نقد الممكن
ياسين الحاج صالح
يجد تداعي الممارسة النقدية العربية أصوله في انضباط نقدنا بمفهوم الممكن، الذي يحيل بدوره على واقع متكون من تفاعل ثلاث قوى أساسية:
1. نظم حكم استبدادية لاغية تمامًا للاستقلال الاجتماعي والفكري، وعتبة لجوئها إلى العنف منخفضة جدًا؛
2. إسلامية معاصرة معادية بدورها للاستقلال الفكري والسياسي للأفراد والجماعات، محتكرة للصواب ونزّاعة إلى العنف أيضًا؛
3. هيمنة غربية غير ودية، كيلا نقول إنها عدائية حيال العرب سياسيًا وثقافيًا، عنيفة وعدوانية أيضًا.
حيال هذا الواقع المتفلت الذي لم يعد يدافع عنه أحد منذ جيل على الأقل، يرتفع الطلب على "حلول"، ويتعرض عمل المثقفين لضغط البحث عن حلول ممكنة وعملية وفاعلة. ويُشفَع هذا الشرط الضاغط بنازع نفعي وعملي متأصل في الثقافة العربية، لا يكاد يقر للثقافة قيمة إن لم تكن "حلاً" أو "توظيفًا" أو "نفعًا للناس"، و"خلاصًا"، فيؤسس لتبعية الثقافة للسياسة والعمل. استقلال الثقافة، في المقابل، هو استقلالها عن المنفعة و"الحل" والممكن والسياسة. فالثقافة هي ما لا نفع له. هذا شرطُ تحوّلها إلى خير عام، أو "منفعة عمومية"، في لغة رفاعة الطهطاوي.
التقاء أوضاع عسيرة متمادية مع نوازع ثقافية راسخة، يحكم بامتناع فاعلية نقدية مستقلة، فلا الهياكل السياسية والاجتماعية تتقبلها، ولا المثقفون أنفسهم يطيقونها، ولا المؤسسات الثقافية تنفتح عليها أو توظف فيها.
الأوضاع التي توجه التفكير نحو العملي والممكن والحل والخلاص والمنفعة، تضعف الروح النقدية ولا تقوّيها. فكل شيء جيد إن كان نافعًا، وفي كل شيء نفع ما. وما لا نتبين له نفعًا مباشرًا، لا يمكن أن يكون جيدًا. في مثل هذه الحال، وحده النقد الراديكالي لا يمكن أن يكون نافعًا. إذ لا عائد إيجابيًا له على "حياة الناس". لذلك، أول النقد نقد النفع والعملي. يقود العملي التفكير إلى الانغلاق، أو إلى التوفيقية، أو إلى التطرف، إلى امتناع التفكير أو التسليم بالواقع. الانغلاق لأنه يسلس قياده للممكن، والتوفيقية لأنها ابنة النفعية والعملي وحب الخير، والتطرف لأنه أيضًا ابن العملي والنفعية ونفاد الصبر، واللاتفكير نتيجة للجمع المستحيل بين ممكنات عملية متنافرة. قلب هذا المسار يمر بنقد العملي.
في شرطنا هذا، يظهر المثقف خصائص رجل العمل من دون أن يكونه. ومن منظور العمل والفاعلية والنجوع، يظهر الواقع كلحظة في خطة عمل تغييرية أو إصلاحية، وليس موضوعًا لمعرفة مستقلة أو مادة لتحليل نقدي. في الوقت نفسه، تتدهور الفاعلية الطوباوية للثقافة على مذبح الممكن ذاته بدل ابتكار رؤى تحررية غير ممكنة (لأنها تأسيسية، كما سنقول).
