المَمْدَرية بين النص والتناص
===========
ما حملنا على تناول النص والتناص سوى الخوف من الاشتباه بين التناص والسلسبية .
وقبل الخوض في النص والتناص لا بد من تحديد مفهوم النص والتناص لغة واصطلاحا حتى نسلم من الوقوع في التناقض والضعف .
(( النص : يتألف من مجموعة فقرات تدور حول موضوع عام .
الفقرة : تتألف من مجموعة جمل متماسكة تعالج فكرة رئيسية واحدة .
الكلام أو الجملة : ما تركب من كلمتين أو أكثر وله معنى مفيد ، وتتحقق الإفادة في العلاقة التي تنشأ بين كلمتين أساسيتين .
القول : كل لفظ نطق به اللسان ، سواء أكان لفظا مفردا أم مركبا ، وكان تركيبه مفيد أم غير مفيد .. )) معجم قواعد العربية العالمية . تأليف : السفير أنطوان الدحداح . صفحة : 5 .
هذا التعريف للنص والفقرة والجملة والقول لا نتفق عليه جميعا ؛ إذ نختلف على بعض منه . فالنص ليس مجموعة فقرات بصرف النظر عما تعالجه الفقرات وحول ما تدور . النص ليس مجموعة فقرات بهذا الإطلاق ، إذ لو كان كذلك لما أمكن تحديد النص . فكل الكتاب فقرات ، وهي بالعشرات والمئات والآلاف ومئات الآلاف .. وهي بحسب تعريف أنطوان نص بلفظ خاص ، ونص واحد فقط ونطلق عليها نصوص ، وهذا لا يستقيم ، بحيث لا يطابق الواقع . وعليه فإنه في ممدريتنا نعتبر النص كل مكون من فقرتين فما فوق . وما نزل عن الفقرتين لا يسمى في الممدرية نصا . ولقد طبقت القاعدة في كتابة الرموز الموسيقية في رواية : نساء مستعملات ، إذ اعتبرنا ما ذكر هو الفيصل في معرفة النص ، وقد حددنا النصوص نصا نصا بعملية مزدوجة ، فالنص لا يكون إلا بجمل تزدوج وتتزاوج في حدود معلومة ، وإذا اختل ذلك في نص ما اعتبرنا ما نقص عن الازدواج جملة ، فنقول نص أو نصوص وجملة ، أو نقول نص أو نصوص وفقرة واحدة مع جملة واحدة . فنحن حين نتحدث عن النص فإنا نأخذه فقرتين فما فوق . وإذا أردنا الدقة أكثر نأخذه زوجا زوجا من الفقرات ، فيكون النص هو فقرتين وأربع فقرات ( أي نصين ) وست فقرات ( أي ثلاثة نصوص ) وهكذا .
والفقرة في تحديدنا ليست أيضا مجموعة جمل متماسكة بصرف النظر عما تعالجه ، إذ لو كانت الفقرة كذلك لحصل تداخل في اعتبار أيهما نص ، وأيهما فقرة . فالكلام المكون من ثلاث جمل ( أي من فقرة وجملة ) لا يصل في حسابنا إلى كونه نصا ، وهو كلام معبر وذو حمولة ، إنه فقرة واحدة ، وتجاوز الواحد إلى المجموعة يعطينا نصوصا وليس فقرات ، ومن هنا كان هذا التعريف والتحديد للفقرة غير مقرر عندنا ، لأنه لا يطابق واقع الفقرة ، مثله مثل تعريف النص ، فتكون الفقرة في الممدرية هي الكلام المكون من جملتين ، فإذا زادت الجمل بأن صارت ثلاثا ظلت فقرة مع جملة يتيمة ولم تصل إلى اعتبارها نصا ، لأنها تحتاج إلى ما يكملها ، وإذا وصلت إلى الفقرتين صارت نصا كما أسلفنا ، وإذا زادت فصارت ثلاث فقرات ظلت نصا مع فقرة يتيمة لأنها تحتاج إلى ما يكملها لتصير فقرة ثانية فتضحى الفقرتان بهذا التكامل نصا . إذن فالفقرة كل مكون من جملتين فما فوق . الجملتان : فقرة . والفقرتان : نص .
والجملة في الممدرية هي نفس الجملة في تعريف السفير أنطوان ، وهي التي نتفق معه عليها . فالكلام المركب من كلمتين لهما معنى مفيد ، جملة ، ومثلها مع أختها فقرة ، وهكذا .
إذن فالنص في الممدرية كل مكون من فقرتين .
والتناص لغة هو الازدحام . فتناص القوم بمعنى ازدحموا .
واصطلاحا خارجا عن اللغة العربية فإن التناص كفكرة خلقها الشكلاني الروسي شلوفسكي ، وأخذهـا عنه باختين وحولها إلى نظرية . فمفهوم التناص ظهر أول ما ظهر في مجلة طيل كيل Tel quel الفرنسية التي جمعت مجموعة من النقاد الذين اشتغلوا على التناص . وأول منظر للتناص هي الكاتبة جوليا كريستيفا Julia Kristiva ، وتعرفه بقولها أنه ذلك : " التقاطع داخل النص ( قول ) مأخوذ من نصوص أخرى " مجلة الكويت ، العدد : 247 ، مقـال : التناص ومفهومه في النقـد الغربي والعربي للدكتور : تركي المغيض . صفحة : 72 . وهو ( أي التناص ) عندها : " كل نص هو امتصاص أو تحويل لوفرة من النصوص الأخرى " المصدر السابق . وكل نص عندها أيضا : " عبارة عن لوحة فسيفسائية من الاقتباسات ، وكل نص هو تشرب وتحويل لنصوص أخرى " المصدر السابق .
ويعرف روبرت شولتز Robert Choltz مصطلح التناص بقوله : " النصوص المتداخلة أخذ به السيمولوجيون مثل بارت وجيني وكريستيفا وريفاتير .. وهو اصطلاح يحمل معاني وثيقة الخصوصية تختلف بين ناقد وآخر ، والمبدأ العام فيه هو أن النصوص تشير إلى نصوص أخرى ، مثلما تشير الإشارات ( Signes ) ، تشير إلى إشارات أخر ؛ وليس إلى الأشياء المعينة مباشرة . فالنص المتداخل هو نص يتسرب إلى داخل نص آخر ، ليجسد المدلولات سواء وعى الكاتب بذلك أو لم يع " المصدر السابق . صفحة : 72 – 73 .
ويعتبر جيرارد جنيت Gerard Jenet النص ( طرسا ) أو نصا جامعا يسمح بالكتابة على الكتابة . ويؤكد لتش Letch حتمية تداخل النصوص لأنها عنده سلسلة من العلاقات مع النصوص الأخرى ..
والتناص : " تفاعل بين نص ونص آخر " عالم الفكر . صفحة : 241 د : عفاف البطاينة في مقال : الترجمة تطويع أم تغريب ؟. العدد 1 يوليو سبتمبر ، المجلد 32 .
فإذا أخذنا التناص لغة وطبقناه على النصوص نجد أن كل الكتابات تتناص ، حتى تلك التي لا تأتي مفيدة . تتناص النصوص في القرآن الكريم على شكل مدهش ومعجز ، بحيث لا تستطيع نقل حرف من مكان إلى مكان آخر ، أو كلمة من موضعها إلى موضع آخر ، ولا تستطيع استبدال جملة بجملة ، أو فقرة بفقرة ، أو نص بنص ، فلو أخذنا جانب الحساب نجده معجزة من نوع آخر ، ولو أخذتها من جهة الكشف والإحالات تجدها كذلك ، فهي نصوص تتناص بين دفتي كتاب .
انظر إلى أي كلام ، مقالة أو خطابة .. خذ كتابا أو جريدة أو منشورا .. ستجد التناص ، لأن الحروف والكلمات والجمل والفقرات والنصوص تتناص فيما بينها ، فيما يحويها من ورق وأفواه .. هذا هو التناص لغة من جهة الوضع ، وهو معقول لأنه يلتزم بقاعدة اللغة في الاستعارة والمجاز ، وهو ما لم نلحظه كمعنى مقصود بالتناص عند مدرسة طيل كيل Tel Quel ، نلحظ فقط كتاباتهم وكتاباتنا تتناص ، ولكن بمعنى الازدحام الدال على الاجتماع في إطارات مادية كالكتاب والمنشور ، ومعنوية كالحديث التلقائي الذي يتناص في فم المتكلم ..
كثيرا ما نشاهد نقادا غربيين ومقلديهم من العرب يتعمقون في بحوث كثيرة ، فيبذلون جهودا مشكورة ، ولكنهم لا يصلون إلى الاستنارة ، والسبب يعود إلى خلطهم بين طرق البحث وأساليبه . فهم حين يتناولون نصا أدبيا ينحرفون في النظر إليه عن طريق فهمه بغير الشروط التي يتطلبها . وكذلك الشأن حين ينتقلون إلى النص الفكري والسياسي والتشريعي .. انظر إلى تنظيرهم للأجناس الأدبية مثلا ، يتداخل عندهم الأمر بين الذوق والاستقصاء ، بين تغذية العقل بالفكر ، وهز المشاعر بالإثارة ، بين نص يعالج مشاكل الناس ، وآخر يرعى شؤونهم ، وثالث يهز كيانهم .. إنهم يستنيرون بسراج لا زيت فيه ..
إن الذين قالوا بالتناص من النقاد العرب والمثقفين لم يكونوا موفقين في مسايرتهم للنقد الغربي ، كانوا غير دقيقين . فالمعنى المراد معنى توليدي ، فلا هو نص يتفاعل مع نص ، ولا هو تناص . وقد عرفته الناقدة كريستيفا كما سبق ذكره ، وهذا وحده كاف لإدراك الفرق بين التناص في معناه عندنا . وحتى لو أريد أخذه استعارة ومجازا ؛ فإنه لا يستقيم ، لأن ذلك مفقود في المصطلح ، فليست هناك علاقة مشابهة ، أو صفة تجمع بين طرفي التشبيه ، ومعلوم أن الاستعارة لابد لها من قرينة حالية أو مقالية أو لفظية تأتي في سياق الكلام مع علاقة المشابهة والصفة .
وإذا حاولنا أخذه مجازا نجده لا يستقيم أيضا ، فالتناص ليس كلمة تستعمل في غير معناها الوضعي لعلاقة مع قرينة لفظية أو حالية تمنع إرادة المعنى الحقيقي ، كما ليست هناك علاقة مشابهة في السببية والمحلية .
كان أولى بالنقاد العرب أن يعربوا اللفظ ويتركوه على حاله ولا يعدلوا فيه إلا إذا كان فيه ما لا يوجد في العربية من حروف يجب استبدالها بحروف عربية حتى يستقيم النطق والفهم فلا يشوش على فهم القارئ والمتلقي .
إن فعل الولادة ليس هو فعل الازدحام الذي يظهر اجتماع المزدحم مع مزدحم مثله في حيز ما . فالنص المتولد عن نص لا يعني نصا مزدحما ، إذ لا يظهر عليه شيء من ذلك ؛ وإن كان الازدحام موجودا في سائر النصوص . انظر إلى أي نص ، سواء كان أدبيا أم فكريا أم سياسيا أم تشريعيا أم علميا فستجد ازدحاما واجتماعا للكلمات ، للجمل ، للفقرات ، للنصوص .. وهذا ليس توالدا ، ولعل بداهة القول جعلت العرب الأوائل ينصرفون عن التناص في الاستعارة والمجاز لغياب العلاقة بينه وبين عملية التوليد والبناء والانبثاق .
يمكن للنص أن يبنى على نص . يمكن للنص أن يلحق بنص . يمكن للنص أن ينبثق عن نص . يمكن للنص أن يتولد عن نص ، وكل هذا ليس تناصا من حيث الازدحام في الكتب والقراطيس والمنشورات والأفواه ، وليس تناصا بمعنى التوالد ..
ولا أدري كيف يسهو المثقف والباحث العربي عن مثل هذه الأمور عند النظر إلى إنتاج خارج نطاق العربية . لا أفهم لماذا نحاول دائما أن نوجد لمفهوم غربي مدلولا لتعبير ما ، أو اسما لمسمى ما مقابل له في العربية دون مراعاة شروط ذلك في العربية . فالمسموح به لغة التعريب ، وهو إخضاع اللفظة الأعجمية للتفعيلة العربية واستبدال حرف بحرف حين يفتقد إليه في العربية مثل حرف G . والترجمة ، وهي نقل المعاني من قالب لفظي أعجمي إلى قالب لفظي عربي يحرص فيه على أداء المعنى بتعابير عربية وليس إطلاق أسماء على مسميات لها أسماء في اللغات الأجنبية ، هذا لا يسار إليه ، وقد وضع العرب الأوائل للعربية قواعد للأخذ من غيرها من اللغات الأعجمية ، وسار على خطاهم القرآن الكريم ..
إن عملية التوليد التي تربط والدا بمولود عملية تعني :
- أن يكون الناتج ناتجا عن سبب .
- أن يكون منبثقا عنه .
- أن يكون مبنيا عليه .
إن عملية التوليد تتطلب إقرارا على سلوك حتمي يكون قانونا للتوالـد ، وهو في الأشياء معروف . فالمادة الخام أساس التوالد في الأشياء . انظر إلى معدن النحاس المنصهر مثلا ، تستخرج منه أسلاك لاستعمالها في الاتصالات السلكية والكهرباء والأواني والتماثيل والميداليات في الألعاب الأولمبية .. وكذلك معدن القصدير والألومنيوم والذهب والفضة والحديد والفولاذ .. وإذا انتقلت إلى الكائنات الحية ستجد كل كائن ولود يكون سببا للكائن الثاني . والخلية التي انتزعت نواتها في عملية الاستنساخ تتوحد مع الخلية التي بقيت نواتها على حالها تؤكد هي الأخرى سببا ومسببا ..
