جدلية العلاقة بين الذات و الوطن
(قراءة سيميائية)
في ديوان (وشم على جدار القلب)
بقلم/ سليمان الأفنس الشراريتتأسس العلاقة
السيميائية بين الذات والوطن فى ديوان (وشم على جدار القلب) للشاعر/ خليل
إبراهيم الفزيع على أسس متشاكلة تؤسس جدلياتها السحرية، مستفيدة من المنجز
الثقافي والتراثي واللغوي، ومؤسسة لذاتها تياراً يتماهى مع القضايا
المجتمعية والقومية، بل يتجاوزها إلى قضايا الكون، والحياة، والعالم0
وبداية لابد لنا أن نحدد مقاربتنا السيميائية لندخل إلى عالم/ خليل الفزيع
المتشعب الأرجاء والمتعدد الرؤى، حتى في الأسلوبية التي نراها بين: ما هو
عام وما هوخاص، وبين الشكل والمضمون، وبين ما هو عمودي وما هو تفعيلي؛
وبين ما هو وطني عام ، وما هو عاطفي خاص، ولعلنا نستفيد كذلك في قراءتنا
هذه من المنجز التحديثي النقدي؛ بغية الولوج إلى عالم النصوص الشعرية
المتألقة، والمتأرجحة بين بحر الذات، وأحلام الشاعر عن الوطن والأمة
والعالم.
يبقي السؤال الذي يفرض نفسه عن المنهج الذي سنسلكه لتأسينا لتلك القراءة
عبر مقارباتها السيميائية فنقول: هل سنسلك منهجاً بنيوياً، أو تفكيكياً،
أو تكعيبياً، أو سيميائياً؟! ألخ.. للولوج إلى هذا الوشم المطبوع على جدار
قلب شاعرنا فأحاله إلى يمامة تحوّم تارة، وتتشرنق داخل الذات؛ أم تعلو
أشجار الوطن بجباله و مراتعه وسهوله و مرابعه الممتدة؟! .
نقول: إننا بالطبع سننهج طريقاً مغايرة مفادها: إن النص يطرح منهجه؛
ويستفيد من المدارس الأدبية كإجراءات أولية لتحليل النص وتفكيك بنيته
وتشريحه، بغية الولوج إلى الجوهر الأسنى له؛ والوقوف إلى شاطئه لاستكناه
جمالياته؛ وما اتخاذنا المقاربة السيميائية سوى وسيلة إجرائية –
استرشادية- لتأطير النص في الدرس النقدي، والدرس البلاغي واللغوي والجمالي
أيضا0
إذن نحن أمام إجراءات سيميائية، تستمد مشروعيتها من حقل اللسانيات النصية
، التي تحاور دراسة النص الأدبي باعتباره وحدة متكاملة، تعمد إلى إنشاء
ضوابط دلالية تضبط عمليات تفسير النصوص من خلال النظر إلى النص بوصفه نصاً
في موقف، أو حدث اتصالي؛ أو شبكة من العلاقات الناتجة عن تضافر نظمه
بمستوياته المختلفة؛ وتكون المهمة التي يطمح إلى انجازها هي تلك السياقات
التي تتضافر مع بعضها في علاقات وشائجية بغية إنتاجه، أو تفكيكه، عبر
عوالم أدبية واجتماعية ونفسية، متخذة من دراسة أنساق العلامات كشفرة،
للولوج إلى عالمه، بغية تفسيره، والولوج إلى معالجة القضايا اللغوية في
العلوم النظرية والطبيعية والانسانية0 كما سنشير – هنا - إلى بعض الإشارات
لدراسة النص (عبر النوعية)، لنستفيد من المنجز النقدي التقني الحداثي،
وكذلك من علم النحو والدلالة وتطبيقاتهما الحداثية، لندرس الشعرية عبر
العلاماتية، أو السيميائية المتماهية مع جدليات الذات والعالم المحيط بها؛
وطالما حددنا المنهج فلندخل إلى عالم الشعرية عند خليل الفزيع.
