مجلة علوم انسانية www.ulum.nlالسنة الرابعة: العدد 30: ايلول (سبتمبر) 2006 - 4th Year: Issue 30, Sep:
النداء بين الوصف والتفسير
أ. مبارك تريكي
أستاذ مساعد بقسم اللغة العربية وآدابها- المركز الجامعي الدكتور يحيى فارس المدية الجزائر
ملخص :
تهدف هده المقاربة التو صيفية التحليلية إلى كشف المنهج الذي اتبعه النحاة الأقدمون في معالجتهم للبنية الندائية(أسلوب النداء)ثم التعريج على منهج الدارسين المحدثين أيضا،حيث وجدت المقالة أن النحاة الأقدمين قد اعتمدوا المنهج المعياري الذي وجدوا فيه الإطار الأمثل لتوصيف هده البنية،ووجدت المحدثين قد انقسموا قسمين:قسم منهم كان وفيا لمنهج القدماء وهم الموسومون بالمعياريين،وقسم آخر وهم الموسومون بالوصفيين انقسموا في توصيفهم لها بين قائل إنها شبه جملة،وقائل إنها جملة غير إسنادية،وقائل ثالث أنها إنجاز لغوي وكفى،وخلصت المقالة إلى الانتصار لمنهج القدماء لجديته.
النداء بين الوصف والتفسير
توطئة: اعتنى علماؤنا القدماء بلغتهم عناية فائقة، خاصة انهم كانوا مدفوعين إلى ذلك بدافعين اثنين: أحدهما ديني و الآخر قومي، و هما و لا شك دافعان قويان ما تمسكت بهما أية أمة من الأمم و وظفتهما في أي مجال من المجالات الا و حققت نجاحات باهرة، وهو الأمر الذي تجسد عند علمائنا ، إذا تمكنوا و في وقت وجيز من بناء نظرية لسانية تتسم بالحداثة ،بحيث لم تستطع اللسانيات الحديثة تجاوزها أو تجاوز الكثير من مفاهيمها.
فلقد وصف اللغويون العرب القدماء الظواهر اللغوية، صوتيا، و صرفيا، و نحويا، ودلاليا في إطار زماني و مكاني محددين بصرامة، و على هذا الرصد وصفوا اللغة، واستنتجوا القواعد العامة لها. و قد مكنهم منهجهم الوصفي هذا من ملاحظة التركيب اللغوي، من حيث سلامته النحوية و استقامته الدلالية و بنوا على كل ذلك نظرية نحوية عامة اتصفت بالدقة والشمول، و حين صادفتهم ظواهر تركيبية تتجاوز المنهج الوصفي إلى التحليل و التفسير استعانوا بالمنهج التحليلي التفسيري، فحللوا وعللوا، و فسروا تلك الظواهر، فكان أن قدروا وحذفوا و أضافوا حرصا منهم على تقديم نظرية نحوية متكاملة، و من هنا كانت معالجتهم للتركيب الندائي ،حيث لاحظوا أن التركيب في العربية أما أن يكون إسناد يا.و أما غير ذلك كالتراكيب الإضافية، و الوصفية، و والمزجية، و لما لاحظوا أن التركيب الندائي يبعد في مظهره عن التراكيب غير الإسنادية ، قدروا له الإسناد المضمر تساوقا مع القاعدة العامة للجمل.
النداء في الدراسات اللسانية العربية:
النداء باعتباره وحدة قاعدية في الخطاب الشفهي و الكتابي له أهمية بالغة، و أهميته تكمن في كونه البنية الخطابية الأكثر دورانا على الألسنة و الأقلام، لما تتمتع به هذه البنية من قدرة على التعبير عن مختلف الأغراض، و المشاعر الإنسانية، فالنداء هو الطريقة المثلى بصيغه الظاهرة و المحذوفة، و إشكاله المختلفة، و أساليبه المتنوعة للتعبير عن الغرض حين تقصر الوسائل الأخرى، من إشارة ،و إيماءة، و حركة، و غمزة، و بسمة، فقد يلجأ إليه المنبه، و الداعي، و المتضجر، و الشاكي و المتوعد. لذلك وجدنا النداء أهم البنى الخطابية تداولا من قبل اللسانيين ،فقد درس صوتيا ،و صرفيا، و نحويا ،و بلاغيا ،و دلاليا . ولئن لم تظهر الدراسة بجلاء إلا على المستوى النحوي ،و البلاغي، فإن ذلك يعود في نظري إلى التطور الدرسين النحوي و البلاغي مقارنة بغيرهما من الفروع اللسانية الأخرى.
النداء و قدماء النحاة
ذكرت سابقا أن للنداء أهمية بالغة في المنظومة اللغوية العربية ،و بينت أن أهميته تكمن في الدور الذي يؤديه في الحياة البشرية، و وظيفته في التواصل بينهم ،و إذا كان معلوما أن التواصل لا يتم إلا استنادا إلى تخاطب ، فان النداء أبرز أدوات هذا التخاطب ،لأنه يجسد دورة التخاطب، حيث يتوافر على مخاطب بكسر الطاء (منادي)و مخاطب بفتح الطاء (منادى) ورسالة، و لما كان النداء خطابا ،تنوعت أغراضه بحسب صدوره و توجيهه، فهو قد يصدر من اسفل إلى أعلى ،أو من أعلى إلى اسفل ،أو من مخاطبين متساويين، كما قد يكون المنادى حقيقيا و قد يكون مجازيا ،و هو في كل هذا تتغير أشكاله ،و أغراضه ، الأمر الذي جعل النحاة يدرسونه دراسة تشريح ،و تعليل لإبراز وظيفته داخل الخطاب ،و من هنا كان النداء موضوعا من الموضوعات النحوية المهمة ، حيث إن من يتصفح المصادر النحوية يجدها تخصص له حيزا كبيرا في طياتها، فمن يرم المصادر النحوية يجدها تزخر بكم هائل من أقوال أوائل النحاة عن النداء بصرييهم، وكوفييهم[i] ، فنجد أقوالا لعيسى بن عمر الثقفي، و لأبى عمر و بن العلاء، و الخليل بن احمد الفراهيدي الذي تكثر أقواله في الكتاب حتى كأنه يعتبر هو المشيد لقواعد النداء، ثم سيبويه الذي لا نجده يكتفي بذكر أقوال هؤلاء النحاة في كتابه، بل يدعمها بآرائه، وتحليلاته، ثم يونس بن حبيب الذي ينقل آراءه سيبويه في الكتاب، ثم الكسائي الكوفي الذي تتناثر أقوال له عن النداء، ثم قطرب الذي احتفظت الكتب المتأخرة ببعض أقواله في النداء، ثم الفراء الذي كانت له آراء منفردة في النداء موجودة في كتبه، ثم الأخفش البصري الذي تناثر أقواله و آراؤه أيضا في النداء، ثم الجرمي الذي حفظت له المصادر أقوالا في النداء منها اختياره النصب لتابع المنادى المعطوف المقرون بأل، ثم المازني الذي اشتهر بآراء له في النداء خالف فيها سيبويه، على أن معظم هذه الآراء خاصةالبصرية منها وجدناها في الكتاب لسيبويه الذي نعتقد أن قواعد النداء قد اكتملت على يديه، فلم يترك للمتأخرين غير ترتيب العناوين والأبواب.
إذن فأسلوب النداء لم يكن غائبا عن أوائل النحاة بصرييهم وكوفييهم ، وهذا دليل على مكانته وأهميته في العملية التخاطبية التواصلية.
موقعه في مدرستي البصرة و الكوفة
كنت قد قلت سابقا أن النداء اعظم باب نحوي في المنظومة اللغوية العربية، واستدللت على هذا الأمر بحاجة المتكلمين إليه حين تقصر الوسائل الأخرى ،و بكثرة الدراسات التي أقيمت حوله ،حيث إننا لا نجد كتابا ذا أهمية في النحو و البلاغة، و علوم اللسان إلا و كان للنداء فيه حضور، زيادة على سعة الدراسة و تشعبها ، حيث تخصص له عشرات الصفحات، وهو أمر كاف في نظري للدلالة على أهميته في المنظومة اللغوية، و نزيد الأمر استدلالا حين وجدناه يستحوذ على نسبة معتبرة من مسائل الخلاف القائمة بين علماء البصرة و علماء الكوفة، حيث وجدنا ألا نباري يخصص له ثمان مسائل من مجموع 121 مسألة أحصاها في كتابه الإنصاف في مسائل الخلاف (2 ) فلو لم يكن النداء على أهمية بالغة لما انشغل به النحاة هذا الانشغال و لما تعمق الخلاف بينهم إلى هذه الدرجة ثم إن هذا الخلاف في النداء لا ينحصر في تلك المسائل الثمان، بل يتعداه إلى وجود الخلاف حتى يبين نحاة المدرسة الواحدة ، حيث أن البحث في المصادر النحوية يؤدي بنا إلى تسجيل عدد من الآراء تضاربت فيما بينها ، لنحاة بصريين، و كوفيين على إننا نكتفي هنا بالمسائل المحصورة في الإنصاف، ابتداء من المسألة الخامسة و الأربعين إلى المسألة الثانية و الخمسين حسب ترتيبها بهدف تحديد موقعه في المدرستين على أن يكون هذا باختصار.
و أولاها القول: في المنادى المفرد معرب أم مبني: و خلاصتها أن الكوفيين قالوا برفعه بغير تنوين إلا الفراء ،فإنه ذهب إلى القول ببنائه، أما البصريون فقالوا ببنائه على الضم في محل نصب و لكل فريق حججه.
ثانيها القول في نداء.الاسم المحلى بأل : و خلاصتها أن الكوفيين قالوا بالجواز و البصريين قالوا بالمنع و لكل فريق حججه و شواهده.
ثالثها: القول في الميم في اللهم أعوض من حرف النداء أم لا: و خلاصتها أن البصريين يقولون بأنها عوض و الكوفيين يمنعون ذلك و لكل منهما حججه أيضا.
رابعها: القول هل يجوز ترخيم المضاف إليه بحذف آخر المضاف إليه :و خلاصتها أن الكوفيين يقولون بالجواز و البصريين يقولون بالمنع و لكل حججه
خامسها: القول هل يجوز ترخيم الاسم الثلاثي: و خلاصتها أن الكوفيين يقولون بالجواز والبصريين يقولون بالمنع و لكل تعليلاته.
سادسها: القول في ترخيم الرباعي الذي ثالثه ساكن: و خلاصتها أن الكوفيين يقولون أن الترخيم يكون بحذف الرابع الساكن و حذف الحرف الأخير و البصريين يقولون بحذف الأخير فقط.
سابعها: القول في ندبة النكرة و الأسماء الموصولة: و خلاصتها أن الكوفيين يقولون بجواز ندبة النكرة و الأسماء الموصولة والبصريين يقولون بالمنع.
ثامنها: القول هل يجوز إلقاء علامة الندبة على الصفة :و خلاصتها أن الكوفيين يقولون بالجواز و ساندهم يونس بن حبيب البصري و البصريين يقولون بالمنع و لكل فريق حججه.