وفي الأمور المعنوية نجد سبب الفخر ، النجاح . وسبب الغضب ، الإثارة والظلم . وسبب البهجة ، الرضى والاستحسان .. وإذا انتقلنا إلى الكتابة وما ينتجه الكاتب والمؤلف سواء كان كاتبا فعلا يكتب بعقله وقلبه ، أو كان كاتبا آخر ، ولكنه يكتب بعقله تعبيرا في كلامه المرتجل ولو كان ابن السنة الثانية من عمره ، أو كان منغوليان ، أو بليدا ، أو مجنونا يركب النصوص بكلامه غير المدرك من قبلنا ..
إذن فالنص الثاني الذي يصطف متناصا مع النص الأول يتناص معه لغة ، ولا يتناص منه ( أي يتولد عنه ) ، صحيح أن الأول سبب للثاني ، ولكنه بالتأكيد ليس متولدا عنه ، وقد يكون ..
عملية التوليد لا تكون دائما في النصوص ، وهي في الفكر أكثر توالدا منها في الأدب ، الأدب ذوق ، والذوق مسألة المتلقي ، ويعني ، فهمه للنصوص الأدبية . ولغة العواطف هي الأدب ، بينما لغة العقل هي الفكر ، وعملية التوليد في الفكر تكون أوضح منها في الأدب ، لنرى ..
في الأدب يقال بالتناص وهو ولادة نص من نص ، ولنعط مثالا بنصنا الأدبي هذا : " وقفت الدابة تنوء بحملها وتقول : الله يلعن صاحبي . سمعها أحد المارة فخطا إلى الخلف واقترب من أذنها وهمس : تتكلمين ؟ فردت عليه : نعم ، فقـال لها : ارفعي تظلمك إلى صاحبك علـه يرحمك .. فأجابته : أ أ .. تريده أن يطلب مني الصياح بدلا عنه آلليخيا .. آلليخيا " أشذاب الوهم ، قصة قصيرة ، نشرتها في جريدة طنجة ، العدد : 3273 ، السبت 29 ماي 2004 ، صفحة : 6 .
في محاولتنا العثور على نص وليد في النص الأصلي نهتدي إلى أن النص المذكور يتضمن مقولة : سمعها أحد المارة فخطا إلى الخلف ، واقترب منها ، ومعناه أن المار كان قد تجاوز الدابة ، وبه يتحقق الخطو إلى الخلف ، وهذا المعنى يعبر عنه بجملة أو فقرة أو نص ، فيكون مولدا من النص الأول ، هذا ما نستنتج مع ملاحظة أن ذلك كله ولادة للمعاني في الجمل والفقرات والنصوص ..
وعند التدقيق في هذا النص نجد أننا لا نلاحظ أي عملية ولادة ، فالنص الأصلي صياغة تنطوي على هذه الصورة ، والمتلقي لم يلحظ مخاضا للنص ، بل لاحظ تضمينا ، وهذا في العربية بديع ، وهو تكثيف واقتضاب لا يقدر عليه إلا البارع في التعبير الأدبي ( عفوا لست المعني ) وهذا يشبه كثيرا من التعابير الموجودة في روائع الأدب ، فجملة : رجع إلى هدوئه ، تعني أنه كان غاضبا . وجملة : خفت صوت الفتاة ، يعني أن صراخها كان مرتفعا . وفقرة : (( وجاء دورهما ، فدخلا على القاضي ، ووقفا بين يديه )) من قصة : أنا ما بعد حداثي تؤكد الانتظار في مكان ما من المحكمة ، وتؤكد وجود منتظرين مثلهما ، فكان لابد من نظام يحدد صاحب الدور حتى يدخل على القاضي ، هذا فضلا عما يمكن استخراجه من الفقرة مما لم أره أنا وقد تراه أنت حضرة القارئ الكريم . وفي قصة : سهم البنوة :
(( - تكلمي ولا تخافي .
- ……………..
- إنه من الآن ولدي ، انتهت مشكلتك )) .
هذه الفقرة بصرف النظر عن الأسطر التي وضعتها تحت : تكلمي ولا تخافي ، تؤكد ضمنا حكيا ، لأنه قد فهم من سياق كلام بوطيبة في قوله : إنه من الآن ولدي ، انتهت مشكلتك ، فهي قد كانت مشغولة بسرد حكايتها بشأن الصبي خلاد . وهكذا حتى يتكون لدينا نص يتضمن ما يقع تحته ، وينطوي عليه ..
ما نلحظه في النص المذكور ، وما يلاحظ في جميع النصوص أنها بروابط نظامية ، ببناء محكم يمارسه الفرد لاستظهار بنائه ، وهو بذلك يكشف بنية بنائه من جميع الجهات ، من الداخل والواجهة ، فكذلك النصوص في اللغة ، إنها بنية لغوية قامت بالكلمات والجمل والفقرات والنصوص ، والذي قام بها ونظمها وربط قواعدها بأعمدتها ، وأصولها بفروعها ، وواجهتها بموقعها التعبيري هو الفرد ، وهذا هو النظم الذي يؤكده الجرجاني بحيث يعلق الكلام على كلام ، ويجعل بعض الكلام سببا لكلام .
ولنأخذ نصـا قرآنيا تولدت عنه نصوص أخرى وهو قوله تعالى : " مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان " الرحمن . 19 – 22 . فلقد تأولها رجال شيعة بأن البحرين هما علي ابن أبي طالب وفاطمة زوجته بنت النبي ( ص ) ، واللؤلؤ والمرجان هما الحسن والحسين ابنا علي وفاطمة ، لأنهما خرجا من البحرين ( علي وفاطمة ) ، والبرزخ هو النبي محمد ( ص ) لأنه يقع بينهما فهو جسر يصل بينهما . وذهب رجال شيعة أيضا إلى توليد نصوص من نصوص في سورة النور فجعلوا نور الله هو العقل الكلي ، والمشكاة هي النفس الكلية الصادرة عنه ، والزجاجة هي صورة الهيولى الأولى .. فمن أين جيء بهذه النصوص ؟ هل انبثقت عن النص الأصلي ؟ هل بنيت عليه ؟ هل كان النص الأول سببا لها ؟ هل هو مصدر لها ؟
بتناول التناص حسب مفهوم الغرب له يجوز لنا قبل كل شيء اعتبار ما ذكر تناصا لأنه منشئ ومستحدث باسم التناص ، وفي هذا تكسير للقواعد ، وهو عمل ما بعد حداثي الذي : " يجب أن نكون بإصرار ما بعد حداثيين " كما تدعو الناقدة والروائية : جوليا كريستيفا . الاتحاد الاشتراكي ، فكر وإبداع ، العدد : 7699 ، الجمعة : 10 . 9. 2004 . وقد شهد كتابنا التفكير بالنصوص هذا العمل غير الحداثي وما بعد الحداثي في الحوار الذي جرى بين كليلة ودمنة ضمن بحث النص الأدبي فليرجع إليه .
أي تناص هذا ؟
إن السلسبية نصوص أدبية وفكرية .. تشهد سيلانا للمعاني الكثيرة في الجملة الواحدة ، أو الفقرة الواحدة مثلما مر معنا في جملة : قعد أسفل رأسه فحار له الموضع واستغلق له الفهم . تستطيـع كتابة نصوص كثيرة من خلال هذه الفقرة ، وما تفعله ليس تناصا لأنك تجعل الفقرة سببا لبحثك ، أو تجعلها موضعا لبحثك ، أو تجعلها مصدرا لبحثك ..
النص الأدبي نص لغوي أولا وأخيرا ، والتأليف فيه لا بد أن يستهدف النظم والإثارة ، يستهدف نظم الكلمات والجمل والفقرات والنصوص في قالب أدبي يأخذ بشروط النص الأدبي صعودا لا هبوطا ، ويستهدف إثارة العواطف والمشاعر بالرضى والغضب ، بالحزن والفرح .. وهذا هو الطريق نحو الشاعرية ، والشاعرية عند تحققها بهذا النظم ، هي الجمال ..
إن التناص كفعل الولادة لا يوجد إلا في شيء واحد ، في عملية واحدة نسميها انبثاقا وهو ما يجب أن يلاحظ في كل نتاج ، والسبب في ذلك هو الركون إلى قاعدة فكرية . فالمشرع الغربي مثلا يستطيع خلق تشريع جديد لمسألة جديدة من خلال اعتماده على الدستور فيكون الدستور هو المادة الخام ، ويكون مصدرا لتفكيره ، وهنا تتحقق الولادة ، يتحقق الخلق ، يتحقق الإنشاء والاستحداث ، يتحقق التناص وهو في الممدرية انبثاق وانبجاز ، وينطبق هذا على المسلم والشيوعي ، فكل منهما يعتمد تصورا كليا عن الكون والإنسان والحياة ، وفي ممارستهما لعملية التفكير في الحلول يأتيان بنصوص مولدة عن نصوص ، بنصوص منشأة منها ومستحدثة عنها وهكذا . وللتوسع أكثر ننصح بتناول الكتاب المذكور أعلاه في بحث النص التشريعي لترى كيفية الولادة ..
إن الذين يقولون بالتناص يؤكدون لا نهائية الدلالات في النصوص ، وهو رأي يقول به التفكيكيون ، وهذا يوجب على الإنسان أن يحيط بالمعاني وهو ما لم يقل به أحد لاستحالته ، فكان النص ذي الدلالة غير النهائية لا واقع له ، فلا يمكن لبشر أن ينتجه ، فالعقل البشري المحدود لا يمكن أن ينتج غير المحدود ، هذا محال ، ثم إن ذلك لا يتحقق إلا في نصوص الوحي ، وليس في كل نصوص الوحي طبعا ، فهذا لو حصل يخرج الوحي عن أهم جانب فيه وهو التشريع الـذي يقضي بوجوب نهائية الأحكام لقضايا ومسائل ومشكلات ، وفيه ما يؤكد ذلك في الدلالة المحددة ، وما أكثرها فيه ، وقد تم العمل بذلك ، ولم يزل ..
إن تقاطع التعابير داخل النص كما تزعم كريستيفا لا يمكن أن يؤخذ من نصوص أخرى . فالتعبير قول أو كلام أو إشارة أو علامة مكتوبة للقراءة ، أو ملفوظة للنطق ، أو منقوشة في الكهوف لنقل المعنى إلى الغير ، أو على لوحات للعمي يلمسونها بأصابعهم لإدراك المعنى أو مدركة بالبصر للصم ، أو للموسيقيين لعزفها أيضا .. هو كلام مركب من كلمات وجمـل وفقرات ونصوص ، وهو بذلك بنية لغوية ، فإذا حصل التقاطع بين هذه التعابير كان كلاما ( نصوصا ) متناقضا ولو لم يكن مبهما ، والتناقض في الكلام ما لم يكن رياضة ذهنية ، ما لم يكن اصطلاحا جديدا للغة جديدة يكون عملا فاسدا لا يستحق معاناة القراءة إلا لدى أستاذ يدرس تلاميذه ويعلمهم ضروب التعبير السليم .
إن التعابير المتضمنة لتعابير أخرى يمكن استخراجها منها ، أو التعابير التي تحيل إلى غيرها ليست تناصا بنفس المعنى الغربي له ، فالتناص بالنسبة لكريستيفا ليس هو ما تشرحه لقرائها ، إنها تقول بالتوليد وتتحدث عن شيء آخر . والنص لا يمتص نصا آخر ، ولا يحوله إلى وفرة من النصوص الأخرى كما تقول ، لأن عملية التحويل ليست خاصية النص ، أو من خاصيته ، بل هي من فعل عاقل مفكر يتصرف في النصوص خلقا وفهما ..
النص بناء مركب في أدوات هي الحروف والكلمات والجمل والفقرات ، وهذه كلها تقوم في التعبير المراد به الغير والمتلقي ، فلو امتص نص نصا لاختل التعبير ، وإذا حول نص نصا آخر اختل التعبير أيضا ، إذ كيف يحصل ذلك في النص دون التأثير على البنية التعبيرية ؟
إن فكرة النص التوليدي التي تطرحها كريستيفا لا يكون إلا في النصوص التي تعتمد مصدرا للتفكير ومرجعا للبحث بحيث تنبثق عنها النصوص كما سبقت الإشارة في الحديث عن الانبثاق ، فإذا تم حصر النص التوليدي في هذا المجال كان حصرا سليما لأنه لا يخلط بين النصوص حيث لا يجب الخلط المستهدف في ما بعد الحداثة . فالمادة الخام كما أسلفنا هي الفكرة الكلية ، والتناص منها واقع لمن يعتنقها ، انظر مثلا إلى كريستيفا وكيف جعلت الواقع مصدرا لتفكيرها ، لقد أنتجت وفق تلك المنظومة الفكرية ، وانظر إلى من يتناقض معها من الأدباء والنقاد والمفكرين الذي يتبنون غير ما تتبنى هي ، فإنهم يختلفون عنها في التناص ، وهذا طبيعي إذ لكل مادته الخام ( الفكرة الكلية ) التي يستخرج وينشئ منها الأفكار ( النصوص ) ..
وهي حين تتحدث عن التقاطع والتعديل ، تؤكد ما ذهبنا إليه في وجود التناقض في تنظريها للتناص .
وعند رو برت شولز Robert Cholz أن النصوص تتداخل ، ثم تشير إلى نصوص أخرى ، ثم تتسرب إلى داخل نص آخر لتحديد المدلولات بصرف النظر عن وعي الكاتب على ذلك أو عدمه .