( 1 ) سيميائية العنوان:
يمثل العنوان عتبة النص، وواجهته الإعلامية، كما يمثل في الدراسات
السيميائية علامة أولى، أو مركزاً للنص الأدبي ونواته ، و يمثل العنوان:
(وشم على جدار القلب) صورة ملغزة أولية لاستكناه مدلولاته الترميزية، حيث
إن الوشم هو طبع شيء على شيء، أو هو قناع يخفى نبضات قلب الشاعر ولا نعلم
حينها إن كان قلبه سعيداً أم حزيناً، فالوشم قد يطبع على القلب الحزن
والسعادة معاً، أو الخوف والقلق، أو هو الاستتار عن الواقع لرفضه، أو
للتماهى معه وإبداله بقناع آخر يخفى معالم الدّق للقلب، وهذا يحيلنا إلى
رؤية مختلفة يريدها الشاعر، دلت إليه آثارها النفسية في ذلك الوشم الذي
يطبع وأين ؟!، على جدار القلب الواهن الضعيف إذن وعبر الإحالات النفسية،
يحيلنا الشاعر إلى الحقيقة الأولى في النص في قناعاته الذاتية، فأصبح
القلب المادي قلباً جديداً وموشوماً ، لوجود قناعات مرّت على الشاعر
فتثبّت الوشم الذي يصعب مع الأيام إزالته، سواء من الناحية البيولوجية، أو
النفسية، لأنه رتق على جدار القلب وطبع، وجدار القلب هشّ، وأي نقش عليه
لإزالة هذا الوشم، هو بمثابة هتك لهذا الجدار، وبالتالي يستتبعه جراح
للقلب، وموات كذلك.
- وتحيلنا دلالات العنوان وإحالاته ، إلى سياقات اجتماعية، ونفسية،
وعلاماتية، وإشارية، وإحالية إلى ذات مرهقة ضعيفة وواهنة، وحالمة، طبعتها
السياقات الاجتماعية بوشم استقر فوقها، فأحالها إلى ذات مغطّاة و ملغزة،
تدفعنا للسؤال عن هذا الوشم وماهيته، وإعادة إنتاجيته، للوصول إلى ذات
القلب الذي يحاول أن يطبع عليه هذا الوشم المثير للجدل والإلغاز.
(2) مستويات الشعرية والتركيب السيميائى:
يترتب علينا بداية لدراسة النصوص أن نقف عند أربعة مستويات سيميائية، تحدد أبعاد الشعرية في الديوان وهى:
أولا: المستوى الصوتى:
يؤثر التشاكل الصوتى في تلقى النصوص، عبر حقولها البلاغية، والمعجمية،
والتراكبية، والدلالية، و يظهر ذلك التشاكل في استخدام الشاعر لبنية
(التكرار)، و(الجناس)، ويتجلى ذلك منذ أول قصيدة (إهداء) يقول الأستاذ/
خليل الفزيع :
ماذا يضيف قصيدي
يا شعر أنت سراج
وأنت للدهر نور
في مفرقيه وتاج
وفى حياتي نسيم
يوماً ويوماً عجاج
إلى أن يقول:
مذاق عمريَ عذب
يوماً ويوماً أجاج
ويجئ تكراره للفظة (يوماً) أربع مرات في قصيدة لا تتعدي أحد عشر
بيتاً لتدلل إلى حالته النفسية، ويحيلنا التكرار للكشف عن هذه الحالة، ففي
البيت الأول نرى الانفراج في النسيم المتبدّي على حالة الشاعر، ثم يعود
ويقول: يوماً، ويوماً أجاج، فالشاعر في صراع مع الذات والمجتمع، وتعتلجه
الأيام بين (النسيم والعجاج) ؛ ثم تظهر الضدية، أو عدم المطابقة في البيت
الثاني بين مذاق عمره العذب وبين الأجاج المالح، ومن هذه المقاربة/
التضاد: نسيم/ عجاج/ عذب/ أجاج تنكشف المفارقة الصوتية عبر بنية التكرار
لتحيلنا إلى الذات وسياقاتها النفسية والاجتماعية وتتجلي حينها رؤية
الشاعر للعالم والكون المحيط0
وبنظرة إحصائية إلى نهايات التقفية في القصيدة يمكن لنا أن نستجلي هذا حيث
تتضح بنية التكرار، لا على مستوى تكرار الكلمة فحسب ، بل وعلى ثنائية
الكلمة، وتداعياتها، وعلاقتها الإحالية، وارتباطها بهذه الثنائية.
