منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    قصة مريم

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    قصة مريم Empty قصة مريم

    مُساهمة   السبت فبراير 13, 2010 11:27 am

    البنية السردية في سورة مريم ... عبد الهادي أحمد الفرطوسي

    قصة مريم Aqwasأفق : الخميس 19 مايو 2005


    مدخل :

    إلى أيّ مدى يمكن اعتبار المصحف الشريف نصّا خاضعا لقواعد علم النصّ؟
    ويكتسب السؤال أهمية أكبر ،ونحن ندرس البنية السردية في القرآن الكريم.
    يتكون المصحف الشريف من سور متباينة في الطول، وتتكوّن السورة الواحدة من
    آيات متباين عددها ، بعضها يتكون من تركيبات معقدة من الجمل، والبعض الآخر
    يتكون من جملة بسيطة واحدة ، او عبارة لا تكوّن جملة واحدة مثل : "نون".
    وقبل ذلك فإن القرآن الكريم قد أنزل على رسول الله على مدى عقدين من السنين تقريبا، وعلى صورة مجموعات من الآيات.

    بناء على ذلك فإن الدراسة النصية للقرآن الكريم تتطلّب الانتباه إلى ثلاثة
    أنماط من الوحدات: الوحدات الكبرى متمثلة بالسور والوحدات الصغرى متمثلة
    بالآيات، وتبقى مجموعة الآيات النازلة دفعة واحدة نمطا ثالثا من الوحدات.
    غير ان الحديث عن تاريخ القرآن يضع بعض الإشكالات بهذا الصدد، فقد اختلف
    مؤرخو القرآن في كيفية توزيع الآيات على السور، وآراء بعض الصحابة في
    إخراج بعض الآيات والسور من القرآن الكريم ، ولمّا كان موضوع البحث بعيدا
    عن هذا المجال ، فسأكتفي بالاعتماد الجاهز على الرأي القائل أن توزيع
    الآيات على السور تمّ في عهد رسول الله وبأمره (1) ؛ وبذلك سأستغني عن
    النمط الثالث من الوحدات في هذه الدراسة السريعة والقصيرة.
    وجريا وراء المنهج اللساني الحديث الذي يعتمد منذ سوسير على مستويين من
    التحليل : الأول أفقي ( سايكروني) ، والثاني عمودي (دايكروني) ؛ فإن
    الدراسة السردية للقرآن الكريم تتطلب قراءتين :
    الأولى أفقية سياقية ، تعتبر السورة نصا صغيرا داخل النص الأكبر، ينقسم
    إلى وحدات كبرى تقسّم على أساس الموضوعات، أوالمعاني - بحسب بارت- وتكون
    الحكاية كاملة وحدة من الوحدات الكبرى ، تدرس مرتبطة بالوحدات الأخرى داخل
    السورة الواحدة.
    والثانية عمودية تدرس تكرار القصة الواحدة داخل النص الأكبر، فيتشكل من
    مجموع النصوص المعبرة عن متن حكائي واحد حكاية تكرارية واحدة، وهنا لا بد
    ان نجعل من أوقات النزول أساسا في ترتيب النصوص التي تشكل منطوقات لمتن
    حكائي واحد.
    ان اعتماد منهج كهذا سيجعل من النصّ القرآني حكاية إطارية كبرى ، تندرج
    فيها جملة كبيرة من الحكايات التكرارية ، ترتبط فيما بينها بشبكة معقدة من
    العلاقات ، كما ترتبط معها الوحدات غير الحكائية بذات الشبكة المشار إليها.

    * * *

    ويسعى هذا البحث الصغير إلى ان يكون صورة مصغرة للبحث المطموح إلى
    تحقيقه، غير ان صغر المساحة المحددة للدرس يمنع تطبيق المنهج بالشكل
    المشار اليه ، مما يؤدي إلى الاكتفاء بالدراسة الشكلية ، دون الوصول إلى
    المعنى العميق ، فذلك الهدف يتطلب دراسة مساحة أوسع وتناول كافة المستويات
    الصوتية والصرفية والنحوية والمعجمية إضافة إلى المستويين السردي والبلاغي
    الذين يجرى تناولهما في هذا البحث ،
    سيكتفي هذا البحث بتناول ثلاث وحدات أفقية من سورة مريم ، وتناول ما يقابلها عموديا.