ونحن هنا لا نقف عند التداخل وتوظيفه حيث لا يجب توظيفه ، لأن التداخل بمنطق المتناصين دخيل ، والدخيل أجنبي ، نتجاوز هذا ونعتبر المتداخل هو الداخل علما بأنه ليس تداخلا ، نقول بالداخل لأنه من تعبير شولز يتسرب إلى داخل نص آخر ، فهو داخل والنص الآخر مدخل ، لنرى كيف يدخل نص في نص .
لا توجد قابلية في أي نص لامتصاص نص آخر داخله ، قد يدخل عليه ، والدخول عليه يعني شغل موقع من حيزه ، وهذا واقع ، أما أن يدخل فيه فهذا لا يكون ، ولو كان لما كان نصا ، بل لكانا نصين ، نص أول هو مادة للتفكير ومصدر له ، ونص ثان مبني على الأول أو منبثق عنه ، وهذه عملية مدركة منذ القدم ومطروقة في التفكير البشري وإنتاجه الفكري والثقافي .
وأما وعي الكاتب أو عدمه فهذا عائد للكاتب والمتلقي ، الكاتب حين يفتح نصوصه تترك تلك النصوص مجالا للآخر للحفر والنفش فيها ، فيبحث الحفار عن خفاياها وكأنه يبحث عن مستحثات ، وهذا عمل يعود إلى النص مـن حيث هو نص مبني على كلام عام غير مخصص ، أو كلام مطلق غير مقيد ، أو مشترك ، أو بناء على ألفاظ دلالاتها ظنية ، أو بناء على تعبير رفيع يستهدف ذلك في ذهن المتلقي .. وأما بالنسبة للمتلقي فإن الأمر يعود إلى جهده ، وليس إلى النص ، فكم من نص يبني عليه متلق نصا آخر ، أو يستخرجه منه ، ونفس ذلك لا يحصل لآلاف المتلقين الذين قرأوا النصوص وأعملوا عقولهم فيها ، فرب مبلغ أوعى من سامع ، ورب قارئ أبدع من كاتب ، ورب حامل فكر إلى من هو أكثر ثقافة منه ، ورب متلق أشطر من مؤلف ..
والنص الجامع لدى جيرارد جنيت Gerard Genet الذي يسمح بالكتابة على الكتابة نص مركب ، وهو من التناص عنده ، والنص الجامع حتى وإن لم يكن مانعا يجب أن يكون نصا بقابلية البناء عليه ، يجب أن يكون نصا متضمنا لكل ما يحتاجه عند عملية التوليد وإلا لما كان جامعا ، فإن لم يتضمن الاستعارة والكناية والمجاز والألفاظ ذات الدلالة الظنية وغير ذلك من ضروب البنى التي تسمح بالولادة لا يكون نصا جامعا ، ويظهر النص الجامع بشكل أوضح في البحوث الفكرية كالتعاريف العقلية ، والتشريعية كالتعاريف الشرعية والسياسية والعلمية .. ولا يظهر في النصوص الأدبية إلا وأفسدها ، لا يستقيم في الأدب إلا في جانب الحوار الذي يرمي إلى تضمين الفكر والسياسة والعلم كما هو الشأن في الأدب الممدري ..
هذا ما يؤدي إلى عملية خلق نصوص جديدة بالانبثاق والبناء من خلال العقلية التي تحدد واقع النص الذي يقع عليه الحس ، فإما أنه موضع التفكير ، أو مصدر التفكير ، والفرق بينهما فرق كبير جدا .
والنص لا يخترق النص ، والتفكير في النص والنصين لا يؤديان إلى الخرق ، بل يؤديان إلى استنباط واستظهار وخلق وإنشاء ، يؤديان إلى نقض ونقد .. وهذا عائد إلى الإنسان المفكر في النص ، ولتش Letch حين يؤكد كلام سلفه يذهب إلى حتمية وجود علاقة نص بنصوص أخرى ، ونحن حين نريد التعبير عن فكرة أو فكرتين نستطيع التعبير عنهما بجملة واحدة ، نستطيع التعبير عن الفكرة بفقرة واحدة ، نستطيع التعبير عن مجموعة أفكار ومجموعة معاني بجملة أو فقرة واحدة ، فأين حتمية التداخل مع النص الآخر وهو لم يوجد بعد ؟ أين هو ووظيفة التعبير لم تستعمل أكثر من فقرة أو جملة ؟ أين التداخل هنا ونحن لا نملك غير فقرة ؟ وإذا ملكنا نصا وكان التعبير محصورا فيه عن مجموعة أفكار ، فأين النص الآخر الذي ينشئ علاقة معه ؟ صحيح أن النصوص مرتبطة ببعضها البعض ، ولكنها ليست متداخلة وقد تكون ، ولكنها إذا كانت متداخلة لم نلف تعبيرا سديدا ، أو نصوصا مستقيمة . إن التداخل والعلاقة يكونان في النصوص بحسب بناء الكاتب والمتكلم لها في زمن معلوم بقدر معلوم وحد معلوم ، وهي بالنظر إلى سلامة التعبير ليست سواء ، فالمتداخل من النصوص لا يستقيم ولو وجد ، وهو موجود في كثير من الكتابات الحداثية وما بعد الحداثية المبهمة .
وعند تودوروف Todorof حديث عن الظاهرة الأسلوبية كصراع نصوص تنبثق من نص ما هي إلا قضية وجود وحضور في كل أسلوب جديد تنشـأ داخليا كجدلية تقويضية للنص الآخر ، أو هي معارض أسلوبيـة على حد تعبيره في ذمة الدكتور : تركي المغيض .. هذا الكلام يدل على فوات صيد ثمين كان الصائد يتربص به فنأى عنه . فالكلام العام في التنظير يدل على تعب ذهني يحتاج الذهن فيه إلى راحة حتى يبدع تعابير محددة . انظر إن شئت إلى الرياضة الذهنية في الأدب الممدري ، أليست أسلوبا جديدا في التعبير ؟ فهل قامت وفق شروط تودوروف ؟ كلا .
وعنـد رولان بارت Rolan Bart كلام يدل على فطنة ، ولكن كلامه على أن التناص هو قدر كل نص فهو كلام دال على خفة عقل ، فقدر النص هو أنه نص خلقه مفكر يعبر به عن ذاته إن كان نصا أدبيا ، أو يعبر عن واقع إن كان النص فكريا ، ويريد من المتلقي للنص الأدبي أن يتذوقه ، لأن التذوق هو الفهم للنص الأدبي ، ويريد من المتلقي للنص الفكري أن يدركه ويدرك مدلوله والواقع المعبر عنه ، وحين يربط نصه الأول بالنص الثاني فإنه يسيج لنا عالما يخصه في إدراكه وتصوره ، ويحاول منا أن نسلك مسلكه عند دخولنا عالمه ، ولكن لا ننسى أننا داخل سياجه ، داخل أسلوبه ، داخل تعابيره التي تأتي في علاقات مع غيرها ، وقد لا تأتي ، تأتي في نصوص وتنعدم من أخرى وهكذا .
كان يمكن للتناص أن تكون له جذور اصطلاحية لو أن العملية النقدية المحددة لدى النقاد الغربيين في التناص كان فيها ما يمكن أن ينشئ علاقة واحدة ، ولكن ذلك غير موجود إلا في التضمين لو ثبت ، وعليه وجب ترك التناص لأنه تعبير هجين يعكس فقرا فظيعا في خلق المصطلحات والتعاطي مع الفكر الآخر ، لا يعبر عن واقع ما يقصده النقاد الغربيون .
فما ساقه النقاد العرب من صياغات للتناص لا ترقى إلى سلامة نقل ما لدى الغرب إلى القارئ العربي ، فالتلقيم والتناصص وتضافر النصوص وتناسخ النصوص والنص الغائب والنصوص المهاجرة والمهاجرة إليها والتناصية .. كل هذا لا يرقى إلى اعتباره دالا على ما لدى الغرب حقيقة في بحث النص المولد عن نص آخر قبله ( أي التناص ) .
فالتناص ليس تعالقا على حد تعبير محمد مفتاح ، علما بأن العلاقة موجودة ، ولكنها ليست هي المقصودة لدى مدرسة طيل كيل Tel Quel . ويخطئ علوي الهاشمي في بنائه على تعريف مفتاح في تركيزه على التعالق ، علما بأن التعالق موجود ، ولكنه أيضا ليس مقصودا لدى طيل كيل Tel Quel .
وأما الزبيدي فقد عزا التناص بقوله : " إن التناص هو تضمين نص لنص آخر " المصدر السابق . صفحة : 74 . وهو أحسن تعريف لفكرة التوالد لدى كريستيفا : كان أولى بالنقاد العرب أن يشتغلوا على التضمين والولادة اشتغال المترجم .
والنصوص المستترة التي يحويها النص ليست تناصا ، إنها نصوص لا ترقى أن تكون جنينية يمثل النص فيها الرحم ، ويمثل النص الآخر المستتر فيها الجنين ، وهذا وإن تم الإصرار على اعتباره شبيها بالجنين فإنه ليس ولادة ، لأن الجنين موجود ينتظر ولادته ليس من تلقاء نفسه ، بل من غيره ولو أن تكون فطرته التي فطر عليها ، فيكون النص الأول هو الذي أنشأه حين ضمنه فيه وستره في بطنه وفق عملية لغوية ملتزمة وضرورية ، فالمولد للجنين ( للنص ) هو الذي ينشئه مبدءا ، ومن يأتي بعده إذا أنشأ نصا منه بناه عليه بحيث لم يتناقض معه ، أو استحدثه من مكوناته ، فيكون مفكرا ثانيا ينتج النصوص من النصوص ، ومن منا لا يتحتم عليه الاستناد في العملية العقلية التوليدية على المعلومات السابقة ، أو الأفكار القبلية على حد تعبير كانط .
إن النص أي نص لا يستقيم معناه إلا بحركات أو علامات إعراب ، لأن النحو أساس في ذلك ، ولكن وظيفته ( أي وظيفة النحو ) : (( ليست مجرد ضبط الوحدات داخل النص اللغوي كما يتصور البعض بل تحديد المعنى وتخصيصه )) المرايا المقعرة . د : عبد العزيز حمودة ، عالم المعرفة 272 السنة : 2001 . فلو سلمنا بولادة نص من نص فماذا نلحظ عندما يتضح ممارسة منشئ النص الثاني لعملية ضبط الوحدات في نصه الثاني ، فهل هو منتجه من ذاته أم منتج النص الآخر داخل في الاستحداث يشاركه الخلق والإبداع ؟
إذا خلطنا النصوص فإن ذلك يعني على أقل تقدير نقل جمل وفقرات من مكان إلى مكان آخر ، ولا نقول بنقل الحروف لأن ذلك يفسد العمل نهائيا . وفي نقلنا للجمل والفقرات ووضعها على شكل يختلف عن سابقه مع مراعاة خلق جديد غير مشوه ، تعابير سليمة تؤدي معاني واضحة ، أو معاني تحتاج إلى فنية لكتابتها ، وفنية لاستخراجها ، فإن ذلك يدل على عمل لا دخل للمؤلف فيه ، وهذا لا عيب فيه إلا في جهة السرقات ، فالسرقة للمعنى سرقة جائزة ، لأن المعاني ملكية عامة للبشر ، ولكن السرقة للقوالب اللفظية غير جائزة ، لأنها مشينة تحط من قدر الكاتب وتقردنه .
وإذا تركنا النصوص على حالها وأردنا إنشاء نصوص أخرى ، أو ملاحظتها ، فإننا أمام أمرين اثنين هما :
- الملاحظة .
- الإنشاء ، أو الاستحداث .
بالنسبة للملاحظة فإنها تدل على حسن القراءة ، وتدل على عمق القارئ واستنارته في قراءاته للنصوص ، ولكن بشرط أن يؤكد عند أي إنشاء ، علاقة بين نصه ، وبين النص الأول ، وهو هنا عامل الانبثاق والانبجاز مع قابلية النص الأول لذلك ، والتي تدل على براعة واضعه وعبقريته .. ومع ذلك لا يعني ما ذكر أن النص مـولد عن نص ، بل هو مولد عن مفكر جعل النص الأول مصدر تفكيره ، أو موضع تفكيره .. ومن منا لا يستند في تفكيره على خلفيات ؟ لا أحد .
وأما الإنشاء فإنه يعني تفكيرا جديدا ، إنه تفكير مركب من تفكير سابق عليه ، وهذا طبيعي في الناس ، فالمفكر الثاني مثله مثل المفكر الأول بشر يحس بالوجود ويتفاعل معه ، ولكن اختلاف الإحساس والتفاعل هما اللذان يخلقان المسافة بين مفكر ومفكر ، وبالتالي تكون هي نفس المسافة بين نص ونص . انظر إلى المعاني فهي موجودة وبوفرة وفي متناول الجميع . فالجالس على قمة سيدي المناري في طنجة وفي جو صحو صاف ورياح شمالية ، تظهر أمامه جبال الأندلس ، يظهر جبل طارق ، وتظهر جبال كاديس ، تظهر سفن الصيد والبواخر العملاقة تمخر العباب ، تظهر بنايات طريفة وزرقة السماء والبحر وعبار الفضاء والدلافين .. وعن يساره تظهر طنجة الوديعة كصحن مقعر ، كعروس سرق منها عريسها ليلة زفافـها .. كل هذه الأشياء تدخل الذهن مباشرة عند النظر إليها دفعة واحدة ، وهي صور كثيرة مختلفة في شكلها ونوعها وجنسها .. وعند التعبير عنها يحصل شيء من التأخر عند عملية التعبير ، فالتعبير هنا ليس المقصود به الشخص ذاته لأنه قد أدركها ودخلت ذهنه ، بل المقصود به الآخر الذي لم يرها ، فمن ينقل إليه تلك الصور ، تلك المشاهد ؟ هل يسمح له باستخراجها دون واقع ؟ بالطبع لا ، فلا بد للأول من التعبير ، ولا بد له من بناء ذلك في نصوص مكتوبة أو منطوقة ، ثم يأتي من يبني عليها أو يستخرج منها ، وهنا يتأكد سبق على سبق مثله مثل الحديث عن اللغة والوجود ..
