اللسانيات في خدمة الأدب
* أ. د. مجيد الماشطة
قبل الحديث عن هذه الخدمة، يجدر بنا تعريف هذين الحقلين. وبحكم الالفة بالأدب، فقد يبدو للقارئ الكريم أن الأدب أسهل تعريفا من اللسانيات، غير أن الواقع ليس كذلك.
أولاً: اللسانيات حقل معرفي حديث نسبيا يعتمد النقاد عادة سنة 1786 عام ميلاده. ويتمثل بالنظرة العلمية للغة وبالعمل على تخليص ما علق باللغة في سالف القرون من تصورات مخطوءة.
تذهب اللسانيات مثلاً إلى أن لا لغة في العالم أفضل لغويا من لغة أخرى... اللغة أصلا وسيلة تخاطب ولكل مجتمع الوسيلة الملائمة لواقعه، أي أن لغة كل مجتمع هي اللغة الأمثل لتخاطبه. هنا قد يسأل سائل: هل يعني هذا أن نضع الإنجليزية وهي أغنى لغات العالم حاليا في عدد المفردات في مستوى واحد مع لغة الاسكيمو الفقيرة جداً في عدد مفرداتها؟ أكان بإمكان شكسبير أن يكتب مسرحياته وشعره بالاسكيمو؟ أتصلح الاسكيمو أن تكون لغة العالم الأولى للتكنولوجيا اليوم؟ جواب اللسانيات هنا أن اللغات لا تقيم ولا تقارن بعدد مفرداتها، أن مفردات لغة الاسكيمو قليلة، لأن الناطقين بهذه اللغة لا يحتاجون إلى أكثر من قائمة المفردات الحالية لتعاملهم الاجتماعي والثقافي والاقتصادي... لنفرض أن مجتمع الاسكيمو أصبح في المستقبل أعلى مجتمع في العالم من النواحي الحضارية والعلمية والتكنولوجية، فسوف تتمدد قائمة المفردات في لغته تلقائيا لتستوعب كل المتطلبات وسوف تصبح لغته أغنى لغات العالم في عدد مفرداتها.
المثال الجلي الثاني مقارنة مفردات العربية اليوم بمفرداتها أيام كنا سادة العالم علما وأدبا. لقد انضمرت عشرات الالوف من مفردات لغتنا وتراجعت الاف غيرها في هذا العصر من الاستعمال اليومي إلى متون القواميس والمراجع لا لأن العربية نفسها تغيرت في تركيبها أو بنيتها بل لأن عدد مفردات اللغة يتحدد دائماً بالمستوى الحضاري للناطقين بها. وهذا استنتاج يحق للسانيات أن تنسبه لنفسها.
الوهم الثاني الذي استطاعت اللسانيات أن تبدده تدرج اللغات إما حسب جمالها أو حسب سهولة تعلمها. لقد مر على اللغات حين من الدهر كانت الفرنسية فيه (أجمل) اللغات! وكانت الألمانية تنعت بالخشونة واللغات الشرقية بالقبح! وجاءت اللسانيات لتثبت أن لا لغة في العالم أجمل من غيرها وان كل طفل أجمل أطفال العالم في عينيّ أمه.
وبخصوص السهولة والصعوبة، كانت الصينية تصنف أصعب اللغات تليها العربية! وأكدت اللسانيات أن لا لغة سهلة أوصعبة بحد ذاتها. كل ما يمكن قوله أن مستوى السهولة والصعوبة في تعلم لغة ما يتحدد عادة بمدى قربها من اللغة الأم أو مدى بعدها عنها. فاللغة الهولندية أسهل تعلما للمتكلم الإنجليزي منها للمتعلم العربي، في حين أن اللغة الكردية أسهل تعلما للمتعلم العربي منها للمتعلم الإنجليزي للسبب ذاته.