    * * *

    أوّلا : القراءة الأفقيّة السياقية
    تقترب سورة مريم - من الوجهة
    السرديّة - من مفهوم الحكاية الإطارية، والحكاية الإطارية كما يعرّفها
    مياجير هاروت : حكاية أو مجموعة حكايات ترويها شخصيّة واحدة أو أكثر،
    تتضمن متونا أقل طولا رويت ضمنها (2).
    تتضمن السورة الكريمة ثمانية وتسعين آية ، كلها مكية إلا آيتان: 58 و 71 وسيأتي البحث إلى بيان أهميّة ذلك.
    واعتمادا على رولان بارت الذي اقترح تقسيم النص إلى وحدات من أجل إمكانية
    تحليلها ، وجعل المعنى أساسا لهذا التقسيم (3)، ولما كان البحث يهدف إلى
    دراسة البنية السردية للسورة الكريمة فقد جرى تقسيم النص إلى عدد من
    الوحدات السياقية ، وعلى الصورة الآتية:
    الوحدة الأولى
    وتقتصر على الآية الأولى: "كهيعص (1) " ولا نملك هنا إلا ان نقول قول
    الجلالين:"الله أعلم بتفسيرها" (4)، غير اننا نجدها في هذا الموضع علامة
    سيميائية على مدلولين: الأول انها استهلال لنص يتضمن عددا من القصص
    الغرائبية ، ولما كان الاستهلال يمثل الصورة الجنينية للنص ؛ فإن غرائبية
    الاستهلال مدخل للوصول إلى تلك القصص.
    والثاني ، وإذ يجد المفسر نفسه عاجزا عن تفسيرها تفسيرا مباشرا، وليس
    أمامه إلا اللجوء إلى التأويل ، فهي لافتة في فاتحة السورة تومئ إلى ضرورة
    التأويل الذي يجب ان يقرأ النص على ضوئه ، فان تلك القصص لا يراد منها
    الأخبار التاريخية ، ولا الموعظة المباشرة ؛ وانما وراء السرد الظاهر
    معاني خفية لا تدرك الا بالتأويل العميق.

    الوحدة الثانية
    "ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ
    نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي
    وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا
    (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتْ امْرَأَتِي
    عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ
    آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَازَكَرِيَّا إِنَّا
    نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ
    سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتْ
    امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنْ الْكِبَرِ عِتِيًّا (Cool قَالَ
    كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ
    قَبْلُ وَلَمْ تَكُنْ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً قَالَ
    آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10)
    فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنْ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ
    سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَايَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ
    وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً
    وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا
    عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ
    وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)"
    تتضمن عرضا لقصة زكريا وولادة ابنه يحيى ، وتبدأ القصة بالإعلان المباشر
    عن موضوعها (رحمة الله)، فتأتي القصة بأكملها محمولا على ذلك الموضوع ،
    وبالاصطلاح النحوي قد جاء الموضوع مبتدأ "ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ
    عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) " وجاءت القصة بأكملها خبرا .
    يتميز المبنى الحكائي لقصة زكريا بإيقاعه السردي الناجم عن التغير المستمر
    لأشكال الحركة السردية، والذي يترتب عليه التذبذب المستمر بين زمن المتن
    الحكائي وزمن الحكي ، أي بين الزمن الذي تستغرقه الأحداث التي يرويها النص
    وعدد الكلمات التي تروي تلك الأحداث.
    فالآيات الكريمة تقدم لنا مشهدا مفصلا يبدأ بعد ذكر الموضوع بجملة سردية
    "إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)" تشكل مجملا قصير ا، والمجمل -
    بحسب جينيت - شكل ذو حركة متغيرة يكون فيه زمن الحكي أصغر من زمن المتن
    الحكائي (5).
    يتلو ذلك مشهد حواري يستغرق سبع آيات (من4-10) ، وفي المشهد الحواري يتساوى زمن المتن الحكائي مع زمن السرد بحسب جينيت أيضا (6).
    تعقبه جملة سردية تشكل مجملا: "فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنْ الْمِحْرَابِ
    فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)".
    يتحقق بعد ذلك حذف ، وهو بمصطلح جينيت : الذي لا يصرح بوجوده ، وانما
    يستدلّ عليه من ثغرة في التسلسل الزمني أو انحلال للاستمرارية السردية (7).
    ينتقل بعد ذلك إلى مشهد حواري قصير:" يَايَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ
    بِقُوَّةٍ …(12)" ، تتلوه جملة سردية تشكل مجملا :" وَآتَيْنَاهُ
    الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً ". ثم تليها
    وقفة وصفية يتعطل فيها زمن المتن الحكائي إلى الصفر:" وَكَانَ تَقِيًّا
    (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) "،
    وينتهي المبنى الحكائي بمجمل سريع ، يشكل جزؤه الأخير استباقا:" وَسَلَامٌ
    عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)".