نستطيع القول وبثقة أننا ، مع اختلاف ، نحفظ ألفاظا ، أو كلمات مفردة بالعشرات والمئات والآلاف ومئات الآلاف .. وأننا أيضا عقلاء نمارس التفكير ، ونعبر بما ألفناه ونظمناه ، فهل ممارسة التفكير تكون باللغة كما يقول عابد الجابري في كتابه : نقد العقل العربي 2 ؟ وإذا كان كذلك فما وضع الصم و البكم الذين لا يحفظون الكلمات ولا ينطقونها ؟ وإذا مارسوا التفكير بالإشارة كلغة خاصة بهم فما وضع العمي ؟ وإذا مارس العمي التفكير بعلامات مرسومة على لوحات تقع أناملهم عليها ، فما وضع اللغة ذاتها ، هل هي إشارات ؟ هل هي كلام ؟ هل هي نقوش ؟
اللغات عبارة عن علامات يصطلح عليها من أجل التواصل ، فهي دائمة التطور ، وقد انتقلت من الأدنى إلى الأعلى فانسجمت مع ما لدى الإنسان من استعدادات فطرية ، وما لديه من خاصيات ملائمة ، ولا يقال أن الصوت واللسان هما أساس اللغات ، لا يقال ذلك إذ لو كان كذلك لاخترع الحيوان لغة قبل ملايين السنين عن مجيء الإنسان ، ينافسنا بها ، علما بأن الحيوان لديه لغة ، ولكنها عاجزة تماما ، لأنها لا تستند إلى شيء أساسي لا بد منه لخلق اللغات ، وهو خاصية الربط الموجودة لدى الإنسان في دماغه ، ويظهر أن أحسن ما يمكن أن يصل إليه الإنسان في مجال اللغة هو الاستناد على الحرف والكلمة والجملة والفقرة والنص مع حتمية ربط الوحدات ببعضها في نظام لا يزال يرتقي ، ومهما تقدم الإنسان فلن يغنيه شيء عن اللغة المكتوبة والمنطوقة ..
إذا أخذنا الكلمات المفردة ووضعناها متباعدة على الورق كما نضع أي شيء على الطاولة والمنضدة ، ثم بدأنا في تصفيفها كما كانت تصفف الحروف المطبعية سابقا مراعاة للنظم ، سنعثر في النهاية على كلام مفيد ، جملة أو فقرة أو نصا ، فهل نؤكد بهذا سبق اللفظ للمعنى ؟
إنني في لغة البكوك وضعت قاعدة قلب الكلمات من الحرف الأخير إلى الحرف الأول واشترطت أن لا تكون لها نفس معاني ألفاظ موجودة في اللغة العربية ، وسقت أمثلة على ذلك ، فهل كنت بعملي أقرر أسبقية اللفظ على المعنى ؟ كلا . انظر إلى الصبي وهو ينضج بين يديك ، فهل يدرك قبل معرفته اللفظ ، أم بعد ذلك ؟
خذ مجموعة كلمات وألق بها على الأرض ، ثم رتبها كلمة كلمة ، فإذا لم تحصل على جملة مفيدة أعد الكرة حتى تحصل عليها ، وعند ذلك اسأل نفسك أيهما أسبق : اللغة أم الوجود ؟ بالطبع اللغة ، فهي هنا تظهر سابقة في الوجود . وخذ موقعا لك في التأمل فستهاجمك آلاف المعاني قبل أن تنطقها وقبل أن تكتبها ، فهل تلك المعاني سابقة للوجود ؟ لنقل نعم ، ولو أنك أنت الذي فكرت فيها ، فلو استثنيناك نسوق غيرك وسوف يقع له معنا نفس ما وقع معك فما هذا ؟
لقد تناولت منجد الطلاب وقلبت صفحاته آخذ من بعضها كلمة اشترطت أن تكون على اليمين في أعلى الصفحة ، وحين رتبتها لم أحصل منها إلا على جملة واحدة مفيدة ، ولم أكرر ( التجربة ) التي أعلم أنها ستنتهي معي إلى أكثر من جملة مفيدة ، فهل فكرت هنا باللغة ؟
إن اللغة سابقة للوجود قول يدل على تعثر وسط الضياء ، فاللغة مسألة وضعية ، والإنسان لم يضع لغته إلا بعد زمن كان فيه يتواصل مع جنسه بغير لغة مما عهدنا ، وهذا قد تمت ممارسته سابقا فكانت اللغات ، ويمكن ممارسته الآن ، وبعد الآن ، وما لغة البكوك إلا نموذج لمن أراد المواضعة بشأنها ، وكذلك غيرها مما يمكن أن تخلق من جديـد ، ولكن هناك خيط رفيع ضل عنه ديسوسير ، ومنع ماركس سابقا من القبض عليه ، وهو الإقرار بوجود معلومات سابقة يتلقاها الإنسان من أبويه وبيئته ومجتمعه ، وإذا أمعنا النظر في هذه الحتمية سنجد أنها تحيل إلى أول إنسان يكون هو أيضا قد تلقى المعلومات السابقة وليس اللغة ، تلقى المعلومات عن كون الماء سبب الحياة ، وكونه يتضمن خاصية الإرواء ، وخاصية طفو الخشب عليه ، وخاصية الإنبات .. تلقى المعلومات عن النار وخواصها كالإحراق والضياء والنور وصهر المواد الصلبة .. تلقى المعرفة القبلية على حد تعبير كانط وبغير فهمه السقيم .
إذن لا ينبني نص على نص ، ولا ينبثق نص من نص إلا بوجود خلفيات لكل من منتج النص الأول ، ومنتج النص الثاني ، ولكن مع مراعاة شروط الانبثاق والبناء ، فلا معنى لاستنطاق نص تحت آلة التعذيب على حد تعبير عبد العزيز حمودة في مراياه المقعرة وحمله على الولادة وهو عقيم .
وليس معنى ما ذكر الدخول في البنية الكبرى للنص كما يقول فان ديخ Van Dekh ، فالحذف والتعميم والتركيب والإدماج بحسب مفهومه لهم كقواعد يبنى عليها النص ليسوا كما يتصور ، فحذف المعلومات غير الجوهرية في الجملة يحقق ذلك في نظره ، يحقق الحذف للمعلومات غير الجوهرية ، فجملة مثل : " مرت فتاة ذات ثوب أصفر - تتضمن ثلاث قضايا 1 ) مرت فتاة - 2 ) ترتدي ثوبا . – 3 ) كان الثوب أصفر . ويمكن إيجازها إلى : مرت فتاة ترتدي ثوبا ، أو مرت فتاة . وذلك (( حيث يكون من غير الضروري لتفسير النص المتبقي ، أن يعرف أن الفتاة ارتدت ثوبا ( وليس جينز أو بلوزة ) ، أو أن الثوب كان أصفر ( وليس أزرق ) " عالم الفكر . العدد : 2 المجلد : 32 أكتوبر وديسمبر 2003 . صفحة : 153 . مقال : علم النص .. للدكتور جميل عبد المجيد حسن . .
وفي جملتنا خف صراخ الفتاة حذف لمعلومة يعبر عنها بجملة أو بفقرة كما سبقت الإشارة ، ولكنه حذف يؤكد المحذوف ويبينه ويعين هيئته ويشير إليه ، وهذا ليس هو الحذف عند فان ديخ ، فجملتنا في بلاغتها أظهرت المحذوف دون أن تعبر عنه إلا ضمنا ، لم تعبر عنه جملة ، أشارت إليه في قلب الجملة الأم ، أشارت إلى : كانت الفتاة تصرخ . والحذف للدال على الثوب في لونه أو نوعه أو جنسه إن تم بشكل يظهره في الجمل اللاحقة يكون ممدرية ، وليس فندخية .
وقاعدة الاختيار ، وهي حذف أيضا لا تستقيم بلاغيا وبيانيا في الأدب الراقي إلا إذا وضعت له جمل مكثفة تحوي غيرها ضمنا ، ولكن بشكل محدد ومعين ، وهذا موجود في الأدب الممدري ، يوجد في الرياضة الذهنية ، وهي نوع من التعبير فريد ربما أطلب له موقعا في بنية اللغة ، سوف أرى ذلك لاحقا بإذن الله . فجملة : " كفى تحريض هرمون الأدرينالين علي ، في : نصوارية الأضداد ، تدل على شيء محذوف محدد ومعين ومختار ، بخلاف ما ذكره فان ديخ ، تشير جملتنا عن قصد واختيار إلى وقف ذهن المتلقي على المحذوف دون سواه ، بخلاف جملتنا : قعد أسفل رأسه ، فإنها لا تشير إلى معنى واحد ( أي معلومة واحدة ) ..
وإحلال قضية واحدة محل قضايا متعددة بالتعميم كما يسميه فان ديخ لا يستقيم في التعابير الممدرية بطريقته ، فسيارة الإسعاف ، والمسدس ، والدمية كلعب للأطفال ملقاة على الأرض بتعابير مركبة لجمل لا تحل محل مكانهم قضية واحدة كما يدعي في عبارة : على الأرض لعب . فالوصف الممدري والتحديد الممدري يستهدفان الرفعة في التعابير ويقضيان بالإتيان بجملة واحدة أو فقرة لا تذكر فيها الجملتان عرضا في الكتابة ، ولكنهما تذكران ضمنا في رحم الجملة أو الفقرة ، وفي السرد لا يقال بالمعلومات غير الضرورية ، لا يقال ذلك إلا إدراكا وليس قولا ، فالروائي الذي يتأثر يروايته متأثر ، قد تمجها أنت غير المتأثر بها ، وبها ما حملك وحمله على سلوك مسلكيكما ، وإذن فالوصف للدمية والحديث عنها ، والوصف لسيارة الإسعاف والحديث عنها ، والوصف للمسدس والحديث عنه ليس مما يقال بشأنه معلومات غير جوهرية ، أي معلومات زائدة .. فالروائي بوصفه للعب ، لعبة لعبة ، وبوصفه للأرضية التي تقوم فيها ، يكون وصفا بما يقتضيه الحس الجمالي للروائي ، فإذا رأى ذلك جميلا ، وأتقن التعبير عنه ، وقتله نظما وحبكا فسيكون جميلا مؤثرا . وفي الكتابات الفكرية يكثر هذا النوع من التعابير خصوصا في الكتب الراقية وبالأخص في الكتاب المتميز والمعجزة وهو القرآن الكريم ، فقوله تعالى : " ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما " سورة الإسراء . الآية 23 . . يتضمن جملة : ولا تسبهما . وجملة : ولا تضربهما .. إذن فالتعميم الفانديخي لا يستقيم إلا بتأدية التعبير عما يراد إخفاءه وهو ما لم نلحظه عنده .
والتركيب والإدماج كقاعدة اختيارية تحل معلومة جديدة محل معلومة قديمة . المعلومات ( القديمة ) تبقى ، وقد يعبر عنها ، قد توظف في تعابير أدبية أو فكرية ولن تزول إلا بزوال ما يتعلق بها ، ويتسبب فيها ، فركوب القطار لم يحل ، ولن يحل محل ركوب الدابة ، كما قد يحل محلها ، وقد حصل ، فكيف ؟ تحل الدابة محل القطار عند الحديث عن المعلومات العرفية مثل الحديث عن المدن الكبرى المزدحمة ، فهنا لا يستقيم التعبير ، لأن وسائل النقل والترفيه والنزهة لم تعد حيوانات ، وقد يستقيم بأداء معنى السفر في غياب ظروفه المدنية ، في البادية مثلا ، بل حتى في المدن الكبرى قد تركب الدابة ، وهي تركب في الأعراس والأعياد ، ويسافر بها من مدينة إلى أخرى كما هو الحال في إسبانيا في بعض أعيادها الدينية ، يركبون الدواب خصوصا الخيل ، ويسافرون من كل جهة في الأندلس إلى إشبيلية ، إلى كنيسة لزيارة الروسيو Rocio ، وهي امرأة صالحة قديسة ، يزورونها في كل سنة للتبرك بتمثالها ، يخرجونه من الكنيسة في خشوع ويتنافسون في الوصول إلى ملامسته اعتقادا منهم بالحصول على بركة السيدة روسيو ، يتعلقون بالتمثال الذي يمثلها ويتبركون به ويعلق بعضهم عليه ألبسته ، يسافرون من خاين Jaen وألميريا Almeria وغرناطة Granada وكاديس Cadis وقرطبة Cordoba ومالاقا Malaga ومربييا Marbella والخزيرات Algeciras وغيرها .. تجوب الدواب المدن والقرى ، وإن كانوا اليوم لا يوظفون الدواب بشكل طاغ ، إذ حل محلها التراكتور والسيارة ، ولكن الدواب حاضرة في كل موسم .. إذن يظل تعبير : ركب القطار مادام القطار وسيلة ركوب ، ويزول التعبير عند زواله ، أما الدابة فلن تزول ، ستظل ما ظل الإنسان ..
ولهم عيد آخر في كل سنة ، هو عيد الحج ، يحجون إلى كنيسة في كليسيا Galicia يحاكون فعل رجل صالح في سانطياكو دي كومبوسطيلا Santiago de Compostila ، يسافرون غالبا على الأقدام كما فعل القديس للحصول على ثواب أكبر ، ومنهم من يركب الدراجات الهوائية ، يحجون زرافات للتبرك بالقديس سانتياكو ، وقد كانوا قديما يسافرون على الدواب .
