبد الملك نوري و فؤاد التكرلي و مهدي عيسى الصقر و غائب طعمة فرمان و غيرهم . و لذا فقد كانت حركة الحداثة الشعرية التي قادها الثلاثي العراقي بدر شاكر السياب و نازك الملائكة و عبد الوهاب البياتي قوية و رصينة و مؤثرة ، إذ سرعان ما راح إشعاعها ينتقل بسرعة إلى بقية البلدان العربية التي تلقفت حركة الحداثة الشعرية ، و قفزت بها إلى الأمام نحو مواقع حداثية متقدمة ، كما هو الحال في تجربة الشعر الستيني في لبنان على أيدي شعراء مجلة " شعر" اللبنانية التي بشرت بمرحلة جديدة من مراحل الحداثة الشعرية العربية و دعت إلى كسر النظام العروضي لقصيدة " الشعر الحر" التي أطلقها جيل الرواد في العراق خلال خمسينات القرن العشرين و تأسيس " قصيدة نثر" عربية كان أبرز ممثليها محمد الماغوط و أودنيس و أنسي الحاج و شوقي أبي شقرا و توفيق صايغ و يوسف الخال .
إلا ان الساحة العراقية ظلت هي الأخرى مركز جذب مهم في حركة الحداثة الشعرية العربية ، إذ ظهر جيل جديد هو جيل الستينات الذي حاول تجاوز المنجز الإبداعي لحركة الحداثة الشعرية العربية في الخمسينات ، و اتهم حركة الرواد بالجمود و التخلف و السقوط في الرومانسية ، و رفض فتح الباب نحو مزيد من التجريب و الابتكار و التجاوز . و لذا فقد تميزت التجربة الستينية بالمزيد من التجريب و الانفتاح على مستويات تعبيرية جديدة تفيد من بقية الأجناس الأدبية و أفادت من تجربة الشعر الأوربي و بشكل خاص الشعر السريالي و الرمزي و الدادي و المستقبلي . و قد إقترنت هذه الموجة الحداثية في الستينات بمنظور فلسفي و رؤيوي جديد و مغاير جذرياً عن منظور الحداثة الشعرية في الخمسينات . فقد كان الشاعر الخمسيني - بصورة عامة - متصالحاً مع واقعه ، و إيجابياً في التعامل معه ، حتى في نزوعه الثوري لتغيير بنية المجتمع المادية و السياسية و الاقتصادية . و كان الشاعر الخمسيني يعد نفسه - إلى حد ما- صوت المجتمع و المعبر عن همومه و أشواقه .
و لذا فقد حظيت القصيدة السياسية بأبعادها الوطنية و القومية و الإنسانية بمكانة خاصة في رصيد الحداثة الشعرية الخمسينية . ففي الوقت الذي كان شعراء الخمسينات يفيدون من تقنيات ت. س . إليوت و ازرا باوند و ايديث ستويل فقد كانوا يتطلعون أيضاً إلى النزعة الإنسانية و الفكرية في تجارب شعراء أمثال مايكو فسكي و بابلو نيرودا و لويس آراغون و ناظم حكمت . كما ظل عدد غير قليل من شعراء الخمسينات ( منهم الشاعرة نازك الملائكة ) قريبين إلى حد كبير من الهاجس الشعري الرومانسي . أما الشاعر الستيني ، فقد كان - من الجانب الآخر- في خصام مع الواقع الخارجي ، و يعد نفسه متمرداً و فردياً إلى أقصى حد .
