نص نثري للشاعر أحمد مطر: حديقة الإنسان ـ أخي في الله
PostDateIcon 9 ديسمبر , 2009 | PostAuthorIcon الكاتب: المحرر
23أرسلتني أمي الى خالي قالت لن يربيك سوى خالك. حذرتني شدتي من اذني ضربتني بالعصا، لكنني بقيت كما انا بالثلاث، فلم يبق امامها غير اللجوء الى الامم المتحدة.
كان مبنى الهيئة الدولية يتوسط سوق التبغ، وهو عبارة عن دكان أضيق من صدر الحكومات العربية بالرأي. في الدكان طاولة من الخشب تعلوها ماكنة خياطة، وإلى جوارها كرسي من الألمنيوم فوقه مخدة طرية محشوة بالريش، تستريح فوقها، عادة، مؤخرة يمكن للمرء أن يتبين في أعلاها شخصاً منهمكاً بالخياطة أحيانا، أو منهمكاً بالجلوس وحده غالباً. وليس عسيراً على المتأمل أن يخمن أن هذا الشخص هو خالي، ذلك لأنني لم أكن قبيحاً تماماً، وهذا مصداق نظرية أمي القائلة إن (ثلثي الولد من خاله)!
خالي هو (الحاج سرور)… وغني عن القول إن خالي لا يصدق لقبه، أما أنا فلا أصدق اسمه.
إن خالي الحاج لم يذهب إلى الحج. كان في رحلة تهريب أثناء الموسم قبضت عليه شرطة الحدود وقبل أن تطلقه بكفالة، حلقت شعر رأسه، فعاد مع قافلة الحاج عباس، خالياً من كل شيء: البضاعة والشعر والمغفرة، لكنه عقد على بابنا سعفتين شأن القادمين من بيت الله فأصبح حاجاً!
وخالي الحاج الذي لم يذهب الى الحج ليس ‘سروراً’ أستطيع أن أجادل الدنيا كلها في هذا الأمر. الدنيا ليست أدرى مني. خالي لم يضرب الدنيا يوماً، لكنه يضربني على مر الأيام.
قلت لنفسي وأنا في الطريق: من المحتمل أن يضربني إذا ذهبت إليه. ومن المؤكد أن يضربني إذا لم أذهب. الطريقة الوحيدة للخلاص هي أن أكون إسرائيل. وأنا أولاً لا أريد أن أكون إسرائيل، وثانياً لا أستطيع.
رمقني الأمين العام بنظرة حاج مزيف: أهذا أنت؟
قلت: نعم يا خالي.
قال: تارك مدرستك وتتسكع في الأسواق؟!
قلت: اليوم جمعة يا خالي.
قال: ماذا عندك؟
أجبته بتهذيب مكثف جداً: قلت أمرّ لأقبّل يدي خالي قبل أن أذهب للصلاة.
كنت فرحاً وأنا أكبسه على أم رأسه ماذا عساه أن يفعل أمام هذه الدماثة المفرطة؟
قال بعد سكوت: طيب.
أصبحت ثكنته مجردة من السلاح. لمَ لا أهجم؟
شكوت إليه برقة: قالت لا تتسكع هنا أو هناك أمي عجيبة أين أتسكع في هذا اليوم المبارك؟ قلت لها أين يتسكع خالي في هذا اليوم المبارك؟ سوف أتبع خالي كالخروف لن أصلي إلا وراء خالي.
لم يبارك تقواي. سكت خالي تماماً. لم يعد يحتاج إلا لنقّالة لقد صرعته. إنه طول حياته مواطن فوق الشبهات. لم يقترب الصلاة أو الصيام أو الزكاة، ولم يلمس القرآن إلا يوم أخذوه للشهادة في المحكمة لقنوه أن يقول الحق ولا شيء غير الحق… ولم يقل الحق.
لكن هذا المواطن الصالح لكل الحكومات الرشيدة لا يمكن أن يجاهر بمثاليته أمامي.
طال صمته أكثر مما يجب. أخذت كفه وقبلتها قل إنك راض عني يا خالي.
كان الأمين العام غائباً. كان مثل الأمين العام بالضبط ما ألذّ أن يمسك المرء بهذه الهيئة الموقرة من ذيلها ويطوحها مثل قطة ميتة.
أطرق الحاج سرور كان عاجزاً وبائساً لعله كان في تلك اللحظات مشغولاً بتنضيد أصناف منوعة من اللعنات على رأس أمي..
أمال عقاله وكوفيته حك رأسه ثم عدل العقال وهب واقفاً غطى ماكينة الخياطة، ودفعني برفق إلى الخارج ثم أغلق الدكان.