معالجتهم للنداء: كانت معالجتهم للنداء شاملة كاملة ،شملت كل جوانبه .
التعريف اللغوي:اتفق جمهور النحويين بصرييهم و كوفييهم على أن النداء في اللغة هو مصدر الفعل نادى ينادى بمعنى الصوت و الدعاء وتكسر نون النداء و تضم (3) ، و قد نعدم التعريف اللغوي هدا عند سيبويه.
التعريف الاصطلاحي: لم نجد معشر النحويين متفقين في تعريفهم للنداء اصطلاحا فقد كانت تعاريفهم تابعة لمنطلقاتهم النظرية، فمن نظر إليه وظيفيا كان هذا منطلقه، فعرفه وظيفيا، فقال عنه.هو دعوة المخاطب الإقبال، ومن نظر إليه إعرابيا، أي إلى أحواله كان هدا منطلقه فعرفه انطلاقا من موقعه الأعرابي، و لعل هذا التعريف نجده عند سيبويه الذي يقول عنه اعلم (أن النداء كل اسم.مضاف فيه فهو نصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره، و المفرد رفع وهو في موضع اسم منصوب ).( 4)
حروفه: الحروف التي ينبه بها المنادى و التي هي ركن مذكور أو ملحوظ ثمانية عند المتأخرين و هي الهمزة بنوعيها المقصورة والممدودة، أي، أي،يا،أيا،هيا،وا. (5 )على أن ('يا) هي أم الباب عندهم
استعمالها: بعضها.يستعمل للقريب،وبعضها للبعيد و تتبادل المنازل حسب القرب و البعد و قد ينزل القريب منزلة البعيد و العكس.لأغراض بلاغية
حذفها: تتعرض للحذف وهدا يقصر على (يا)دون غيرها، و تقدر عند الحذف و حدها و هناك مواضع يمتنع فيها الحذف، مفصلة في كتبهم، ومواضع يقل فيها الحذف ، و مواضع يجوز فيها الحذف( 6.)
أنواع المنادى و أحكامها: يقسم النحاة المنادى إلى أقسام بحسب النظر إليه، فهو من حيث البناء و الإعراب قسمان(7) : مبني و يضم العلم، و النكرة المقصودة، و معرب، و يضم المضاف والشبيه به، و النكرة غير المقصودة.
و يقسم من حيث نوع المنادى إلى قسمين : حقيقي و مجازي
حذف المنادى: أجاز أغلبية النحاة حذف المنادى و أنكره بعضهم و لكل حججه (8 )
تابع المنادى: لم يقف النحاة في معالجتهم للنداء عند التركيب الندائي ،بل تجاوزوه إلى دراسة ما يتبعه، لما لهذا التابع من علاقة و طيدة به، و فصلوا أحكامه ،و هي موجودة في كتبهم.(9 )
كما تتبعوا الحالات التي يخرج إليها النداء، و هي المعروفة بالاستغاثة ،و الندبة والتعجب(10،وما يتعرض له المنادى من حذف و هو الترخيم، و خلاصة القول انهم فحصوا التركيب الندائي فحصا دقيقا شاملا كاملا ،و تمكنوا من تقديم دراسة وافية حوله، فما المنهج الذي سلكوه في مفاهيمهم هذه؟
منهجهم: لعل منهج المعالجة عند القدماء هي إحدى غايتنا من هده المقالة، إذ لانعنى في مقالتنا هده بالتعليلات، والتفسيرات، وسرد القواعد بقدر ما نعنى بالمنهج الذي سلكوه، والدي مكنهم من تقديم قواعد للنداء مكتملة استقرت كما هي إلى اليوم ،فإذا كان معروفا اليوم أن الدراسات اللغوية يسيطر عليها منهجان اثنان هما المنهج الوصفي الذي ينظر للغة كواقع، لاكافتراض، ولايخرج عن الواقع اللغوي أبدا، والدي يوصف بالمنهج العلمي من قبل اتباعه ، ثم المنهج التحويلي التوليدي الذي يلجا إلى التقدير، والافتراض، حيث يتأسس على أهم ركن من أركانه ،هو افتراض معرفة القواعد ضمنيا عند الإنسان، إذا كان هدا هكذا فما هو المنهج الذي سلكه علماؤنا القدماء في دراستهم للظواهر اللغوية عموما،والنداء على الخصوص
.لا يعدم من يستنطق تراثنا النحوي في مرحلته الأولى الوصف أو بتعبير اللسانيين المحدثين المنهج الوصفي فلقد عرف علماؤنا هدا المنهج ومارسوه في دراستهم للغة، في مستواها ألإفرادي والتركيبي، فلقد وصفوا الصوت اللغوي ،وحددوا صفات الحروف ومخارجها بدقة وصفية متناهية ،كما وصفوا الظواهر التركيبية.ومن يرم المصادر النحوية الأولى يجدها تزخر بالأقوال المنقولة عن العرب الموثوق بعربيتهم والتي تثبت أن نحاتنا قد اتبعوا المنهج الوصفي بصرامة وعلى ضوئه صنفوا الظواهر اللغوية ولدلك صح في نظرنا قول الباحث سليمان حمودة (وربما كان من الصواب إن نفترض أن الأصل عند سيبويه هو الوصف) (11)،ولعل من ملامح المنهج الوصفي عند سيبويه أقواله التي تتكرر في الكتاب :هدا باب استكرهه النحويون،وهو قبيح،فوضعوا الكلام فيه على غير ما وضعت العرب،وشبيه بهذا أيضا تقبيحه أقوال النحاة عندما تتعارض مع الاستعمال،وفي الكتاب الكثير من النصوص تدل على أن سيبويه يقدم ما يقوله الناس على ما يقوله النحاة إذا كان بين القولين اختلاف،ولا شك أن الأخذ بالاستعمال وعدم الالتفات إلى معايير النحاة إذا خالفت الاستعمال هو المنهج الوصفي الذي يصف اللغة كما هي،لاكما وضعتها المعايير والقواعد وغير من الأقوال التي تؤكد أصالة المنهج الوصفي عند سيبويه،وهو ما أكده سليمان حمودة بقولهوالذي نظنه أن سيبويه كان مدركا المنهج الوصفي،لا من حيث اسمه،أو من حيث هو اصطلاح،بل انه كان مدركا إياه من حيث كنهه وكيانه)(12) ثم أن من يعد إلى الكتاب يجد سيبويه كثيرا ما ينقل كلام العرب فيقول حدثني مناثق به،أو من يوثق بعربيته( 13)هذا من جهة،ومن جهة أخرى فان كتب التاريخ النحوي تذكر أن الكثير من علمائنا تنقل إلى البادية،وشافه الإعراب،ونقل عنهم،وان بعضهم قد أفنى كدا قنينة حبر في الكتابة عنهم،ثم من يتتبع كتب التاريخ النحوي أيضا يجدها تنص على أن العلماء قد جمعوا المادة اللغوية،ثم صنفوها،ثم استقراوها،ثم استنبطوا منها القواعد النحوية،وهي أعمال لاتخلو من الوصف في أعلى صوره،بل هي قمة المنهج الوصفي،ادن لقد مارس نحاتنا الأوائل المنهج الوصفي ، وهو الذي مكنهم من ضبط الظواهر اللغوية، وتحديدها ،وتصنيفها ،وبفضله استطاعوا تبويب القواعد النحوية ،إذ وضعوا كل المتشابهات في باب واحد، كان وأخواتها وكان وأخواتها ،وباب المرفوعات، وباب المنصوبات .أما في المجال التركيبي فقد مكنهم منهجهم الوصفي من وصف الظواهر التركيبية، و ضبطها ،وتصنيفها فوجدوا أن بعضها ذو إسناد، وبعضها الآخر غير ذي إسناد،ثم قسموا التركيب الإسناد إلى قسمين: تركيب فعلي أي جملة فعلية، وهو ما كان فيه المسند فعلا وتركيب اسمي أي جملة اسمية، وهو ما كان فيه المسند اسما، ولما وجدوا ظواهر تركيبية خالفت في ظاهرها ما صنفوه ،إذ لم تبدأ بفعل فتصنف ضمن الجمل الفعلية، كما لم تبدأ باسم فتصنف ضمن الجمل الاسمية، عمدوا إلى تقدير محذوف ،فانتقلوا بدلك من الوصف إلي التعليل، والتفسير، ولم يكن هدا الأمر منهم اعتباطيا، بل كان مبنيا على أسس صحيحة سليمة وهي الأسس التي اعتمدعليها النحاة في تحليلهم للجملة وهي.14
1_التعويل على المعنى
2_الربط بين المعنى الصحيح وصحة الشكل
3_مراعاة الضغوط الممارسة على تحديد ظهور الكلمات متجاورة
4_ تقدير الأصل في التركيب
وهي الأسس التي نرى أن النحاة قد عولوا عليها في تحليلهم للتراكيب اللغوية ،إذ من المعايير التي اعتمد عليها النحويون في تحديد مفهوم الجملة ،أو التركيب ، أو الكلام معيار الفائدة أو حسن السكوت ، والنداء تركيب مفيد لمعنى لا ينكر هدا احد من النحويين، كما عولوا على معيار صحة الشكل وسلامة المعنى، وهو أمر ليس بعيدا أيضا في النداء ،ولعله كان دافعا لهم لكي يقدروا له فعلا وفاعلا، لتحقيق السلامة الشكلية ما دام انه يحقق السلامة ألا بلاغية وإذا أعربنا المنادى مفعولا به منصوبا لفعل محذوف لم يفسد المعنى، ولا يفسد الشكل أيضا أما المعيار الثالث، وهو مراعاة الضغوط الممارسة على تحديد ظهور الكلمات متجاورة ،فانه ليس بعيدا في التركيب الندائي ، ومن ثم يمكن الاهتداء به، دلك أن استقامة الشكل تفرض ضبط أواخر الكلمات بالعلامات المناسبة التي توحي بالمعنى الوظيفي للكلمة ،وعليه فان ظهور الفتحة في المنادى خاصة المضاف، والشبيه به ،والنكرة غير المقصودة ينبئ بمفعوليتها، أما المعيار الرابع، فلعله آلائهم هنا دلك أن النداء ،وكما يقرر النحاة تركيب إسنادي حذف منه المسند والمسند إليه ،وبقي ما يدل عليهما ،وهو الفضلة (المنادى) إذ الفضلة لا تكون إلا بعد الأساس أي عنصري الإسناد، ادن لقد أدرك النحاة أن خلف التركيب الندائي الظاهر تركيب باطني، يتحدد من خلاله المعنى الوظيفي لعناصر التركيب .أن نحاتنا القدماء وكما بينا سابقا قد مارسوا الوصف واعتمدوا عليه في ضبط الظواهر اللغوية وتصنيفها وتبويبها ،ولما صادفتهم بعض الظواهر التركيبية كظاهرة النداء التي عجز الوصف عن أن يصنفها ،ويبوبها لجأوا إلى المنهج التعليلي التفسيري المبني على الافتراض والتقدير والتأويل ،فافترضوا وقدروا بعض العناصر اللغوية مساوقة للقاعدة النحوية العامة لتبويب الجمل ،وهدا من باب حمل الفرع على الأصل ،فهم حددوا اصل الجملة الفعلية وقالبها، واصل الجملة الاسمية، وقالبها ،ولما حللوا النداء وجدوا انه يتكون في الظاهر من حرف واسم وهما لايمكن لهما أن يؤلفا كلاما أي تركيبا،مما يجعل الاستقامة الشكلية منعدمة ،لكن من حيث المعنى وجدوا أن النداء تركيب مفيد ،ومن ثم فهو كلام أو جملة ،كما وحدوا أن المنادى منصوب ،والنصب يرمز إلى المفعولية ،وبالتالي سهل عليهم تقدير العنصرين المحذوفين ،إذ لما عرفوا المفعول كان لابد من تقدير الفعل والفاعل ،ولدلك وجدناهم يقررون أن النداء تركيب إسنادي ينبني على إضمار نحوي ،ولعله يكون من الواضح هنا اعتبار النداء تركيبا فرعيا ملحقا بالتركيب الأصلي الذي هو الجملة فعل +فاعل +مفعول به لان الكامل اصل للناقص ،ولان القالب الجملي الفعلي الذي هو شكل تجريدي اصل يجب أن يلحق به كل الفروع ولم يكن ممكن إلحاق النداء بالتركيب الاسمي لان القالب الجملي الاسمي يتطلب ركنين مرفوعين بينما القالب الفعلي يتطلب ثلاثة أركان الثالث منها منصوب هدا التحليل النحوي الافتراضي التفسيري التعليلي سمي عند بعضهم بالمنهج المعياري وهو منهج يلجا إليه لتفسير بعض الظواهر اللغوية لا لحاقها بالأصول ،و بهذا يكون النحاة الغوائل قد مزجوا بين المنهجين الوصفي والمعياري معا.