لقد مرت بالعراق ، و بعدد من البلدان العربية ظروف موضوعية و ذاتية قاسية هزت يقين الشاعر الستيني و جعلته ينكفئ نحو الذات و يرفض التصالح مع المجتمع . و يمكن القول إن مشروعه لإصلاح هذا المجتمع كان مشروعاً فردياً ، و كان هم الخلاص الفردي - و ربما بوسائل صوفية أو من خلال إسقاطات سايكولوجية - هو المهيمن على الرؤيا الشعرية الشابة في الستينات . لقد أغنت التجربة الشعرية الستينية القصيدة العربية الحداثية و نقلتها إلى آفاق جديدة و فتحت الطريق أمام ظهور قصيدة النثر ، و أمام أشكال تعبيرية و تجريبية متنوعة . لقد برز في الستينات شعراء مهمون واصلوا الكتابة خلال العقود التالية و منهم الشعراء : فاضل العزاوي و فوزي كريم و سامي مهدي و حسب الشيخ جعفر و حميد سعيد و سركون بولص و جان دمو و علي جعفر العلاق و ياسين طه حافظ و صلاح فائق و علي الطائي و موفق محمد و عبد الكريم كَاصد و أرشد توفيق و شوقي عبد الأمير و جليل حيدر و عبد الرحمن طهمازي و نبيل ياسين و صادق الصائغ و آمال الزهاوي و خالد علي مصطفى و غيرهم . و نلمس مع النزعة الستينية ميلاً خاصاً لدى الشعراء للإنتماء إلى جيل أدبي جديد لتأكيد الخصوصية و التفرد و تأكيد الرغبة لتجاوز الجيل السابق . و هذا ما نجده في ظهور جيل حداثي جديد هو جيل السبعينات ، أو فيما بعد جيل الثمانينات و من ثم جيل التسعينات . فعلى الرغم من امتلاك الأجيال أو الموجات الشعرية المختلفة ملامح و قواسم أسلوبية و رؤيوية و تعبيرية مشتركة ، إلا ان كل جيل كان يسعى للتميز عن الأجيال التي سبقته بخصائص و سمات خاصة به . و يبدو لنا ان هذا الهاجس العميــق
- أي الرغبة في التحقيب و الإنتماء إلى جيل جديد - قد أصبح أحد القوى الدينامية الدافعة في حركة الحداثة الشعرية في العراق منذ الخمسينات .
فقد حاول جيل السبعينات أن يشق طريقه بصعوبة و هو يواجه تجربة متميزة هي تجربة الجيل الستيني التي ترتكز بدورها إلى خبرة الجيل الخمسيني ، فحاول أن يقدم بعض التنويعات التي تميزه عن الجيل الذي سبقه ، كما نجح في أن يطرح منظوراً حياتياً مغايراً . فقد كان الشاعر الستيني في خصام دائم مع المؤسسة الاجتماعية و كان يحمل راية التمرد و الفردية . فجاء الشاعر السبعيني ليعيد تدريجياً الصلة المقطوعة مع المؤسسة الاجتماعية و أن يعمق حسه الاجتماعي و يحقق نوعاً من التوازن بين الذاتي و الموضوعي على مستوى التجربة الشعرية . و برز عدد غير قليل من شعراء السبعينات منهم : خزعل الماجدي و زاهر الجيزاني و كمال سبتي و صاحب الشاهر و عبد الزهرة زكي و معد الجبوري و جواد الحطاب و شاكر لعيبي و أديب كمال الدين و كاظم جهاد و سلام كاظم و مرشد الزبيدي و أمين جياد و خليل الأسدي و عبد المطلب محمود و عواد ناصر و هاشم شفيق و هادي ياسين علي و غيرهم . و قد واصل هؤلاء الشعراء الكتابة الشعرية خلال العقود التالية و بشكل خاص خلال الثمانينات حتى يمكن أن نجد لوناً من التداخل بين تجربتي شعراء السبعينات و الثمانينات .
إلا إننا يجب أن نعترف بأن تجربة الثمانينات كانت غزيرة و متنوعة و موجعة . و ربما يعود سبب ذلك إلى سقوط هذا الجيل تحت كماشة الحرب الدموية المجانية التي وجد فيها الشاعر الثمانيني مطحوناً بصورة مجانية غير مفهومة . و لذا فقد كان ظهور هذا الجيل مؤلماً و قاسياً . فقد كانوا يشبهون جيشاً من الصعاليك أو بقايا من فلول جيش مهزوم . لقد كان شعراء هذا الجيل ينظرون إلى الكون و العالم و الأشياء عبر منظار مهشم غائم و ضبابي حيث تتشظى الأشياء و المرئيات و القيم ، فتبدو الصور هلامية و رجراجة و خادعة . لم يكن من السهل أمام الشاعر أن يصرخ بحرية ضد الحرب أو أن يحاول تحرير ذاته منه ، فكان النظام