الوهم الثالث تقويم اللغات بموجب أنظمتها الكتابية ووصفها صوتيا وصرفيا ونحويا من خلال أدبياتها المكتوبة فقط. تذهب اللسانيات إلى أن قناة اللغة الرئيسة الكلام، وما الكتابة إلا تمثيل للكلام. الكلام لحم اللغة ودمها، والكتابة رداء الترف الذي ترتديه اللغة لاستكمال متطلباتها الحضارية لا اللغوية. بعبارة أخرى، لا يمكن لأية لغة طبيعية أن تحيى من دون قناة الكلام. أما الكتابة فبإمكان اللغة أن تحيى بها أو بدونها، إذ أن اللغة لغة سواء كان فيها نظام كتابي أم لم يكن. الدليل على ذلك أن عدد لغات العالم اليوم يربو على الستة آلاف لغة. معظم العالم إذن تخلو من أنظمة كتابية خاصة بها، وهذا عيب حضاري وليس عيبا لغويا.
وإذا ربطنا الوهم الثالث بالوهم الثاني أمكن القول أن الصينية قد صنفت في ما مضى أصعب لغة في العالم بسبب الخلط بين الصينية لغة والنظام الكتابي الصيني. اللغة نفسها ليست بشكل مجرد من غيرها، غير أن النظام الكتابي الصيني صعب فعلا بسبب كثرة رموزه.
نستخلص من كل هذا أن اللسانيات ظهرت لتنقية الدرس اللغوي الأوربي القديم مما علق به عبر هذه القرون الطويلة من وجهات نظر تفتقر إلى الموضوعية والدقة.
ثانياً: ننتقل الآن إلى الأدب. ما الأدب؟ من السهل ان نستذكر قول وردزورث انه "الاستثمار الفني للغة". من السهل أيضاً أن نردد ما قاله جابمان: "الأدب نتاج الأشخاص الذين يتحسسون لغة زمانهم بطريقة معينة والذين يستخدمون ما في اللغة من مهارة لكي يجعلوا تصورهم للحياة دائمياً... أنهم يتعاملون مع اللغة في أن يجعلوها سلسلة متميزة من الخبرات والتفسيرات".
هذان التعريفان براقان غير أنهما لا يحددان إلى أي مدى يجب أن يكون الاستثمار فنيا لكي يصنف أدبا ولا الطريقة المعينة التي يتحسس بها أولئك الأشخاص لغة زمانهم. فهل أن الأدب ما هو مكتوب وأن غير الأدب ما هو منطوق، إذ ليس كل ما هو مكتوب أدباً، والتمييز ليس واضحاً دائماً، وليس هناك حد فاصل بين ما هو أدب وما هو غير أدب".
العقدة التي تقض مضاجع النقاد المحدثين إذن: ما الحد الفاصل بين الأدب واللاأدب، أن كان هذا الحد موجودا؟ للإجابة على هذا السؤال، يقول جابمان: "هناك امتداد للتفوه اللغوي: في إحدى النهايتين نماذج للأدب غير قابلة للمناقشة. في الطرف الآخر حصيلة أكبر بكثير تفتقر إلى إجماع الآراء حول كونها أدباً".
قصائد المتنبي مثلاً غير قابلة للمناقشة، لهذا نضعها في النهاية الأولى للامتداد. لكن ماذا نضع في نهاية الطرف الآخر؟ يجيب فاولر بما يلي: "نضع مقابل الأدب الكلام الاعتيادي وحديث الأنواء الجوية والمقالات الصحفية ونشرات الأخبار. ان قلنا انها ليست أدباً فليس معنى هذا انها الاستعمال اليومي للغة. كما أنها ليست نقاط تماس، ولن يجدي أن نستعيض عن التمييز الثنائي بتمييز متدرج، مع الإقرار أن التمييز المتدرج، أي الامتداد، سيضع بعض الحالات على نقط التماس... إذ لا يمكن وضع تدرج نصي من دون اعتماد معيار معين. قد نضع الأدب في قمة المقياس المتدرج، لكن ماذا نضع في القعر: الأدب السيء أم اللاأدب؟
يتفق سابورتا مع فاولر في أن الامتداد المتدرج اسلم من التمييز الثنائي التقليدي: "بدلاً من التمييز الثنائي التقليدي، من المفيد ان نسلسل النصوص عبر تمييز متدرج يعتمد أكثر من درجتين للتصنيف".