النحاة المتأخرون والنداء .لم يختلف منهج المتأخرين من النحاة عن منهج المتقدمين منهم في مسالة النداء ،فلقد استقرت القواعد التي نص عليها المتقدمون عند المتأخرين،ولعل الشيء الذي جد في المعالجة هو محاولة بعضهم التأكيد على إنشائية الفعل المقدر (أدعو أو أنادي )أو (دعوت أو ناديت)كما هو عند الرضي الأستراباذي(15)،كما نلاحظ تغييرا في ترتيب الأبواب،مع ميل إلى تعليل القواعد الندائية كتعليل نصب المنادى وبنائه على الضم،كما هو واضح عند عدد من النحاة منهم ابن الوراق( 16)مثلا الذي نجده يقدم تعليلا لكل حالة من حالات النداء ،بل كل قاعدة من قواعده .
ابن مضاء والنداء:
لقد أنكر ابن مضاء على النحاة تقديرهم الأصل في النداء(17)،وشنع عليهم مقالتهم هده ،ويرى أن تقدير الفعل أدعو أو أنادي تغيير للمعنى و إفساد له،إذ النداء إنشاء،وإظهار الفعل المقدر ينقله من الإنشاء إلى الإخبار،ورأيه هدا مبني على إنكاره لنظرية العامل التي بنى النحاة عليها نظريتهم ،والتي يرى فيها ابن مضاء خروجا عن أوضاع اللغة،وقد قدم ابن مضاء وجهة نظره في نظرية العامل،وخلاصتها أن لا عامل إلا الله،آو المتكلم، من ثم شدد النكير على النحاة،واعتبر تقديرهم للمحذوف زيادة لفظية في كتاب الله،وهو أمر خطير كما نعلم،ونحن مع علمنا بخطورة الأفكار التي تحملها هده النظرة من الرجل،فإننا لا نود أن نناقشها الآن،لا لأنها لاتستحق المناقشة والرد،ولكن لان عددا غير قليل من الدارسين قد كفانا مؤونة الرد عليه،لكن المدهش هو وجود عدد غير قليل من الدارسين المحدثين من يتبنى هده الآراء،ويدافع عنها،بل،ويعتبرها فتحا مبينا في الدرس النحوي،وهؤلاء هم الدين سنتعرف على نظرتهم للنداء ألان.
الدارسون المحدثون والنداء:تلك هي نظرات نحاتنا القدماء إلى النداء،وهي نظرات تتسم كما قدمنا بالدقة ،والشمول،والتفصيل،لكل ما يتعلق ببنية النداء،تعريفا،ووظيفة،وتكوينا،وتواصلا،وهي رغم شموليتها،ودقتها لم تسلم من نقد الدارسين المحدثين لها،إن على الأصح الحداثيين الإصلاحيين فما هي الجوانب التي وجهوا من خلالها نقدهم للنحاة القدماء فيما يتعلق بالنداء؟’وما هي المنطلقات المفاهيمية التي انطلقوا منها في نقدهم؟
في الحقيقة أن الدارسين الحداثيين لا نجدهم يفردون بوابا خاصة للنداء،بل نراهم يتناولون النداء حين حديثهم عن مفهوم الحملة،والكلام،أو حين تناولهم لمفهوم العامل والمعمول،وهما قضيتان متداخلتان فيما نرى.
أما المنطلقات التي انطلق منها هؤلاء الحداثيون فيمكن حصرها في نظرنا في ثلاثة منطلقات هي:
المنطلق الأول:تأثرهم بالمنهج الوصفي الأوروبي الذي ظهر في مطلع القرن العشرين،أو على الأصح بظهور دوسوسير التي اعتبرت أفكارا نهضوية،لما جاءت به من مفاهيم كان لها الأثر البارز على مسار الدرس اللساني، كالتمييز بين اللغة، والكلام، والآنية والتعاقبية، والدال، والمدلول، واعتباطية العلامة اللغوية... وغيرها من المفاهيم التي نهضت على آثرها علوم اللسان،فتبنى اللسانيون ألأوروبيون هدا المنهج،وصاروا يدرسون الألسن البشرية على ضوئه،وصارت الدراسة فيه مركزة على مستوى معين من المستويات اللغوية في وقت معين،بعد أن كانت سابقا دراسات تاريخية تطورية،فتبنى الدارسون العرب المحدثون هدا المنهج منبهرين بإنجازاته في ميدان الدرس اللساني.
المنطلق الثاني: تأثرهم بأفكار ابن مضاء القرطبي التي كانت غائبة،أو شبه ميتة،فأعاد لها المنهج الوصفي الحياة والانبعاث من جديد،لأنها تلتقي معه في عدد من النقاط،منها عدم الخروج عن الواقع اللغوي،كعدم التقدير،والحذف،والإضمار،والتأويل،لأنها مفاهيم تقع في نظرهم دائرة الفعل اللغوي،والمطلوب من الباحث هو التعامل مع الظاهرة اللغوية كما هي في الخطاب،لاكما هي متصورة في دهن الباحث.
المنطلق الثالث التحديث:أما المنطلق الثالث فهو الفكر الحداثي الذي صارت بعض البلدان العربية أو جلها تدعو إليه في كل المجالات،ولعل الدرس اللساني اكثر هده المجالات،بحكم ارتباطه بأهم ميزة في الآنسان، وهي التواصل،ودلك تأثرا ببعض الأفكار الواردة من أوروبا،فبعد خروج البلدان العربية من الاستعمار بمختلف إشكاله،سواء كان انتدابا،أو استطانا،ترسخ في دهن نخبه السياسية،والأدبية،والفكرية إن الإقلاع الحداثي يمر حتما عبر مناهج الغرب المتفوق،فتبنوا مناهجه في كل المجالات.أما الجوانب التي نظروا منها للنداء فكانت مركزة على تعريفه وتحديد إطاره،وهو أمر كما بينا سابقا مرتبط بنظرية العامل التي يرفضونها،فتأسيسا على منهجهم هذا الذي يكتفون فيه بوصف الظاهرة اللغوية كما هي،فانهم اكتفوا بوصف التركيب الندائي كما هو في ظاهره،فوجدوه يتكون من حرف+اسم منصوب،أو مرفوع،أو مجرور،ولما كان هذا الاسم ينصب مرة،ويجر ثانية،ويرفع ثالثة،اختلفت تعاريفهم له يمكن أن نحوصلها في ثلاثة تعاريف هي:
التعريف الأول:اعتباره جملة مكونة من أداة+اسم دون تقدير الفعل،والفاعل
التعريف الثاني:اعتباره شبه جملة لأنه يفتقد إلى مكونات الجملة،وهنا نجد ثلاثة أشباه جمل:
شبه جملة مرفوع ( المنادى المبني على الضم)
شبه جملة منصوب ( المنادى المضاف والشبيه به ،والنكرة غير المقصودة)
شبه جملة مجرور( وهو المستغاث)
التعريف الثالث:اعتباره لا هو جملة، لا اسمية ولا فعلية ، ولا هو شيه جملة،وانما هو إنجاز لغوي خاص فيكون هدا الرأي قد وضع التركيب الندائي في منزلة بين المنزلتين،يقول عبد الحمن أيوب في هدا الصدد:إن الجمل في العربية نوعان اسنادية،وغير اسنادية(18)،واعتبر النداء جملة غير اسنادية،وفند آخرون هدا الرأي الأيوبي بقولهم:إن هذا القول لايخرجها من دائرة الجمل الفعلية غير الاسنادية( 19)،كما رأي المخزومي أن النداء ليس جملة لان الجملة تقوم على أساس الإسناد،وعليه فهو يفضل تسمية النداء بالأسلوب،حيث يقول عنه انه مركب لفظي لا يرتفع إلى منزلة الجملة،ولا يصح تسميته بالجملة أيضا( 20)وغيرها من الآراء.والحقيقة أن المتتبع لهؤلاء الحداثيين الدين ثاروا على نظرية العامل العربية،وغلفوا ثورتهم تحت أسماء مختلفة باسم إحياء النحو مرة،والتطوير ثانية،والإصلاح ثالثة،والتي تدعو في معظمها إلى إعادة دراسة النحو العربي،وتبويبه،وحذف بعض قواعده،كما هو عند إبراهيم مصطفى(21)،وشوقي ضيف22،والمخزومي (23) وعمل لجنة التربية المصرية التي قدمت تقريرا تقترح فيه حذف بعض الأبواب النحوية(24)،ثم ما تلاها من مؤلفات عدة صب أصحابها جام غضبهم على العوامل،والمحذوفات،والمقدرات مرجعين إليها كل بلاء،في ضعفنا الملاحظ في اللسانيات،متمسكين في دعواتهم بالمنهج الوصفي الذي رأوا فيه الكمال،متناسين أن نحاتنا القدامى كانوا السباقين إلى المنهج الوصفي فطبقوه تطبيقا صارما،ولما وقف بهم هدا المنهج عند بعض الظواهر اللسانية عاجزا ادخلوا المنهج العقلي إلى جانبه، هم لم يكونوا مخطئين في العامل سواء كان هذا العامل طاهرا أم مقدرا،ولم يكونوا مخطئين في الحذف،والاستتار،والتأويل،فالتأويل عندهم ليس غاية وانما هو وسيلة ألجأتهم إليها الضرورة العلمية،ومثله التقدير.ثم أن هؤلاء الدارسين الحداثيين نجدهم قد نصبوا أنفسهم بأنهم أصحاب علم اللغة الحديث،ويعنون به المنهج الوصفي الذي نسبوا أنفسهم إليه ناسين أن هناك مناهج لغوية حديثة تسير جنبا إلى جنب مع المنهج الوصفي،ومنها المنهج العقلي التحليلي التفسيري الذي نراه يسهم في تحليل الظواهر اللغوية،وهو ما تجسده المدرسة التحويلية التوليدية التي لجا أصحابها إليه بعد أن رأوا أن المنهج البنوي يعجز عن تحليل الكثير من الظواهر اللغوية على مستوى الجمل كالجمل الملبسة مثلا(25)ووظفوا فيه الحذف،والإضمار والاستتار،وهي مفاهيم موجودة بالأصالة في نحونا العربي ،إن الالتزام بالوصف الظاهري للتراكيب اللغوية آمر ساذج،لا يوفي بالغرض،وهذا اقره العديد من اللسانيين المحدثين بل المعاصرين الدين لايزالون ينشطون في حقل الدراسات اللسانية يمكن أن نستدل بآرائهم،وأبحاثهم،وعليه فالقول الذي جاء على لسان هؤلاء بأنهم يمثلون ومنهجهم علم اللغة الحديث غير صحيح،فهم ليسوا وحدهم اليم في ساحة البحث اللساني،والمنهج المعتمد من قبلهم ليس وحيدا وعليه فمن اللسانيين المحجدثين الكثير من يقول بنظرية العامل،ويرى أنها مفيدة للدرس النحوي بفروعه،من دلك ما يراه الأستاذ عباس عباس حسن الذي يقول في كتابه النحو الوافي بعد أن ذكر ما تعرض له النحو العربي من قبل بعض الدارسين ممن طعن في أهم ركن من أركانه وهو نظرية العامل(والحق أن النحاة أبرياء مما اتهموا به،بل أد كياء،بارعون فيما قرروه بشان نظرية العامل،فقد قامت على أساس يوافق خير أسس التربية الحديثة لتعليم اللغة،وضبط قواعدها،وتيسير استعمالها )(26)،ويخلص الأستاذ عباس حسن إلى القول بان نظرية العامل مفيدة جدا لتدريس النحو العربي،وهي تساير النظريات التربوية الحديثة لتعليم اللغة،ودعم رأيه بأمثلة حية، ثم بين دور الإعراب في الكشف عن المعاني مستخلصا مما سبق أن للعامل،والإعراب فوائد أهمها الاختصار،والأمر نفسه قرره سليمان حمودة في كتابه( ظاهرة الإعراب،وتطبيقها في القرءان الكريم).