ولنا أن نوضح ذلك في قصيدته: (الفهد والمجد) - والتي أهداها لخادم الحرمين
الشريفين الملك/ فهد بن عبدالعزيز، رحمه الله بمناسبة الذكرى العشرين
لتوليه مقاليد الحكم، وبداية نلمح الجرس الموسيقي الصوتي الذي أحدثته
كلمتي (الفهد/ والمجد ) عبر حقل (التجنيس أو الجناس)، الموظف لاستهلال
قصيدة تتحدث عن الملك وأمجاده، وتفيدنا (الواو) - هنا - في استمرارية
المجد، ولو حذف الواو لأطّر للصورة، وحصرها في توقف المجد عند هذه اللحظة
الآنيّة، لكن الواو أفادت المجد المستمر لخادم الحرمين الملك فهد بن عبد
العزيز – حفظه الله – يقول:
لك في القلوب منازل وقصور
وعليك تاج للفخار وقور
يا أيها الملك الذي ازدهرت به
أرض وعم رحابها التعمير
وبنيت مجداً للبلاد وأهلها
فاستبشرت مدن بها وثغور
وتكاتفت من حولك الأيدي التي
لا تنثني بهدى الإله تسير
شمس العدالة أشرقت أنوارها
والجهل ولى وانمحى الديجور
الأمن والتعليم حين تعانقا
نبتت صروح للعلا وجسور
وتنفست صحراؤنا فكأنها
بعثت فأضحت بالحياة تفور
وطني منار العز والأمل الذي
لحماه يرنو معوز وفقير
هذا ولقد تم اختيارنا للأبيات دون التراتب الذي صنعه الشاعر، لنحكم
الإجراءات المنهجية في تلك الثنائيات المتجادلة التي تشكل الصورة الشعرية
من جهة، وتفيدنا في هذا المستوى الصوتي لاستجلاء عالم النص واستكناه
خباياه؛ وتتجلي تلك الثنائيات في الأبيات في قوله : ( لك في القلوب منازل/
وقصور) فقد جعل مكانة الملك / فهد في أسمى مكان ألا وهو القلب، وكأن القلب
غدا أرضاً عليها المنازل والقصور التي بنيت خصيصاً للملك، كما أن هذه
القصور بنيت ليس على جدار القلب كما جاء العنوان، بل بنيت داخل القلب، حيث
يفيد حرف الجر (في) في النسبة المكانية الداخلية للقلب، وقد بنيت بالحب،
وليس بالأسمنت لأنها بيوت مبنية داخل القلب النابض بالحب، والمتسعة أرجاؤه
كذلك للمنازل والقصو، فهو لم يقل قصراً أو منزلاً، بل قال : منازلاً
وقصوراً متعددة، وهذا دليل المحبة، وارداف البيوت بالقصور، هو دلالة إلى
ثنائية الحب، ليس لدى الشاعر فحسب، بل لدى كل سكان المملكة كذلك، فعندما
قال: لك في (القلوب) وليس في (قلبي) أكدت العمومية أي المحبة التي تسع كل
قلوب أفراد الشعب السعودي، بل انسحبت في سياقاتها اللغوية لتشمل كل قلوب
العرب، و العالم، فكلمة القلوب لم يقصرها الشاعر على قلوب السعوديين؛ أو
العرب وإنما جعلها عامة، لتحيلنا إلى قلوب كل سكان العالم، وفى هذا نظرة
كلية تدل على الحب والإعزاز للملك (فهد)، ومكانته بين ربوع العالم كذلك0
وإذا نظرنا إلى سياقات الأبيات:
يا أيها الملك الذي ازدهرت به
أرض وعم رحابها التعمير
فهنا نلحظ (الثنائية) تتجلى في معطيات المعاني، حيث الأرض
المزدهرة/ المحاطة بالتعمير الرحب المتسع، وهكذا يمكن أن نحلل المستويات
الصوتية والدلالية لتحيلنا إلى سيميائيات النص الشعري، وسياقاتها المتعددة
عبر بنية التكرار والجناس والثنائيات.
ثانيا : المستوى المعجمي:
ويتناول هذا المستوى الاختيارات المعجمية ، من حيث المستوى الدلالي لمعاني
الألفاظ وأبعادها وتكرارها ليشكّل الديوان معجمه بما يتناسب مع التجربة
الشعورية من جهة، و المعجم الخاص الذي يكشف عن ثقافة الشاعر من جهة ثانية،
ويجب أن نلمّح كذلك: أنه لا يجب الفصل في الدرس النقدي بين المستوى
الصوتي، والمستوى المعجمي، والتركيبي، والدلالي؛ إذ أنه نسيج مترابط،
والفصل من جانبنا، فصل إجرائي بالطبع بغية الوقوف على الأنساق السيميائية
وجمالياتها، في نصوص الديوان.