    * * *

    بعد هذا الوصف السريع للمبنى الحكائي نخرج بالنتائج الآتية:
    1 - تعرّض المبنى الحكائي إلى ثمانية تحولات في حركة الأشكال السردية هي :
    مجمل قصير - مشهد طويل استغرق سبع آيات - مجمل قصير - حذف طويل تضمن حمل
    زوج زكريا وولادة يحيى وبلوغه مرحلة حمل الكتاب – مشهد حواري قصير – مجمل
    قصير – وقفة وصفية – مجمل قصير .
    وترتّب على تغير أشكال الحركة السردية تغيّر في سرعة جريان الزمن الخاص بالمتن الحكائي ، الأمر الذي منح النص إيقاعه السردي .
    2 -ابتدأ المشهد الطويل بجملة سردية تقترب من المجمل ، وختم بجملة مثلها ،
    وبذلك فقد شكّلت المجملات ، على امتداد المقطع الحكائي مفاصل سردية ، تربط
    الأشكال السردية الآنفة الذكر.
    3 - المشهد الحواري يبدأ بحوار أحادي (منلوج داخلي) يستغرق ثلاث آيات (4 –
    6 ) تشتمل على تسع جمل ، بعد ذلك يتحوّل إلى حوار ثنائي ، بين الله
    وزكريّا يأخذ شكل جمل طؤيلة ، تستغرق كلّ جملة الآية كاملة، في الآيات 7 و
    8 و 9 ، ثمّ تختزل الجملة الحوارية إلى النصف في الآية العاشرة.
    بناء على ما تقدّم يبدأ المتن الحكائي بطيئا ، ثم تزداد سرعته تدريجيا حتى
    تصل حالتها القصوى في نهاية المبنى الحكائي ، وذلك يتناسب مع النمو
    الدرامي للأحداث ، مضفيا على الإيقاع السردي تأثيرا نفسيا.
    5 – يلاحظ التناظر القائم بين عموم الأشكال السردية، وعلى الصورة الآتية:
    أ – طول المشهد الحواري الأول (9 آيات) ↔️ طول الفترة الزمنية للمحذوف.
    ب – الحوار الأحادي (3 آيات) ↔️ الحوار الثنائي (4 آيات).
    ج – خطاب الله في الآيتين :7 و9 ↔️ خطاب زكريا في الآية 8.
    د – خطاب الله في الآية العاشرة ↔️ خطاب زكريا في الآية العاشرة .
    6 - خفي الحوار ورد فعل القول في خمس جمل حوارية ، وحذف من جملتين
    حواريتين ، وتعليل ذلك هو تعميق الدهشة والمفاجأة التي يحققها الفعل
    السردي ؛ ففي الحالة الأولى كان زكريا يمارس حواره الداخلي ، كاشفا عن
    حزنه العميق ، بعد ان وهنت قوته وشاب رأسه ، ولكون امرأته عاقرا فهو يائس
    من الإنجاب، وكل ما يطمح له ولي من آل يعقوب… وانسجاما مع غرائبية القصة ،
    تأتي المفاجأة الأولى بأن يسمع الله كلام زكريا ، فيحاوره مناديا: "
    يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ
    نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) " ، وتبلغ المفاجأة أقصاها حين
    يبشره بولادة غلام له ، فتأخذه الدهشة من غرابة البشرى ، فيتساءل متعجبا:"
    رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ
    بَلَغْتُ مِنْ الْكِبَرِ عِتِيًّا (Cool " هكذا يأتي نداء الله إلى زكريا
    مجردا من فعل القول ؛ ليمنح ذلك النداء وتلك البشرى حدة في المفاجأة
    وزيادة في التعجب.
    والحالة الثانية وبتأثير غرابة الفعل السردي ذاته ، وبفعل التقنية
    السردية، تتحقق دهشة جديدة ، فبعد ان يغادر زكريا المحراب معلنا صيامه عن
    الكلام ينقطع السرد ؛ ليظهر معلنا عن وجود يحيى وقد بلغ سن النضج ان
    الدهشة والمفاجأة تتحقق بوساطة عدة عناصر:
    الأول طول المدة الزمنية المحذوفة التي تشمل تكوّن يحيى جنينا وولادته ونشأته الأولى,,,,
    والثاني كون الحذف غير معلن فالنص لا يشير إلى ذلك الحذف أو المدة الزمنية التي استغرقها ، وانما يفهم من سياق الكلام.
    والثالث ان استئناف السرد لا يأخذ شكل جملة خبرية سردية، وانما يتحقق
    بجملة حوارية تتمثل بنداء تعقبه جملة أمرية: " يَايَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ
    بِقُوَّةٍ ".
    والعنصر الرابع هو حذف فعل القول من جملة النداء والأمر ؛ لتستكمل بذلك العناصر المؤدية إلى الدهشة.
    7 - الى جانب الإيقاع السردي الذي حققته التقنيات السردية الآنفة الذكر،
    هناك إيقاع آخر يمكن ان نسميّه الإيقاع البديعي تحققه فواصل الآيات وقد
    اتخذت صورة الياء المشددة المفتوحة المنتهية بألف الإطلاق، وقد تحقق
    التناسق بين الإيقاعين على الصورة الآتية:
    أ‌- كانت فاصلة الآية الثالثة خاتمة لوحدة سردية ذات شكل محدد تحقق بعدها
    الانتقال إلى شكل سردي أخر ومثلها كانت خاتمة الآية الحادية عشرة.
    ب‌- في الآيات 4و 5و6 والتي تضمنت حوارا أحاديا داخليا ، كانت الفواصل
    تفصل بين ثلاثة من التركيبات الثنائية (الخبرية – الانشائية) وعلى وفق
    الجدول الآني:

