نظريّة التناصّ: الماهيّة والإشكاليّة..عبدالملك مرتاض PDF طباعة صديق
لم يَكْلَف النقّادُ والسِّيميائيّون، في العالم كلِّه -وخصوصاً في فرنسا - في العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين، بمقدار ما كَلِفوا بنظريّة التناصِّ يَلُوكونها لَوْكاً، حتّى أمسَت، في تعاملنا الجامعيّ المعاصر، ضرْباً من الابتذال النّقديّ!
ويعزّز حكمَنا هذا أنّ معظم النقّاد المعاصرين لم يفُتْهم التعرّضُ لمسألة التناصّ في كتاباتهم، قصْداً أو عرَضاً، كما سنرى. وقد اتّفق النُّقّاد الفرنسيّون على أنّ جوليا كرستيفا هي أوّلُ مَن أطلق على هذا المفهومِ مصطلحَ: (Intertextualité)، وذلك سنة 1967.
غير أنّا لا نعتقد أنّ جوليا كرِسْتيفا نزل عليها هذا المفهومُ من السماء، أو نجم لها من الثَّرى، فاستأثرت به وحدَها من دون العالمين. ذلك بأنّ فكرة التناصّ وُجِدت في الفكر النقديّ الإنسانيّ منذ القديم، وقد عُرفت عند العرب تحت مصطلح "السرقات الأدبيّة"؛ فقد كان علي ابن عبدالعزيز الجرجانِيّ في كتابه: "الوساطة بين المتنبي وخصومه" صاح مستنكراً صدقيَّة السرقات الأدبيّة، بمعناها الأخلاقيّ، قائلاً ما معناه: إذا كان هذا الشعرُ مسروقاً فالكلام كلّه مسروق! كما عالج فكرة التناصّ، بكيفيّة غير مباشرة، أبو عثمان الجاحظ في أكثرَ من موطن من كتاباته.، ومن ذلك قولُه في كتاب "الحيوان": "لا يُعلم في الأرض شاعرٌ تقدّمَ في تشبيه مُصيب تامّ، وفي معنى عجيب غريب، أو في معنى شريف كريم (...)، إلاّ وكلُّ من جاء من الشعراء، من بعده أو معه، إن هو لم يعدُ على لفظه فيسرِق بعضَه أو يدّعيه بأسره، فإنّه لا يدَعُ أن يستعينَ بالمعنى، ويجعلَ نفسَه شريكاً فيه".
بل إنّا ألْفَيْنا من يعزو إلى علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه مقولة في صميم التناصّ، وهي: "لولا أنّ الكَلامَ يُعاد لنَفِدَ".
وأمّا نحن فقد كتبنا، في آخر ما كتبنا، فصلين كاملين عن هذه النظريّة: التناصّ في الفكر النقديّ العربيّ الإسلاميّ، والتناصّ في الفكر النقديّ الغربيّ. كما كتب غيرُنا من النّقّاد العرب المعاصرين كثيراً عن هذه المسألة أيضاً: من المغرب والمشرق معاً. وقد خصّصت مجلّة الفكر العربيّ المعاصر ببيروت عدداً خاصّاً لذلك أسهم في تحريره طائفة من النقّاد العرب المعاصرين.
كما كتبنا نحن قبل ذلك، وكتب غيرنا أيضاً كتابات مبكّرة، بالقياس إلى الفكر النقديّ العربيّ المعاصر، حيث بدأ الحديث يدور عن مفهوم التناصّ منذ مطالع الأعوام الثمانين من القرن العشرين في كتابات محمد مفتاح، وعبداللّه الغذامي، وصبري حافظ، وبشير القمري، وصلاح فضل، وعبدالملك مرتاض، وغيرهم، وإن لم يصطنع بعض هؤلاء مصطلح "التناصّ"، فِعْلَ عبداللّه الغذاميّ الذي اصطنع مصطلح "النصوصيّة" بحكم عدم سيرورةِ المصطلح بين النّقّاد العرب الجدد، سيرورةً كاملة يومئذ...
وأمّا في الفكر النقديّ الفرنسيّ فإنّه شاع استعمال هذا المصطلح على يد جوليا كرستيفا، كما سبقت الإيماءة إلى ذلك، في مطلع هذه المقالة، ثمّ أفاض النّقّادُ الفرنسيّون الجدُد في اصطناعه مثلُ رولان بارط، وقريماس، ومشال أريفي وسَوَائهم، على الرّغم من أنّ فكرة هذا المصطلح كانت دائرةً جارية بين النّقّاد الفرنسيّين قبل جوليا كرستيفا تحت مصطلح "السرقة الأدبيّة" نفسِه، كما كان ذلك جارياً في النقد العربيّ القديم، حَذْوَ النعل بالنعل، حيث إنّه كان سبقها إلى ذلك الروائيّ والناقد الفرنسيّ جان جيرودو حين قال: "إنّ السّرقة الأدبيّة هي أساس كلّ الآداب، باستثناء الأوّل منها المجهول على كلّ حال".