=======
محمد محمد البقاش
===========
ما حملنا على تناول النص والتناص سوى الخوف من الاشتباه بين التناص والسلسبية .
وقبل الخوض في النص والتناص لا بد من تحديد مفهوم النص والتناص لغة واصطلاحا حتى نسلم من الوقوع في التناقض والضعف .
(( النص : يتألف من مجموعة فقرات تدور حول موضوع عام .
الفقرة : تتألف من مجموعة جمل متماسكة تعالج فكرة رئيسية واحدة .
الكلام أو الجملة : ما تركب من كلمتين أو أكثر وله معنى مفيد ، وتتحقق الإفادة في العلاقة التي تنشأ بين كلمتين أساسيتين .
القول : كل لفظ نطق به اللسان ، سواء أكان لفظا مفردا أم مركبا ، وكان تركيبه مفيد أم غير مفيد .. )) معجم قواعد العربية العالمية . تأليف : السفير أنطوان الدحداح . صفحة : 5 .
هذا التعريف للنص والفقرة والجملة والقول لا نتفق عليه جميعا ؛ إذ نختلف على بعض منه . فالنص ليس مجموعة فقرات بصرف النظر عما تعالجه الفقرات وحول ما تدور . النص ليس مجموعة فقرات بهذا الإطلاق ، إذ لو كان كذلك لما أمكن تحديد النص . فكل الكتاب فقرات ، وهي بالعشرات والمئات والآلاف ومئات الآلاف .. وهي بحسب تعريف أنطوان نص بلفظ خاص ، ونص واحد فقط ونطلق عليها نصوص ، وهذا لا يستقيم ، بحيث لا يطابق الواقع . وعليه فإنه في ممدريتنا نعتبر النص كل مكون من فقرتين فما فوق . وما نزل عن الفقرتين لا يسمى في الممدرية نصا . ولقد طبقت القاعدة في كتابة الرموز الموسيقية في رواية : نساء مستعملات ، إذ اعتبرنا ما ذكر هو الفيصل في معرفة النص ، وقد حددنا النصوص نصا نصا بعملية مزدوجة ، فالنص لا يكون إلا بجمل تزدوج وتتزاوج في حدود معلومة ، وإذا اختل ذلك في نص ما اعتبرنا ما نقص عن الازدواج جملة ، فنقول نص أو نصوص وجملة ، أو نقول نص أو نصوص وفقرة واحدة مع جملة واحدة . فنحن حين نتحدث عن النص فإنا نأخذه فقرتين فما فوق . وإذا أردنا الدقة أكثر نأخذه زوجا زوجا من الفقرات ، فيكون النص هو فقرتين وأربع فقرات ( أي نصين ) وست فقرات ( أي ثلاثة نصوص ) وهكذا .
والفقرة في تحديدنا ليست أيضا مجموعة جمل متماسكة بصرف النظر عما تعالجه ، إذ لو كانت الفقرة كذلك لحصل تداخل في اعتبار أيهما نص ، وأيهما فقرة . فالكلام المكون من ثلاث جمل ( أي من فقرة وجملة ) لا يصل في حسابنا إلى كونه نصا ، وهو كلام معبر وذو حمولة ، إنه فقرة واحدة ، وتجاوز الواحد إلى المجموعة يعطينا نصوصا وليس فقرات ، ومن هنا كان هذا التعريف والتحديد للفقرة غير مقرر عندنا ، لأنه لا يطابق واقع الفقرة ، مثله مثل تعريف النص ، فتكون الفقرة في الممدرية هي الكلام المكون من جملتين ، فإذا زادت الجمل بأن صارت ثلاثا ظلت فقرة مع جملة يتيمة ولم تصل إلى اعتبارها نصا ، لأنها تحتاج إلى ما يكملها ، وإذا وصلت إلى الفقرتين صارت نصا كما أسلفنا ، وإذا زادت فصارت ثلاث فقرات ظلت نصا مع فقرة يتيمة لأنها تحتاج إلى ما يكملها لتصير فقرة ثانية فتضحى الفقرتان بهذا التكامل نصا . إذن فالفقرة كل مكون من جملتين فما فوق . الجملتان : فقرة . والفقرتان : نص .
والجملة في الممدرية هي نفس الجملة في تعريف السفير أنطوان ، وهي التي نتفق معه عليها . فالكلام المركب من كلمتين لهما معنى مفيد ، جملة ، ومثلها مع أختها فقرة ، وهكذا .
إذن فالنص في الممدرية كل مكون من فقرتين .
والتناص لغة هو الازدحام . فتناص القوم بمعنى ازدحموا .
واصطلاحا خارجا عن اللغة العربية فإن التناص كفكرة خلقها الشكلاني الروسي شلوفسكي ، وأخذهـا عنه باختين وحولها إلى نظرية . فمفهوم التناص ظهر أول ما ظهر في مجلة طيل كيل Tel quel الفرنسية التي جمعت مجموعة من النقاد الذين اشتغلوا على التناص . وأول منظر للتناص هي الكاتبة جوليا كريستيفا Julia Kristiva ، وتعرفه بقولها أنه ذلك : " التقاطع داخل النص ( قول ) مأخوذ من نصوص أخرى " مجلة الكويت ، العدد : 247 ، مقـال : التناص ومفهومه في النقـد الغربي والعربي للدكتور : تركي المغيض . صفحة : 72 . وهو ( أي التناص ) عندها : " كل نص هو امتصاص أو تحويل لوفرة من النصوص الأخرى " المصدر السابق . وكل نص عندها أيضا : " عبارة عن لوحة فسيفسائية من الاقتباسات ، وكل نص هو تشرب وتحويل لنصوص أخرى " المصدر السابق .
ويعرف روبرت شولتز Robert Choltz مصطلح التناص بقوله : " النصوص المتداخلة أخذ به السيمولوجيون مثل بارت وجيني وكريستيفا وريفاتير .. وهو اصطلاح يحمل معاني وثيقة الخصوصية تختلف بين ناقد وآخر ، والمبدأ العام فيه هو أن النصوص تشير إلى نصوص أخرى ، مثلما تشير الإشارات ( Signes ) ، تشير إلى إشارات أخر ؛ وليس إلى الأشياء المعينة مباشرة . فالنص المتداخل هو نص يتسرب إلى داخل نص آخر ، ليجسد المدلولات سواء وعى الكاتب بذلك أو لم يع " المصدر السابق . صفحة : 72 – 73 .
ويعتبر جيرارد جنيت Gerard Jenet النص ( طرسا ) أو نصا جامعا يسمح بالكتابة على الكتابة . ويؤكد لتش Letch حتمية تداخل النصوص لأنها عنده سلسلة من العلاقات مع النصوص الأخرى ..
والتناص : " تفاعل بين نص ونص آخر " عالم الفكر . صفحة : 241 د : عفاف البطاينة في مقال : الترجمة تطويع أم تغريب ؟. العدد 1 يوليو سبتمبر ، المجلد 32 .
فإذا أخذنا التناص لغة وطبقناه على النصوص نجد أن كل الكتابات تتناص ، حتى تلك التي لا تأتي مفيدة . تتناص النصوص في القرآن الكريم على شكل مدهش ومعجز ، بحيث لا تستطيع نقل حرف من مكان إلى مكان آخر ، أو كلمة من موضعها إلى موضع آخر ، ولا تستطيع استبدال جملة بجملة ، أو فقرة بفقرة ، أو نص بنص ، فلو أخذنا جانب الحساب نجده معجزة من نوع آخر ، ولو أخذتها من جهة الكشف والإحالات تجدها كذلك ، فهي نصوص تتناص بين دفتي كتاب .
انظر إلى أي كلام ، مقالة أو خطابة .. خذ كتابا أو جريدة أو منشورا .. ستجد التناص ، لأن الحروف والكلمات والجمل والفقرات والنصوص تتناص فيما بينها ، فيما يحويها من ورق وأفواه .. هذا هو التناص لغة من جهة الوضع ، وهو معقول لأنه يلتزم بقاعدة اللغة في الاستعارة والمجاز ، وهو ما لم نلحظه كمعنى مقصود بالتناص عند مدرسة طيل كيل Tel Quel ، نلحظ فقط كتاباتهم وكتاباتنا تتناص ، ولكن بمعنى الازدحام الدال على الاجتماع في إطارات مادية كالكتاب والمنشور ، ومعنوية كالحديث التلقائي الذي يتناص في فم المتكلم ..
كثيرا ما نشاهد نقادا غربيين ومقلديهم من العرب يتعمقون في بحوث كثيرة ، فيبذلون جهودا مشكورة ، ولكنهم لا يصلون إلى الاستنارة ، والسبب يعود إلى خلطهم بين طرق البحث وأساليبه . فهم حين يتناولون نصا أدبيا ينحرفون في النظر إليه عن طريق فهمه بغير الشروط التي يتطلبها . وكذلك الشأن حين ينتقلون إلى النص الفكري والسياسي والتشريعي .. انظر إلى تنظيرهم للأجناس الأدبية مثلا ، يتداخل عندهم الأمر بين الذوق والاستقصاء ، بين تغذية العقل بالفكر ، وهز المشاعر بالإثارة ، بين نص يعالج مشاكل الناس ، وآخر يرعى شؤونهم ، وثالث يهز كيانهم .. إنهم يستنيرون بسراج لا زيت فيه ..
إن الذين قالوا بالتناص من النقاد العرب والمثقفين لم يكونوا موفقين في مسايرتهم للنقد الغربي ، كانوا غير دقيقين . فالمعنى المراد معنى توليدي ، فلا هو نص يتفاعل مع نص ، ولا هو تناص . وقد عرفته الناقدة كريستيفا كما سبق ذكره ، وهذا وحده كاف لإدراك الفرق بين التناص في معناه عندنا . وحتى لو أريد أخذه استعارة ومجازا ؛ فإنه لا يستقيم ، لأن ذلك مفقود في المصطلح ، فليست هناك علاقة مشابهة ، أو صفة تجمع بين طرفي التشبيه ، ومعلوم أن الاستعارة لابد لها من قرينة حالية أو مقالية أو لفظية تأتي في سياق الكلام مع علاقة المشابهة والصفة .
وإذا حاولنا أخذه مجازا نجده لا يستقيم أيضا ، فالتناص ليس كلمة تستعمل في غير معناها الوضعي لعلاقة مع قرينة لفظية أو حالية تمنع إرادة المعنى الحقيقي ، كما ليست هناك علاقة مشابهة في السببية والمحلية .
كان أولى بالنقاد العرب أن يعربوا اللفظ ويتركوه على حاله ولا يعدلوا فيه إلا إذا كان فيه ما لا يوجد في العربية من حروف يجب استبدالها بحروف عربية حتى يستقيم النطق والفهم فلا يشوش على فهم القارئ والمتلقي .
إن فعل الولادة ليس هو فعل الازدحام الذي يظهر اجتماع المزدحم مع مزدحم مثله في حيز ما . فالنص المتولد عن نص لا يعني نصا مزدحما ، إذ لا يظهر عليه شيء من ذلك ؛ وإن كان الازدحام موجودا في سائر النصوص . انظر إلى أي نص ، سواء كان أدبيا أم فكريا أم سياسيا أم تشريعيا أم علميا فستجد ازدحاما واجتماعا للكلمات ، للجمل ، للفقرات ، للنصوص .. وهذا ليس توالدا ، ولعل بداهة القول جعلت العرب الأوائل ينصرفون عن التناص في الاستعارة والمجاز لغياب العلاقة بينه وبين عملية التوليد والبناء والانبثاق .
يمكن للنص أن يبنى على نص . يمكن للنص أن يلحق بنص . يمكن للنص أن ينبثق عن نص . يمكن للنص أن يتولد عن نص ، وكل هذا ليس تناصا من حيث الازدحام في الكتب والقراطيس والمنشورات والأفواه ، وليس تناصا بمعنى التوالد ..
ولا أدري كيف يسهو المثقف والباحث العربي عن مثل هذه الأمور عند النظر إلى إنتاج خارج نطاق العربية . لا أفهم لماذا نحاول دائما أن نوجد لمفهوم غربي مدلولا لتعبير ما ، أو اسما لمسمى ما مقابل له في العربية دون مراعاة شروط ذلك في العربية . فالمسموح به لغة التعريب ، وهو إخضاع اللفظة الأعجمية للتفعيلة العربية واستبدال حرف بحرف حين يفتقد إليه في العربية مثل حرف G . والترجمة ، وهي نقل المعاني من قالب لفظي أعجمي إلى قالب لفظي عربي يحرص فيه على أداء المعنى بتعابير عربية وليس إطلاق أسماء على مسميات لها أسماء في اللغات الأجنبية ، هذا لا يسار إليه ، وقد وضع العرب الأوائل للعربية قواعد للأخذ من غيرها من اللغات الأعجمية ، وسار على خطاهم القرآن الكريم ..
إن عملية التوليد التي تربط والدا بمولود عملية تعني :
- أن يكون الناتج ناتجا عن سبب .
- أن يكون منبثقا عنه .
- أن يكون مبنيا عليه .
إن عملية التوليد تتطلب إقرارا على سلوك حتمي يكون قانونا للتوالـد ، وهو في الأشياء معروف . فالمادة الخام أساس التوالد في الأشياء . انظر إلى معدن النحاس المنصهر مثلا ، تستخرج منه أسلاك لاستعمالها في الاتصالات السلكية والكهرباء والأواني والتماثيل والميداليات في الألعاب الأولمبية .. وكذلك معدن القصدير والألومنيوم والذهب والفضة والحديد والفولاذ .. وإذا انتقلت إلى الكائنات الحية ستجد كل كائن ولود يكون سببا للكائن الثاني . والخلية التي انتزعت نواتها في عملية الاستنساخ تتوحد مع الخلية التي بقيت نواتها على حالها تؤكد هي الأخرى سببا ومسببا ..