وسواء قبلنا التصنيف الثنائي أو بالتصنيف المتدرج، فلن يزودنا ذلك بحد ذاته بالمعيار المطلوب للتصنيف. ماذا نعتمد في التصنيف: النص أم الشكل؟ تقول الناقدة الإنجليزية نووتني: "الفرق بين الأدب واللاأدب أن لغة الأدب أكثر انتظاماً"، بينما يقول فاولر: "أن لغة الحديث اليومي هي الأكثر انتظاما وأن للأدب ميزة كسر القوانين ومخالفة ما هو مؤلوف لغوياً".
والواقع فلهذا الاختلاف جذوره عند كبار الشعراء الإنجليز، إذ يقف غري مع الرأي الأول فيقول: "لا يمكن أن تكون لغة الحياة لغة الشعر"، في حين يذهب وردزورث أن الشعر يجب أن "يكتب عن طريق انتقاء اللغة التي يستعملها الناس". ويطرح فاولر رأيا ثالثا: "التمييز بين ما هو أدب وما هو غير أدب نصي أكثر مما هو شكلي".
وبسبب هذه المتاهات التي يضيع المرء فيها عند تعريفه للأدب، لجأ البعض إلى فرز الأدب عن اللاأدب عبر عدد من المزايا التي يتصف الأدب بها، ومنها:
أ- الإطار الذي يختاره الكاتب لحديثه. يقول جابمان: "يختار الكاتب طريقة معينة لتنظيم ما يريد أن يقوله حول مسألة ما من خلال وحدة اختارها آخرون قبله يسميها النقاد بالصنف الأدبي genre، فنقول اختار هذا الكاتب أن يكون روائياً واختار ذلك الأديب أن يكون شاعراً أو كاتب مسرحية... قد تتداخل الأصناف وقد يختار الكاتب صنفا ما اليوم وصنفا ثانيا غداً. المهم في الأمر أننا نعتبر نصاً ما أدباً عندما يمكننا أن نصنفه شعرا أو مسرحية أو رواية أو قصة أو مقالة... وهذا ما لا ينطبق في المقالة الافتتاحية في صحيفة يومية ولا وصف تجربة مختبرية".
ب- الخيال: للتفوه اللغوي ذي الخيال سمة خارج المعنى الاشاري للكلمات. بعبارة أخرى يتميز الأدب بتفننه بالابتعاد عن المعنى القاموسي المباشر للكلمات والعبارات وبتهيئة الفرصة للقارئ للتمعن بما يمكن خلف جمل النص.
ت- النمذجة: يتصف الأدب بما يسمى بالنموذج. يقول فاولر: "يظهر النص انتقاء وتنظيما يسهم في التأثير ويظهر الشعر نمذجة كالبحر والقافية وتناسق الحروف أكثر ما يظهر النثر. وتعطي الصيغ البلاغية أهمية خاصة لفقرات معينة. بهذا يتميز الأدب باستعمال وسائل معينة تصعد التأثير الموجود في الحدث اللغوي عن طريق النمذجة. "يبدو أن هذه المعايير الثلاثة خير ما يميز الأدب عن اللاأدب وهي بالتالي خير ما يعرف الأدب.