    قصة مريم Maryam

    ج – في الآيات 7 و8 و9 شكلت الفاصلة رتاجا لكل جملة خبرية.
    د – في الآية العاشرة شكلت الفاصلة خاتمة للمشهد الحواري.
    هـ – تشابك الإيقاع السردي بالإيقاع البديعي في الآيات (11 – 14) بحيث ترد
    الفاصلة في سياق الوحدة السردية. في الآية 15 كانت الفاصلة رتاجا لمنطوق
    الحكاية.

    * * *

    الوحدة الثالثة
    تتضمن الآيات الكريمات ( من الآية السادسة عشرة
    حتى الآية الثالثة الثلاثين) عرضا لمولد السيد المسيح ، يرتبط بالقصة
    السابقة يوساطة الواو التي تعطف فعل الأمر " اذكر " على "ذِكْرُ رَحْمَةِ
    رَبِّكَ " مذكرة بموضوع القصة السابقة ، وجاعلة إياه موضوعا للقصة اللاحقة.
    يقوم الإيقاع السردي لهذه القصة على التذبذب بين نمطين فقط من أنماط
    الحركة السردية ، هما : المجمل والمشهد ، فالقصة تبدأ بتقديم مريم في
    آيتين تحققان مجملا :" وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذْ انتَبَذَتْ
    مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ
    حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا
    سَوِيًّا (17) "
    يليه مشهد حواري يستغرق الآيات" قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَانِ
    مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ
    لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ
    وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُنْ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ
    قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ
    وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) " يجري فيه حوار بين
    مريم وروح الله.
    ثم ينتقل النص إلى المجمل ثانية :" فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ
    مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إلى جِذْعِ النَّخْلَةِ "
    ، ويعود إلى مشهد حواري جديد يبدأ بحوار أحادي داخلي "…. قَالَتْ
    يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) ؛
    ليتحول إلى حوار ثنائي بينها وبين طفلها المسيح "فَنَادَاهَا مِنْ
    تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)
    وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا
    جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيْنَ
    مِنْ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا
    فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا (26)" ، ثم ينتقل النصّ إلى مجمل
    فصير "فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ" ، ويعود سريعا إلى الحوار على
    لسان قومها "قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا
    (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي
    نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ‎وَأَوْصَانِي
    بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي
    وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ
    وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)"
    وبناء عليه فإن الإيقاع السردي يتكون على الصورة الآتية :
    مجمل ← مشهد ← مجمل ← مشهد ←مجمل ← مشهد ←مجمل ← مشهد .