هذا و يتجلى (المستوى المعجمي) في استخدام الشاعر ألفاظاً من (معجم الألم والنوح والحزن) في قصائده: ( فلسطين والأسر) يقول:
ناحت مآذن في الأقصى فما سمعت
لها صدى في مدى الآفاق ينتشر
من يقتل الطفل جوراً في منازله
و يدفن الحي والأحقاد تستعر
وكذلك قصيدته (أم الشهيد الفلسطيني) مثل قوله:
ضمت الابن نحوها
دمعها في العيون دم
عانقت روحه الردى
يلثم الموت لا العدم
وكذلك قصيدته (العيد والحمى) بقوله:
قلب يتوق وآهة تتردد
و العيد أقبل و الفؤاد مقيد
وفى قصيدته طيف يقول:
مازلت أبحث عن خل يؤانسني
فما وجدت سوى الآلام تنتظر
ومن معجم الحزن والشجن والجرح في قصيدته: (العزف على أوردة مبتورة) يقول:
(طالعة أنت/ من بين ركام الأشجان القبلية/ من قلبك تنفر أحلام وردية/ في
وديانك ترقص غابات الجرح/ تذوب مع الريح نداءات العشاق العذرية)..
في قصيدته (رثاء الأم) يقول:
لم أدر أن الحزن حل بساحتي
حتى نعتك لمسمعي الصرخات
وفى معجم (الحب) توزعت قصائده: ( الفهد والمجد، حنين عاشق،
احتفالية مولد الفرح، عهد الهوى، حلوة العينين، العيد، نهى، لمى (حفيدات
الشاعر)، الحب يجمعنا، وهج الشوق).
كذلك يتوزع المعجم الشعري لدى شاعرنا المبدع/ خليل إبراهيم الفزيع بين
الحزن والفرح، وبين مناجاة النفس، ومناجاة الوطن ، ومناجاة الديار، وهنا
ينطلق من توجهات الشاعر العربي القديم في تنويع معجمه الدلالي بين أغراض
الشعر الإنسانية، فهو شاعر اجتماعي، ذاتي، تتوزع آهاته الموشومة على جدار
القلب بين الحزن والرجاء، وبين الأنين واليأس، وبين الأمل والفقد، وبين
السباحة والغوص في عالم الذات، وبين حوقلاته وهو على سجادة الصلاة، وبتنوع
هذه الأغراض المعجمية الدلالية وترميزاتها السيميائية، يكون الشاعر قد نجح
في تسمية ديوانه (وشم على جدار القلب ) إذ القلب أصبح جداراً ينقش كل يوم
عليه نقطة حزينة تارة، وسعيدة تارة، ومتأرجحة بين محبة الوطن تارة، وحنينه
إلى ماضيه تارة أخرى، فنلمح تداخل (ما هو ذاتي) مع (ما هو وطني) وتداخل
(العام) مع (الخاص) ليصنع لنا عالم / خليل الفزيع، المتشعب ، والمتصارع
والمتشاكل مع قضاياه، و المتصالح مع ذاته والمجتمع والعالم كذلك، فنظرته
ليست أحادية، بل تنويعاته تشبه موسيقا يربط جدلياتها (هارمونية بديعية)
تشكل الذات،وتتّسق مع المجتمع، وتستشرف أحلام الشاعر و عالمه المليء
بالأصداف، في بحر القلب المتدفق بالحب و الأمل والأنين أيضاً .
(3) المستوى التركيبي:
يتكون المستوى التركيبي في القصيدة من مستويين رئيسيين:
(1) المستوى النحوي.
(2) المستوى البلاغي.
و يتشابك المستوى النحوي بالبلاغي بالطبع، ليشكل سياقاً عاماً، ليصنع
الخطاب الشعري، أو الرؤية التي يريدها الشاعر ويتمناها، ونرى هنا استخدام
الشاعر بكثرة لأساليب: النداء، والتقديم والتأخير، والحذف، والإزاحة،
والأفعال الماضوية، والمضارعة بكثرة، وذلك للتحسّر على ماض قديم، أو
لتأكيد واستمرارية الحدث، كما يستخدم الشاعر الأساليب الخبرية والإنشائية،
وكل معطيات البلاغة العربية، ليحيلنا إلى سياقات النص البنائية، والجمالية
من جهة، وليوازن بين الشكل والمضمون، من جهة أخرى، كما يزاوج و يراوح بين
ما هو عمودي وتفعيلي، في مزاوجة تكشف عن ثقافة الشاعر، وتماهيه مع المنجز
الحداثي، لإعادة (إنتاجية التراث) بصورة عصرية، تشي عن فهم جماليات
الشّعرية، وتكشف عن أسلوبية متجذرة في الأصالة، ومستشرفة لعالم أكثر
حداثية؛ كما يستخدم الشاعر (المستوى الدلالي المعنوي) و(المستوى العمودي)
لإحداث التفاعل بين النص والمتلقي، أو بين المرسل والمستقبل، لتتلاقي
الحالة الشعورية لدى الكاتب (ثناء فعل الكتابة) بحالة المستقبل - المتلقي
- ليعيد كشف جـماليات النص، ويمكن أن نأخذ مثالاً دالاً، ، وليس شاملاً
بالطبع لكل ما أسلفناه، لأن الحديث يطول ويمتد، ففي قصيدته (حلوة العينين)
يقول:
يا حلوة العينين لمّي
شعرك النزق
نامي على ساعدي
كي تطردي قلقي
شاهدت خلف المدى
أطياف أمنية
تلوح من بعدها
دنيا من الألق ..