ثالثاً: انتقل الآن إلى ما يمكن أن تقدمه اللسانيات إلى الأدب وكيف نستفيد من المعطيات اللسانية في تطوير تحليلنا للأدب، على الرغم من طابع الحذر الذي يبدو جليا على وجه الأدب عندما تمد اللسانيات يدها لتصافحه! يقول جابمان: "لا يزال هناك عدم ارتياح عام من اللسانيات عندما تتعامل مع الأدب، إذ أنه يعدها علمية أكثر مما يجب، فلا يرتاح الأدباء إلى أشكالها الرياضية ولا رفضها للمعيارية. مع ذلك فهذا بالضبط ما يحتاج النقد الأدبي إليه لإدامة حيويته".
تنطلق اللسانيات من حقيقة أن الأدب يتعامل أولاً وأخيراً باللغة، الأمر الذي يسوغ لها اسداء النصح له. يقول فرانك بالمر: "الأدب ليس أقل لغة من الكلام اليومي، وهو بهذا موضوع ملائم للفحص اللساني. "تبدأ اللسانيات بتحديد سمات اللغة الأدبية، تماما كما تفعل عندما تتعامل مع اللغة القانونية واللغة الاقتصادية واللغة الدينية. تسمى هذه اللغات المختلفة، بعبارة أدق، الصيغ اللغوية المختلفة، بالأساليب.
الأسلوب مجمل الصفات التي تتسم بها صيغة لغوية معينة. أما الأسلوبية فتعني دراسة الأساليب. يقول فاولر: "لا تنحصر الأسلوبية بالأدب، الأدب ليس أسلوباً غير أن للأدب أسلوبه الذي يمكن تحديده". ويقول هال: "الأسلوبية حصيلة الاختيارات التي تعرضها اللغة للفرد في كل جانب من جوانب الجملة. "ويقول فاولر: "الأسلوبية فرع من اللسانيات مهتم بالتعامل مع التغيرات في نص بأكمله".
العبارة الأخيرة من هذا التعريف مهمة لأنها ترسم أولاً الفارق بين الأسلوبية واللسانيات. يقول سابورتا في توضيحه لهذا الفارق: "بينما تكون الجملة الوحدة الكبرى في اللسانيات، فإن وحدة أكبر، النص، هي الأساس في التحليل الأسلوبي"، ولأنها تؤكد ثانيا ضرورة التعامل مع النص وحدة متكاملة. يقول فاولر: "الوحدة الرئيسة للوصف الأسلوبي نص كامل بوصفه وحدة متكاملة وليس مجموعة جمل متفرقة. أن تحليل بنية الجملة وبنية الوحدات الأصغر من الجملة أساس ضروري للأسلوبية، غير أن البنية القواعدية يجب أن ينظر إليها عبر علائقها بالنص ككل وبالمكونات الآخر للنص وليس فقط عبر علائقها بالبنية التي يمكن مقارنتها بها في نصوص آخر في تلك اللغة بشكل عام. "ويقول هوكت أيضاً: "القصيدة مصطلح طويل... أنها تفوه ذو معنى متكامل وليس مجرد حصيلة لتجميع معاني أجزائه المتفرقة. "وبالمعنى نفسه يقول تدهجز: "القصيدة تجميع لأجزاء حية تحركها روح واحدة... الأجزاء الحية الكلمات والصور والقوافي، الروح هي الحياة التي تسري في هذه الأجزاء عندما تعمل سوية. من المستحيل تحديد أيهما جاء أولاً: الأجزاء أم الروح".
بهذا التأكيد على كلية النص يتعامل اللساني في معالجته للأسلوبية مع ثلاثة مستويات للنص: الصوت والنحو المفردات، عن طريق التمييز بين السمات الثابتة والسمات المتغيرة للنص. يقول ستانيكفكس: "تشكل كل قصيدة ضربا محدداً مؤلفاً من عناصر ثابتة، في حين تؤلف القاءاتها المتعددة أشكالها المتنوعة... القصيدة بعبارة أخرى رسالة منظمة تتردد عناصرها في كل أداء وتشكل دراسة هذه العناصر فن التقطيع، في حين تشكل دراسة التنويع في قراءتها فن الإلقاء. الفرق بين هذين الجانبين يشبه الفرق بين النظام الصوتي وعلم الصوت".