حيث يقرر بعد أن يورد أقوال المعارضين له أن العامل معيار تقنيني لضبط اللغة فيقول.(ويظلم النحاة القدامى من يقول انهم قرروا نظرية العامل بعيدا عن العلاقات السياقية للنص) (27) وردعلى تمام حسان الذي ادعى أن القرائن يمكنها أن تعوض العامل قائلا (ولعل هذه القرائن أيضا لاتغني عن العامل الذي يتصل اتصالا مباشرا بواقع النص اللغوي) (28)وممن تعرضوا لهذا الهجوم على النحاة القدامى أيضا ودافعوا عنهم الأستاذ الدكتور عبد الرحمان الحاج صالح في مقالاته (29 )حيث يتعرض للنقد الذي وجه للنحاة،ثم يفند هذا بالأدلة،واصفا المنهج الوصفي بالقصور و أصحابه بالسذج،وذلك لعجز هذا المنهج عن تفسير الكثير من الظواهر اللغوية،خاصة الجمل الملبسة،أو التي تحتمل التأويل،ثم يصوغ نظرية العامل صياغة رياضية محكمة،وهو يقر بما فعله الأقدمون،وينوه بمجهوداتهم،ومثله أيضا الدكتورعبد الجليل مرتاض في كتابه(العربية بين الطبع والتطبيع (30 )حيث يتعرض للنداء ويسميه التركيب المنقوص بكلمة،ويرجع قدرة العربية في استعابها للقرءان إلى بنيتها التحتية الداخلية،منوها بمجهود اللغويين القدامى،مبينا أن ما توصل إليه هؤلاء من نظريات لسانية لم يستطع المحدثون تجاوزها والإتيان ببديل عنها
الخلاصة
.لقد عالج النحاة القدامى،والدارسون المحدثون النداء معالجة شاملة،شملت جوانبه المختلفة،أما القدامى فقد اتصفت معالجتهم بالدقة والشمول،حيث حللوا التركيب الندائي ،وابرزوا الوظيفة النحوية للكلمات المكونة له،على أساس أبوابها النحوية داخل نسيج العلاقات التي تربط الكلمات بعضها ببعض،والتي تتحقق بها الفائدة،أو المعنى الذي يحسن السكوت عليه،وعلى أساس أن النداء تركيب مبني على إضمار نحوي ،وقد راعوا في تحليلهم مبدا أساسيا هو فهم ما يعرب،ويحلل،وقد هداهم منهجهم هدا إلى تحليل التركيب الندائي،واعتبروه تركيبا سطحيا مفرعا عن تركيب باطني يقدر بادعو أو أنادي ولم يكن تحليلهم هدا في نظرنا بعيدا عن الواقع اللغوي،إذ تسندهم هدا القرائن المقالية،والحقائق اللغوية،دلك أن وظيفة المنادى تدل على المفعولية،والمفعول مفهوم يأتي بعد فعل وفاعل ظاهرين أو مقدرين ،إذ عندهم أن الجملة الفعلية ذات المفعول قالبا تجريديا يجب أن تفرغ فيه(فعل+فاعل+مفعول به)هدا القالب هو الأصل الذي
.أما المحدثون فنراهم انقسموا في نظرتهم إليه إلى قسمين،قسم وقف عند ظاهر التركيب بناء على منهجه الوصفي الذي يلتزم به ،وهم الوصفيون،وقد اختلفوا في تحليلهم له،بين من اعتبره جملة،ومن اعتبره شبه جملة،ومن اعتبره تركيبا لغويا يفتقد إلى صفة الجملة،وقسم آخر منهم اقتفى منهج القدماء ،ودافع عنهم في تحليلهم،ودعم رأيه بالنظرية التحويلية التوليدية التي تتأسس على مفاهيم التقدير، والتأويل ،والحذف، والإضمار، والاستتار،وبدلك استطاع هدا الفريق تفسير الظاهرة التركيبية الندائية تفسيرا علميا على أساس انه جملة.
الهوامش
.1 _ سيبويه ، أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر،الكتاب ،تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون،مكتبة الخانجي القاهرة ط 3 سنة 1988م تتوزع الأقوال في صفحات الكتاب
2._ الأنباري، الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين، دار الفكر دمشق (دت)ج1ص323
3_.آبو حيان الأندلسي،ارتشاف الضرب،تحقيق دكتور رجب عثمان محمد، مراجعة رمضان عبد التواب ،مكتبة الخانجي القاهرة ط1 سنة1998 ج4ص71
4.سيبويه الكتاب،ج2 ص182
5.انظر كل كتب النحو المتأخرة فإنها تشير إلى هدا ،وكدا كتب البلاغة،وتستقر على هدا العدد،من ذلك مثلا كتاب جواهر البلاغة لأحمد الهاشمي طبعة دار الفكر بيروت ط 12 سنة 1978م ص 105
6.انظر النحو الوافي لعباس حسن،دار المعارف مصر ط 8 ج 4ص9
7_المرجع نفسه ص9
8_انظر الأساليب الإنشائية لعبد السلام محمد هارون مكتبة الخانجي القاهرة ط 5 سنة 2001م ص 141
9_كل كتب النحو تتطرق إليها ،من ذلك مثلا النحو الوافي ج 4 ص 40 وما بعدها
10_معظم كتب النحو تفصل هدا ،من ذلك مثلا ،ابن السراج في الأصول تحقيق عبد الحسين الفتلي ،مؤسسة الرسالة ناشرةن ط 4 سنة 1999م ص 329 وما بعدها
11_سليمان ياقوت ،دراسات في اللغة والنحو،دار المعرفة الجامعية مصر سنة2000ص208،210،288
12_المرجع نفسه ص288
13_سيبويه،الكتاب ج 1 ص 161
14الأستاذ سعيد شنوقة،في الأسس العامة لتحليل الجملة عند العرب،مجلة التواصل تصدرها جامعة عتابة عدد 8 سنة 2001 ص117
15_رضي الدين الاسترابادي شرح الكافية،تحقيق عبد العال سالم مكرم،عالم الكتب القاهرة ط الأولى سنة 2000 ج 1 ص346
16_عبد الله ابن الوراق ،علل النحو تحقيق ودراسة محمد جاسم مكتبة الرشيد الرياض ط1 سنة1999 ص334
17_ابن مضاء القرطبي الرد على النحاة،تحقيق الدكتور شوقي ضيف دار الفكر العربي القاهرة ط1 سنة 1947ص58 59 67
18_انظر رأيه في كتاب العلامة الإعرابية للدكتور حماسة عبد اللطيف ،دار الفكر القاهرة (دت)ص53
19_انظر الرأي في المرجع السابق ص نفسها
20_انظر رأي المخزومي أيضا في المرجع السابق ص53 54
21_إبراهيم مصطفى،إحياء النحو الطبعة الثانية القاهرة سنة1992
22_شوقي ضيف،آراؤه في الإصلاح نجدها في مقدمة كتاب الرد على النحاة وكدا كتابيه، في تيسير النحو، وتيسيرات لغوية
23_انظر رأي المخزومي في كتاب حماسة السابق ص54
24_انظر رأي لجنة التربية في كتاب تدريس النحو العربي في ضوء الاتجاهات الحديثة للدكتورة ظبية سعيد السليطي ،تقديم الدكتور حسن شحاته،الدار المصرية اللبنانية سنة 2002 ص45 وما بعدها
25_انظر الرأي في مبادئ في اللسانيات، للدكتورة خولة طالب الإبراهيمي دار القصبة للنشر
الجزائر سنة 2000 ص139
26_عباس حسن ، النحو الوافي ،ط 6 دار المعارف، مصر ج1 ص73
27_سليمان ياقوت ،ظاهرة الإعراب،وتطبيقها في القرءان الكريم،دار المعرفة الجامعية مصر(دت) ص83
28_المرجع نفسه ص84
29_الأستاذ الدكتور الحاج عبد الرحمان صالح ،مقال بعنوان منطق اللغة ومنطق العلم الذي موضوعه اللغة،ومقال المدرسة الخليلية الحديثة ففيهما الآراء التي أشرنا إليها في المتن كما تنظر هده الآراء،في كتاب الدكتورة خولة السابق ص135 وما بعدها
30_عبد الجليل مرتاض،العربية بين الطبع والتطبيع،ديوان المطبوعات الجامعية الجزائر سنة1993 ص101
النداء بين الوصف والتفسير
أ. مبارك تريكي
أستاذ مساعد بقسم اللغة العربية وآدابها- المركز الجامعي الدكتور يحيى فارس المدية الجزائر
ملخص :
تهدف هده المقاربة التو صيفية التحليلية إلى كشف المنهج الذي اتبعه النحاة الأقدمون في معالجتهم للبنية الندائية(أسلوب النداء)ثم التعريج على منهج الدارسين المحدثين أيضا،حيث وجدت المقالة أن النحاة الأقدمين قد اعتمدوا المنهج المعياري الذي وجدوا فيه الإطار الأمثل لتوصيف هده البنية،ووجدت المحدثين قد انقسموا قسمين:قسم منهم كان وفيا لمنهج القدماء وهم الموسومون بالمعياريين،وقسم آخر وهم الموسومون بالوصفيين انقسموا في توصيفهم لها بين قائل إنها شبه جملة،وقائل إنها جملة غير إسنادية،وقائل ثالث أنها إنجاز لغوي وكفى،وخلصت المقالة إلى الانتصار لمنهج القدماء لجديته.