يبحث المثقف عن "حل"، فيجده في "الإسلام" أو في "الغرب" أو في السلطات الحاكمة (وهي اسم "الواقع" وتكثيفه)، أو ينزع إلى التوفيق بين هذه القوى اللاتحررية الثلاث تجنبًا لتنازع أو "فتنة" لا نطيقهما (تكاد هذه تكون خاصية أنثروبولوجية للعرب، مثلها مثل المفهوم النفعي للثقافة). هذا أصل التوفيقية. وهذا ما يجعل المثقف على الفور غير راديكالي ثقافيًا وغير ثوري سياسيًا. وقبل كل شيء: غير ضروري. من أجل التوفيقية لا يلزم مثقفون مستقلون. ومن أجل التطرف لا يلزمون أيضًا.
المحصلة دومًا تبعية الثقافي للسياسي، وتبعيات المثقفين إلى إحدى القوى الثلاث.
لنضرب أمثلة. التيارات العلمانية والليبيرالية تحيل على "الحداثة" من دون استشكال لها (بروبلماتيزيشن)، وقلما تفصلها عن الهيمنة الغربية إلا لفظيًا. وهي تجد نفسها نسقيًا على قرب مما هو منظّم ومرسوم في بلداننا، أي نظم الحكم. أما "عدوّها الحيوي" فهو الإسلاميون. نقد الاستبداد العربي يجد نفسه قريبًا من الإسلاميين سياسيًا، فلا يطور نقدًا فكريًا متسقًا للتعارض بين فلسفتهم الاجتماعية والسياسية وبين الديموقراطية التي يتأسس عليها نقد الاستبداد. القوميون والإسلاميون الذين ينتقدون الغرب باسم الاستقلال والتحرر، لا يظهرون حساسية تُذكر حيال الطغيان المريع أحيانًا لنظم ومنظمات تعرف نفسها بمخاصمة الغرب أو بالعداء للامبريالية. في المحصلة جرى "استهلاك" وإفساد كل من العلمانية والليبيرالية الناقدتين للإسلامية، والديموقراطية الناقدة للاستبداد، والقومية والإسلامية الناقدتين للغرب. مقابل هذه الممارسة النقدية الجزئية، يكاد سجل الممارسة النقدية الراديكالية يكون خاليًا تمامًا (في هذا الكلام نقد ذاتي، فكاتب هذه السطور شريك في المسؤولية عما ينتقد هنا). ويمكن أن نذكر مصير المشروع النقدي لمحمد عابد الجابري الذي آل إلى تصالح واسع مع إسلامية غير مصلحة ومع قومية عربية دولتية.
تتوحد الاتجاهات النقدية العربية على نحو ما تتمثل في التيارات المذكورة في مفهوم عملي للنقد، يجرّه نحو الممكن والحل لا نحو التفكير المفتوح، ويغلّب فيه مقتضيات الإقناع والتعبئة والحشد على مقتضيات المعرفة الموضوعية، أي في المحصلة ممارسة السياسة في المعرفة.
هذا بالطبع ينال من راديكالية نقد الإسلام لأن السكوت على نقد الاستبداد ونقد الهيمنة الغربية، يثلم معايير النقد ويفسد الضمير النقدي. ولن نجد بالمثل نقدًا راديكاليًا للاستبداد، يحول دونه الامتناع عن نقد الدين. وكذلك لن نجد نقدًا جذريًا للهيمنة الغربية بسبب هشاشة الأرضية التي ينطلق منها النقد: أرضية نظم استبدادية أو حركات إسلامية مضادة للتحرر السياسي والفكري. وقد يجري التعويض عن ذلك بانتحال تصور للراديكالية يطابقها مع العداء المحتد والانفعالي للدين أو للدولة أو للغرب. لكن ليس لهذا علاقة بالراديكالية النقدية، بل هو موصول بالتطرف بالمعنى المبذول والمبتذل.