والواقع المطلوب من اللساني أن يحدد السمات الثابتة وأن يميزها من السمات المتغيرة في كل من هذه المستويات الثلاثة. المقصود بالسمات الثابتة تلك القوانين اللغوية التي تجعل التعامل بلغة ما ممكنة. من السمات الصوتية الثابتة مثلاً القانون الذي لا يسمح بالبدء بالساكن في العربية الفصحى، ومن السمات النحوية الثابتة وجوب حذف فاعل فعل الأمر المفرد المذكر. ويمكن التمثيل للسمات المتغيرة بجواز التقديم والتأخير أحياناً: إياك نعبد/ نعبدك. أما المفردات وكما يقول فاولر "ففيها الحد الأدنى من السمات الثابتة وفيها الحد الأعلى من الحرية".
إن مقارنة السمات الأسلوبية لنصين أو أكثر فعالية ثانوية في أهميتها وتنتفى الفائدة العملية منها أن لم تجر المقارنة وفق معايير محددة سلفا. يقول فاولر: "يهتم الأسلوبي عادة بنص معين بحد ذاته، غير أن نتائج تحليل هذا النص قد تقارن بنتائج تحليل نص آخر على أن يجري التحليلان وفق أسس متشابهة".
وتحدد القيم البلاغية ما بمدى ابتعادها أو انحرافها عن الاستعمال المألوف للغة، غير أن معيار الابتعاد قد يؤدي إلى انطباعات مخطوءة. يقول فاولر: "إن الاعتماد الكلي على فكرة الانحراف عن المألوف قد يقودنا إلى وجهة النظر الخاطئة أن الشعر لغة الانحراف عن المألوف، في حين انه في الواقع اللغة ككل".
رابعاً- مثال تطبيقي: تكثف اللسانيات جهودها التطبيقية على الرواية دون غيرها من الأصناف الأدبية، وذلك بمعاملة النص معاملة الجملة، أي تطبيق التحليل اللساني للجملة في النص الروائي.
أما لماذا الرواية بالذات، فلأن الرواية الآن الصيغة الأدبية الرئيسة الأكثر تداولاً، ولأن الرواية ظهرت في وقت توطدت فيه العديد من النظريات النقدية الأوربية. فقد ظهرت للمرة الأولى في الإنجليزية عندما نشر ريتشاردسن روايته (باملا) عام 1740 بشكل مجموعة رسائل غرامية، وكان على الرواية أن تحبو لمدة طويلة قبل أن تتمكن من الوقوف على قدميها ومنافسة الشعر والمسرحية اللذين قولبا النظرية النقدية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، الأمر الذي أحال النقد الروائي خلالهما بدائيا مقارنة بالنقدين الشعري والمسرحي، واضطره إلى قبول المعونة من النقد الأدبي ومن خارج النقد الأدبي. انطلق النقد الروائي من حقيقة أن المادة الخام للرواية اللغة. يقول لوج: "اللغة واسطة الروائي، وكل ما يفعله انما يفعله عن طريق اللغة وبوساطة اللغة".
من هنا ارتأى نقاد الرواية استثمار التحليل اللساني للغة. يقول فاولر: "من الطبيعي والمستحسن اخضاع لغة الرواية لعمليات ومصطلحات التحليل اللساني التي تبدو مناسبة لوظيفة النقد. "ثم يقول: "تتجلى رجاحة هذا التطبيق إذا نظرنا إلى اللسانيات لا مجرد وسيلة للتحليل الشكلي القادرة فقط على تتبع إطار النص ومستويات النص، بل صيغة تحليل نشتق منها التفسيرات للشكل البنيوي. "يقصد فاولر بهذا أن المطلوب الاستعانة باللسانيات التي تعالج الجوانب الاجتماعية والنفسية للغة، فيقول: "بإمكاننا أن نبدأ بالبنى اللغوية للكاتب ونحدد مدى ترابطها بقيم واهتمامات المجتمع الذي يكتب له".