السياسي صارماً و استبدادياً و يصادر حرية التعبير و الكتابة . لذا بدت الكتابة الشعرية أسيرة هذا القمع المأساوي و بالتالي ظهرت الندوب و التشويهات غير المفهومة أحياناً على هذا المتن الشعري الغزير الذي تميز بالتنوع الواضح في الصياغات و الأساليب حيث برز الإهتمام بالقصائد المركبة و قصيدة النص ، كما ازدهرت بشكل ملحوظ قصيدة النثر التي أفادت بشكل خاص من تجربة قصيدة النثر الفرنسية و من تجربة قصيدة النثر في لبنان تحديداً . و تميز هذا الجيل بمساهمة متزايدة للمرأة العراقية في الكتابة الشعرية حيث ظهرت أعمال متميزة للشاعرات : أمل الجبوري و دنيا ميخائيل و ريم قيس كبة و سهام جبار كما برز شعراء مهمون بدأ بعضهم بالكتابة فعلياً خلال أواخر السبعينات لكنه التحم بتجربة الثمانينات منهم : عدنان الصائغ و عبد الحميد كاظم الصائح و عادل عبد الله و خالد جابر يوسف و علي عبد الأمير و باسم المرعبي و حكمت الحاج و وسام هاشم و محمد تركي نصار و صلاح حسن و عبد الرزاق الربيعي و ابراهيم زيدان و كاظم الفياض و أحمد عبد الحسين و محمد جاسم مظلوم و نصيف الناصري و منذر عبد الحر و عبد الأمير جرجس و حسن النواب و كَولالة نوري و كريم شغيدل و فضل خلف جبر و غيرهم . و واصل هذا الجيل الهيمنة على المشهد الشعري في التسعينات و هو يحمل معه الندوب العميقة التي حفرتها عميقاً في وجداته الحرب العراقية – الإيرانية التي دامت ثمان سنوات و كان هو أحد ضحاياها ليجد نفسه مرة أخرى أمام معاناة جديدة تتمثل في حرب جديدة شنها النظام عندما غزا الكويت عام 1990 و النتائج المأساوية اللاحقة التي تمثلت فيما بعد في الهجوم على العراق و فرض الحصار الإقتصادي الطويل الذي دام أكثر من عشر سنوات . و لذا فقد عانى جيل التسعينات الكثير و تحمل المزيد من المعاناة و التمزق و الألم . و كان الشاعر التسعيني يعبر أحياناً بصورة غير مباشرة عن رفضه للحرب و الدمار و لسياسة النظام الإستبدادي بصورة غير مباشرة أو عن طريق الرمز و الصمت و أحياناً من خلال البحث عن فضاءات نظيفة لا تلوثها محرقة الحرب و الحصار و التعسف .
و ها إن شعراء العراق اليوم يحاولون استعادة أنفاسهم و إحصاء خسائرهم و ما لحق بهم من عطب و تدمير إزاء مغامرات النظام السابق الذي سقط إلى الأبد و سقطت معه سياسة مصادرة حرية الكلمة و سياسة عسكرة الثقافة و فرض المنظور الآيديولوجي الواحد ، و هم يحاولون أحياناً الصراخ بشدة تعبيراً عن تحررهم من كابوس الخوف أو ينشرون قصائدهم التي خبأوها أو تركوها صامتة ، و هم يتطلعون اليوم إلى فترة جديدة من الإبداع الشعري الحداثي و إلى مزيد من التواصل الإنساني مع شعراء العالم .
و من هنا نرى إن حركة الحداثة الشعرية في العراق في النصف الثاني من القرن العشرين كانت تتحرك من خلال تعاقب الأجيال الشعرية، و محاولة الجيل الجديد تجاوز المنجز الإبداعي للجيل السابق، مما جعل من نزعة التجييل دافعاً قوياً لدفع حركة الحداثة الشعرية في العراق إلى الأمام.
•فاضل ثامر – ناقد أدبي عراقي ، ولد في بغداد عام 1938 يحمل بكلوريوس أدب إنكليزي من جامعة بغداد و دبلوم الدراسات العليا في اللغة الإنكليزية .
أصدر مجموعة من الكتب النقدية في مجال نقد الشعر و السرد . في الوقت الحاضر يعمل كاتباً متفرغاً .
فاضل ثامر
كان انبثاق حركة الحداثة الشعرية في العراق في أواخر أربعينات و مطلع خمسينات القرن الماضي بمثابة " قطيعة معرفية " حادّة على حد تعبير ميشيل فوكو ، نظراً للتراث الشعري الضخم الذي كان يشكله الشعر العربي الكلاسيكي الذي استمر مهيمناً على الذائقة العربية ، و على الإبداع الثقافي ، بوصفه فعالية أساسية تتقدم على بقية الفعاليات الإبداعية الأخرى .