    * * *

    تشكل هذه الوحدة تكرارا للوحدة السابقة لها ، وبهذا التكرار وبدراسة
    مواضع الشبه والاختلاف تتكشف جمالية البناء السردي ، فالقصتان تتشابكان
    وتفترقان في المواضع الآتية:
    1 - كلا القصتين يرويان ولادة غرائبية لنبي ، وتختلف الأولى عن الثانية في
    جوهر الغرائبية ، فغرائبية الأولى تأتي من كون الأم عاقرا ، وغرائبية
    الثانية تأتي من كون الأم بكرا لم يمسسها ذكر.
    2 - في القصة الأولى يبرز الأب الشخصية الفاعلة الرئيسة ، وتغيب شخصية
    الأم عن القصة ، لا تظهر الا في جملة قصيرة: " وَكَانَتْ امْرَأَتِي
    عَاقِرًا" ، أما في الثانية فإن الأم هي الشخصية الفاعلة الرئيسة ،
    يقابلها غياب الأب غيابا كليا.
    3 - تبدأ كلتا القصتين بمجمل يعقبه حوار، لكن مجمل القصة الأولى يتكوّن من
    جملة فعلية قصيرة ، تقدم الشخصية الرئيسة زكريا:" إِذْ نَادَى رَبَّهُ
    نِدَاءً خَفِيًّا (3) " .
    أما في القصة الثانية فيتكون من أربع جمل فعلية ، تشكل الجملتان الأولى
    والثانية لحظة بدئية ، تقدم الشخصية الرئيسة مريم في وضع مستقر ، وقد
    أحاطت نفسها بعزلة عن أهلها:" إِذْ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا
    شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا" ، وتأتي الجملتان
    الثالثة والرابعة ؛ لتشكلا حركة سردية جديدة ، تتجاوز اللحظة البدئية
    ببروز شخصية جديدة تكسر حالة الاستقرار السابقة وهي روح الرب الذي يبرز
    بصورة آدمي :" فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا
    بَشَرًا سَوِيًّا (17)".
    4 - في كلتا القصتين يلي المجمل الأول مشهدا حواريا ، لكن الحوار في القصة
    الأولى يأخذ شكل منلوج داخلي في الجزء الأول منه مستغرقا اثنتي عشرة جملة
    متوزّعة على ثلاث آيات:" قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي
    وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا
    (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتْ امْرَأَتِي
    عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ
    آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)" ، ولا تظهر الحركة السردية
    الثانية الا مع بدء الحوار الثنائي، وهو بذلك يمثل استكمالا للحظة البدئية
    المستقرة التي تقدم الشخصية في حالة مناجاة مع الله.
    بينما مر بنا في الفقرة السابقة ان الجمل الأربع الأولى قد تضمنت حركتين
    سرديتين، ومع بدء الحوار يدخل النصّ الحركة السردية الثالثة ، ويدل هذا
    الاختلاف على التباين بين سرعة جريان الأحداث في كلتا القصتين.
    5 - يجري الحوار الثنائي في القصة الأولى بين زكريا وربه ، بينما يجري في الثانية بين مريم وروح الرب.
    يبدأ في الأولى بكلام الرب : " يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ
    بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)"
    ، فتتحقق به الحركة السردية الثانية التي تكسر حالة استقرار اللحظة
    البدئية ، وتفاجئ زكريا بوصفها نبوءة غرائبية.
    ويبدأ – في الثانية – بكلام مريم ، فتتحقق به حركة سردية ثالثة، تمثّل رد فعل مريم تجاه ظهور الشخصية الجديدة المقنـّعة.
    6 - تتفق أخبار الرب و(روحه) في كلتا القصتين في المضمون ، التبشير بولادة
    غلام ، لكنهما يختلفان في المنطوق:" يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ
    بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا" و في
    الأخرى:" قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا
    زَكِيًّا (19) " ومردّ ذلك إلى اختلاف السياقين السرديين، ففي القصة
    الثانية تحتاج الشخصية المقنعة إلى الكشف عن هويتها قبل الإدلاء بالبشارة
    ، فكان ان " قال انما انا رسول ربّك" ، بينما لا يحتاج السياق إلى ذلك في
    القصة الأولى ؛ فجاء التبشير مباشرا.
    7 - يتفق المنطوقان اللاحقان في كلتا القصتين من حيث طبيعة الحركة السردية
    التي يتمثل بها رد فعل الشخصيتين المتضمن معنى الدهشة والمتحقق بأسلوب
    لغوي واحد :" أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ " . ثم يأتي جواب الربّ وروحه
    واحدا في كلتا القصتين: " قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ
    هَيِّنٌ " . وأخيرا تأتي خاتمة القصتين واحدة في منطوقها إلا في الاختلاف
    في الضمائر، فورد في الأولى ضمير الغائب" وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ
    وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)"
    " وفي الثانية ضمير المتكلم "وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)".
    إن هذه الآيات التي يتحقق فيها التطابق اللفظي هي بمثابة جسور بين القصتين.
    8 - يتحقق الاختلاف الشاسع بين بنيتي القصتين في حذف ولادة يحيى ونشأته
    الأولى، يقابله السرد التفصيلي لولادة عيسى ، إذ يستغرق تسع آيات :"
    فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا
    الْمَخَاضُ إلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ
    هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا
    تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ
    بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي
    وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنْ الْبَشَرِ أَحَدًا
    فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ
    الْيَوْمَ إِنسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا
    يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا
    كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)
    فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ
    صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ
    وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30)" ، وعلة هذا الاختلاف في أن غرائبية الحدث في
    القصة الأولى تكمن في حمل امرأة عاقر ، وقد جرى الإخبار عنه في المشهد
    الحواري الأول ، فانتفت بذلك الضرورة إلى سرد وقائع الحدث.
    أما في القصة الثانية فإن غرائبية الحدث تحتاج إلى ما يثبت صحتها ، وان
    النمو الدرامي لا يتحقق الا من خلال الصراع بين مريم وقومها، فولادة
    الغلام الموعود صارت مصدر عار لمريم لا يمّحى إلا باستكمال غرائبية الحدث
    بحدث غرائبي أكبر هو تكلمه في المهد.