النداء بين الوصف والتفسير
توطئة: اعتنى علماؤنا القدماء بلغتهم عناية فائقة، خاصة انهم كانوا مدفوعين إلى ذلك بدافعين اثنين: أحدهما ديني و الآخر قومي، و هما و لا شك دافعان قويان ما تمسكت بهما أية أمة من الأمم و وظفتهما في أي مجال من المجالات الا و حققت نجاحات باهرة، وهو الأمر الذي تجسد عند علمائنا ، إذا تمكنوا و في وقت وجيز من بناء نظرية لسانية تتسم بالحداثة ،بحيث لم تستطع اللسانيات الحديثة تجاوزها أو تجاوز الكثير من مفاهيمها.
فلقد وصف اللغويون العرب القدماء الظواهر اللغوية، صوتيا، و صرفيا، و نحويا، ودلاليا في إطار زماني و مكاني محددين بصرامة، و على هذا الرصد وصفوا اللغة، واستنتجوا القواعد العامة لها. و قد مكنهم منهجهم الوصفي هذا من ملاحظة التركيب اللغوي، من حيث سلامته النحوية و استقامته الدلالية و بنوا على كل ذلك نظرية نحوية عامة اتصفت بالدقة والشمول، و حين صادفتهم ظواهر تركيبية تتجاوز المنهج الوصفي إلى التحليل و التفسير استعانوا بالمنهج التحليلي التفسيري، فحللوا وعللوا، و فسروا تلك الظواهر، فكان أن قدروا وحذفوا و أضافوا حرصا منهم على تقديم نظرية نحوية متكاملة، و من هنا كانت معالجتهم للتركيب الندائي ،حيث لاحظوا أن التركيب في العربية أما أن يكون إسناد يا.و أما غير ذلك كالتراكيب الإضافية، و الوصفية، و والمزجية، و لما لاحظوا أن التركيب الندائي يبعد في مظهره عن التراكيب غير الإسنادية ، قدروا له الإسناد المضمر تساوقا مع القاعدة العامة للجمل.
النداء في الدراسات اللسانية العربية:
النداء باعتباره وحدة قاعدية في الخطاب الشفهي و الكتابي له أهمية بالغة، و أهميته تكمن في كونه البنية الخطابية الأكثر دورانا على الألسنة و الأقلام، لما تتمتع به هذه البنية من قدرة على التعبير عن مختلف الأغراض، و المشاعر الإنسانية، فالنداء هو الطريقة المثلى بصيغه الظاهرة و المحذوفة، و إشكاله المختلفة، و أساليبه المتنوعة للتعبير عن الغرض حين تقصر الوسائل الأخرى، من إشارة ،و إيماءة، و حركة، و غمزة، و بسمة، فقد يلجأ إليه المنبه، و الداعي، و المتضجر، و الشاكي و المتوعد. لذلك وجدنا النداء أهم البنى الخطابية تداولا من قبل اللسانيين ،فقد درس صوتيا ،و صرفيا، و نحويا ،و بلاغيا ،و دلاليا . ولئن لم تظهر الدراسة بجلاء إلا على المستوى النحوي ،و البلاغي، فإن ذلك يعود في نظري إلى التطور الدرسين النحوي و البلاغي مقارنة بغيرهما من الفروع اللسانية الأخرى.
النداء و قدماء النحاة
ذكرت سابقا أن للنداء أهمية بالغة في المنظومة اللغوية العربية ،و بينت أن أهميته تكمن في الدور الذي يؤديه في الحياة البشرية، و وظيفته في التواصل بينهم ،و إذا كان معلوما أن التواصل لا يتم إلا استنادا إلى تخاطب ، فان النداء أبرز أدوات هذا التخاطب ،لأنه يجسد دورة التخاطب، حيث يتوافر على مخاطب بكسر الطاء (منادي)و مخاطب بفتح الطاء (منادى) ورسالة، و لما كان النداء خطابا ،تنوعت أغراضه بحسب صدوره و توجيهه، فهو قد يصدر من اسفل إلى أعلى ،أو من أعلى إلى اسفل ،أو من مخاطبين متساويين، كما قد يكون المنادى حقيقيا و قد يكون مجازيا ،و هو في كل هذا تتغير أشكاله ،و أغراضه ، الأمر الذي جعل النحاة يدرسونه دراسة تشريح ،و تعليل لإبراز وظيفته داخل الخطاب ،و من هنا كان النداء موضوعا من الموضوعات النحوية المهمة ، حيث إن من يتصفح المصادر النحوية يجدها تخصص له حيزا كبيرا في طياتها، فمن يرم المصادر النحوية يجدها تزخر بكم هائل من أقوال أوائل النحاة عن النداء بصرييهم، وكوفييهم[i] ، فنجد أقوالا لعيسى بن عمر الثقفي، و لأبى عمر و بن العلاء، و الخليل بن احمد الفراهيدي الذي تكثر أقواله في الكتاب حتى كأنه يعتبر هو المشيد لقواعد النداء، ثم سيبويه الذي لا نجده يكتفي بذكر أقوال هؤلاء النحاة في كتابه، بل يدعمها بآرائه، وتحليلاته، ثم يونس بن حبيب الذي ينقل آراءه سيبويه في الكتاب، ثم الكسائي الكوفي الذي تتناثر أقوال له عن النداء، ثم قطرب الذي احتفظت الكتب المتأخرة ببعض أقواله في النداء، ثم الفراء الذي كانت له آراء منفردة في النداء موجودة في كتبه، ثم الأخفش البصري الذي تناثر أقواله و آراؤه أيضا في النداء، ثم الجرمي الذي حفظت له المصادر أقوالا في النداء منها اختياره النصب لتابع المنادى المعطوف المقرون بأل، ثم المازني الذي اشتهر بآراء له في النداء خالف فيها سيبويه، على أن معظم هذه الآراء خاصةالبصرية منها وجدناها في الكتاب لسيبويه الذي نعتقد أن قواعد النداء قد اكتملت على يديه، فلم يترك للمتأخرين غير ترتيب العناوين والأبواب.
إذن فأسلوب النداء لم يكن غائبا عن أوائل النحاة بصرييهم وكوفييهم ، وهذا دليل على مكانته وأهميته في العملية التخاطبية التواصلية.
موقعه في مدرستي البصرة و الكوفة
كنت قد قلت سابقا أن النداء اعظم باب نحوي في المنظومة اللغوية العربية، واستدللت على هذا الأمر بحاجة المتكلمين إليه حين تقصر الوسائل الأخرى ،و بكثرة الدراسات التي أقيمت حوله ،حيث إننا لا نجد كتابا ذا أهمية في النحو و البلاغة، و علوم اللسان إلا و كان للنداء فيه حضور، زيادة على سعة الدراسة و تشعبها ، حيث تخصص له عشرات الصفحات، وهو أمر كاف في نظري للدلالة على أهميته في المنظومة اللغوية، و نزيد الأمر استدلالا حين وجدناه يستحوذ على نسبة معتبرة من مسائل الخلاف القائمة بين علماء البصرة و علماء الكوفة، حيث وجدنا ألا نباري يخصص له ثمان مسائل من مجموع 121 مسألة أحصاها في كتابه الإنصاف في مسائل الخلاف (2 ) فلو لم يكن النداء على أهمية بالغة لما انشغل به النحاة هذا الانشغال و لما تعمق الخلاف بينهم إلى هذه الدرجة ثم إن هذا الخلاف في النداء لا ينحصر في تلك المسائل الثمان، بل يتعداه إلى وجود الخلاف حتى يبين نحاة المدرسة الواحدة ، حيث أن البحث في المصادر النحوية يؤدي بنا إلى تسجيل عدد من الآراء تضاربت فيما بينها ، لنحاة بصريين، و كوفيين على إننا نكتفي هنا بالمسائل المحصورة في الإنصاف، ابتداء من المسألة الخامسة و الأربعين إلى المسألة الثانية و الخمسين حسب ترتيبها بهدف تحديد موقعه في المدرستين على أن يكون هذا باختصار.
و أولاها القول: في المنادى المفرد معرب أم مبني: و خلاصتها أن الكوفيين قالوا برفعه بغير تنوين إلا الفراء ،فإنه ذهب إلى القول ببنائه، أما البصريون فقالوا ببنائه على الضم في محل نصب و لكل فريق حججه.
ثانيها القول في نداء.الاسم المحلى بأل : و خلاصتها أن الكوفيين قالوا بالجواز و البصريين قالوا بالمنع و لكل فريق حججه و شواهده.
ثالثها: القول في الميم في اللهم أعوض من حرف النداء أم لا: و خلاصتها أن البصريين يقولون بأنها عوض و الكوفيين يمنعون ذلك و لكل منهما حججه أيضا.
رابعها: القول هل يجوز ترخيم المضاف إليه بحذف آخر المضاف إليه :و خلاصتها أن الكوفيين يقولون بالجواز و البصريين يقولون بالمنع و لكل حججه
خامسها: القول هل يجوز ترخيم الاسم الثلاثي: و خلاصتها أن الكوفيين يقولون بالجواز والبصريين يقولون بالمنع و لكل تعليلاته.
سادسها: القول في ترخيم الرباعي الذي ثالثه ساكن: و خلاصتها أن الكوفيين يقولون أن الترخيم يكون بحذف الرابع الساكن و حذف الحرف الأخير و البصريين يقولون بحذف الأخير فقط.
سابعها: القول في ندبة النكرة و الأسماء الموصولة: و خلاصتها أن الكوفيين يقولون بجواز ندبة النكرة و الأسماء الموصولة والبصريين يقولون بالمنع.
ثامنها: القول هل يجوز إلقاء علامة الندبة على الصفة :و خلاصتها أن الكوفيين يقولون بالجواز و ساندهم يونس بن حبيب البصري و البصريين يقولون بالمنع و لكل فريق حججه.