بطريقة ما عرف خالي كيف يتوضأ. تعرف عليه واحد من رواد الجامع أبدى الرجل فرحة ممزوجة بالدهشة: الحاج سرور… هنا؟!
قرأ خالي أول نافلة: تعودت أن أصلي الجمعة في جامع منطقتنا.
ليس عندي شك في أن المصلين في جامع منطقتنا قد تعرضوا لنافلة أخرى من خالي مفادها أنه تعود أن يصلي الجمعة في جامع السوق.
قال صاحبه: في وقتك خذ… هذا دعاء موصوف أضفه إلى ما عندك من أدعية.
يضيفه الى ماذا؟! هل يعرف خالي كيف يدعو؟ إنه لم يسبق له أن دعا حتى إلى وليمة! أخذ خالي الدعاء وقبله ومس به جبينه ثم وضعه في جيبه.
قال الخطيب: إنما المؤمنون أخوة. لا فرق بين غني وفقير، كبير وصغير، طويل وقصير، بصير وضرير، كلنا على الإيمان أخوة. كلنا أخوة في الله.
في طريق عودتنا حاول خالي أن يخفي عناءه وهو ينصحني بلطف: هذا مشوار متعب لك جداً يا ولدي صل في جامع منطقتكم في الأسابيع المقبلة.
قلت له ونحن نصعد الباص: أحب ذلك لكن أمي تمنعني خالي… هل تعرف دعاء الركوب؟
انتفض كالملدوغ. رمقني بغضب ثم لطم رأسي لكنه بعد لحظات قرصني من كتفي وسألني هامساً: أعندك نسخة منه؟
ذهب الحال بعيدا.. آه.. عندك مشكلة اذن يا حضرة الامين العام!
***
صرخ في وجه أمي لا ترسليه إليّ ثانية إنك ترهقينه جداً.
صاحت أمي محتجة لكنه سيجلب لنا المصائب لا أدري ماذا يفعل مع هؤلاء الأولاد في المسجد.
قال لها محتدا: ماذا يفعل يصلي.
قالت: لا يا اخي الصلاة لا تستغرق أربع ساعات عندهم شيء غير عادي والله عندهم شيء. أنا خايفة حتى جارتنا لاحظت دشداشته وهي تقصر يوماً بعد يوم. الخبيثة قالت لي لماذا تتركون ولدكم يخرج الى الشارع بالفانيلة؟
قال لها متأففاً: سأفصل له دشداشة جديدة.
قالت سيقصرها أيضاً.
رد عليها بفروغ صبر: هو حرّ… لا تتعبيه.
كان خالي في الواقع يدافع عن نفسه كان يحاول اتقاء هذه الكارثة التي توشك أن تحيق به: كلا، جمعة واحدة تكفي.
زفرت أمي سرور: إنت خاله من يربي الولد غيرك؟
صفع الهواء بيده: ليس ولداً إنه شاب ثم إنني لست خاله.
لطمت أمي صدرها وصاحت مرتاعة ماذا أسمع أقلت إنك لست خاله؟!
قال: نعم لست خاله… أنا أخوه في الله.
صرخت أمي أخوه؟ وأنا ماذا أكون؟ بنت عم خال جدة أمك’ هذا فيلم هندي!
صارت أمي تلطم وتدمدم عليه العوض… عليه العوض.
***
في منتصف الأسبوع جاءتنا زوجة خالي تولول الحقوني انهدم بيتي سرور في الحبس. صرخت أمي: أخي في الحبس؟ كيف؟!
قالت زوجة خالي أخذوه من الدكان… قالوا إنه كان يتداول منشورات في جامع السوق آه ياربي من أين جاءتنا هذه المصيبة؟
تربعت أمي قبالة زوجة خالي وراحتا تلطمان وتتناوحان وكفاصل استراحة افترستني أمي بنظرة حارقة على الرغم من امتلاء عينها بالدموع: أرأيت هذا ما كنت أخشاه أهذا ما كنت تريده يا أخي في الله’ البس دشداشتك حالاً. اسمعتني؟ قلت دشداشتك سأقتلك إذا لبست ‘الفانيلة’، البس واذهب إلى المخرف لترى ماذا جرى لأخيك.
قلت باستنكار ماذا تقولين؟ اتريد ان تلحقنا شبهة؟
لم أحفل بصراخها وإلحافها لأنني كنت على يقين من أنني سألتحق به في الحبس بأسرع مما تتوقع أعرف خالي جيداً أنه ليس من هواة التحقيقات المطولة فبعد أول صفعة سيعترف بأنني أنا الذي أغويته مسقطاً من اعتباره كل موجبات رابطة (الأخوة) التي تقوم، عادة بين الخال وابن اخته!