    * * *

    القراءة العمودية
    تتكرر الإشارة إلى شخصيات مريم وزكريا ويحيى
    وعيسى في أماكن مختلفة من القرآن الكريم ، لكن منطوقا جديدا للقصتين نجده
    في سورة أل عمران ، يستغرق إحدى وعشرين آية:" إذ قَالَتْ امْرَأَةُ
    عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا
    فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(35)فَلَمَّا
    وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ
    بِمَا وَضَعَتْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ
    كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ
    وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ(36)فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا
    بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا
    كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا
    رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ
    اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ
    حِسَابٍ(37)هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ
    لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ(38)فَنَادَتْهُ
    الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ
    يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَسَيِّدًا
    وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى
    يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ
    قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ
    لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ
    إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ
    وَالْإِبْكَارِ (41) وَإِذْ قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ
    اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ
    (42) يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ
    الرَّاكِعِينَ(43)ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا
    كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ
    مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتْ
    الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ
    اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا
    وَالْآخِرَةِ وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي
    الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنْ الصَّالِحِينَ(46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى
    يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ
    يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ
    فَيَكُونُ (47 ) ( وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ
    وَالْإِنجِيلَ(48) وَرَسُولًا إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ
    جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ
    كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ
    وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ
    اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي
    بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ
    (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ
    لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ
    رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِي (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي
    وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا
    أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمْ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إلى اللَّهِ
    قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ
    وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ
    وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)
    وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ
    قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ
    وَمُطَهِّرُكَ مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ
    فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ
    مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
    (55) "
    وبناء عليه فإن قصة مريم الواردة في القرآن الكريم تنتمي إلى نمط الحكاية
    التكرارية- شأن قصص القرآن الأخرى – والحكاية التكرارية هي ان يروى مرات
    ما وقع مرة واحدة (Cool ، ويتأرجح هذا التكرار بين جملة متغيرات:
    1 - إن الحكاية الأولى في سورة مريم ، والتي كانت حكاية مستقلة ، لا
    تربطها رابطة بالحكاية الثانية إلا جسور لغوية مرت الإشارة إليها ، نجدها
    ترد في سورة آل عمران مقطعا عرضيا يرد ضمن الحكاية الثانية ، والمقطع –
    بحسب اصطلاح بروب – حكاية تنطلق من إساءة أو حاجة وتمرّ بالوظائف الوسيطة
    لتصل إلى الوظيفة الختامية ، والمقطع العرضي يبدأ قبل ان ينتهي المقطع
    السابق ، ويستمر حتى ينتهي ، فيستأنف المقطع الأول (9) .
    2 - أن زكريا الذي كان شخصية رئيسة في الحكاية الأولى في سورة مريم يدخل
    في سورة آل عمران شخصية ثانوية في الحكاية الرئيسة: "وَكَفَّلَهَا
    زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ
    عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ
    عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
    (37) " وبذلك تنكشف وظيفة الجسور اللغوية المشار إليها في القراءة
    الأفقية، فهي تومئ إلى الارتباط السردي بين القصتين.