وفي الأساس لعلنا نفتقر إلى مثال للنقد الراديكالي، يبدو لي أن إنضاجه ممتنع إلا عبر نقد الإسلام والصراع معه. أعني الاشتباك الفكري والنفسي والروحي مع الإسلام بما يقتضيه ذلك من أخذه بعين الجد، كما من إرادة عازمة على الاستقلال عنه. إن مثال الحرية لا يتكون إلا عبر الصراع مع مثال السلطة الذي هو الله القادر على كل شيء، والذي يطلب ولاء مطلقًا ويعاقب أشد العقاب من لا يقدّمونه. ولعله يتعذر قيام سيادة إنسانية من دون ضبط السيادة الإلهية، كما قد تتكثف اليوم في عقيدة الحاكمية الإلهية، والعمل على بلورة ضرب من ألوهة دستورية. وإن مثال الاستقلالية لا يتشكل من دون نقد سياسي ونقض عملي لمثال التبعية، المتمثل في العبودية لله.
قد يقال: وهل هذا ممكن؟ السؤال سيئ، لأنه يجعل الممكن، وهو مشتق (بالمعنى الرياضي للكلمة) لواقع مقرر بؤسه لدينا، مشرّعًا للتفكير. بالعكس، يبدو أننا نحتاج إلى تفكير تأسيسي، راديكالي حقًا، من أجل إعادة بناء مفهوم الممكن ذاته. أما الانضباط بالممكن من دون مساءلة الأسس، ومن دون الصراع معها، فسيبقي ثقافتنا أسيرة الواقع الحالي، مرشحة فقط إلى مزيد من الاهتراء والتدهور. هذا مصير ثقافة محرومة من خدمات نقد أساسي، جذري.
الممكن مقولة سياسية واجتماعية، لا تصلح في النقد الفكري والفلسفي. لعله لذلك تفضي المقاربات الاجتماعية السياسية اليوم إلى قراءات محافظة، سياسية أو فكرية، لمجتمعاتنا، تماثلها مرةً بالسلطات الحاكمة ومرةً بالدين الإسلامي. وحده النقد الفلسفي، المتحرر من مقولة الممكن، يمكن أن يكون راديكاليًا. هو وحده القادر مبدئيًا على مساءلة "الحداثة" أيضًا. مساءلة إيجابية وفاعلة.
إخراج النقد العربي من مأزقه يستوجب التحول من نقد الواقع إلى نقد الممكن والتحرر منه.
التحرر من الممكن يحرر التفكير في اتجاهين: اتجاه معرفة مركبة ومتطورة للواقع، واتجاه التفكير الطوباوي. ولعل الفقر الطوباوي للثقافة العربية يعود في آن واحد إلى هيمنة المفهوم النفعي للثقافة، كما إلى كثافة حضور ما يسمّيه عبدالله العروي "طوبى الخلافة" لوقت طويل في ثقافتنا. فإن كان ذلك قريبًا من الصواب لزم هنا أيضًا الصراع مع الدين الذي تركن إليه النفعية وتنبثق منه "طوبى الخلافة" - من أجل تحرير التفكير الطوباوي. وبهذا أعني الرؤى والتطلعات المثالية، الطامحة إلى تغيير الحياة والمجتمع والعالم. في المناسبة، تاريخانية العروي عقيمة فكريًا بالضبط لأنها تسلّم نفسها للنفعية، لأنها موجهة للنفع والعمل والسياسية من بابها إلى محرابها. هذا ما لا يتكتم عليه المفكر المغربي الفذ.
نقد الممكن، مدخل إلزامي لاستقلال الثقافة، بقدر ما إن الممكن يجرها عبر المنفعة والتوظيف العملي نحو الواقع وإصلاح الواقع، نحو العملي والسياسة، وبعيدًا من معرفة الواقع وبعيدًا من الثورة على الواقع. لكن نقد الممكن مدخل إلى ما هو أوسع، إعادة تأسيس عامة، هي ما قد تنهض عليها فكرة الثورة ذاتها.
المجال المعرفي الذي تحيل عليه مفاهيم التأسيس والنقد والراديكالية، والمتحرر من "الممكن" و"العملي" و"الحل"، اسمه الفلسفة.