معالجتهم للنداء: كانت معالجتهم للنداء شاملة كاملة ،شملت كل جوانبه .
التعريف اللغوي:اتفق جمهور النحويين بصرييهم و كوفييهم على أن النداء في اللغة هو مصدر الفعل نادى ينادى بمعنى الصوت و الدعاء وتكسر نون النداء و تضم (3) ، و قد نعدم التعريف اللغوي هدا عند سيبويه.
التعريف الاصطلاحي: لم نجد معشر النحويين متفقين في تعريفهم للنداء اصطلاحا فقد كانت تعاريفهم تابعة لمنطلقاتهم النظرية، فمن نظر إليه وظيفيا كان هذا منطلقه، فعرفه وظيفيا، فقال عنه.هو دعوة المخاطب الإقبال، ومن نظر إليه إعرابيا، أي إلى أحواله كان هدا منطلقه فعرفه انطلاقا من موقعه الأعرابي، و لعل هذا التعريف نجده عند سيبويه الذي يقول عنه اعلم (أن النداء كل اسم.مضاف فيه فهو نصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره، و المفرد رفع وهو في موضع اسم منصوب ).( 4)
حروفه: الحروف التي ينبه بها المنادى و التي هي ركن مذكور أو ملحوظ ثمانية عند المتأخرين و هي الهمزة بنوعيها المقصورة والممدودة، أي، أي،يا،أيا،هيا،وا. (5 )على أن ('يا) هي أم الباب عندهم
استعمالها: بعضها.يستعمل للقريب،وبعضها للبعيد و تتبادل المنازل حسب القرب و البعد و قد ينزل القريب منزلة البعيد و العكس.لأغراض بلاغية
حذفها: تتعرض للحذف وهدا يقصر على (يا)دون غيرها، و تقدر عند الحذف و حدها و هناك مواضع يمتنع فيها الحذف، مفصلة في كتبهم، ومواضع يقل فيها الحذف ، و مواضع يجوز فيها الحذف( 6.)
أنواع المنادى و أحكامها: يقسم النحاة المنادى إلى أقسام بحسب النظر إليه، فهو من حيث البناء و الإعراب قسمان(7) : مبني و يضم العلم، و النكرة المقصودة، و معرب، و يضم المضاف والشبيه به، و النكرة غير المقصودة.
و يقسم من حيث نوع المنادى إلى قسمين : حقيقي و مجازي
حذف المنادى: أجاز أغلبية النحاة حذف المنادى و أنكره بعضهم و لكل حججه (8 )
تابع المنادى: لم يقف النحاة في معالجتهم للنداء عند التركيب الندائي ،بل تجاوزوه إلى دراسة ما يتبعه، لما لهذا التابع من علاقة و طيدة به، و فصلوا أحكامه ،و هي موجودة في كتبهم.(9 )
كما تتبعوا الحالات التي يخرج إليها النداء، و هي المعروفة بالاستغاثة ،و الندبة والتعجب(10،وما يتعرض له المنادى من حذف و هو الترخيم، و خلاصة القول انهم فحصوا التركيب الندائي فحصا دقيقا شاملا كاملا ،و تمكنوا من تقديم دراسة وافية حوله، فما المنهج الذي سلكوه في مفاهيمهم هذه؟
منهجهم: لعل منهج المعالجة عند القدماء هي إحدى غايتنا من هده المقالة، إذ لانعنى في مقالتنا هده بالتعليلات، والتفسيرات، وسرد القواعد بقدر ما نعنى بالمنهج الذي سلكوه، والدي مكنهم من تقديم قواعد للنداء مكتملة استقرت كما هي إلى اليوم ،فإذا كان معروفا اليوم أن الدراسات اللغوية يسيطر عليها منهجان اثنان هما المنهج الوصفي الذي ينظر للغة كواقع، لاكافتراض، ولايخرج عن الواقع اللغوي أبدا، والدي يوصف بالمنهج العلمي من قبل اتباعه ، ثم المنهج التحويلي التوليدي الذي يلجا إلى التقدير، والافتراض، حيث يتأسس على أهم ركن من أركانه ،هو افتراض معرفة القواعد ضمنيا عند الإنسان، إذا كان هدا هكذا فما هو المنهج الذي سلكه علماؤنا القدماء في دراستهم للظواهر اللغوية عموما،والنداء على الخصوص
.لا يعدم من يستنطق تراثنا النحوي في مرحلته الأولى الوصف أو بتعبير اللسانيين المحدثين المنهج الوصفي فلقد عرف علماؤنا هدا المنهج ومارسوه في دراستهم للغة، في مستواها ألإفرادي والتركيبي، فلقد وصفوا الصوت اللغوي ،وحددوا صفات الحروف ومخارجها بدقة وصفية متناهية ،كما وصفوا الظواهر التركيبية.ومن يرم المصادر النحوية الأولى يجدها تزخر بالأقوال المنقولة عن العرب الموثوق بعربيتهم والتي تثبت أن نحاتنا قد اتبعوا المنهج الوصفي بصرامة وعلى ضوئه صنفوا الظواهر اللغوية ولدلك صح في نظرنا قول الباحث سليمان حمودة (وربما كان من الصواب إن نفترض أن الأصل عند سيبويه هو الوصف) (11)،ولعل من ملامح المنهج الوصفي عند سيبويه أقواله التي تتكرر في الكتاب :هدا باب استكرهه النحويون،وهو قبيح،فوضعوا الكلام فيه على غير ما وضعت العرب،وشبيه بهذا أيضا تقبيحه أقوال النحاة عندما تتعارض مع الاستعمال،وفي الكتاب الكثير من النصوص تدل على أن سيبويه يقدم ما يقوله الناس على ما يقوله النحاة إذا كان بين القولين اختلاف،ولا شك أن الأخذ بالاستعمال وعدم الالتفات إلى معايير النحاة إذا خالفت الاستعمال هو المنهج الوصفي الذي يصف اللغة كما هي،لاكما وضعتها المعايير والقواعد وغير من الأقوال التي تؤكد أصالة المنهج الوصفي عند سيبويه،وهو ما أكده سليمان حمودة بقولهوالذي نظنه أن سيبويه كان مدركا المنهج الوصفي،لا من حيث اسمه،أو من حيث هو اصطلاح،بل انه كان مدركا إياه من حيث كنهه وكيانه)(12) ثم أن من يعد إلى الكتاب يجد سيبويه كثيرا ما ينقل كلام العرب فيقول حدثني مناثق به،أو من يوثق بعربيته( 13)هذا من جهة،ومن جهة أخرى فان كتب التاريخ النحوي تذكر أن الكثير من علمائنا تنقل إلى البادية،وشافه الإعراب،ونقل عنهم،وان بعضهم قد أفنى كدا قنينة حبر في الكتابة عنهم،ثم من يتتبع كتب التاريخ النحوي أيضا يجدها تنص على أن العلماء قد جمعوا المادة اللغوية،ثم صنفوها،ثم استقراوها،ثم استنبطوا منها القواعد النحوية،وهي أعمال لاتخلو من الوصف في أعلى صوره،بل هي قمة المنهج الوصفي،ادن لقد مارس نحاتنا الأوائل المنهج الوصفي ، وهو الذي مكنهم من ضبط الظواهر اللغوية، وتحديدها ،وتصنيفها ،وبفضله استطاعوا تبويب القواعد النحوية ،إذ وضعوا كل المتشابهات في باب واحد، كان وأخواتها وكان وأخواتها ،وباب المرفوعات، وباب المنصوبات .أما في المجال التركيبي فقد مكنهم منهجهم الوصفي من وصف الظواهر التركيبية، و ضبطها ،وتصنيفها فوجدوا أن بعضها ذو إسناد، وبعضها الآخر غير ذي إسناد،ثم قسموا التركيب الإسناد إلى قسمين: تركيب فعلي أي جملة فعلية، وهو ما كان فيه المسند فعلا وتركيب اسمي أي جملة اسمية، وهو ما كان فيه المسند اسما، ولما وجدوا ظواهر تركيبية خالفت في ظاهرها ما صنفوه ،إذ لم تبدأ بفعل فتصنف ضمن الجمل الفعلية، كما لم تبدأ باسم فتصنف ضمن الجمل الاسمية، عمدوا إلى تقدير محذوف ،فانتقلوا بدلك من الوصف إلي التعليل، والتفسير، ولم يكن هدا الأمر منهم اعتباطيا، بل كان مبنيا على أسس صحيحة سليمة وهي الأسس التي اعتمدعليها النحاة في تحليلهم للجملة وهي.14
1_التعويل على المعنى
2_الربط بين المعنى الصحيح وصحة الشكل
3_مراعاة الضغوط الممارسة على تحديد ظهور الكلمات متجاورة
4_ تقدير الأصل في التركيب
وهي الأسس التي نرى أن النحاة قد عولوا عليها في تحليلهم للتراكيب اللغوية ،إذ من المعايير التي اعتمد عليها النحويون في تحديد مفهوم الجملة ،أو التركيب ، أو الكلام معيار الفائدة أو حسن السكوت ، والنداء تركيب مفيد لمعنى لا ينكر هدا احد من النحويين، كما عولوا على معيار صحة الشكل وسلامة المعنى، وهو أمر ليس بعيدا أيضا في النداء ،ولعله كان دافعا لهم لكي يقدروا له فعلا وفاعلا، لتحقيق السلامة الشكلية ما دام انه يحقق السلامة ألا بلاغية وإذا أعربنا المنادى مفعولا به منصوبا لفعل محذوف لم يفسد المعنى، ولا يفسد الشكل أيضا أما المعيار الثالث، وهو مراعاة الضغوط الممارسة على تحديد ظهور الكلمات متجاورة ،فانه ليس بعيدا في التركيب الندائي ، ومن ثم يمكن الاهتداء به، دلك أن استقامة الشكل تفرض ضبط أواخر الكلمات بالعلامات المناسبة التي توحي بالمعنى الوظيفي للكلمة ،وعليه فان ظهور الفتحة في المنادى خاصة المضاف، والشبيه به ،والنكرة غير المقصودة ينبئ بمفعوليتها، أما المعيار الرابع، فلعله آلائهم هنا دلك أن النداء ،وكما يقرر النحاة تركيب إسنادي حذف منه المسند والمسند إليه ،وبقي ما يدل عليهما ،وهو الفضلة (المنادى) إذ الفضلة لا تكون إلا بعد الأساس أي عنصري الإسناد، ادن لقد أدرك النحاة أن خلف التركيب الندائي الظاهر تركيب باطني، يتحدد من خلاله المعنى الوظيفي لعناصر التركيب .أن نحاتنا القدماء وكما بينا سابقا قد مارسوا الوصف واعتمدوا عليه في ضبط الظواهر اللغوية وتصنيفها وتبويبها ،ولما صادفتهم بعض الظواهر التركيبية كظاهرة النداء التي عجز الوصف عن أن يصنفها ،ويبوبها لجأوا إلى المنهج التعليلي التفسيري المبني على الافتراض والتقدير والتأويل ،فافترضوا وقدروا بعض العناصر اللغوية مساوقة للقاعدة النحوية العامة لتبويب الجمل ،وهدا من باب حمل الفرع على الأصل ،فهم حددوا اصل الجملة الفعلية وقالبها، واصل الجملة الاسمية، وقالبها ،ولما حللوا النداء وجدوا انه يتكون في الظاهر من حرف واسم وهما لايمكن لهما أن يؤلفا كلاما أي تركيبا،مما يجعل الاستقامة الشكلية منعدمة ،لكن من حيث المعنى وجدوا أن النداء تركيب مفيد ،ومن ثم فهو كلام أو جملة ،كما وحدوا أن المنادى منصوب ،والنصب يرمز إلى المفعولية ،وبالتالي سهل عليهم تقدير العنصرين المحذوفين ،إذ لما عرفوا المفعول كان لابد من تقدير الفعل والفاعل ،ولدلك وجدناهم يقررون أن النداء تركيب إسنادي ينبني على إضمار نحوي ،ولعله يكون من الواضح هنا اعتبار النداء تركيبا فرعيا ملحقا بالتركيب الأصلي الذي هو الجملة فعل +فاعل +مفعول به لان الكامل اصل للناقص ،ولان القالب الجملي الفعلي الذي هو شكل تجريدي اصل يجب أن يلحق به كل الفروع ولم يكن ممكن إلحاق النداء بالتركيب الاسمي لان القالب الجملي الاسمي يتطلب ركنين مرفوعين بينما القالب الفعلي يتطلب ثلاثة أركان الثالث منها منصوب هدا التحليل النحوي الافتراضي التفسيري التعليلي سمي عند بعضهم بالمنهج المعياري وهو منهج يلجا إليه لتفسير بعض الظواهر اللغوية لا لحاقها بالأصول ،و بهذا يكون النحاة الغوائل قد مزجوا بين المنهجين الوصفي والمعياري معا.