وفي الأمور المعنوية نجد سبب الفخر ، النجاح . وسبب الغضب ، الإثارة والظلم . وسبب البهجة ، الرضى والاستحسان .. وإذا انتقلنا إلى الكتابة وما ينتجه الكاتب والمؤلف سواء كان كاتبا فعلا يكتب بعقله وقلبه ، أو كان كاتبا آخر ، ولكنه يكتب بعقله تعبيرا في كلامه المرتجل ولو كان ابن السنة الثانية من عمره ، أو كان منغوليان ، أو بليدا ، أو مجنونا يركب النصوص بكلامه غير المدرك من قبلنا ..
إذن فالنص الثاني الذي يصطف متناصا مع النص الأول يتناص معه لغة ، ولا يتناص منه ( أي يتولد عنه ) ، صحيح أن الأول سبب للثاني ، ولكنه بالتأكيد ليس متولدا عنه ، وقد يكون ..
عملية التوليد لا تكون دائما في النصوص ، وهي في الفكر أكثر توالدا منها في الأدب ، الأدب ذوق ، والذوق مسألة المتلقي ، ويعني ، فهمه للنصوص الأدبية . ولغة العواطف هي الأدب ، بينما لغة العقل هي الفكر ، وعملية التوليد في الفكر تكون أوضح منها في الأدب ، لنرى ..
في الأدب يقال بالتناص وهو ولادة نص من نص ، ولنعط مثالا بنصنا الأدبي هذا : " وقفت الدابة تنوء بحملها وتقول : الله يلعن صاحبي . سمعها أحد المارة فخطا إلى الخلف واقترب من أذنها وهمس : تتكلمين ؟ فردت عليه : نعم ، فقـال لها : ارفعي تظلمك إلى صاحبك علـه يرحمك .. فأجابته : أ أ .. تريده أن يطلب مني الصياح بدلا عنه آلليخيا .. آلليخيا " أشذاب الوهم ، قصة قصيرة ، نشرتها في جريدة طنجة ، العدد : 3273 ، السبت 29 ماي 2004 ، صفحة : 6 .
في محاولتنا العثور على نص وليد في النص الأصلي نهتدي إلى أن النص المذكور يتضمن مقولة : سمعها أحد المارة فخطا إلى الخلف ، واقترب منها ، ومعناه أن المار كان قد تجاوز الدابة ، وبه يتحقق الخطو إلى الخلف ، وهذا المعنى يعبر عنه بجملة أو فقرة أو نص ، فيكون مولدا من النص الأول ، هذا ما نستنتج مع ملاحظة أن ذلك كله ولادة للمعاني في الجمل والفقرات والنصوص ..
وعند التدقيق في هذا النص نجد أننا لا نلاحظ أي عملية ولادة ، فالنص الأصلي صياغة تنطوي على هذه الصورة ، والمتلقي لم يلحظ مخاضا للنص ، بل لاحظ تضمينا ، وهذا في العربية بديع ، وهو تكثيف واقتضاب لا يقدر عليه إلا البارع في التعبير الأدبي ( عفوا لست المعني ) وهذا يشبه كثيرا من التعابير الموجودة في روائع الأدب ، فجملة : رجع إلى هدوئه ، تعني أنه كان غاضبا . وجملة : خفت صوت الفتاة ، يعني أن صراخها كان مرتفعا . وفقرة : (( وجاء دورهما ، فدخلا على القاضي ، ووقفا بين يديه )) من قصة : أنا ما بعد حداثي تؤكد الانتظار في مكان ما من المحكمة ، وتؤكد وجود منتظرين مثلهما ، فكان لابد من نظام يحدد صاحب الدور حتى يدخل على القاضي ، هذا فضلا عما يمكن استخراجه من الفقرة مما لم أره أنا وقد تراه أنت حضرة القارئ الكريم . وفي قصة : سهم البنوة :
(( - تكلمي ولا تخافي .
- ……………..
- إنه من الآن ولدي ، انتهت مشكلتك )) .
هذه الفقرة بصرف النظر عن الأسطر التي وضعتها تحت : تكلمي ولا تخافي ، تؤكد ضمنا حكيا ، لأنه قد فهم من سياق كلام بوطيبة في قوله : إنه من الآن ولدي ، انتهت مشكلتك ، فهي قد كانت مشغولة بسرد حكايتها بشأن الصبي خلاد . وهكذا حتى يتكون لدينا نص يتضمن ما يقع تحته ، وينطوي عليه ..
ما نلحظه في النص المذكور ، وما يلاحظ في جميع النصوص أنها بروابط نظامية ، ببناء محكم يمارسه الفرد لاستظهار بنائه ، وهو بذلك يكشف بنية بنائه من جميع الجهات ، من الداخل والواجهة ، فكذلك النصوص في اللغة ، إنها بنية لغوية قامت بالكلمات والجمل والفقرات والنصوص ، والذي قام بها ونظمها وربط قواعدها بأعمدتها ، وأصولها بفروعها ، وواجهتها بموقعها التعبيري هو الفرد ، وهذا هو النظم الذي يؤكده الجرجاني بحيث يعلق الكلام على كلام ، ويجعل بعض الكلام سببا لكلام .
ولنأخذ نصـا قرآنيا تولدت عنه نصوص أخرى وهو قوله تعالى : " مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان " الرحمن . 19 – 22 . فلقد تأولها رجال شيعة بأن البحرين هما علي ابن أبي طالب وفاطمة زوجته بنت النبي ( ص ) ، واللؤلؤ والمرجان هما الحسن والحسين ابنا علي وفاطمة ، لأنهما خرجا من البحرين ( علي وفاطمة ) ، والبرزخ هو النبي محمد ( ص ) لأنه يقع بينهما فهو جسر يصل بينهما . وذهب رجال شيعة أيضا إلى توليد نصوص من نصوص في سورة النور فجعلوا نور الله هو العقل الكلي ، والمشكاة هي النفس الكلية الصادرة عنه ، والزجاجة هي صورة الهيولى الأولى .. فمن أين جيء بهذه النصوص ؟ هل انبثقت عن النص الأصلي ؟ هل بنيت عليه ؟ هل كان النص الأول سببا لها ؟ هل هو مصدر لها ؟
بتناول التناص حسب مفهوم الغرب له يجوز لنا قبل كل شيء اعتبار ما ذكر تناصا لأنه منشئ ومستحدث باسم التناص ، وفي هذا تكسير للقواعد ، وهو عمل ما بعد حداثي الذي : " يجب أن نكون بإصرار ما بعد حداثيين " كما تدعو الناقدة والروائية : جوليا كريستيفا . الاتحاد الاشتراكي ، فكر وإبداع ، العدد : 7699 ، الجمعة : 10 . 9. 2004 . وقد شهد كتابنا التفكير بالنصوص هذا العمل غير الحداثي وما بعد الحداثي في الحوار الذي جرى بين كليلة ودمنة ضمن بحث النص الأدبي فليرجع إليه .
أي تناص هذا ؟
إن السلسبية نصوص أدبية وفكرية .. تشهد سيلانا للمعاني الكثيرة في الجملة الواحدة ، أو الفقرة الواحدة مثلما مر معنا في جملة : قعد أسفل رأسه فحار له الموضع واستغلق له الفهم . تستطيـع كتابة نصوص كثيرة من خلال هذه الفقرة ، وما تفعله ليس تناصا لأنك تجعل الفقرة سببا لبحثك ، أو تجعلها موضعا لبحثك ، أو تجعلها مصدرا لبحثك ..
النص الأدبي نص لغوي أولا وأخيرا ، والتأليف فيه لا بد أن يستهدف النظم والإثارة ، يستهدف نظم الكلمات والجمل والفقرات والنصوص في قالب أدبي يأخذ بشروط النص الأدبي صعودا لا هبوطا ، ويستهدف إثارة العواطف والمشاعر بالرضى والغضب ، بالحزن والفرح .. وهذا هو الطريق نحو الشاعرية ، والشاعرية عند تحققها بهذا النظم ، هي الجمال ..
إن التناص كفعل الولادة لا يوجد إلا في شيء واحد ، في عملية واحدة نسميها انبثاقا وهو ما يجب أن يلاحظ في كل نتاج ، والسبب في ذلك هو الركون إلى قاعدة فكرية . فالمشرع الغربي مثلا يستطيع خلق تشريع جديد لمسألة جديدة من خلال اعتماده على الدستور فيكون الدستور هو المادة الخام ، ويكون مصدرا لتفكيره ، وهنا تتحقق الولادة ، يتحقق الخلق ، يتحقق الإنشاء والاستحداث ، يتحقق التناص وهو في الممدرية انبثاق وانبجاز ، وينطبق هذا على المسلم والشيوعي ، فكل منهما يعتمد تصورا كليا عن الكون والإنسان والحياة ، وفي ممارستهما لعملية التفكير في الحلول يأتيان بنصوص مولدة عن نصوص ، بنصوص منشأة منها ومستحدثة عنها وهكذا . وللتوسع أكثر ننصح بتناول الكتاب المذكور أعلاه في بحث النص التشريعي لترى كيفية الولادة ..
إن الذين يقولون بالتناص يؤكدون لا نهائية الدلالات في النصوص ، وهو رأي يقول به التفكيكيون ، وهذا يوجب على الإنسان أن يحيط بالمعاني وهو ما لم يقل به أحد لاستحالته ، فكان النص ذي الدلالة غير النهائية لا واقع له ، فلا يمكن لبشر أن ينتجه ، فالعقل البشري المحدود لا يمكن أن ينتج غير المحدود ، هذا محال ، ثم إن ذلك لا يتحقق إلا في نصوص الوحي ، وليس في كل نصوص الوحي طبعا ، فهذا لو حصل يخرج الوحي عن أهم جانب فيه وهو التشريع الـذي يقضي بوجوب نهائية الأحكام لقضايا ومسائل ومشكلات ، وفيه ما يؤكد ذلك في الدلالة المحددة ، وما أكثرها فيه ، وقد تم العمل بذلك ، ولم يزل ..
إن تقاطع التعابير داخل النص كما تزعم كريستيفا لا يمكن أن يؤخذ من نصوص أخرى . فالتعبير قول أو كلام أو إشارة أو علامة مكتوبة للقراءة ، أو ملفوظة للنطق ، أو منقوشة في الكهوف لنقل المعنى إلى الغير ، أو على لوحات للعمي يلمسونها بأصابعهم لإدراك المعنى أو مدركة بالبصر للصم ، أو للموسيقيين لعزفها أيضا .. هو كلام مركب من كلمات وجمـل وفقرات ونصوص ، وهو بذلك بنية لغوية ، فإذا حصل التقاطع بين هذه التعابير كان كلاما ( نصوصا ) متناقضا ولو لم يكن مبهما ، والتناقض في الكلام ما لم يكن رياضة ذهنية ، ما لم يكن اصطلاحا جديدا للغة جديدة يكون عملا فاسدا لا يستحق معاناة القراءة إلا لدى أستاذ يدرس تلاميذه ويعلمهم ضروب التعبير السليم .
إن التعابير المتضمنة لتعابير أخرى يمكن استخراجها منها ، أو التعابير التي تحيل إلى غيرها ليست تناصا بنفس المعنى الغربي له ، فالتناص بالنسبة لكريستيفا ليس هو ما تشرحه لقرائها ، إنها تقول بالتوليد وتتحدث عن شيء آخر . والنص لا يمتص نصا آخر ، ولا يحوله إلى وفرة من النصوص الأخرى كما تقول ، لأن عملية التحويل ليست خاصية النص ، أو من خاصيته ، بل هي من فعل عاقل مفكر يتصرف في النصوص خلقا وفهما ..
النص بناء مركب في أدوات هي الحروف والكلمات والجمل والفقرات ، وهذه كلها تقوم في التعبير المراد به الغير والمتلقي ، فلو امتص نص نصا لاختل التعبير ، وإذا حول نص نصا آخر اختل التعبير أيضا ، إذ كيف يحصل ذلك في النص دون التأثير على البنية التعبيرية ؟
إن فكرة النص التوليدي التي تطرحها كريستيفا لا يكون إلا في النصوص التي تعتمد مصدرا للتفكير ومرجعا للبحث بحيث تنبثق عنها النصوص كما سبقت الإشارة في الحديث عن الانبثاق ، فإذا تم حصر النص التوليدي في هذا المجال كان حصرا سليما لأنه لا يخلط بين النصوص حيث لا يجب الخلط المستهدف في ما بعد الحداثة . فالمادة الخام كما أسلفنا هي الفكرة الكلية ، والتناص منها واقع لمن يعتنقها ، انظر مثلا إلى كريستيفا وكيف جعلت الواقع مصدرا لتفكيرها ، لقد أنتجت وفق تلك المنظومة الفكرية ، وانظر إلى من يتناقض معها من الأدباء والنقاد والمفكرين الذي يتبنون غير ما تتبنى هي ، فإنهم يختلفون عنها في التناص ، وهذا طبيعي إذ لكل مادته الخام ( الفكرة الكلية ) التي يستخرج وينشئ منها الأفكار ( النصوص ) ..
وهي حين تتحدث عن التقاطع والتعديل ، تؤكد ما ذهبنا إليه في وجود التناقض في تنظريها للتناص .
وعند رو برت شولز Robert Cholz أن النصوص تتداخل ، ثم تشير إلى نصوص أخرى ، ثم تتسرب إلى داخل نص آخر لتحديد المدلولات بصرف النظر عن وعي الكاتب على ذلك أو عدمه .