نغيب في عالم الأحلام
حين دنت
بنا المسافات لا
نغفو و لم نقف
إذا تمادى بنا
سهر يعانقنا
يا حلوة العينين لمّي
شعرك النزق.ففي
هذه القصيدة القصيرة نلمح إحداثيات الخطاب بين الشاعر والمتلقي، فهو يخاطب
الأنثى ويعقد معها جدلية، بل ويأمرها بأن تلمّ شعرها الفاتن، الذي يؤثر
عليه بالطبع، ثم يأمرها – يا للعجب – بالنوم – على ساعده ولكن لماذا؟
يقول: لتطردي قلقي، ثم يبدأ في سرد حلم رآه، أو أمنية تخاطره، وفى النهاية
نكتشف أن المخاطبة هي حلمه، الذي يخاطبه، فيرى المحبوبة على هذا الحال، و
يمكن لنا أن نستجلي كل ما سردناه في شرح القصيدة وجمالياتها، ولكننا لسنا
معنيين بالشرح والتفسير في هذه الدراسة السيميائية، بقدر ما نحن معنيين
بالوقوف على مواطن الجمال، لنقبض على الشعرية ونستجلي مكنوناتها، وعلى
القارئ أن يعرف بأننا نوقفه إلى مفاتتح النص الشعري ليفكك شفراته، ليقف هو
– معنا - إلى جمالياته ويكتشفها بنفسه، وبالتالي نشترك جميعاً ( الشاعر
والناقد والمتلقي) مع الشاعر في إحداثياته البنائية ونحلّّق حولها، ونشير
إليها دون الغوص في تفصيلاتها ومعطياتها.
وطالما تحدثنا عن (المعطيات النصية) فإننا ننتقل بالطبع إلى (المستوى
الدلالي) للنصوص، ونحن بالطبع نعلم – بأننا خالفنا التراتب النسقي
للإجراءات السيميائية التي تعمد إلى دراسة النصوص بمستوييها:
(1) المستوى الأفقي والسطحي: والذي يضم مستويات أربعة: (المستوى الصوتي – المستوى المعجمي – المستوى التركيبي- المستوى الدلالي).
(2) المستوى الصوتي .
ونقول: لقد قدمنا (لمستوى الصوتي) على (المستوى الأفقي والسطحي) ؛ ثم عدنا
( للتراتب ) من جديد ، لنحدث أيضاً جدلية نقدية في المعطيات النقدية،
لنكسر تسلسل المنهجية، معتمدين ما انتهجناه سلفاً، وألمحنا إليه – في
بداية الدراسة – على أن النص يطرح منهجياته، مستفيداً من المدارس النقدية،
وليس هو أسيراً لديها، بل هو الذي يطوّع المنهج لاستجلاء عوالمه
المتشابكة، وتلك الطريقة - لعمري - قد تثير حفيظة النقاد المنهجيين،
أوالمتقولبين على المنهجية، والتأطير لها، ولكن دليلنا إلى ذلك هو الكتابة
عبر النوعية والاستفادة من الحقول المعرفية العلمية والفلسفية والأدبية
والنفسية، وكل المعطى النقدي لإنتاج طريقة نقدية جديدة ركيزتها "النص"
وفروعها المناهج والقراءات، مستفيدين من العلم في تحديث أدبيات النقد،
وبالتالي يجوز لنا أن نخالف تراتب المنهج السيميائي، الذي أعلناه،
للانحياز إلى (عالم النص الأدبي) بأطروحاته ومعطياته الأدبية والإنسانية،
ولن نقول الميتافيزيقية كذلك، بل إلى الميتافيزيقا أحيانا عبر الأسطورة
ولامركزية الصورة الشعرية وعلاقتها بالفيزيقا والعلوم المتشابكة.
ومن هذا المنطلق الإعلامي للكشف عن منهجيتنا النقدية ومغايرتها، ننتقل إلى المعطيات الدلالية .
(4) المعطيات الدلالية السيميائية الميتافيزيقية:
تنجلي البنية الدلالية أو المعطى الدلالي السيميائي للنصوص، من خلال دراستها البنائية عبر سياقاتها المتعددة:
1- السياقات السياسية.