النحاة المتأخرون والنداء .لم يختلف منهج المتأخرين من النحاة عن منهج المتقدمين منهم في مسالة النداء ،فلقد استقرت القواعد التي نص عليها المتقدمون عند المتأخرين،ولعل الشيء الذي جد في المعالجة هو محاولة بعضهم التأكيد على إنشائية الفعل المقدر (أدعو أو أنادي )أو (دعوت أو ناديت)كما هو عند الرضي الأستراباذي(15)،كما نلاحظ تغييرا في ترتيب الأبواب،مع ميل إلى تعليل القواعد الندائية كتعليل نصب المنادى وبنائه على الضم،كما هو واضح عند عدد من النحاة منهم ابن الوراق( 16)مثلا الذي نجده يقدم تعليلا لكل حالة من حالات النداء ،بل كل قاعدة من قواعده .
ابن مضاء والنداء:
لقد أنكر ابن مضاء على النحاة تقديرهم الأصل في النداء(17)،وشنع عليهم مقالتهم هده ،ويرى أن تقدير الفعل أدعو أو أنادي تغيير للمعنى و إفساد له،إذ النداء إنشاء،وإظهار الفعل المقدر ينقله من الإنشاء إلى الإخبار،ورأيه هدا مبني على إنكاره لنظرية العامل التي بنى النحاة عليها نظريتهم ،والتي يرى فيها ابن مضاء خروجا عن أوضاع اللغة،وقد قدم ابن مضاء وجهة نظره في نظرية العامل،وخلاصتها أن لا عامل إلا الله،آو المتكلم، من ثم شدد النكير على النحاة،واعتبر تقديرهم للمحذوف زيادة لفظية في كتاب الله،وهو أمر خطير كما نعلم،ونحن مع علمنا بخطورة الأفكار التي تحملها هده النظرة من الرجل،فإننا لا نود أن نناقشها الآن،لا لأنها لاتستحق المناقشة والرد،ولكن لان عددا غير قليل من الدارسين قد كفانا مؤونة الرد عليه،لكن المدهش هو وجود عدد غير قليل من الدارسين المحدثين من يتبنى هده الآراء،ويدافع عنها،بل،ويعتبرها فتحا مبينا في الدرس النحوي،وهؤلاء هم الدين سنتعرف على نظرتهم للنداء ألان.
الدارسون المحدثون والنداء:تلك هي نظرات نحاتنا القدماء إلى النداء،وهي نظرات تتسم كما قدمنا بالدقة ،والشمول،والتفصيل،لكل ما يتعلق ببنية النداء،تعريفا،ووظيفة،وتكوينا،وتواصلا،وهي رغم شموليتها،ودقتها لم تسلم من نقد الدارسين المحدثين لها،إن على الأصح الحداثيين الإصلاحيين فما هي الجوانب التي وجهوا من خلالها نقدهم للنحاة القدماء فيما يتعلق بالنداء؟’وما هي المنطلقات المفاهيمية التي انطلقوا منها في نقدهم؟
في الحقيقة أن الدارسين الحداثيين لا نجدهم يفردون بوابا خاصة للنداء،بل نراهم يتناولون النداء حين حديثهم عن مفهوم الحملة،والكلام،أو حين تناولهم لمفهوم العامل والمعمول،وهما قضيتان متداخلتان فيما نرى.
أما المنطلقات التي انطلق منها هؤلاء الحداثيون فيمكن حصرها في نظرنا في ثلاثة منطلقات هي:
المنطلق الأول:تأثرهم بالمنهج الوصفي الأوروبي الذي ظهر في مطلع القرن العشرين،أو على الأصح بظهور دوسوسير التي اعتبرت أفكارا نهضوية،لما جاءت به من مفاهيم كان لها الأثر البارز على مسار الدرس اللساني، كالتمييز بين اللغة، والكلام، والآنية والتعاقبية، والدال، والمدلول، واعتباطية العلامة اللغوية... وغيرها من المفاهيم التي نهضت على آثرها علوم اللسان،فتبنى اللسانيون ألأوروبيون هدا المنهج،وصاروا يدرسون الألسن البشرية على ضوئه،وصارت الدراسة فيه مركزة على مستوى معين من المستويات اللغوية في وقت معين،بعد أن كانت سابقا دراسات تاريخية تطورية،فتبنى الدارسون العرب المحدثون هدا المنهج منبهرين بإنجازاته في ميدان الدرس اللساني.
المنطلق الثاني: تأثرهم بأفكار ابن مضاء القرطبي التي كانت غائبة،أو شبه ميتة،فأعاد لها المنهج الوصفي الحياة والانبعاث من جديد،لأنها تلتقي معه في عدد من النقاط،منها عدم الخروج عن الواقع اللغوي،كعدم التقدير،والحذف،والإضمار،والتأويل،لأنها مفاهيم تقع في نظرهم دائرة الفعل اللغوي،والمطلوب من الباحث هو التعامل مع الظاهرة اللغوية كما هي في الخطاب،لاكما هي متصورة في دهن الباحث.
المنطلق الثالث التحديث:أما المنطلق الثالث فهو الفكر الحداثي الذي صارت بعض البلدان العربية أو جلها تدعو إليه في كل المجالات،ولعل الدرس اللساني اكثر هده المجالات،بحكم ارتباطه بأهم ميزة في الآنسان، وهي التواصل،ودلك تأثرا ببعض الأفكار الواردة من أوروبا،فبعد خروج البلدان العربية من الاستعمار بمختلف إشكاله،سواء كان انتدابا،أو استطانا،ترسخ في دهن نخبه السياسية،والأدبية،والفكرية إن الإقلاع الحداثي يمر حتما عبر مناهج الغرب المتفوق،فتبنوا مناهجه في كل المجالات.أما الجوانب التي نظروا منها للنداء فكانت مركزة على تعريفه وتحديد إطاره،وهو أمر كما بينا سابقا مرتبط بنظرية العامل التي يرفضونها،فتأسيسا على منهجهم هذا الذي يكتفون فيه بوصف الظاهرة اللغوية كما هي،فانهم اكتفوا بوصف التركيب الندائي كما هو في ظاهره،فوجدوه يتكون من حرف+اسم منصوب،أو مرفوع،أو مجرور،ولما كان هذا الاسم ينصب مرة،ويجر ثانية،ويرفع ثالثة،اختلفت تعاريفهم له يمكن أن نحوصلها في ثلاثة تعاريف هي:
التعريف الأول:اعتباره جملة مكونة من أداة+اسم دون تقدير الفعل،والفاعل
التعريف الثاني:اعتباره شبه جملة لأنه يفتقد إلى مكونات الجملة،وهنا نجد ثلاثة أشباه جمل:
شبه جملة مرفوع ( المنادى المبني على الضم)
شبه جملة منصوب ( المنادى المضاف والشبيه به ،والنكرة غير المقصودة)
شبه جملة مجرور( وهو المستغاث)
التعريف الثالث:اعتباره لا هو جملة، لا اسمية ولا فعلية ، ولا هو شيه جملة،وانما هو إنجاز لغوي خاص فيكون هدا الرأي قد وضع التركيب الندائي في منزلة بين المنزلتين،يقول عبد الحمن أيوب في هدا الصدد:إن الجمل في العربية نوعان اسنادية،وغير اسنادية(18)،واعتبر النداء جملة غير اسنادية،وفند آخرون هدا الرأي الأيوبي بقولهم:إن هذا القول لايخرجها من دائرة الجمل الفعلية غير الاسنادية( 19)،كما رأي المخزومي أن النداء ليس جملة لان الجملة تقوم على أساس الإسناد،وعليه فهو يفضل تسمية النداء بالأسلوب،حيث يقول عنه انه مركب لفظي لا يرتفع إلى منزلة الجملة،ولا يصح تسميته بالجملة أيضا( 20)وغيرها من الآراء.والحقيقة أن المتتبع لهؤلاء الحداثيين الدين ثاروا على نظرية العامل العربية،وغلفوا ثورتهم تحت أسماء مختلفة باسم إحياء النحو مرة،والتطوير ثانية،والإصلاح ثالثة،والتي تدعو في معظمها إلى إعادة دراسة النحو العربي،وتبويبه،وحذف بعض قواعده،كما هو عند إبراهيم مصطفى(21)،وشوقي ضيف22،والمخزومي (23) وعمل لجنة التربية المصرية التي قدمت تقريرا تقترح فيه حذف بعض الأبواب النحوية(24)،ثم ما تلاها من مؤلفات عدة صب أصحابها جام غضبهم على العوامل،والمحذوفات،والمقدرات مرجعين إليها كل بلاء،في ضعفنا الملاحظ في اللسانيات،متمسكين في دعواتهم بالمنهج الوصفي الذي رأوا فيه الكمال،متناسين أن نحاتنا القدامى كانوا السباقين إلى المنهج الوصفي فطبقوه تطبيقا صارما،ولما وقف بهم هدا المنهج عند بعض الظواهر اللسانية عاجزا ادخلوا المنهج العقلي إلى جانبه، هم لم يكونوا مخطئين في العامل سواء كان هذا العامل طاهرا أم مقدرا،ولم يكونوا مخطئين في الحذف،والاستتار،والتأويل،فالتأويل عندهم ليس غاية وانما هو وسيلة ألجأتهم إليها الضرورة العلمية،ومثله التقدير.