    3 - في سورة آل عمران حقق منطوق التكرار زيادتين على الحكاية الأولى :
    أ - يبدأ المتن الحكائي لقصة مريم في سورة مريم حيث تظهر شخصيتها وهي تصلي
    في المحراب . أما في سورة آل عمران فإن المبنى الحكائي يقدم مريم جنينا في
    بطن أمها : " إذ قَالَتْ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ
    مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ
    الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا
    أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا
    وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ
    وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
    (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا
    حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا
    الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ
    هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ
    يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) "
    ب - الزيادة الثانية في خاتمة المبنى الحكائي ، حيث ينتهي في سورة مريم
    بتكلم عيسى في المهد : " قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ
    وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ
    ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا
    بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ
    عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
    " . أما في سورة آل عمران فإن السرد يستمرّ حتى ينقطع كلام عيسى بجملة
    سردية : " فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمْ الْكُفْرَ "، ثم يعود النص
    إلى المشهد الحواري، فتدخل شخصيات جديدة إلى النص تحاور عيسى هم
    الحواريون: " قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إلى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ
    نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا
    مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا
    الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ
    اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ
    يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنْ
    الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ
    كَفَرُوا إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ
    بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) " .
    4 - المحذوف:
    أ - في سورة آل عمران تنتهي قصة زكريا بأمره بالصوم عن الكلام بعد تبشيره
    ؛ فتغيب بذلك شخصية يحيى التي تجسدت في سورة مريم بالآيات (11 – 15 ).
    ب - في سورة آل عمران تغيب أحداث الحمل والولادة التي صورتها الآيات (23 –
    29 ) من سورة مريم ، وما رافقها من صراع نفسي عنيف عانته مريم ، وصراع مع
    قومها بني إسرائيل الذين اتهموها بالفسق.
    5 - الاختلافات :
    أ - أول الاختلافات ان الشخصية المقابلة لشخصية زكريا – في سورة مريم- هي
    الله وقد وردت باللفظ الصريح :" ربك" وتمثلت بياء المتكلم في " عليّ"
    والتاء المضمومة في " خلقتك" من الآية التاسعة ، وضمير الغائب المفرد الذي
    ورد فاعلا للفعل " قال"في الآيتين التاسعة والعاشرة.
    أما في سورة آل عمران فإن شخصية بديلة لشخصية الله سبحانه وتعالى تبرز في
    المواضع المقابلة للمواضع المشار إليها في سورة مريم، والشخصية البديل هي
    الملائكة : " فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي
    الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ
    مِنْ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ (39) "
    وتأتي شخصية الملائكة لتكون وسيطا بين الله وزكريا، فيتحول بحضورها الحوار
    من حوار مباشر في سورة مريم إلى حوار غير مباشر في سورة آل عمران.
    ب - في سورة آل عمران تغيب شخصية روح الرب أو رسوله الذي أبرزته الآيات (
    17 – 21 ) من سورة مريم بصورة ملاك تفنّع بشخصية بشر وأخذ يحاور مريم،
    ويحل محله شخصية الملائكة مجتمعة تحاور مريم : " وَإِذْ قَالَتْ
    الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ
    وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَامَرْيَمُ اقْنُتِي
    لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ
    أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ
    يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ
    لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ
    يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ
    الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
    وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ (45) "
    ج - تختلف صيغ الحوار بين السورتين وتتفاوت درجات الاختلاف ، وعلى أساس هذا التفاوت سنصنفها على صنفين:
    الصنف أ وتكون فيه درجة الاختلاف ضئيلة كما في الآية الثامنة من سورة مريم
    : "قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِرًا
    وَقَدْ بَلَغْتُ مِنْ الْكِبَرِ عِتِيًّا (Cool " تقابلها الآية الأربعون من
    سورة آل عمران : " قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ
    بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ
    يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)" ، ومثلها الآية العاشرة من سورة مريم: "قَالَ
    رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً" تقابلها الآية السابعة والأربعون من سورة آل
    عمران : " قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً" ومثلها الآية العشرون من سورة
    مريم: " قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ
    وَلَمْ أَكُنْ بَغِيًّا (20)" تقابلها الآية السابعة والأربعون من سورة آل
    عمران : " قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي
    بَشَرٌ" .
    الصنف ب وتكون فيه درجة الاختلاف كبيرة ، كما في الآية الخامسة من سورة
    مريم : " وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتْ
    امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5)" تقابلها
    الآية الثامنة والثلاثون من سورة آل عمران :" قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ
    لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)" إن
    المعنى في الآية الأولى منفتحا ، فالولي قد يعني الذرية وغيرها ،أما في
    الثانية فالمعنى محدد بالذرية حصرا.
    وفي الآية السابعة من سورة مريم يرد الكلام على لسان الله سبحانه وتعالى
    معتمدا ضمير المتكلم ثلاث مرات في "إنّا" و "نبشّر" و " نجعل " : "يَا
    زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ
    لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)" ، الأمر الذي يفيد أن الجملة الحوارية
    منقولة نقلا مباشرا بلفظها ومعناها.
    غير أن الآية التاسعة والثلاثين من سورة آل عمران تذكر الكلام على لسان
    الملائكة" أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ " ثمّ يرد المنطوق اللاحق مغايرا لما
    ورد في سورة مريم :" بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنْ اللَّهِ
    وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ (39) " .