2- السياقات التاريخية.
3- السياقات السسيولوجية.
4- السياقات البنائية/ الأسلوبية (التشاكل/ التناقض/ الهارمونية).
5- السياقات النفسية.
6- السياقات الدينية.
7- سياقات التناص، وإعادة الإنتاجية.
8- السياقات الفيزيائية، والمورفولوجية والميتافيزيقية.
9- السياقات الكونية الإنسانية.
وقد يقول قائل: أنت تغرّر بنا في هذا الحيز الضيق من القراءة، فهذه
السياقات، وتلك الإشكاليات تحتاج إلى كتاب، وربما كتب، تنظّم منهجيتها،
وتضبطها، وتطرح رؤاها، وأقول: نعم، ولكن ربما ما يشفع لنا، في هذا الدرس
النقدي القرائي، هو مناهضتنا للمنهجية، بغية طرح جديد ومغاير، يضيف للمعطى
النقدي، ويستفيد منه، ويؤسّس له رؤى، وأبعاداً جديدة، فالإبداع والتجديد
في النقد لابد وأن يسايرا التطورات التقنية والتكنولوجية في إنتاجية النص
كذلك، حتى ننهض بالنقد العربي ونستشرف له آفاقاً جديدة؛ ومحاور – ربما
يناهضها البعض، لكن لكل جديد مؤيدوه ومعارضوه، وقد انتهجنا التجريب النقدي
في إطار المعطى النقدي أيضاً، وهذا ما يعزّز المرجعيات النقدية، ويحفظ
للهوية النقدية ثوابتها؛ ويضيف إليها، وتلك لعمري مشروعية ننطلق منها في
مبحثنا القرائي التجديدي للسيمولوجيا خاصة، وللمعطى النقدي المتجدد.
وبعد :
تراني سأعمد إلى عدم التدليل بنصوص شارحه من ديوان الشاعر المبدع الأستاذ/
خليل إبراهيم الفزيع، فقد طرحت هذه الأسئلة في نهاية القراءة عبر سياقات
النصوص، وسيميائيتها، كي لا نظلم الشاعر بالطبع، وذلك بتجريب رؤى مازالت
تتشكّل، ولكنني أزعم أن (قصيدة النثر) يمكن أن تحتمل مثل هذه المباحث
الإجرائية التجريبية، وأراني أعدكم بالحديث عن كل ذلك، في دراسات جديدة.
يبقي أن نشير إلى أن شاعرنا الأستاذ/ خليل إبراهيم الفزيع، في ديوانه
الرائع : (وشم على جدار القلب) قد استنفرنا إلى مثل هذه الإجراءات
التحديثية في تناول المعطى الشعري لتجديده، وهذا يحسب للديوان وما حمله من
مضامين اجتماعية وذاتية وتراثية، وانفتاحه على العالم والإنسان بوصفه
حائطاً هلامياً مصنوعاً من جدار القلب لنعيد عنده رتق أحزاننا و جراحاتنا،
ونسجل عليه لحظات الحزن و السعادة أيضاً.
ربما جاءت هذه الدراسة لديوان (وشم على جدار القلب) للشاعر/ خليل إبراهيم
الفزيع، لتعدينا إلى ذواتنا النقدية، لننقش فوقها بداياتنا المستقبلية،
لاستشراف (منهج نقدي عربي) وما أرى ذلك ببعيد، إذ كل المعطيات الحداثية،
والحتميات، والمرجعيات، والتراث العربي النقدي الممتد، كل ذلك يجعلنا نحلم
بطبع نقش نقدي على جدار الحائط النقدي العالمي، كما وشم خليل إبراهيم
الفزيع، جدار قلبه بالحب والأمل واستشرف الحلم في مستقبل سعيد، وممتد،
وملغز، وغرائبي، وربما ميتافزيقي أيضاً.
كتبه/ سليمان الأفنس الشراري ـ طبرجل
بطاقة: اسم الديوان: وشم على جدار القلب ـ
الناشر: نادي المنطقة الشرقية الأدبي بالدمام ـ الطبعة الأولى 2003
(قراءة سيميائية)
في ديوان (وشم على جدار القلب)
بقلم/ سليمان الأفنس الشراريتتأسس العلاقة
السيميائية بين الذات والوطن فى ديوان (وشم على جدار القلب) للشاعر/ خليل
إبراهيم الفزيع على أسس متشاكلة تؤسس جدلياتها السحرية، مستفيدة من المنجز
الثقافي والتراثي واللغوي، ومؤسسة لذاتها تياراً يتماهى مع القضايا
المجتمعية والقومية، بل يتجاوزها إلى قضايا الكون، والحياة، والعالم0
وبداية لابد لنا أن نحدد مقاربتنا السيميائية لندخل إلى عالم/ خليل الفزيع
المتشعب الأرجاء والمتعدد الرؤى، حتى في الأسلوبية التي نراها بين: ما هو
عام وما هوخاص، وبين الشكل والمضمون، وبين ما هو عمودي وما هو تفعيلي؛
وبين ما هو وطني عام ، وما هو عاطفي خاص، ولعلنا نستفيد كذلك في قراءتنا
هذه من المنجز التحديثي النقدي؛ بغية الولوج إلى عالم النصوص الشعرية
المتألقة، والمتأرجحة بين بحر الذات، وأحلام الشاعر عن الوطن والأمة
والعالم.