*** *** ***
ياسين الحاج صالح
يجد تداعي الممارسة النقدية العربية أصوله في انضباط نقدنا بمفهوم الممكن، الذي يحيل بدوره على واقع متكون من تفاعل ثلاث قوى أساسية:
1. نظم حكم استبدادية لاغية تمامًا للاستقلال الاجتماعي والفكري، وعتبة لجوئها إلى العنف منخفضة جدًا؛
2. إسلامية معاصرة معادية بدورها للاستقلال الفكري والسياسي للأفراد والجماعات، محتكرة للصواب ونزّاعة إلى العنف أيضًا؛
3. هيمنة غربية غير ودية، كيلا نقول إنها عدائية حيال العرب سياسيًا وثقافيًا، عنيفة وعدوانية أيضًا.
حيال هذا الواقع المتفلت الذي لم يعد يدافع عنه أحد منذ جيل على الأقل، يرتفع الطلب على "حلول"، ويتعرض عمل المثقفين لضغط البحث عن حلول ممكنة وعملية وفاعلة. ويُشفَع هذا الشرط الضاغط بنازع نفعي وعملي متأصل في الثقافة العربية، لا يكاد يقر للثقافة قيمة إن لم تكن "حلاً" أو "توظيفًا" أو "نفعًا للناس"، و"خلاصًا"، فيؤسس لتبعية الثقافة للسياسة والعمل. استقلال الثقافة، في المقابل، هو استقلالها عن المنفعة و"الحل" والممكن والسياسة. فالثقافة هي ما لا نفع له. هذا شرطُ تحوّلها إلى خير عام، أو "منفعة عمومية"، في لغة رفاعة الطهطاوي.
التقاء أوضاع عسيرة متمادية مع نوازع ثقافية راسخة، يحكم بامتناع فاعلية نقدية مستقلة، فلا الهياكل السياسية والاجتماعية تتقبلها، ولا المثقفون أنفسهم يطيقونها، ولا المؤسسات الثقافية تنفتح عليها أو توظف فيها.
الأوضاع التي توجه التفكير نحو العملي والممكن والحل والخلاص والمنفعة، تضعف الروح النقدية ولا تقوّيها. فكل شيء جيد إن كان نافعًا، وفي كل شيء نفع ما. وما لا نتبين له نفعًا مباشرًا، لا يمكن أن يكون جيدًا. في مثل هذه الحال، وحده النقد الراديكالي لا يمكن أن يكون نافعًا. إذ لا عائد إيجابيًا له على "حياة الناس". لذلك، أول النقد نقد النفع والعملي. يقود العملي التفكير إلى الانغلاق، أو إلى التوفيقية، أو إلى التطرف، إلى امتناع التفكير أو التسليم بالواقع. الانغلاق لأنه يسلس قياده للممكن، والتوفيقية لأنها ابنة النفعية والعملي وحب الخير، والتطرف لأنه أيضًا ابن العملي والنفعية ونفاد الصبر، واللاتفكير نتيجة للجمع المستحيل بين ممكنات عملية متنافرة. قلب هذا المسار يمر بنقد العملي.
في شرطنا هذا، يظهر المثقف خصائص رجل العمل من دون أن يكونه. ومن منظور العمل والفاعلية والنجوع، يظهر الواقع كلحظة في خطة عمل تغييرية أو إصلاحية، وليس موضوعًا لمعرفة مستقلة أو مادة لتحليل نقدي. في الوقت نفسه، تتدهور الفاعلية الطوباوية للثقافة على مذبح الممكن ذاته بدل ابتكار رؤى تحررية غير ممكنة (لأنها تأسيسية، كما سنقول).