ومن عجب أن لا أحدَ من النقّاد الفرنسيّين الذين عالجوا نظريّة التناصّ، ومنهم صوفيا رابو التي اختصَصَتْه بكتاب كامل صدر بباريس سنة 2002 بعنوان: "L’intertextualité" في حدود ما بلغ إليه علْمُنا على الأقلّ، أومأ إلى مقولة جان جيرودو (Jean Giraudoux، 1882-1944)، وكأنّها قوله: "إنّ السّرقة الأدبيّة هي أساس كلّ الآداب، باستثناء الأوّل منها المجهول على كلّ حال" يختلف اختلافاً كثيراً عن مقولات جوليا كرستيفا التي تقرّر الرأي نفسَه مع اختلاف في الصياغة.
فمقولة جان جيرودو تثبت أنّه هو صاحب الفكرة الأولى في نظريّة التناصّ في الأدب الفرنسيّ، إن لم يكن، هو أيضاً، سبقه آخَرُ، أو آخَرون، لتأسيس هذه الفكرة، (كما بكى الديار ابن خزام قبل امرئ القيس بزمن طويل، أو زمن...، والشيء بالشيء يُذكَر) لا جوليا كرستيفا وأصحابها، وإن لم يُطْلِق عليها، هو أيضاً، مصطلح "التناصّ" حين كان يتحدّث عن هذه الفكرة، بل اصطنع مصطلح "السرقة الأدبية"، أي: (Le vol littéraire"، بالفرنسيّة. وما يقوله رولان بارط (Roland Barthes) عن ذلك ليس إلاّ أنّ "كلّ نصٍّ، هو تناصّ؛ وذلك على نحو تتمثّل فيه كلّ النصوص الأُخَر". فتعريف بارط لا يختلف عن مضمون مقولة جيرودو (السرقة الأدبيّة هي أساس كلّ الآداب). في حين عرّف معجم "لاروس" مفهوم التناصّ على أنّه "مجموعة من العَلاقات التي يمارسها نصّ، ولاسيّما نصّ أدبيّ، على نصٍّ آخرَ، أو على نصوصٍ أُخَرَ، سواء على مستوى إبداعه (إمّا بالإحالة المباشرة عليه، وإمّا بالسرقة منه، وإمّا بالتلميح إليه، وإمّا بمعارضته، إلخ.)، أو على مستوى قراءته وفهْمه، وذلك بالتقريبات (Rapprochements) التي يحدثها في القارئ". ولم يَنْأَ عنه تعريف معجم "روبير الصغير" الذي أفادنا بشأنٍ ذي بال، وهو تاريخ ميلاد هذا المصطلح الذي كان عام 1958 بفرنسا، وليس عام 1967، ولكنْ دون تحديدِ أبي عُذْرتِه.
وإذا كان كلٌّ من تعريف بارط، ومعجم "لاروس الموسوعيّ" يُقِرّ بـ"إباحة" السّرقة لدى تدبيج أيّ نصّ أدبيّ، كما يبيح المعارضة، والتلميح والإشارة والاقتباس؛ أفلا يكون النقاد الفرنسيّون الجُدد، نتيجةً لذلك، هم أيضاً، مظنونِينَ بالسرقة النقديّة حين أخذوا هذا المعنى من جان جيرودو وسَوائه فلم يشيروا إليه، ولا أحالوا عليه، مع أنّه أسبق منهم إلى تأسيس فكرة التناصّ؛ وذلك حين أطلقوا على السرقات الأدبيّة مصطلحاً جديداً هو "التناصّ" (Intertextualité)، ولو دقّقنا معنى الأصل المترجَم لقلنا: "التناصِّيَّة"؟ ذلك بأنّ جان جيرودو زعم أنّ كلّ الكتابات مسروقٌ بعضُها من بعضٍ ما عدا الكتاباتِ الأولى، على الرغم من أنّ الكتابات الأولى، هي نفسها، في منظورنا، مأخوذةٌ غالباً ممّا كان سبقها، وإن لم نستطع معرفة المصادر والأصول التي انبثقت عنها؛ كما وقع لسيرة البكاء على الأطلال التي بكاها امرؤ القيس في مطلع معلّقته؛ وهو الذي لم يزد، في الحقيقة، على أن حاكى شاعراً عربيّاً قديماً اندثر شعره ودرَسَ هو ابن خزام، الذي كان بكاها قبله، كما يُقرّ بذلك امرؤ القيس نفسُه...
ولهذا الحديث بقيّة لا يتّسع المقام لمعالجتها هنا، ومراجع تعذّر الإحالة عليها.