ونحن هنا لا نقف عند التداخل وتوظيفه حيث لا يجب توظيفه ، لأن التداخل بمنطق المتناصين دخيل ، والدخيل أجنبي ، نتجاوز هذا ونعتبر المتداخل هو الداخل علما بأنه ليس تداخلا ، نقول بالداخل لأنه من تعبير شولز يتسرب إلى داخل نص آخر ، فهو داخل والنص الآخر مدخل ، لنرى كيف يدخل نص في نص .
لا توجد قابلية في أي نص لامتصاص نص آخر داخله ، قد يدخل عليه ، والدخول عليه يعني شغل موقع من حيزه ، وهذا واقع ، أما أن يدخل فيه فهذا لا يكون ، ولو كان لما كان نصا ، بل لكانا نصين ، نص أول هو مادة للتفكير ومصدر له ، ونص ثان مبني على الأول أو منبثق عنه ، وهذه عملية مدركة منذ القدم ومطروقة في التفكير البشري وإنتاجه الفكري والثقافي .
وأما وعي الكاتب أو عدمه فهذا عائد للكاتب والمتلقي ، الكاتب حين يفتح نصوصه تترك تلك النصوص مجالا للآخر للحفر والنفش فيها ، فيبحث الحفار عن خفاياها وكأنه يبحث عن مستحثات ، وهذا عمل يعود إلى النص مـن حيث هو نص مبني على كلام عام غير مخصص ، أو كلام مطلق غير مقيد ، أو مشترك ، أو بناء على ألفاظ دلالاتها ظنية ، أو بناء على تعبير رفيع يستهدف ذلك في ذهن المتلقي .. وأما بالنسبة للمتلقي فإن الأمر يعود إلى جهده ، وليس إلى النص ، فكم من نص يبني عليه متلق نصا آخر ، أو يستخرجه منه ، ونفس ذلك لا يحصل لآلاف المتلقين الذين قرأوا النصوص وأعملوا عقولهم فيها ، فرب مبلغ أوعى من سامع ، ورب قارئ أبدع من كاتب ، ورب حامل فكر إلى من هو أكثر ثقافة منه ، ورب متلق أشطر من مؤلف ..
والنص الجامع لدى جيرارد جنيت Gerard Genet الذي يسمح بالكتابة على الكتابة نص مركب ، وهو من التناص عنده ، والنص الجامع حتى وإن لم يكن مانعا يجب أن يكون نصا بقابلية البناء عليه ، يجب أن يكون نصا متضمنا لكل ما يحتاجه عند عملية التوليد وإلا لما كان جامعا ، فإن لم يتضمن الاستعارة والكناية والمجاز والألفاظ ذات الدلالة الظنية وغير ذلك من ضروب البنى التي تسمح بالولادة لا يكون نصا جامعا ، ويظهر النص الجامع بشكل أوضح في البحوث الفكرية كالتعاريف العقلية ، والتشريعية كالتعاريف الشرعية والسياسية والعلمية .. ولا يظهر في النصوص الأدبية إلا وأفسدها ، لا يستقيم في الأدب إلا في جانب الحوار الذي يرمي إلى تضمين الفكر والسياسة والعلم كما هو الشأن في الأدب الممدري ..
هذا ما يؤدي إلى عملية خلق نصوص جديدة بالانبثاق والبناء من خلال العقلية التي تحدد واقع النص الذي يقع عليه الحس ، فإما أنه موضع التفكير ، أو مصدر التفكير ، والفرق بينهما فرق كبير جدا .
والنص لا يخترق النص ، والتفكير في النص والنصين لا يؤديان إلى الخرق ، بل يؤديان إلى استنباط واستظهار وخلق وإنشاء ، يؤديان إلى نقض ونقد .. وهذا عائد إلى الإنسان المفكر في النص ، ولتش Letch حين يؤكد كلام سلفه يذهب إلى حتمية وجود علاقة نص بنصوص أخرى ، ونحن حين نريد التعبير عن فكرة أو فكرتين نستطيع التعبير عنهما بجملة واحدة ، نستطيع التعبير عن الفكرة بفقرة واحدة ، نستطيع التعبير عن مجموعة أفكار ومجموعة معاني بجملة أو فقرة واحدة ، فأين حتمية التداخل مع النص الآخر وهو لم يوجد بعد ؟ أين هو ووظيفة التعبير لم تستعمل أكثر من فقرة أو جملة ؟ أين التداخل هنا ونحن لا نملك غير فقرة ؟ وإذا ملكنا نصا وكان التعبير محصورا فيه عن مجموعة أفكار ، فأين النص الآخر الذي ينشئ علاقة معه ؟ صحيح أن النصوص مرتبطة ببعضها البعض ، ولكنها ليست متداخلة وقد تكون ، ولكنها إذا كانت متداخلة لم نلف تعبيرا سديدا ، أو نصوصا مستقيمة . إن التداخل والعلاقة يكونان في النصوص بحسب بناء الكاتب والمتكلم لها في زمن معلوم بقدر معلوم وحد معلوم ، وهي بالنظر إلى سلامة التعبير ليست سواء ، فالمتداخل من النصوص لا يستقيم ولو وجد ، وهو موجود في كثير من الكتابات الحداثية وما بعد الحداثية المبهمة .
وعند تودوروف Todorof حديث عن الظاهرة الأسلوبية كصراع نصوص تنبثق من نص ما هي إلا قضية وجود وحضور في كل أسلوب جديد تنشـأ داخليا كجدلية تقويضية للنص الآخر ، أو هي معارض أسلوبيـة على حد تعبيره في ذمة الدكتور : تركي المغيض .. هذا الكلام يدل على فوات صيد ثمين كان الصائد يتربص به فنأى عنه . فالكلام العام في التنظير يدل على تعب ذهني يحتاج الذهن فيه إلى راحة حتى يبدع تعابير محددة . انظر إن شئت إلى الرياضة الذهنية في الأدب الممدري ، أليست أسلوبا جديدا في التعبير ؟ فهل قامت وفق شروط تودوروف ؟ كلا .
وعنـد رولان بارت Rolan Bart كلام يدل على فطنة ، ولكن كلامه على أن التناص هو قدر كل نص فهو كلام دال على خفة عقل ، فقدر النص هو أنه نص خلقه مفكر يعبر به عن ذاته إن كان نصا أدبيا ، أو يعبر عن واقع إن كان النص فكريا ، ويريد من المتلقي للنص الأدبي أن يتذوقه ، لأن التذوق هو الفهم للنص الأدبي ، ويريد من المتلقي للنص الفكري أن يدركه ويدرك مدلوله والواقع المعبر عنه ، وحين يربط نصه الأول بالنص الثاني فإنه يسيج لنا عالما يخصه في إدراكه وتصوره ، ويحاول منا أن نسلك مسلكه عند دخولنا عالمه ، ولكن لا ننسى أننا داخل سياجه ، داخل أسلوبه ، داخل تعابيره التي تأتي في علاقات مع غيرها ، وقد لا تأتي ، تأتي في نصوص وتنعدم من أخرى وهكذا .
كان يمكن للتناص أن تكون له جذور اصطلاحية لو أن العملية النقدية المحددة لدى النقاد الغربيين في التناص كان فيها ما يمكن أن ينشئ علاقة واحدة ، ولكن ذلك غير موجود إلا في التضمين لو ثبت ، وعليه وجب ترك التناص لأنه تعبير هجين يعكس فقرا فظيعا في خلق المصطلحات والتعاطي مع الفكر الآخر ، لا يعبر عن واقع ما يقصده النقاد الغربيون .
فما ساقه النقاد العرب من صياغات للتناص لا ترقى إلى سلامة نقل ما لدى الغرب إلى القارئ العربي ، فالتلقيم والتناصص وتضافر النصوص وتناسخ النصوص والنص الغائب والنصوص المهاجرة والمهاجرة إليها والتناصية .. كل هذا لا يرقى إلى اعتباره دالا على ما لدى الغرب حقيقة في بحث النص المولد عن نص آخر قبله ( أي التناص ) .
فالتناص ليس تعالقا على حد تعبير محمد مفتاح ، علما بأن العلاقة موجودة ، ولكنها ليست هي المقصودة لدى مدرسة طيل كيل Tel Quel . ويخطئ علوي الهاشمي في بنائه على تعريف مفتاح في تركيزه على التعالق ، علما بأن التعالق موجود ، ولكنه أيضا ليس مقصودا لدى طيل كيل Tel Quel .
وأما الزبيدي فقد عزا التناص بقوله : " إن التناص هو تضمين نص لنص آخر " المصدر السابق . صفحة : 74 . وهو أحسن تعريف لفكرة التوالد لدى كريستيفا : كان أولى بالنقاد العرب أن يشتغلوا على التضمين والولادة اشتغال المترجم .
والنصوص المستترة التي يحويها النص ليست تناصا ، إنها نصوص لا ترقى أن تكون جنينية يمثل النص فيها الرحم ، ويمثل النص الآخر المستتر فيها الجنين ، وهذا وإن تم الإصرار على اعتباره شبيها بالجنين فإنه ليس ولادة ، لأن الجنين موجود ينتظر ولادته ليس من تلقاء نفسه ، بل من غيره ولو أن تكون فطرته التي فطر عليها ، فيكون النص الأول هو الذي أنشأه حين ضمنه فيه وستره في بطنه وفق عملية لغوية ملتزمة وضرورية ، فالمولد للجنين ( للنص ) هو الذي ينشئه مبدءا ، ومن يأتي بعده إذا أنشأ نصا منه بناه عليه بحيث لم يتناقض معه ، أو استحدثه من مكوناته ، فيكون مفكرا ثانيا ينتج النصوص من النصوص ، ومن منا لا يتحتم عليه الاستناد في العملية العقلية التوليدية على المعلومات السابقة ، أو الأفكار القبلية على حد تعبير كانط .
إن النص أي نص لا يستقيم معناه إلا بحركات أو علامات إعراب ، لأن النحو أساس في ذلك ، ولكن وظيفته ( أي وظيفة النحو ) : (( ليست مجرد ضبط الوحدات داخل النص اللغوي كما يتصور البعض بل تحديد المعنى وتخصيصه )) المرايا المقعرة . د : عبد العزيز حمودة ، عالم المعرفة 272 السنة : 2001 . فلو سلمنا بولادة نص من نص فماذا نلحظ عندما يتضح ممارسة منشئ النص الثاني لعملية ضبط الوحدات في نصه الثاني ، فهل هو منتجه من ذاته أم منتج النص الآخر داخل في الاستحداث يشاركه الخلق والإبداع ؟
إذا خلطنا النصوص فإن ذلك يعني على أقل تقدير نقل جمل وفقرات من مكان إلى مكان آخر ، ولا نقول بنقل الحروف لأن ذلك يفسد العمل نهائيا . وفي نقلنا للجمل والفقرات ووضعها على شكل يختلف عن سابقه مع مراعاة خلق جديد غير مشوه ، تعابير سليمة تؤدي معاني واضحة ، أو معاني تحتاج إلى فنية لكتابتها ، وفنية لاستخراجها ، فإن ذلك يدل على عمل لا دخل للمؤلف فيه ، وهذا لا عيب فيه إلا في جهة السرقات ، فالسرقة للمعنى سرقة جائزة ، لأن المعاني ملكية عامة للبشر ، ولكن السرقة للقوالب اللفظية غير جائزة ، لأنها مشينة تحط من قدر الكاتب وتقردنه .
وإذا تركنا النصوص على حالها وأردنا إنشاء نصوص أخرى ، أو ملاحظتها ، فإننا أمام أمرين اثنين هما :
- الملاحظة .
- الإنشاء ، أو الاستحداث .
بالنسبة للملاحظة فإنها تدل على حسن القراءة ، وتدل على عمق القارئ واستنارته في قراءاته للنصوص ، ولكن بشرط أن يؤكد عند أي إنشاء ، علاقة بين نصه ، وبين النص الأول ، وهو هنا عامل الانبثاق والانبجاز مع قابلية النص الأول لذلك ، والتي تدل على براعة واضعه وعبقريته .. ومع ذلك لا يعني ما ذكر أن النص مـولد عن نص ، بل هو مولد عن مفكر جعل النص الأول مصدر تفكيره ، أو موضع تفكيره .. ومن منا لا يستند في تفكيره على خلفيات ؟ لا أحد .
وأما الإنشاء فإنه يعني تفكيرا جديدا ، إنه تفكير مركب من تفكير سابق عليه ، وهذا طبيعي في الناس ، فالمفكر الثاني مثله مثل المفكر الأول بشر يحس بالوجود ويتفاعل معه ، ولكن اختلاف الإحساس والتفاعل هما اللذان يخلقان المسافة بين مفكر ومفكر ، وبالتالي تكون هي نفس المسافة بين نص ونص . انظر إلى المعاني فهي موجودة وبوفرة وفي متناول الجميع . فالجالس على قمة سيدي المناري في طنجة وفي جو صحو صاف ورياح شمالية ، تظهر أمامه جبال الأندلس ، يظهر جبل طارق ، وتظهر جبال كاديس ، تظهر سفن الصيد والبواخر العملاقة تمخر العباب ، تظهر بنايات طريفة وزرقة السماء والبحر وعبار الفضاء والدلافين .. وعن يساره تظهر طنجة الوديعة كصحن مقعر ، كعروس سرق منها عريسها ليلة زفافـها .. كل هذه الأشياء تدخل الذهن مباشرة عند النظر إليها دفعة واحدة ، وهي صور كثيرة مختلفة في شكلها ونوعها وجنسها .. وعند التعبير عنها يحصل شيء من التأخر عند عملية التعبير ، فالتعبير هنا ليس المقصود به الشخص ذاته لأنه قد أدركها ودخلت ذهنه ، بل المقصود به الآخر الذي لم يرها ، فمن ينقل إليه تلك الصور ، تلك المشاهد ؟ هل يسمح له باستخراجها دون واقع ؟ بالطبع لا ، فلا بد للأول من التعبير ، ولا بد له من بناء ذلك في نصوص مكتوبة أو منطوقة ، ثم يأتي من يبني عليها أو يستخرج منها ، وهنا يتأكد سبق على سبق مثله مثل الحديث عن اللغة والوجود ..