و لذا فقد كان الخروج على السائد و المألوف في الممارسة الشعرية متمثلاً في الخروج على النظام العروضي و الموسيقى الداخلية للقصيدة الكلاسيكية ، و الشروع بتأسيس شعرية حداثية جديدة أمراً يصطدم بالكثير من العقبات الذوقية و العرفية و بمعايير تراثية يصعب تجاوزها بسهولة . إلا إن الوضع الاجتماعي و الثقافي في العراق ، و ربما في معظم البلدان العربية الأخرى ، و بالذات بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ، كان مساعداً على تحقيق مثل هذه النقلة . فالمجتمع العراقي كان يتطلع بقوة لتحديث بنيته الداخلية و الالتحاق بالعصر . و لذا فقد نشطت الكثير من مظاهر الإبداع الفكري و الثقافي فظهرت حركة متطورة للفن التشكيلي قادها رسامون بارزون منهم جواد سليم و فائق حسن و شاكر حسن آل سعيد ، كما راحت تتطور أساليب السرد القصصي و الروائي على أيدي قصاصين مجددين أمثال عبد الملك نوري و فؤاد التكرلي و مهدي عيسى الصقر و غائب طعمة فرمان و غيرهم . و لذا فقد كانت حركة الحداثة الشعرية التي قادها الثلاثي العراقي بدر شاكر السياب و نازك الملائكة و عبد الوهاب البياتي قوية و رصينة و مؤثرة ، إذ سرعان ما راح إشعاعها ينتقل بسرعة إلى بقية البلدان العربية التي تلقفت حركة الحداثة الشعرية ، و قفزت بها إلى الأمام نحو مواقع حداثية متقدمة ، كما هو الحال في تجربة الشعر الستيني في لبنان على أيدي شعراء مجلة " شعر" اللبنانية التي بشرت بمرحلة جديدة من مراحل الحداثة الشعرية العربية و دعت إلى كسر النظام العروضي لقصيدة " الشعر الحر" التي أطلقها جيل الرواد في العراق خلال خمسينات القرن العشرين و تأسيس " قصيدة نثر" عربية كان أبرز ممثليها محمد الماغوط و أودنيس و أنسي الحاج و شوقي أبي شقرا و توفيق صايغ و يوسف الخال .
إلا ان الساحة العراقية ظلت هي الأخرى مركز جذب مهم في حركة الحداثة الشعرية العربية ، إذ ظهر جيل جديد هو جيل الستينات الذي حاول تجاوز المنجز الإبداعي لحركة الحداثة الشعرية العربية في الخمسينات ، و اتهم حركة الرواد بالجمود و التخلف و السقوط في الرومانسية ، و رفض فتح الباب نحو مزيد من التجريب و الابتكار و التجاوز . و لذا فقد تميزت التجربة الستينية بالمزيد من التجريب و الانفتاح على مستويات تعبيرية جديدة تفيد من بقية الأجناس الأدبية و أفادت من تجربة الشعر الأوربي و بشكل خاص الشعر السريالي و الرمزي و الدادي و المستقبلي . و قد إقترنت هذه الموجة الحداثية في الستينات بمنظور فلسفي و رؤيوي جديد و مغاير جذرياً عن منظور الحداثة الشعرية في الخمسينات . فقد كان الشاعر الخمسيني - بصورة عامة - متصالحاً مع واقعه ، و إيجابياً في التعامل معه ، حتى في نزوعه الثوري لتغيير بنية المجتمع المادية و السياسية و الاقتصادية . و كان الشاعر الخمسيني يعد نفسه - إلى حد ما- صوت المجتمع و المعبر عن همومه و أشواقه .
و لذا فقد حظيت القصيدة السياسية بأبعادها الوطنية و القومية و الإنسانية بمكانة خاصة في رصيد الحداثة الشعرية الخمسينية . ففي الوقت الذي كان شعراء الخمسينات يفيدون من تقنيات ت. س . إليوت و ازرا باوند و ايديث ستويل فقد كانوا يتطلعون أيضاً إلى النزعة الإنسانية و الفكرية في تجارب شعراء أمثال مايكو فسكي و بابلو نيرودا و لويس آراغون و ناظم حكمت . كما ظل عدد غير قليل من شعراء الخمسينات ( منهم الشاعرة نازك الملائكة ) قريبين إلى حد كبير من الهاجس الشعري الرومانسي . أما الشاعر الستيني ، فقد كان - من الجانب الآخر- في خصام مع الواقع الخارجي ، و يعد نفسه متمرداً و فردياً إلى أقصى حد .