يبقي السؤال الذي يفرض نفسه عن المنهج الذي سنسلكه لتأسينا لتلك القراءة
عبر مقارباتها السيميائية فنقول: هل سنسلك منهجاً بنيوياً، أو تفكيكياً،
أو تكعيبياً، أو سيميائياً؟! ألخ.. للولوج إلى هذا الوشم المطبوع على جدار
قلب شاعرنا فأحاله إلى يمامة تحوّم تارة، وتتشرنق داخل الذات؛ أم تعلو
أشجار الوطن بجباله و مراتعه وسهوله و مرابعه الممتدة؟! .
نقول: إننا بالطبع سننهج طريقاً مغايرة مفادها: إن النص يطرح منهجه؛
ويستفيد من المدارس الأدبية كإجراءات أولية لتحليل النص وتفكيك بنيته
وتشريحه، بغية الولوج إلى الجوهر الأسنى له؛ والوقوف إلى شاطئه لاستكناه
جمالياته؛ وما اتخاذنا المقاربة السيميائية سوى وسيلة إجرائية –
استرشادية- لتأطير النص في الدرس النقدي، والدرس البلاغي واللغوي والجمالي
أيضا0
إذن نحن أمام إجراءات سيميائية، تستمد مشروعيتها من حقل اللسانيات النصية
، التي تحاور دراسة النص الأدبي باعتباره وحدة متكاملة، تعمد إلى إنشاء
ضوابط دلالية تضبط عمليات تفسير النصوص من خلال النظر إلى النص بوصفه نصاً
في موقف، أو حدث اتصالي؛ أو شبكة من العلاقات الناتجة عن تضافر نظمه
بمستوياته المختلفة؛ وتكون المهمة التي يطمح إلى انجازها هي تلك السياقات
التي تتضافر مع بعضها في علاقات وشائجية بغية إنتاجه، أو تفكيكه، عبر
عوالم أدبية واجتماعية ونفسية، متخذة من دراسة أنساق العلامات كشفرة،
للولوج إلى عالمه، بغية تفسيره، والولوج إلى معالجة القضايا اللغوية في
العلوم النظرية والطبيعية والانسانية0 كما سنشير – هنا - إلى بعض الإشارات
لدراسة النص (عبر النوعية)، لنستفيد من المنجز النقدي التقني الحداثي،
وكذلك من علم النحو والدلالة وتطبيقاتهما الحداثية، لندرس الشعرية عبر
العلاماتية، أو السيميائية المتماهية مع جدليات الذات والعالم المحيط بها؛
وطالما حددنا المنهج فلندخل إلى عالم الشعرية عند خليل الفزيع.
( 1 ) سيميائية العنوان:
يمثل العنوان عتبة النص، وواجهته الإعلامية، كما يمثل في الدراسات
السيميائية علامة أولى، أو مركزاً للنص الأدبي ونواته ، و يمثل العنوان:
(وشم على جدار القلب) صورة ملغزة أولية لاستكناه مدلولاته الترميزية، حيث
إن الوشم هو طبع شيء على شيء، أو هو قناع يخفى نبضات قلب الشاعر ولا نعلم
حينها إن كان قلبه سعيداً أم حزيناً، فالوشم قد يطبع على القلب الحزن
والسعادة معاً، أو الخوف والقلق، أو هو الاستتار عن الواقع لرفضه، أو
للتماهى معه وإبداله بقناع آخر يخفى معالم الدّق للقلب، وهذا يحيلنا إلى
رؤية مختلفة يريدها الشاعر، دلت إليه آثارها النفسية في ذلك الوشم الذي
يطبع وأين ؟!، على جدار القلب الواهن الضعيف إذن وعبر الإحالات النفسية،
يحيلنا الشاعر إلى الحقيقة الأولى في النص في قناعاته الذاتية، فأصبح
القلب المادي قلباً جديداً وموشوماً ، لوجود قناعات مرّت على الشاعر
فتثبّت الوشم الذي يصعب مع الأيام إزالته، سواء من الناحية البيولوجية، أو
النفسية، لأنه رتق على جدار القلب وطبع، وجدار القلب هشّ، وأي نقش عليه
لإزالة هذا الوشم، هو بمثابة هتك لهذا الجدار، وبالتالي يستتبعه جراح
للقلب، وموات كذلك.