* شاعر عراقي
PostDateIcon 9 ديسمبر , 2009 | PostAuthorIcon الكاتب: المحرر
23أرسلتني أمي الى خالي قالت لن يربيك سوى خالك. حذرتني شدتي من اذني ضربتني بالعصا، لكنني بقيت كما انا بالثلاث، فلم يبق امامها غير اللجوء الى الامم المتحدة.
كان مبنى الهيئة الدولية يتوسط سوق التبغ، وهو عبارة عن دكان أضيق من صدر الحكومات العربية بالرأي. في الدكان طاولة من الخشب تعلوها ماكنة خياطة، وإلى جوارها كرسي من الألمنيوم فوقه مخدة طرية محشوة بالريش، تستريح فوقها، عادة، مؤخرة يمكن للمرء أن يتبين في أعلاها شخصاً منهمكاً بالخياطة أحيانا، أو منهمكاً بالجلوس وحده غالباً. وليس عسيراً على المتأمل أن يخمن أن هذا الشخص هو خالي، ذلك لأنني لم أكن قبيحاً تماماً، وهذا مصداق نظرية أمي القائلة إن (ثلثي الولد من خاله)!
خالي هو (الحاج سرور)… وغني عن القول إن خالي لا يصدق لقبه، أما أنا فلا أصدق اسمه.
إن خالي الحاج لم يذهب إلى الحج. كان في رحلة تهريب أثناء الموسم قبضت عليه شرطة الحدود وقبل أن تطلقه بكفالة، حلقت شعر رأسه، فعاد مع قافلة الحاج عباس، خالياً من كل شيء: البضاعة والشعر والمغفرة، لكنه عقد على بابنا سعفتين شأن القادمين من بيت الله فأصبح حاجاً!
وخالي الحاج الذي لم يذهب الى الحج ليس ‘سروراً’ أستطيع أن أجادل الدنيا كلها في هذا الأمر. الدنيا ليست أدرى مني. خالي لم يضرب الدنيا يوماً، لكنه يضربني على مر الأيام.
قلت لنفسي وأنا في الطريق: من المحتمل أن يضربني إذا ذهبت إليه. ومن المؤكد أن يضربني إذا لم أذهب. الطريقة الوحيدة للخلاص هي أن أكون إسرائيل. وأنا أولاً لا أريد أن أكون إسرائيل، وثانياً لا أستطيع.
رمقني الأمين العام بنظرة حاج مزيف: أهذا أنت؟
قلت: نعم يا خالي.
قال: تارك مدرستك وتتسكع في الأسواق؟!
قلت: اليوم جمعة يا خالي.
قال: ماذا عندك؟
أجبته بتهذيب مكثف جداً: قلت أمرّ لأقبّل يدي خالي قبل أن أذهب للصلاة.
كنت فرحاً وأنا أكبسه على أم رأسه ماذا عساه أن يفعل أمام هذه الدماثة المفرطة؟
قال بعد سكوت: طيب.
أصبحت ثكنته مجردة من السلاح. لمَ لا أهجم؟
شكوت إليه برقة: قالت لا تتسكع هنا أو هناك أمي عجيبة أين أتسكع في هذا اليوم المبارك؟ قلت لها أين يتسكع خالي في هذا اليوم المبارك؟ سوف أتبع خالي كالخروف لن أصلي إلا وراء خالي.
لم يبارك تقواي. سكت خالي تماماً. لم يعد يحتاج إلا لنقّالة لقد صرعته. إنه طول حياته مواطن فوق الشبهات. لم يقترب الصلاة أو الصيام أو الزكاة، ولم يلمس القرآن إلا يوم أخذوه للشهادة في المحكمة لقنوه أن يقول الحق ولا شيء غير الحق… ولم يقل الحق.
لكن هذا المواطن الصالح لكل الحكومات الرشيدة لا يمكن أن يجاهر بمثاليته أمامي.
طال صمته أكثر مما يجب. أخذت كفه وقبلتها قل إنك راض عني يا خالي.
كان الأمين العام غائباً. كان مثل الأمين العام بالضبط ما ألذّ أن يمسك المرء بهذه الهيئة الموقرة من ذيلها ويطوحها مثل قطة ميتة.
أطرق الحاج سرور كان عاجزاً وبائساً لعله كان في تلك اللحظات مشغولاً بتنضيد أصناف منوعة من اللعنات على رأس أمي..
أمال عقاله وكوفيته حك رأسه ثم عدل العقال وهب واقفاً غطى ماكينة الخياطة، ودفعني برفق إلى الخارج ثم أغلق الدكان.