لقد مرت بالعراق ، و بعدد من البلدان العربية ظروف موضوعية و ذاتية قاسية هزت يقين الشاعر الستيني و جعلته ينكفئ نحو الذات و يرفض التصالح مع المجتمع . و يمكن القول إن مشروعه لإصلاح هذا المجتمع كان مشروعاً فردياً ، و كان هم الخلاص الفردي - و ربما بوسائل صوفية أو من خلال إسقاطات سايكولوجية - هو المهيمن على الرؤيا الشعرية الشابة في الستينات . لقد أغنت التجربة الشعرية الستينية القصيدة العربية الحداثية و نقلتها إلى آفاق جديدة و فتحت الطريق أمام ظهور قصيدة النثر ، و أمام أشكال تعبيرية و تجريبية متنوعة . لقد برز في الستينات شعراء مهمون واصلوا الكتابة خلال العقود التالية و منهم الشعراء : فاضل العزاوي و فوزي كريم و سامي مهدي و حسب الشيخ جعفر و حميد سعيد و سركون بولص و جان دمو و علي جعفر العلاق و ياسين طه حافظ و صلاح فائق و علي الطائي و موفق محمد و عبد الكريم كَاصد و أرشد توفيق و شوقي عبد الأمير و جليل حيدر و عبد الرحمن طهمازي و نبيل ياسين و صادق الصائغ و آمال الزهاوي و خالد علي مصطفى و غيرهم . و نلمس مع النزعة الستينية ميلاً خاصاً لدى الشعراء للإنتماء إلى جيل أدبي جديد لتأكيد الخصوصية و التفرد و تأكيد الرغبة لتجاوز الجيل السابق . و هذا ما نجده في ظهور جيل حداثي جديد هو جيل السبعينات ، أو فيما بعد جيل الثمانينات و من ثم جيل التسعينات . فعلى الرغم من امتلاك الأجيال أو الموجات الشعرية المختلفة ملامح و قواسم أسلوبية و رؤيوية و تعبيرية مشتركة ، إلا ان كل جيل كان يسعى للتميز عن الأجيال التي سبقته بخصائص و سمات خاصة به . و يبدو لنا ان هذا الهاجس العميــق
- أي الرغبة في التحقيب و الإنتماء إلى جيل جديد - قد أصبح أحد القوى الدينامية الدافعة في حركة الحداثة الشعرية في العراق منذ الخمسينات .
فقد حاول جيل السبعينات أن يشق طريقه بصعوبة و هو يواجه تجربة متميزة هي تجربة الجيل الستيني التي ترتكز بدورها إلى خبرة الجيل الخمسيني ، فحاول أن يقدم بعض التنويعات التي تميزه عن الجيل الذي سبقه ، كما نجح في أن يطرح منظوراً حياتياً مغايراً . فقد كان الشاعر الستيني في خصام دائم مع المؤسسة الاجتماعية و كان يحمل راية التمرد و الفردية . فجاء الشاعر السبعيني ليعيد تدريجياً الصلة المقطوعة مع المؤسسة الاجتماعية و أن يعمق حسه الاجتماعي و يحقق نوعاً من التوازن بين الذاتي و الموضوعي على مستوى التجربة الشعرية . و برز عدد غير قليل من شعراء السبعينات منهم : خزعل الماجدي و زاهر الجيزاني و كمال سبتي و صاحب الشاهر و عبد الزهرة زكي و معد الجبوري و جواد الحطاب و شاكر لعيبي و أديب كمال الدين و كاظم جهاد و سلام كاظم و مرشد الزبيدي و أمين جياد و خليل الأسدي و عبد المطلب محمود و عواد ناصر و هاشم شفيق و هادي ياسين علي و غيرهم . و قد واصل هؤلاء الشعراء الكتابة الشعرية خلال العقود التالية و بشكل خاص خلال الثمانينات حتى يمكن أن نجد لوناً من التداخل بين تجربتي شعراء السبعينات و الثمانينات .