يحاول هذا المدخل اللساني أن يحلل النص الروائي بالطريقة التي يحلل بها اللساني الجملة. فكما أن للجملة مثلا بنية سطحية وبنية عميقة، يمكن أن يحوي النص الروائي بنية سطحية وبنية عميقة. البنية السطحية المستوى التعبيري القابل للملاحظة المباشرة والمؤلف من الوحدات الصوتية. أما البنية العميقة فهي الفحوى المجرد للجملة أو ما تعبر عنه البنية السطحية.
يتلخص التمييز بين البنيتين السطحية والعميقة كما يراه اللسانيون، التحويليون بالذات، في أن الجملة تمر في الدماغ بعدة مراحل قبل انضاجها. فهي تبدأ مادة أولية تصبح بعد إجراء بعض التغييرات عليها بنية عميقة. ثم تمر البنية العميقة ببعض التحويلات (من هنا جاء اسم النحو التحويلي) لكي تصبح بنية سطحية. بعدها تجري بعض التغييرات على البنية السطحية لكي تصبح جملة بشكلها النهائي.
من خواص البنية السطحية الاستواء أو التسلسل الذي يحدد بشكل مباشر أو غير مباشر الزمن الروائي. ويورد فاولر هذا المثال من همنغواي للتدليل على الاستواء:
جاء مسرعا وانحنى على الفراش قبلني. رأيت انه يلبس قفازا أن وضع الجملة الأولى بهذا الشكل يوحي بتسلسل الأحداث فيها: المجيء ثم الانحناء ثم التقبيل. أما الرؤية في الجملة الثانية فليست تسلسلاً رابعاً: رأت المتحدثة أنه يلبس قفازا في أثناء تقبيله لها، وهذا أمر تتضمنه البنية السطحية من دون أن تصرح به. أنها توحي به، علما انه موجود في البنية العميقة.
تتألف البنية العميقة من عدد من المكونات من بينها الفرضية والمزاجية. تشير الفرضية إلى بعض الظواهر الموجودة خارج اللغة وتضفي عليها بعض الخواص. واقتبس هنا مثال فاولر نفسه: الكلب ينبح.
تشير هذه الجملة إلى اسم أو إلى شيء موجود خارج الخبرة اللغوية (الكلب) وإلى خاصية أو فعالية تضفى عليه (النباح) ويمكن تسمية هذه الخاصية بالخبر. تتألف الفرضية إذن من اسم وخبر، وتشكل العلاقة بين الاسم والخبر، كما يقول فاولر "المحور الدلالي للفرضية ولهذه العلاقة أهمية خاصة في كل من علم الدلالة والتحليل الروائي".
أما المزاجية فتختص كما يقول فاولر "بكل الجوانب الحوارية المتعلقة بموقف المتحدث أو الكاتب من الحدث".
قد تتضمن المزاجية أن الكتاب يقصد بها حقيقة عامة: كل الكلاب تنبح. وقد يقصد بها كلباً معيناً ينبح في وقت معين: جوني ينبح في الخامسة من صباح كل يوم. وقد يكون ذلك جزاء من حوار متسلسل: يخرج صاحب الدار، يدخل اللص، ينبح الكلب، يهرب اللص....
بهذا الشكل، والحديث لفاولر، ترتبط المزاجية ارتباطا وثيقا بالسرد الروائي ويكتسب التحليل الفرضي أهمية كبرى في انه كما يقول فاولر "يشكل جوهر الفحوى الإدراكي الذي يبنى عليه المعنى بشكل عام".
هذا مثال مكثف للتطبيق اللساني في ميدان النقد الروائي، وهو يكفي للتدليل على أهمية هذا التطبيق وعلى ضرورة توثيق الصلة بين اللسانيات والرواية بشكل خاص وبين اللسانيات والأدب بشكل عام.
www.balagh.com