د. عادل الثامري
التداولية ظهورها و تطوّرها
إمدادات هذا الكاتب د. عادل الثامري 16 مايو 2006
Digg Facebook Google
أصبحت التداولية في السنوات الأخيرة موضوعاً مألوفاً في اللسانيات وفي الدراسات الأدبية بعد أن كانت السلة التي ترمى بها العناصر والمعلومات التي لا يمكن توصيفها بالأدوات اللسانية التقليدية . يقول جفري ليج بهذا الصدد (( لا نستطيع حقيقة فهم طبيعة اللغة ذاتها إلا إذا فهمنا التداولية : كيف نستعمل اللغة في الاتصال )) .
تختلف التداولية (( pragmatics )) عن المذهب الذرائعي في الفلسفة Pragmatism مع ذلك يرى البعض في الأخير مصدراً من مصادر الأول ويعد موريس أول من أعطى تعريفاً للتداولية حيث اعتبرها جزءً من السيميائية عندما ميز بين ثلاثة فروع للسيميائية هي : التركيب ( النحو ) و يعني به دراسة العلاقات الشكلية بين العلامات ؛ والدلالة و يعني بها دراسة علاقة العلامات بالأشياء ؛ والتداولية ويعني بها دراسة علاقة العلامات بمؤوليها . وتوجد محاولات حديثة لربط ما طرحه موريس بالسياق الذرائعي لجارلس بيرس . وخصوصاً مفهوم بيرس عن العلامة والفكر . يقول بيرس (( لا نملك القدرة على التفكير بلا علامات )) و (( كل التفكير هو بالعلامات )) و تبنّى بيرس عقيدة ( العلامة الفكر ) وهي منهج للتأكد من معاني الكلمات الصعبة والتصورات التجريدية .
لقد سارت التداولية منذ ذلك الوقت في اتجاهين هما : الدراسات اللسانية و الدراسات الفلسفية . ففي الاتجاه الأول استعملت التداولية بوصفها جزءً من السيميائية اللسانية وليس بعلاقتها بأنظمة العلامات عموماً . وما يزال هذا المنحى اللساني قائماً لحد الآن في اللسانيات الأوربية ، أما في الدراسات الفلسفية وخصوصاً في إطار الفلسفة التحليلية ، فقد خضع مصطلح التداولية إلى عملية تضييق في مجاله . وقد كان للفيلسوف و المنطقي كارناب دوره ، فقد ساوى بين التداولية و السيمياء الوصفية .
تم في أواخر الستينيات تبنّي تعريف كارناب ضمنياً في الدراسات اللسانية : تتطلب الدراسات إلى إشارة لمستعملي اللغة – وخصوصاً في حركة الدلالة التوليدية . بيد أن الدراسات التي استندت إلى كارناب اتسعت كثيراً لتشمل دراسات من خارج اللسانيات مثل دراسات فرويد ويونغ عن (( زلات اللسان )) و (( تداعي الكلمات )) . وظهرت الحاجة إلى تطوير وتوسيع تعريف كارناب بالاشارة إلى أكثر من مستعملي اللغة ؛ ينبغي أن تكون هناك إشارة إلى مكان و زمان حدث الكلام . وهنا وجب إدخال مفهوم السياق إلى تعريف كارناب للتداولية . والسياق يتضمن هويات المشاركين في الحدث الكلامي والمحددات الزمانية و المكانية و المعتقدات ومقاصد المشاركين .
لقد كان تعريف موريس محفزاً و سبباً للنهوض بمجموعة من الدراسات تضمنت دراسة الظواهر النفسية و الاجتماعية الموجودة داخل أنظمة العلامات بشكل عام أو داخل اللغة بشكل خاص ، ودراسة التصورات التجريدية التي تشير إلى الفاعلين) أحد مفاهيم كارناب ) ، ودراسة المفردات التأشيرية والدراسات الانكلو أمريكية في اللسانيات وفلسفة اللغة .
وهناك مجموعة من الأسباب تقف وراء الاهتمام بالتداولية مؤخراً . بعضها تأريخي وبعضها غير ذلك ؛ فقد بدأ الاهتمام بها باعتبارها ردة فعل على معالجات جومسكي للغة بوصفها أداة تجريدية أو قدرة ذهنية قابلة للانفصال عن استعمالاتها ومستعمليها ؛ والسبب الآخر هو التوصل إلى قناعة مفادها أن المعرفة المتقدمة بالنحو والصوت والدلالة لم تستطع التعامل مع ظواهر معينة ذات أهمية بالغة ؛ و يمكن اعتبار الادراك المتزايد بوجود فجوة بين النظريات اللسانية من جهة ودراسة الاتصال اللغوي من جهة أخرى سبباً آخر في الاهتمام بالتداولية . ومن الأسباب الأخرى ، اتجاه معظم التفسيرات اللسانية لتكون داخلية بمعنى أن السمة اللغوية تُفسر بالإشارة إلى سمة لغوية أخرى أو إلى جوانب معينة من داخل النظرية ، وظهرت الحاجة إلى تفسير ذي مرجعية خارجية وهنا ظهرت الوظيفية اتجاهاً ممهداً للتداولية .