إلا إننا يجب أن نعترف بأن تجربة الثمانينات كانت غزيرة و متنوعة و موجعة . و ربما يعود سبب ذلك إلى سقوط هذا الجيل تحت كماشة الحرب الدموية المجانية التي وجد فيها الشاعر الثمانيني مطحوناً بصورة مجانية غير مفهومة . و لذا فقد كان ظهور هذا الجيل مؤلماً و قاسياً . فقد كانوا يشبهون جيشاً من الصعاليك أو بقايا من فلول جيش مهزوم . لقد كان شعراء هذا الجيل ينظرون إلى الكون و العالم و الأشياء عبر منظار مهشم غائم و ضبابي حيث تتشظى الأشياء و المرئيات و القيم ، فتبدو الصور هلامية و رجراجة و خادعة . لم يكن من السهل أمام الشاعر أن يصرخ بحرية ضد الحرب أو أن يحاول تحرير ذاته منه ، فكان النظام السياسي صارماً و استبدادياً و يصادر حرية التعبير و الكتابة . لذا بدت الكتابة الشعرية أسيرة هذا القمع المأساوي و بالتالي ظهرت الندوب و التشويهات غير المفهومة أحياناً على هذا المتن الشعري الغزير الذي تميز بالتنوع الواضح في الصياغات و الأساليب حيث برز الإهتمام بالقصائد المركبة و قصيدة النص ، كما ازدهرت بشكل ملحوظ قصيدة النثر التي أفادت بشكل خاص من تجربة قصيدة النثر الفرنسية و من تجربة قصيدة النثر في لبنان تحديداً . و تميز هذا الجيل بمساهمة متزايدة للمرأة العراقية في الكتابة الشعرية حيث ظهرت أعمال متميزة للشاعرات : أمل الجبوري و دنيا ميخائيل و ريم قيس كبة و سهام جبار كما برز شعراء مهمون بدأ بعضهم بالكتابة فعلياً خلال أواخر السبعينات لكنه التحم بتجربة الثمانينات منهم : عدنان الصائغ و عبد الحميد كاظم الصائح و عادل عبد الله و خالد جابر يوسف و علي عبد الأمير و باسم المرعبي و حكمت الحاج و وسام هاشم و محمد تركي نصار و صلاح حسن و عبد الرزاق الربيعي و ابراهيم زيدان و كاظم الفياض و أحمد عبد الحسين و محمد جاسم مظلوم و نصيف الناصري و منذر عبد الحر و عبد الأمير جرجس و حسن النواب و كَولالة نوري و كريم شغيدل و فضل خلف جبر و غيرهم . و واصل هذا الجيل الهيمنة على المشهد الشعري في التسعينات و هو يحمل معه الندوب العميقة التي حفرتها عميقاً في وجداته الحرب العراقية – الإيرانية التي دامت ثمان سنوات و كان هو أحد ضحاياها ليجد نفسه مرة أخرى أمام معاناة جديدة تتمثل في حرب جديدة شنها النظام عندما غزا الكويت عام 1990 و النتائج المأساوية اللاحقة التي تمثلت فيما بعد في الهجوم على العراق و فرض الحصار الإقتصادي الطويل الذي دام أكثر من عشر سنوات . و لذا فقد عانى جيل التسعينات الكثير و تحمل المزيد من المعاناة و التمزق و الألم . و كان الشاعر التسعيني يعبر أحياناً بصورة غير مباشرة عن رفضه للحرب و الدمار و لسياسة النظام الإستبدادي بصورة غير مباشرة أو عن طريق الرمز و الصمت و أحياناً من خلال البحث عن فضاءات نظيفة لا تلوثها محرقة الحرب و الحصار و التعسف .
و ها إن شعراء العراق اليوم يحاولون استعادة أنفاسهم و إحصاء خسائرهم و ما لحق بهم من عطب و تدمير إزاء مغامرات النظام السابق الذي سقط إلى الأبد و سقطت معه سياسة مصادرة حرية الكلمة و سياسة عسكرة الثقافة و فرض المنظور الآيديولوجي الواحد ، و هم يحاولون أحياناً الصراخ بشدة تعبيراً عن تحررهم من كابوس الخوف أو ينشرون قصائدهم التي خبأوها أو تركوها صامتة ، و هم يتطلعون اليوم إلى فترة جديدة من الإبداع الشعري الحداثي و إلى مزيد من التواصل الإنساني مع شعراء العالم .
و من هنا نرى إن حركة الحداثة الشعرية في العراق في النصف الثاني من القرن العشرين كانت تتحرك من خلال تعاقب الأجيال الشعرية، و محاولة الجيل الجديد تجاوز المنجز الإبداعي للجيل السابق، مما جعل من نزعة التجييل دافعاً قوياً لدفع حركة الحداثة الشعرية في العراق إلى الأمام.
•فاضل ثامر – ناقد أدبي عراقي ، ولد في بغداد عام 1938 يحمل بكلوريوس أدب إنكليزي من جامعة بغداد و دبلوم الدراسات العليا في اللغة الإنكليزية .
أصدر مجموعة من الكتب النقدية في مجال نقد الشعر و السرد . في الوقت الحاضر يعمل كاتباً متفرغاً .