نستطيع القول وبثقة أننا ، مع اختلاف ، نحفظ ألفاظا ، أو كلمات مفردة بالعشرات والمئات والآلاف ومئات الآلاف .. وأننا أيضا عقلاء نمارس التفكير ، ونعبر بما ألفناه ونظمناه ، فهل ممارسة التفكير تكون باللغة كما يقول عابد الجابري في كتابه : نقد العقل العربي 2 ؟ وإذا كان كذلك فما وضع الصم و البكم الذين لا يحفظون الكلمات ولا ينطقونها ؟ وإذا مارسوا التفكير بالإشارة كلغة خاصة بهم فما وضع العمي ؟ وإذا مارس العمي التفكير بعلامات مرسومة على لوحات تقع أناملهم عليها ، فما وضع اللغة ذاتها ، هل هي إشارات ؟ هل هي كلام ؟ هل هي نقوش ؟
اللغات عبارة عن علامات يصطلح عليها من أجل التواصل ، فهي دائمة التطور ، وقد انتقلت من الأدنى إلى الأعلى فانسجمت مع ما لدى الإنسان من استعدادات فطرية ، وما لديه من خاصيات ملائمة ، ولا يقال أن الصوت واللسان هما أساس اللغات ، لا يقال ذلك إذ لو كان كذلك لاخترع الحيوان لغة قبل ملايين السنين عن مجيء الإنسان ، ينافسنا بها ، علما بأن الحيوان لديه لغة ، ولكنها عاجزة تماما ، لأنها لا تستند إلى شيء أساسي لا بد منه لخلق اللغات ، وهو خاصية الربط الموجودة لدى الإنسان في دماغه ، ويظهر أن أحسن ما يمكن أن يصل إليه الإنسان في مجال اللغة هو الاستناد على الحرف والكلمة والجملة والفقرة والنص مع حتمية ربط الوحدات ببعضها في نظام لا يزال يرتقي ، ومهما تقدم الإنسان فلن يغنيه شيء عن اللغة المكتوبة والمنطوقة ..
إذا أخذنا الكلمات المفردة ووضعناها متباعدة على الورق كما نضع أي شيء على الطاولة والمنضدة ، ثم بدأنا في تصفيفها كما كانت تصفف الحروف المطبعية سابقا مراعاة للنظم ، سنعثر في النهاية على كلام مفيد ، جملة أو فقرة أو نصا ، فهل نؤكد بهذا سبق اللفظ للمعنى ؟
إنني في لغة البكوك وضعت قاعدة قلب الكلمات من الحرف الأخير إلى الحرف الأول واشترطت أن لا تكون لها نفس معاني ألفاظ موجودة في اللغة العربية ، وسقت أمثلة على ذلك ، فهل كنت بعملي أقرر أسبقية اللفظ على المعنى ؟ كلا . انظر إلى الصبي وهو ينضج بين يديك ، فهل يدرك قبل معرفته اللفظ ، أم بعد ذلك ؟
خذ مجموعة كلمات وألق بها على الأرض ، ثم رتبها كلمة كلمة ، فإذا لم تحصل على جملة مفيدة أعد الكرة حتى تحصل عليها ، وعند ذلك اسأل نفسك أيهما أسبق : اللغة أم الوجود ؟ بالطبع اللغة ، فهي هنا تظهر سابقة في الوجود . وخذ موقعا لك في التأمل فستهاجمك آلاف المعاني قبل أن تنطقها وقبل أن تكتبها ، فهل تلك المعاني سابقة للوجود ؟ لنقل نعم ، ولو أنك أنت الذي فكرت فيها ، فلو استثنيناك نسوق غيرك وسوف يقع له معنا نفس ما وقع معك فما هذا ؟
لقد تناولت منجد الطلاب وقلبت صفحاته آخذ من بعضها كلمة اشترطت أن تكون على اليمين في أعلى الصفحة ، وحين رتبتها لم أحصل منها إلا على جملة واحدة مفيدة ، ولم أكرر ( التجربة ) التي أعلم أنها ستنتهي معي إلى أكثر من جملة مفيدة ، فهل فكرت هنا باللغة ؟
إن اللغة سابقة للوجود قول يدل على تعثر وسط الضياء ، فاللغة مسألة وضعية ، والإنسان لم يضع لغته إلا بعد زمن كان فيه يتواصل مع جنسه بغير لغة مما عهدنا ، وهذا قد تمت ممارسته سابقا فكانت اللغات ، ويمكن ممارسته الآن ، وبعد الآن ، وما لغة البكوك إلا نموذج لمن أراد المواضعة بشأنها ، وكذلك غيرها مما يمكن أن تخلق من جديـد ، ولكن هناك خيط رفيع ضل عنه ديسوسير ، ومنع ماركس سابقا من القبض عليه ، وهو الإقرار بوجود معلومات سابقة يتلقاها الإنسان من أبويه وبيئته ومجتمعه ، وإذا أمعنا النظر في هذه الحتمية سنجد أنها تحيل إلى أول إنسان يكون هو أيضا قد تلقى المعلومات السابقة وليس اللغة ، تلقى المعلومات عن كون الماء سبب الحياة ، وكونه يتضمن خاصية الإرواء ، وخاصية طفو الخشب عليه ، وخاصية الإنبات .. تلقى المعلومات عن النار وخواصها كالإحراق والضياء والنور وصهر المواد الصلبة .. تلقى المعرفة القبلية على حد تعبير كانط وبغير فهمه السقيم .
إذن لا ينبني نص على نص ، ولا ينبثق نص من نص إلا بوجود خلفيات لكل من منتج النص الأول ، ومنتج النص الثاني ، ولكن مع مراعاة شروط الانبثاق والبناء ، فلا معنى لاستنطاق نص تحت آلة التعذيب على حد تعبير عبد العزيز حمودة في مراياه المقعرة وحمله على الولادة وهو عقيم .
وليس معنى ما ذكر الدخول في البنية الكبرى للنص كما يقول فان ديخ Van Dekh ، فالحذف والتعميم والتركيب والإدماج بحسب مفهومه لهم كقواعد يبنى عليها النص ليسوا كما يتصور ، فحذف المعلومات غير الجوهرية في الجملة يحقق ذلك في نظره ، يحقق الحذف للمعلومات غير الجوهرية ، فجملة مثل : " مرت فتاة ذات ثوب أصفر - تتضمن ثلاث قضايا 1 ) مرت فتاة - 2 ) ترتدي ثوبا . – 3 ) كان الثوب أصفر . ويمكن إيجازها إلى : مرت فتاة ترتدي ثوبا ، أو مرت فتاة . وذلك (( حيث يكون من غير الضروري لتفسير النص المتبقي ، أن يعرف أن الفتاة ارتدت ثوبا ( وليس جينز أو بلوزة ) ، أو أن الثوب كان أصفر ( وليس أزرق ) " عالم الفكر . العدد : 2 المجلد : 32 أكتوبر وديسمبر 2003 . صفحة : 153 . مقال : علم النص .. للدكتور جميل عبد المجيد حسن . .
وفي جملتنا خف صراخ الفتاة حذف لمعلومة يعبر عنها بجملة أو بفقرة كما سبقت الإشارة ، ولكنه حذف يؤكد المحذوف ويبينه ويعين هيئته ويشير إليه ، وهذا ليس هو الحذف عند فان ديخ ، فجملتنا في بلاغتها أظهرت المحذوف دون أن تعبر عنه إلا ضمنا ، لم تعبر عنه جملة ، أشارت إليه في قلب الجملة الأم ، أشارت إلى : كانت الفتاة تصرخ . والحذف للدال على الثوب في لونه أو نوعه أو جنسه إن تم بشكل يظهره في الجمل اللاحقة يكون ممدرية ، وليس فندخية .
وقاعدة الاختيار ، وهي حذف أيضا لا تستقيم بلاغيا وبيانيا في الأدب الراقي إلا إذا وضعت له جمل مكثفة تحوي غيرها ضمنا ، ولكن بشكل محدد ومعين ، وهذا موجود في الأدب الممدري ، يوجد في الرياضة الذهنية ، وهي نوع من التعبير فريد ربما أطلب له موقعا في بنية اللغة ، سوف أرى ذلك لاحقا بإذن الله . فجملة : " كفى تحريض هرمون الأدرينالين علي ، في : نصوارية الأضداد ، تدل على شيء محذوف محدد ومعين ومختار ، بخلاف ما ذكره فان ديخ ، تشير جملتنا عن قصد واختيار إلى وقف ذهن المتلقي على المحذوف دون سواه ، بخلاف جملتنا : قعد أسفل رأسه ، فإنها لا تشير إلى معنى واحد ( أي معلومة واحدة ) ..
وإحلال قضية واحدة محل قضايا متعددة بالتعميم كما يسميه فان ديخ لا يستقيم في التعابير الممدرية بطريقته ، فسيارة الإسعاف ، والمسدس ، والدمية كلعب للأطفال ملقاة على الأرض بتعابير مركبة لجمل لا تحل محل مكانهم قضية واحدة كما يدعي في عبارة : على الأرض لعب . فالوصف الممدري والتحديد الممدري يستهدفان الرفعة في التعابير ويقضيان بالإتيان بجملة واحدة أو فقرة لا تذكر فيها الجملتان عرضا في الكتابة ، ولكنهما تذكران ضمنا في رحم الجملة أو الفقرة ، وفي السرد لا يقال بالمعلومات غير الضرورية ، لا يقال ذلك إلا إدراكا وليس قولا ، فالروائي الذي يتأثر يروايته متأثر ، قد تمجها أنت غير المتأثر بها ، وبها ما حملك وحمله على سلوك مسلكيكما ، وإذن فالوصف للدمية والحديث عنها ، والوصف لسيارة الإسعاف والحديث عنها ، والوصف للمسدس والحديث عنه ليس مما يقال بشأنه معلومات غير جوهرية ، أي معلومات زائدة .. فالروائي بوصفه للعب ، لعبة لعبة ، وبوصفه للأرضية التي تقوم فيها ، يكون وصفا بما يقتضيه الحس الجمالي للروائي ، فإذا رأى ذلك جميلا ، وأتقن التعبير عنه ، وقتله نظما وحبكا فسيكون جميلا مؤثرا . وفي الكتابات الفكرية يكثر هذا النوع من التعابير خصوصا في الكتب الراقية وبالأخص في الكتاب المتميز والمعجزة وهو القرآن الكريم ، فقوله تعالى : " ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما " سورة الإسراء . الآية 23 . . يتضمن جملة : ولا تسبهما . وجملة : ولا تضربهما .. إذن فالتعميم الفانديخي لا يستقيم إلا بتأدية التعبير عما يراد إخفاءه وهو ما لم نلحظه عنده .
والتركيب والإدماج كقاعدة اختيارية تحل معلومة جديدة محل معلومة قديمة . المعلومات ( القديمة ) تبقى ، وقد يعبر عنها ، قد توظف في تعابير أدبية أو فكرية ولن تزول إلا بزوال ما يتعلق بها ، ويتسبب فيها ، فركوب القطار لم يحل ، ولن يحل محل ركوب الدابة ، كما قد يحل محلها ، وقد حصل ، فكيف ؟ تحل الدابة محل القطار عند الحديث عن المعلومات العرفية مثل الحديث عن المدن الكبرى المزدحمة ، فهنا لا يستقيم التعبير ، لأن وسائل النقل والترفيه والنزهة لم تعد حيوانات ، وقد يستقيم بأداء معنى السفر في غياب ظروفه المدنية ، في البادية مثلا ، بل حتى في المدن الكبرى قد تركب الدابة ، وهي تركب في الأعراس والأعياد ، ويسافر بها من مدينة إلى أخرى كما هو الحال في إسبانيا في بعض أعيادها الدينية ، يركبون الدواب خصوصا الخيل ، ويسافرون من كل جهة في الأندلس إلى إشبيلية ، إلى كنيسة لزيارة الروسيو Rocio ، وهي امرأة صالحة قديسة ، يزورونها في كل سنة للتبرك بتمثالها ، يخرجونه من الكنيسة في خشوع ويتنافسون في الوصول إلى ملامسته اعتقادا منهم بالحصول على بركة السيدة روسيو ، يتعلقون بالتمثال الذي يمثلها ويتبركون به ويعلق بعضهم عليه ألبسته ، يسافرون من خاين Jaen وألميريا Almeria وغرناطة Granada وكاديس Cadis وقرطبة Cordoba ومالاقا Malaga ومربييا Marbella والخزيرات Algeciras وغيرها .. تجوب الدواب المدن والقرى ، وإن كانوا اليوم لا يوظفون الدواب بشكل طاغ ، إذ حل محلها التراكتور والسيارة ، ولكن الدواب حاضرة في كل موسم .. إذن يظل تعبير : ركب القطار مادام القطار وسيلة ركوب ، ويزول التعبير عند زواله ، أما الدابة فلن تزول ، ستظل ما ظل الإنسان ..
ولهم عيد آخر في كل سنة ، هو عيد الحج ، يحجون إلى كنيسة في كليسيا Galicia يحاكون فعل رجل صالح في سانطياكو دي كومبوسطيلا Santiago de Compostila ، يسافرون غالبا على الأقدام كما فعل القديس للحصول على ثواب أكبر ، ومنهم من يركب الدراجات الهوائية ، يحجون زرافات للتبرك بالقديس سانتياكو ، وقد كانوا قديما يسافرون على الدواب .
=======
محمد محمد البقاش