لم يَكْلَف النقّادُ والسِّيميائيّون، في العالم كلِّه -وخصوصاً في فرنسا - في العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين، بمقدار ما كَلِفوا بنظريّة التناصِّ يَلُوكونها لَوْكاً، حتّى أمسَت، في تعاملنا الجامعيّ المعاصر، ضرْباً من الابتذال النّقديّ!
ويعزّز حكمَنا هذا أنّ معظم النقّاد المعاصرين لم يفُتْهم التعرّضُ لمسألة التناصّ في كتاباتهم، قصْداً أو عرَضاً، كما سنرى. وقد اتّفق النُّقّاد الفرنسيّون على أنّ جوليا كرستيفا هي أوّلُ مَن أطلق على هذا المفهومِ مصطلحَ: (Intertextualité)، وذلك سنة 1967.
غير أنّا لا نعتقد أنّ جوليا كرِسْتيفا نزل عليها هذا المفهومُ من السماء، أو نجم لها من الثَّرى، فاستأثرت به وحدَها من دون العالمين. ذلك بأنّ فكرة التناصّ وُجِدت في الفكر النقديّ الإنسانيّ منذ القديم، وقد عُرفت عند العرب تحت مصطلح "السرقات الأدبيّة"؛ فقد كان علي ابن عبدالعزيز الجرجانِيّ في كتابه: "الوساطة بين المتنبي وخصومه" صاح مستنكراً صدقيَّة السرقات الأدبيّة، بمعناها الأخلاقيّ، قائلاً ما معناه: إذا كان هذا الشعرُ مسروقاً فالكلام كلّه مسروق! كما عالج فكرة التناصّ، بكيفيّة غير مباشرة، أبو عثمان الجاحظ في أكثرَ من موطن من كتاباته.، ومن ذلك قولُه في كتاب "الحيوان": "لا يُعلم في الأرض شاعرٌ تقدّمَ في تشبيه مُصيب تامّ، وفي معنى عجيب غريب، أو في معنى شريف كريم (...)، إلاّ وكلُّ من جاء من الشعراء، من بعده أو معه، إن هو لم يعدُ على لفظه فيسرِق بعضَه أو يدّعيه بأسره، فإنّه لا يدَعُ أن يستعينَ بالمعنى، ويجعلَ نفسَه شريكاً فيه".
بل إنّا ألْفَيْنا من يعزو إلى علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه مقولة في صميم التناصّ، وهي: "لولا أنّ الكَلامَ يُعاد لنَفِدَ".
وأمّا نحن فقد كتبنا، في آخر ما كتبنا، فصلين كاملين عن هذه النظريّة: التناصّ في الفكر النقديّ العربيّ الإسلاميّ، والتناصّ في الفكر النقديّ الغربيّ. كما كتب غيرُنا من النّقّاد العرب المعاصرين كثيراً عن هذه المسألة أيضاً: من المغرب والمشرق معاً. وقد خصّصت مجلّة الفكر العربيّ المعاصر ببيروت عدداً خاصّاً لذلك أسهم في تحريره طائفة من النقّاد العرب المعاصرين.
كما كتبنا نحن قبل ذلك، وكتب غيرنا أيضاً كتابات مبكّرة، بالقياس إلى الفكر النقديّ العربيّ المعاصر، حيث بدأ الحديث يدور عن مفهوم التناصّ منذ مطالع الأعوام الثمانين من القرن العشرين في كتابات محمد مفتاح، وعبداللّه الغذامي، وصبري حافظ، وبشير القمري، وصلاح فضل، وعبدالملك مرتاض، وغيرهم، وإن لم يصطنع بعض هؤلاء مصطلح "التناصّ"، فِعْلَ عبداللّه الغذاميّ الذي اصطنع مصطلح "النصوصيّة" بحكم عدم سيرورةِ المصطلح بين النّقّاد العرب الجدد، سيرورةً كاملة يومئذ...
وأمّا في الفكر النقديّ الفرنسيّ فإنّه شاع استعمال هذا المصطلح على يد جوليا كرستيفا، كما سبقت الإيماءة إلى ذلك، في مطلع هذه المقالة، ثمّ أفاض النّقّادُ الفرنسيّون الجدُد في اصطناعه مثلُ رولان بارط، وقريماس، ومشال أريفي وسَوَائهم، على الرّغم من أنّ فكرة هذا المصطلح كانت دائرةً جارية بين النّقّاد الفرنسيّين قبل جوليا كرستيفا تحت مصطلح "السرقة الأدبيّة" نفسِه، كما كان ذلك جارياً في النقد العربيّ القديم، حَذْوَ النعل بالنعل، حيث إنّه كان سبقها إلى ذلك الروائيّ والناقد الفرنسيّ جان جيرودو حين قال: "إنّ السّرقة الأدبيّة هي أساس كلّ الآداب، باستثناء الأوّل منها المجهول على كلّ حال".