يبحث المثقف عن "حل"، فيجده في "الإسلام" أو في "الغرب" أو في السلطات الحاكمة (وهي اسم "الواقع" وتكثيفه)، أو ينزع إلى التوفيق بين هذه القوى اللاتحررية الثلاث تجنبًا لتنازع أو "فتنة" لا نطيقهما (تكاد هذه تكون خاصية أنثروبولوجية للعرب، مثلها مثل المفهوم النفعي للثقافة). هذا أصل التوفيقية. وهذا ما يجعل المثقف على الفور غير راديكالي ثقافيًا وغير ثوري سياسيًا. وقبل كل شيء: غير ضروري. من أجل التوفيقية لا يلزم مثقفون مستقلون. ومن أجل التطرف لا يلزمون أيضًا.
المحصلة دومًا تبعية الثقافي للسياسي، وتبعيات المثقفين إلى إحدى القوى الثلاث.
لنضرب أمثلة. التيارات العلمانية والليبيرالية تحيل على "الحداثة" من دون استشكال لها (بروبلماتيزيشن)، وقلما تفصلها عن الهيمنة الغربية إلا لفظيًا. وهي تجد نفسها نسقيًا على قرب مما هو منظّم ومرسوم في بلداننا، أي نظم الحكم. أما "عدوّها الحيوي" فهو الإسلاميون. نقد الاستبداد العربي يجد نفسه قريبًا من الإسلاميين سياسيًا، فلا يطور نقدًا فكريًا متسقًا للتعارض بين فلسفتهم الاجتماعية والسياسية وبين الديموقراطية التي يتأسس عليها نقد الاستبداد. القوميون والإسلاميون الذين ينتقدون الغرب باسم الاستقلال والتحرر، لا يظهرون حساسية تُذكر حيال الطغيان المريع أحيانًا لنظم ومنظمات تعرف نفسها بمخاصمة الغرب أو بالعداء للامبريالية. في المحصلة جرى "استهلاك" وإفساد كل من العلمانية والليبيرالية الناقدتين للإسلامية، والديموقراطية الناقدة للاستبداد، والقومية والإسلامية الناقدتين للغرب. مقابل هذه الممارسة النقدية الجزئية، يكاد سجل الممارسة النقدية الراديكالية يكون خاليًا تمامًا (في هذا الكلام نقد ذاتي، فكاتب هذه السطور شريك في المسؤولية عما ينتقد هنا). ويمكن أن نذكر مصير المشروع النقدي لمحمد عابد الجابري الذي آل إلى تصالح واسع مع إسلامية غير مصلحة ومع قومية عربية دولتية.
تتوحد الاتجاهات النقدية العربية على نحو ما تتمثل في التيارات المذكورة في مفهوم عملي للنقد، يجرّه نحو الممكن والحل لا نحو التفكير المفتوح، ويغلّب فيه مقتضيات الإقناع والتعبئة والحشد على مقتضيات المعرفة الموضوعية، أي في المحصلة ممارسة السياسة في المعرفة.
هذا بالطبع ينال من راديكالية نقد الإسلام لأن السكوت على نقد الاستبداد ونقد الهيمنة الغربية، يثلم معايير النقد ويفسد الضمير النقدي. ولن نجد بالمثل نقدًا راديكاليًا للاستبداد، يحول دونه الامتناع عن نقد الدين. وكذلك لن نجد نقدًا جذريًا للهيمنة الغربية بسبب هشاشة الأرضية التي ينطلق منها النقد: أرضية نظم استبدادية أو حركات إسلامية مضادة للتحرر السياسي والفكري. وقد يجري التعويض عن ذلك بانتحال تصور للراديكالية يطابقها مع العداء المحتد والانفعالي للدين أو للدولة أو للغرب. لكن ليس لهذا علاقة بالراديكالية النقدية، بل هو موصول بالتطرف بالمعنى المبذول والمبتذل.