بطريقة ما عرف خالي كيف يتوضأ. تعرف عليه واحد من رواد الجامع أبدى الرجل فرحة ممزوجة بالدهشة: الحاج سرور… هنا؟!
قرأ خالي أول نافلة: تعودت أن أصلي الجمعة في جامع منطقتنا.
ليس عندي شك في أن المصلين في جامع منطقتنا قد تعرضوا لنافلة أخرى من خالي مفادها أنه تعود أن يصلي الجمعة في جامع السوق.
قال صاحبه: في وقتك خذ… هذا دعاء موصوف أضفه إلى ما عندك من أدعية.
يضيفه الى ماذا؟! هل يعرف خالي كيف يدعو؟ إنه لم يسبق له أن دعا حتى إلى وليمة! أخذ خالي الدعاء وقبله ومس به جبينه ثم وضعه في جيبه.
قال الخطيب: إنما المؤمنون أخوة. لا فرق بين غني وفقير، كبير وصغير، طويل وقصير، بصير وضرير، كلنا على الإيمان أخوة. كلنا أخوة في الله.
في طريق عودتنا حاول خالي أن يخفي عناءه وهو ينصحني بلطف: هذا مشوار متعب لك جداً يا ولدي صل في جامع منطقتكم في الأسابيع المقبلة.
قلت له ونحن نصعد الباص: أحب ذلك لكن أمي تمنعني خالي… هل تعرف دعاء الركوب؟
انتفض كالملدوغ. رمقني بغضب ثم لطم رأسي لكنه بعد لحظات قرصني من كتفي وسألني هامساً: أعندك نسخة منه؟
ذهب الحال بعيدا.. آه.. عندك مشكلة اذن يا حضرة الامين العام!
***
صرخ في وجه أمي لا ترسليه إليّ ثانية إنك ترهقينه جداً.
صاحت أمي محتجة لكنه سيجلب لنا المصائب لا أدري ماذا يفعل مع هؤلاء الأولاد في المسجد.
قال لها محتدا: ماذا يفعل يصلي.
قالت: لا يا اخي الصلاة لا تستغرق أربع ساعات عندهم شيء غير عادي والله عندهم شيء. أنا خايفة حتى جارتنا لاحظت دشداشته وهي تقصر يوماً بعد يوم. الخبيثة قالت لي لماذا تتركون ولدكم يخرج الى الشارع بالفانيلة؟
قال لها متأففاً: سأفصل له دشداشة جديدة.
قالت سيقصرها أيضاً.
رد عليها بفروغ صبر: هو حرّ… لا تتعبيه.
كان خالي في الواقع يدافع عن نفسه كان يحاول اتقاء هذه الكارثة التي توشك أن تحيق به: كلا، جمعة واحدة تكفي.
زفرت أمي سرور: إنت خاله من يربي الولد غيرك؟
صفع الهواء بيده: ليس ولداً إنه شاب ثم إنني لست خاله.
لطمت أمي صدرها وصاحت مرتاعة ماذا أسمع أقلت إنك لست خاله؟!
قال: نعم لست خاله… أنا أخوه في الله.
صرخت أمي أخوه؟ وأنا ماذا أكون؟ بنت عم خال جدة أمك’ هذا فيلم هندي!
صارت أمي تلطم وتدمدم عليه العوض… عليه العوض.
***
في منتصف الأسبوع جاءتنا زوجة خالي تولول الحقوني انهدم بيتي سرور في الحبس. صرخت أمي: أخي في الحبس؟ كيف؟!
قالت زوجة خالي أخذوه من الدكان… قالوا إنه كان يتداول منشورات في جامع السوق آه ياربي من أين جاءتنا هذه المصيبة؟
تربعت أمي قبالة زوجة خالي وراحتا تلطمان وتتناوحان وكفاصل استراحة افترستني أمي بنظرة حارقة على الرغم من امتلاء عينها بالدموع: أرأيت هذا ما كنت أخشاه أهذا ما كنت تريده يا أخي في الله’ البس دشداشتك حالاً. اسمعتني؟ قلت دشداشتك سأقتلك إذا لبست ‘الفانيلة’، البس واذهب إلى المخرف لترى ماذا جرى لأخيك.
قلت باستنكار ماذا تقولين؟ اتريد ان تلحقنا شبهة؟
لم أحفل بصراخها وإلحافها لأنني كنت على يقين من أنني سألتحق به في الحبس بأسرع مما تتوقع أعرف خالي جيداً أنه ليس من هواة التحقيقات المطولة فبعد أول صفعة سيعترف بأنني أنا الذي أغويته مسقطاً من اعتباره كل موجبات رابطة (الأخوة) التي تقوم، عادة بين الخال وابن اخته!
* شاعر عراقي