ثم أن هؤلاء الدارسين الحداثيين نجدهم قد نصبوا أنفسهم بأنهم أصحاب علم اللغة الحديث،ويعنون به المنهج الوصفي الذي نسبوا أنفسهم إليه ناسين أن هناك مناهج لغوية حديثة تسير جنبا إلى جنب مع المنهج الوصفي،ومنها المنهج العقلي التحليلي التفسيري الذي نراه يسهم في تحليل الظواهر اللغوية،وهو ما تجسده المدرسة التحويلية التوليدية التي لجا أصحابها إليه بعد أن رأوا أن المنهج البنوي يعجز عن تحليل الكثير من الظواهر اللغوية على مستوى الجمل كالجمل الملبسة مثلا(25)ووظفوا فيه الحذف،والإضمار والاستتار،وهي مفاهيم موجودة بالأصالة في نحونا العربي ،إن الالتزام بالوصف الظاهري للتراكيب اللغوية آمر ساذج،لا يوفي بالغرض،وهذا اقره العديد من اللسانيين المحدثين بل المعاصرين الدين لايزالون ينشطون في حقل الدراسات اللسانية يمكن أن نستدل بآرائهم،وأبحاثهم،وعليه فالقول الذي جاء على لسان هؤلاء بأنهم يمثلون ومنهجهم علم اللغة الحديث غير صحيح،فهم ليسوا وحدهم اليم في ساحة البحث اللساني،والمنهج المعتمد من قبلهم ليس وحيدا وعليه فمن اللسانيين المحجدثين الكثير من يقول بنظرية العامل،ويرى أنها مفيدة للدرس النحوي بفروعه،من دلك ما يراه الأستاذ عباس عباس حسن الذي يقول في كتابه النحو الوافي بعد أن ذكر ما تعرض له النحو العربي من قبل بعض الدارسين ممن طعن في أهم ركن من أركانه وهو نظرية العامل(والحق أن النحاة أبرياء مما اتهموا به،بل أد كياء،بارعون فيما قرروه بشان نظرية العامل،فقد قامت على أساس يوافق خير أسس التربية الحديثة لتعليم اللغة،وضبط قواعدها،وتيسير استعمالها )(26)،ويخلص الأستاذ عباس حسن إلى القول بان نظرية العامل مفيدة جدا لتدريس النحو العربي،وهي تساير النظريات التربوية الحديثة لتعليم اللغة،ودعم رأيه بأمثلة حية، ثم بين دور الإعراب في الكشف عن المعاني مستخلصا مما سبق أن للعامل،والإعراب فوائد أهمها الاختصار،والأمر نفسه قرره سليمان حمودة في كتابه( ظاهرة الإعراب،وتطبيقها في القرءان الكريم).حيث يقرر بعد أن يورد أقوال المعارضين له أن العامل معيار تقنيني لضبط اللغة فيقول.(ويظلم النحاة القدامى من يقول انهم قرروا نظرية العامل بعيدا عن العلاقات السياقية للنص) (27) وردعلى تمام حسان الذي ادعى أن القرائن يمكنها أن تعوض العامل قائلا (ولعل هذه القرائن أيضا لاتغني عن العامل الذي يتصل اتصالا مباشرا بواقع النص اللغوي) (28)وممن تعرضوا لهذا الهجوم على النحاة القدامى أيضا ودافعوا عنهم الأستاذ الدكتور عبد الرحمان الحاج صالح في مقالاته (29 )حيث يتعرض للنقد الذي وجه للنحاة،ثم يفند هذا بالأدلة،واصفا المنهج الوصفي بالقصور و أصحابه بالسذج،وذلك لعجز هذا المنهج عن تفسير الكثير من الظواهر اللغوية،خاصة الجمل الملبسة،أو التي تحتمل التأويل،ثم يصوغ نظرية العامل صياغة رياضية محكمة،وهو يقر بما فعله الأقدمون،وينوه بمجهوداتهم،ومثله أيضا الدكتورعبد الجليل مرتاض في كتابه(العربية بين الطبع والتطبيع (30 )حيث يتعرض للنداء ويسميه التركيب المنقوص بكلمة،ويرجع قدرة العربية في استعابها للقرءان إلى بنيتها التحتية الداخلية،منوها بمجهود اللغويين القدامى،مبينا أن ما توصل إليه هؤلاء من نظريات لسانية لم يستطع المحدثون تجاوزها والإتيان ببديل عنها
الخلاصة
.لقد عالج النحاة القدامى،والدارسون المحدثون النداء معالجة شاملة،شملت جوانبه المختلفة،أما القدامى فقد اتصفت معالجتهم بالدقة والشمول،حيث حللوا التركيب الندائي ،وابرزوا الوظيفة النحوية للكلمات المكونة له،على أساس أبوابها النحوية داخل نسيج العلاقات التي تربط الكلمات بعضها ببعض،والتي تتحقق بها الفائدة،أو المعنى الذي يحسن السكوت عليه،وعلى أساس أن النداء تركيب مبني على إضمار نحوي ،وقد راعوا في تحليلهم مبدا أساسيا هو فهم ما يعرب،ويحلل،وقد هداهم منهجهم هدا إلى تحليل التركيب الندائي،واعتبروه تركيبا سطحيا مفرعا عن تركيب باطني يقدر بادعو أو أنادي ولم يكن تحليلهم هدا في نظرنا بعيدا عن الواقع اللغوي،إذ تسندهم هدا القرائن المقالية،والحقائق اللغوية،دلك أن وظيفة المنادى تدل على المفعولية،والمفعول مفهوم يأتي بعد فعل وفاعل ظاهرين أو مقدرين ،إذ عندهم أن الجملة الفعلية ذات المفعول قالبا تجريديا يجب أن تفرغ فيه(فعل+فاعل+مفعول به)هدا القالب هو الأصل الذي
.أما المحدثون فنراهم انقسموا في نظرتهم إليه إلى قسمين،قسم وقف عند ظاهر التركيب بناء على منهجه الوصفي الذي يلتزم به ،وهم الوصفيون،وقد اختلفوا في تحليلهم له،بين من اعتبره جملة،ومن اعتبره شبه جملة،ومن اعتبره تركيبا لغويا يفتقد إلى صفة الجملة،وقسم آخر منهم اقتفى منهج القدماء ،ودافع عنهم في تحليلهم،ودعم رأيه بالنظرية التحويلية التوليدية التي تتأسس على مفاهيم التقدير، والتأويل ،والحذف، والإضمار، والاستتار،وبدلك استطاع هدا الفريق تفسير الظاهرة التركيبية الندائية تفسيرا علميا على أساس انه جملة.
الهوامش
.1 _ سيبويه ، أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر،الكتاب ،تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون،مكتبة الخانجي القاهرة ط 3 سنة 1988م تتوزع الأقوال في صفحات الكتاب
2._ الأنباري، الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين، دار الفكر دمشق (دت)ج1ص323
3_.آبو حيان الأندلسي،ارتشاف الضرب،تحقيق دكتور رجب عثمان محمد، مراجعة رمضان عبد التواب ،مكتبة الخانجي القاهرة ط1 سنة1998 ج4ص71
4.سيبويه الكتاب،ج2 ص182
5.انظر كل كتب النحو المتأخرة فإنها تشير إلى هدا ،وكدا كتب البلاغة،وتستقر على هدا العدد،من ذلك مثلا كتاب جواهر البلاغة لأحمد الهاشمي طبعة دار الفكر بيروت ط 12 سنة 1978م ص 105
6.انظر النحو الوافي لعباس حسن،دار المعارف مصر ط 8 ج 4ص9
7_المرجع نفسه ص9
8_انظر الأساليب الإنشائية لعبد السلام محمد هارون مكتبة الخانجي القاهرة ط 5 سنة 2001م ص 141
9_كل كتب النحو تتطرق إليها ،من ذلك مثلا النحو الوافي ج 4 ص 40 وما بعدها
10_معظم كتب النحو تفصل هدا ،من ذلك مثلا ،ابن السراج في الأصول تحقيق عبد الحسين الفتلي ،مؤسسة الرسالة ناشرةن ط 4 سنة 1999م ص 329 وما بعدها
11_سليمان ياقوت ،دراسات في اللغة والنحو،دار المعرفة الجامعية مصر سنة2000ص208،210،288
12_المرجع نفسه ص288
13_سيبويه،الكتاب ج 1 ص 161
14الأستاذ سعيد شنوقة،في الأسس العامة لتحليل الجملة عند العرب،مجلة التواصل تصدرها جامعة عتابة عدد 8 سنة 2001 ص117
15_رضي الدين الاسترابادي شرح الكافية،تحقيق عبد العال سالم مكرم،عالم الكتب القاهرة ط الأولى سنة 2000 ج 1 ص346
16_عبد الله ابن الوراق ،علل النحو تحقيق ودراسة محمد جاسم مكتبة الرشيد الرياض ط1 سنة1999 ص334
17_ابن مضاء القرطبي الرد على النحاة،تحقيق الدكتور شوقي ضيف دار الفكر العربي القاهرة ط1 سنة 1947ص58 59 67
18_انظر رأيه في كتاب العلامة الإعرابية للدكتور حماسة عبد اللطيف ،دار الفكر القاهرة (دت)ص53
19_انظر الرأي في المرجع السابق ص نفسها
20_انظر رأي المخزومي أيضا في المرجع السابق ص53 54
21_إبراهيم مصطفى،إحياء النحو الطبعة الثانية القاهرة سنة1992
22_شوقي ضيف،آراؤه في الإصلاح نجدها في مقدمة كتاب الرد على النحاة وكدا كتابيه، في تيسير النحو، وتيسيرات لغوية
23_انظر رأي المخزومي في كتاب حماسة السابق ص54
24_انظر رأي لجنة التربية في كتاب تدريس النحو العربي في ضوء الاتجاهات الحديثة للدكتورة ظبية سعيد السليطي ،تقديم الدكتور حسن شحاته،الدار المصرية اللبنانية سنة 2002 ص45 وما بعدها
25_انظر الرأي في مبادئ في اللسانيات، للدكتورة خولة طالب الإبراهيمي دار القصبة للنشر
الجزائر سنة 2000 ص139
26_عباس حسن ، النحو الوافي ،ط 6 دار المعارف، مصر ج1 ص73
27_سليمان ياقوت ،ظاهرة الإعراب،وتطبيقها في القرءان الكريم،دار المعرفة الجامعية مصر(دت) ص83
28_المرجع نفسه ص84
29_الأستاذ الدكتور الحاج عبد الرحمان صالح ،مقال بعنوان منطق اللغة ومنطق العلم الذي موضوعه اللغة،ومقال المدرسة الخليلية الحديثة ففيهما الآراء التي أشرنا إليها في المتن كما تنظر هده الآراء،في كتاب الدكتورة خولة السابق ص135 وما بعدها
30_عبد الجليل مرتاض،العربية بين الطبع والتطبيع،ديوان المطبوعات الجامعية الجزائر سنة1993 ص101