ومن عجب أن لا أحدَ من النقّاد الفرنسيّين الذين عالجوا نظريّة التناصّ، ومنهم صوفيا رابو التي اختصَصَتْه بكتاب كامل صدر بباريس سنة 2002 بعنوان: "L’intertextualité" في حدود ما بلغ إليه علْمُنا على الأقلّ، أومأ إلى مقولة جان جيرودو (Jean Giraudoux، 1882-1944)، وكأنّها قوله: "إنّ السّرقة الأدبيّة هي أساس كلّ الآداب، باستثناء الأوّل منها المجهول على كلّ حال" يختلف اختلافاً كثيراً عن مقولات جوليا كرستيفا التي تقرّر الرأي نفسَه مع اختلاف في الصياغة.
فمقولة جان جيرودو تثبت أنّه هو صاحب الفكرة الأولى في نظريّة التناصّ في الأدب الفرنسيّ، إن لم يكن، هو أيضاً، سبقه آخَرُ، أو آخَرون، لتأسيس هذه الفكرة، (كما بكى الديار ابن خزام قبل امرئ القيس بزمن طويل، أو زمن...، والشيء بالشيء يُذكَر) لا جوليا كرستيفا وأصحابها، وإن لم يُطْلِق عليها، هو أيضاً، مصطلح "التناصّ" حين كان يتحدّث عن هذه الفكرة، بل اصطنع مصطلح "السرقة الأدبية"، أي: (Le vol littéraire"، بالفرنسيّة. وما يقوله رولان بارط (Roland Barthes) عن ذلك ليس إلاّ أنّ "كلّ نصٍّ، هو تناصّ؛ وذلك على نحو تتمثّل فيه كلّ النصوص الأُخَر". فتعريف بارط لا يختلف عن مضمون مقولة جيرودو (السرقة الأدبيّة هي أساس كلّ الآداب). في حين عرّف معجم "لاروس" مفهوم التناصّ على أنّه "مجموعة من العَلاقات التي يمارسها نصّ، ولاسيّما نصّ أدبيّ، على نصٍّ آخرَ، أو على نصوصٍ أُخَرَ، سواء على مستوى إبداعه (إمّا بالإحالة المباشرة عليه، وإمّا بالسرقة منه، وإمّا بالتلميح إليه، وإمّا بمعارضته، إلخ.)، أو على مستوى قراءته وفهْمه، وذلك بالتقريبات (Rapprochements) التي يحدثها في القارئ". ولم يَنْأَ عنه تعريف معجم "روبير الصغير" الذي أفادنا بشأنٍ ذي بال، وهو تاريخ ميلاد هذا المصطلح الذي كان عام 1958 بفرنسا، وليس عام 1967، ولكنْ دون تحديدِ أبي عُذْرتِه.
وإذا كان كلٌّ من تعريف بارط، ومعجم "لاروس الموسوعيّ" يُقِرّ بـ"إباحة" السّرقة لدى تدبيج أيّ نصّ أدبيّ، كما يبيح المعارضة، والتلميح والإشارة والاقتباس؛ أفلا يكون النقاد الفرنسيّون الجُدد، نتيجةً لذلك، هم أيضاً، مظنونِينَ بالسرقة النقديّة حين أخذوا هذا المعنى من جان جيرودو وسَوائه فلم يشيروا إليه، ولا أحالوا عليه، مع أنّه أسبق منهم إلى تأسيس فكرة التناصّ؛ وذلك حين أطلقوا على السرقات الأدبيّة مصطلحاً جديداً هو "التناصّ" (Intertextualité)، ولو دقّقنا معنى الأصل المترجَم لقلنا: "التناصِّيَّة"؟ ذلك بأنّ جان جيرودو زعم أنّ كلّ الكتابات مسروقٌ بعضُها من بعضٍ ما عدا الكتاباتِ الأولى، على الرغم من أنّ الكتابات الأولى، هي نفسها، في منظورنا، مأخوذةٌ غالباً ممّا كان سبقها، وإن لم نستطع معرفة المصادر والأصول التي انبثقت عنها؛ كما وقع لسيرة البكاء على الأطلال التي بكاها امرؤ القيس في مطلع معلّقته؛ وهو الذي لم يزد، في الحقيقة، على أن حاكى شاعراً عربيّاً قديماً اندثر شعره ودرَسَ هو ابن خزام، الذي كان بكاها قبله، كما يُقرّ بذلك امرؤ القيس نفسُه...
ولهذا الحديث بقيّة لا يتّسع المقام لمعالجتها هنا، ومراجع تعذّر الإحالة عليها.