وفي الأساس لعلنا نفتقر إلى مثال للنقد الراديكالي، يبدو لي أن إنضاجه ممتنع إلا عبر نقد الإسلام والصراع معه. أعني الاشتباك الفكري والنفسي والروحي مع الإسلام بما يقتضيه ذلك من أخذه بعين الجد، كما من إرادة عازمة على الاستقلال عنه. إن مثال الحرية لا يتكون إلا عبر الصراع مع مثال السلطة الذي هو الله القادر على كل شيء، والذي يطلب ولاء مطلقًا ويعاقب أشد العقاب من لا يقدّمونه. ولعله يتعذر قيام سيادة إنسانية من دون ضبط السيادة الإلهية، كما قد تتكثف اليوم في عقيدة الحاكمية الإلهية، والعمل على بلورة ضرب من ألوهة دستورية. وإن مثال الاستقلالية لا يتشكل من دون نقد سياسي ونقض عملي لمثال التبعية، المتمثل في العبودية لله.
قد يقال: وهل هذا ممكن؟ السؤال سيئ، لأنه يجعل الممكن، وهو مشتق (بالمعنى الرياضي للكلمة) لواقع مقرر بؤسه لدينا، مشرّعًا للتفكير. بالعكس، يبدو أننا نحتاج إلى تفكير تأسيسي، راديكالي حقًا، من أجل إعادة بناء مفهوم الممكن ذاته. أما الانضباط بالممكن من دون مساءلة الأسس، ومن دون الصراع معها، فسيبقي ثقافتنا أسيرة الواقع الحالي، مرشحة فقط إلى مزيد من الاهتراء والتدهور. هذا مصير ثقافة محرومة من خدمات نقد أساسي، جذري.
الممكن مقولة سياسية واجتماعية، لا تصلح في النقد الفكري والفلسفي. لعله لذلك تفضي المقاربات الاجتماعية السياسية اليوم إلى قراءات محافظة، سياسية أو فكرية، لمجتمعاتنا، تماثلها مرةً بالسلطات الحاكمة ومرةً بالدين الإسلامي. وحده النقد الفلسفي، المتحرر من مقولة الممكن، يمكن أن يكون راديكاليًا. هو وحده القادر مبدئيًا على مساءلة "الحداثة" أيضًا. مساءلة إيجابية وفاعلة.
إخراج النقد العربي من مأزقه يستوجب التحول من نقد الواقع إلى نقد الممكن والتحرر منه.
التحرر من الممكن يحرر التفكير في اتجاهين: اتجاه معرفة مركبة ومتطورة للواقع، واتجاه التفكير الطوباوي. ولعل الفقر الطوباوي للثقافة العربية يعود في آن واحد إلى هيمنة المفهوم النفعي للثقافة، كما إلى كثافة حضور ما يسمّيه عبدالله العروي "طوبى الخلافة" لوقت طويل في ثقافتنا. فإن كان ذلك قريبًا من الصواب لزم هنا أيضًا الصراع مع الدين الذي تركن إليه النفعية وتنبثق منه "طوبى الخلافة" - من أجل تحرير التفكير الطوباوي. وبهذا أعني الرؤى والتطلعات المثالية، الطامحة إلى تغيير الحياة والمجتمع والعالم. في المناسبة، تاريخانية العروي عقيمة فكريًا بالضبط لأنها تسلّم نفسها للنفعية، لأنها موجهة للنفع والعمل والسياسية من بابها إلى محرابها. هذا ما لا يتكتم عليه المفكر المغربي الفذ.
نقد الممكن، مدخل إلزامي لاستقلال الثقافة، بقدر ما إن الممكن يجرها عبر المنفعة والتوظيف العملي نحو الواقع وإصلاح الواقع، نحو العملي والسياسة، وبعيدًا من معرفة الواقع وبعيدًا من الثورة على الواقع. لكن نقد الممكن مدخل إلى ما هو أوسع، إعادة تأسيس عامة، هي ما قد تنهض عليها فكرة الثورة ذاتها.
المجال المعرفي الذي تحيل عليه مفاهيم التأسيس والنقد والراديكالية، والمتحرر من "الممكن" و"العملي" و"الحل"، اسمه الفلسفة.
*** *** ***