    وفي الآية التاسعة من سورة مريم تعتمد الجملة الحوارية - كما في
    السابعة- ضمير المتكلم العائد على الله ، متمثلا بالياء في "عليّ" والتاء
    في " خلقتك " : "قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ
    وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُنْ شَيْئًا (9)" بينما ترد
    الآية الأربعون من آل عمران مختزلة الجملة الحوارية : "قَالَ كَذَلِكَ
    اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)".
    وفي الآية الحادية والعشرين من سورة مريم:" قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ
    هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا
    وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)" يرد ضمير المتكلم متمثلا بالياء في "
    عليّ" و نا في " منّا" والضمير الغائب في " نجعله" ، بينما نجد منطوقا
    مغايرا في الآية السابعة والأربعين من سورة آل عمران :" قَالَ كَذَلِكِ
    اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ
    لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)" .
    قد يكون هذا الاختلاف الذي يكشفه التكرار ظاهرة طبيعية في النصوص السردية
    ، لكن ذلك يحصل حين يأتي التكرار نتيجة لتعدد الساردين او تعدد زوايا
    النظر ، وقد يحصل التناقض في كلام سارد واحد ، اذا كان السارد مثلي القصة
    داخلها ؛ تعبيرا عن تغير آرائه وتبدل أفكاره ، لكننا في النصّ القرآني ،
    وحيث يكون السارد واحدا ، غيري القصة خارجها فالأمر لا يخضع للتفسيرات
    المألوفة في علم السرد.
    وبرغم أن لعلماء المسلمين آراء مختلفة في هذا الموضوع ، درسوه تحت عنوان
    المحكم والمتشابه ، وان بعضهم قد نهى عن الخوض به ، لكن ذلك لا يمنع
    الباحث ان يدلي بدلوه في هذا المجال:
    نلاحظ ان الصنف أ يشمل كلام الشخصيات البشرية (زكريا ومريم ) ، بينما يشمل
    الصنف ب كلام الشخصيات فوق البشرية ( الله وروحه أو رسوله والملائكة).
    ويرى الباحث أن هذين الصنفين يؤديان وظيفتين ، سردية ودلالية.
    يشير ما ورد في الصنف أ إلى الأحداث المتكررة نافيا إمكان التصور أننا
    أمام أحداث جديدة غير الأحداث المروية في سورة مريم ، وبذلك فهو يعيد إلى
    الأذهان الأجواء التي خلقها السرد في سورة مريم.
    بينما ينفي ما ورد في الصنف ب أن تكون هذه القصص أخبارا تاريخية ، ويدعو
    المتلقي إلى ان يتعامل معها بوصفها نصوصا رمزية بعيدة كل البعد عن الدلالة
    التاريخية ، أي ان التناقض الذي يؤديه الصنف ب ما هو إلا علامات سيميائية
    تدعو إلى فتح أبواب التأويل على مصراعيها.
    ولعل اعتماد منهج سيميائي في تحليلها يحقق جانبا من هذا الهدف السامي.

    * * *

    مصادر البحث

    * تفسير الجلالين : جلال الدين السيوطي و جلال الدين المحلي : :
    * السردية العربية : د . عبد الله ابراهيم : المجلس الأعلى للثقافة : القاهرة :
    * التحليل البنيوي للقصة القصيرة : رولان بارت : ت عطا بكري : بغداد دار الشؤون الثقافية: الموسوعة الصغيرة :259 .
    * خطاب الحكاية: جيرار جينيت :محمد المعتصم وآخرون:المجلس الأعلى للثقافة:ط2 :1997.
    * مورفولوجيا الخرافة : فلاديمير بروب : ت ابراهيم الخطيب :الدار البيضاء : ط1 : 1986 .
    <blockquote>
    الهوامش :
    (1) ينظر : البيان في نفسير القرآن، للسيد الخوئي ( قدس سرّه)
    (2) السردية العربية : 93 .
    (3) التحليل البنيوي للقصة القصيرة: 41 .
    (4) تفسير الجلالين:
    (5) خطاب الحكاية : 109 .
    (6) نفس المكان.
    (7) نفس المكان.
    (Cool خطاب الحكاية : 132 .
    (9) مورفولوجيا الخرافة: 95 – 96 .

    عبد الهادي أحمد الفرطوسي
    كلية الأداب - جامعة القادسية
    </blockquote>

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 21, 2024 8:58 am