يمكن تقسيم التداولية العامة إلى اللسانيات التداولية و التداولية الاجتماعية فالاولى يمكن تطبيقها في دراسة الهدف اللساني من التداولية – المصادر التي توفرها لغة معينة لنقل أفعال إنجازية معينة – والثانية تعنى بالشروط والظروف الأكثر محلية المفروضة على الاستعمال اللغوي وهو حقل أقل تجريداً من الأول .فالتداولية تدرس المعنى في ضوء علاقته بموقف الكلام . والموقف الكلامي يشتمل على جوانب عديدة يمكن أن نجملها بما يلي :
أ- المخاطَبين ( فتح الطاء) و المخاطِبين ( كسر الطاء ) : وهم المتحدثون والمستمعون .وينبغي هنا التمييز بين المستلم والمخاطب فالأول شخص يتلقى ويؤول الرسالة في حين أن الثاني شخص مستلم مقصود للرسالة .
ب- سياق التفوّه : للسياق عدد من التعريفات ، فهو ينطوي على الجوانب الفيزيائية والاجتماعية ذات الصلة بالتفوّه ، وينظر إليه في التداولية على أنه المعرفة المسبقة التي يفترض أن يشترك بها المتحدّث والسامع ، وتساهم في تأويل الأخير لما يقصده الأول .
ج- هدف التفوّه : تتحدث التداولية اللسانية خصوصاً عن الهدف أو الوظيفة بدلاً من (( المعنى المقصود )) . و الكلمة (( هدف )) أكثر حيادية من كلمة (( القصد )) .
د - الفعل الإنجازي : تتناول التداولية الأفعال اللفظية أو الأداء الذي يحصل في مواقف معينة ، في حين يتناول النحو كيانات مجردة مثل الجمل . إذن فالتداولية تتعامل مع اللغة على مستوى أكثر ملموسية من النحو والدلالة .
هـ- التفوّه بوصفه نتاجاً : تشير مفردة تفوّه في التداولية إلى نتاج فعل اللفظ بدلاً من الفعل اللفظي نفسه .
أما أهمّ الموضوعات التي تعالجها التداولية فيمكن القول بأنها تتعامل مع عدد كبير من الموضوعات ذات الأهمية الكبيرة في الدراسات الإنسانية عموماً واللسانيات خصوصاً ومنها المفردات التأشيرية التي يمكن تقسيمها إلى شخصية ، و زمانية ومكانية وخطابية واجتماعية ؛ فضلاً عن التضمينات المحادثية والاقتضاء والمعاني الحرفية و المعاني السياقية ، وأفعال الكلام وتصنيفاتها وتحليل الخطاب وتحليل المحادثة وغيرها الكثير من الموضوعات .
وتمتلك التداولية بوصفها درساً علاقات مع دروس أخرى ونجد لها تطبيقات في حقول أخرى . فالتداولية تمتلك إمكانات تطبيقية في حقل الأدب الذي لا يتطلب مسائل تطبيقية محضة ؛ وتفيد التداولية بوصفها منهجاً لحل المسائل في اللسانيات التطبيقية وفي تفاعل الإنسان والآلة ، وفي الصعوبات الاتصالية في المواجهات وفي الصعوبات الاتصالية التي تظهر في اللقاءات التي لا يتواجه فيها المتصلون . وهناك نوع من التفاعل بين التداولية واللسانيات الاجتماعية في حقول اهتمام مشترك فقد ساهمت الأخيرة في مجالات معينة من التداولية وخصوصاً في دراسة المفردات التأشيرية الاجتماعية وأفعال الكلام واستعمالاتها . وفي المقابل ، تمتلك التداولية الكثير لتساهم به في اللسانيات الاجتماعية خصوصاً في تحليل المحادثات والخطاب والأدوار الاجتماعية ودورها في تحديد صيغ المخاطبة . فضلاً عن ذلك تمتلك التداولية علاقات هامة وحيوية مع اللسانيات النفسية فهناك علاقة بينها وبين علم النفس الإدراكي وخصوصاً نظريات معالجة وإنتاج اللغة وتطور مفاهيم القوة الإنجازية والتضمينات والافتراضات المسبقة ؛ أما علم نفس النمو فهو يمتلك علاقة مع التداولية وخصوصاً في إكتساب اللغة والدور الذي تلعبه السياقات في إكتساب الطفل للغة وظهر أخيراً ما يدعى بتداولية النمو .
وظهرت نتيجة التطورات الكبيرة في الفلسفة واللسانيات عدد من التداوليات مثل التداولية الستراتيجية التي ترى بأن التداولية هي نظرية غير ذهنية للمقصدية الخطابية ؛ والتداولية المتعالية التي ترى بأنها الأداة المتميزة في تحقيق المشروع الفلسفي ، وتمتلك هذه التداولية اتجاهاً أخلاقياً ؛ والتداولية الحوارية وهي هنا تعني دراسة الشروط القبلية للتواصلية و تكمن أهميتها في (( التقيد بالبحث عن نظرية ملائمة تتعلق بالاستعمال التواصلي للغة )) .
عـادل الـثـــامـــــري