- وتحيلنا دلالات العنوان وإحالاته ، إلى سياقات اجتماعية، ونفسية،
وعلاماتية، وإشارية، وإحالية إلى ذات مرهقة ضعيفة وواهنة، وحالمة، طبعتها
السياقات الاجتماعية بوشم استقر فوقها، فأحالها إلى ذات مغطّاة و ملغزة،
تدفعنا للسؤال عن هذا الوشم وماهيته، وإعادة إنتاجيته، للوصول إلى ذات
القلب الذي يحاول أن يطبع عليه هذا الوشم المثير للجدل والإلغاز.
(2) مستويات الشعرية والتركيب السيميائى:
يترتب علينا بداية لدراسة النصوص أن نقف عند أربعة مستويات سيميائية، تحدد أبعاد الشعرية في الديوان وهى:
أولا: المستوى الصوتى:
يؤثر التشاكل الصوتى في تلقى النصوص، عبر حقولها البلاغية، والمعجمية،
والتراكبية، والدلالية، و يظهر ذلك التشاكل في استخدام الشاعر لبنية
(التكرار)، و(الجناس)، ويتجلى ذلك منذ أول قصيدة (إهداء) يقول الأستاذ/
خليل الفزيع :
ماذا يضيف قصيدي
يا شعر أنت سراج
وأنت للدهر نور
في مفرقيه وتاج
وفى حياتي نسيم
يوماً ويوماً عجاج
إلى أن يقول:
مذاق عمريَ عذب
يوماً ويوماً أجاج
ويجئ تكراره للفظة (يوماً) أربع مرات في قصيدة لا تتعدي أحد عشر
بيتاً لتدلل إلى حالته النفسية، ويحيلنا التكرار للكشف عن هذه الحالة، ففي
البيت الأول نرى الانفراج في النسيم المتبدّي على حالة الشاعر، ثم يعود
ويقول: يوماً، ويوماً أجاج، فالشاعر في صراع مع الذات والمجتمع، وتعتلجه
الأيام بين (النسيم والعجاج) ؛ ثم تظهر الضدية، أو عدم المطابقة في البيت
الثاني بين مذاق عمره العذب وبين الأجاج المالح، ومن هذه المقاربة/
التضاد: نسيم/ عجاج/ عذب/ أجاج تنكشف المفارقة الصوتية عبر بنية التكرار
لتحيلنا إلى الذات وسياقاتها النفسية والاجتماعية وتتجلي حينها رؤية
الشاعر للعالم والكون المحيط0
وبنظرة إحصائية إلى نهايات التقفية في القصيدة يمكن لنا أن نستجلي هذا حيث
تتضح بنية التكرار، لا على مستوى تكرار الكلمة فحسب ، بل وعلى ثنائية
الكلمة، وتداعياتها، وعلاقتها الإحالية، وارتباطها بهذه الثنائية.
ولنا أن نوضح ذلك في قصيدته: (الفهد والمجد) - والتي أهداها لخادم الحرمين
الشريفين الملك/ فهد بن عبدالعزيز، رحمه الله بمناسبة الذكرى العشرين
لتوليه مقاليد الحكم، وبداية نلمح الجرس الموسيقي الصوتي الذي أحدثته
كلمتي (الفهد/ والمجد ) عبر حقل (التجنيس أو الجناس)، الموظف لاستهلال
قصيدة تتحدث عن الملك وأمجاده، وتفيدنا (الواو) - هنا - في استمرارية
المجد، ولو حذف الواو لأطّر للصورة، وحصرها في توقف المجد عند هذه اللحظة
الآنيّة، لكن الواو أفادت المجد المستمر لخادم الحرمين الملك فهد بن عبد
العزيز – حفظه الله – يقول:
لك في القلوب منازل وقصور
وعليك تاج للفخار وقور
يا أيها الملك الذي ازدهرت به
أرض وعم رحابها التعمير
وبنيت مجداً للبلاد وأهلها
فاستبشرت مدن بها وثغور
وتكاتفت من حولك الأيدي التي
لا تنثني بهدى الإله تسير
شمس العدالة أشرقت أنوارها
والجهل ولى وانمحى الديجور
الأمن والتعليم حين تعانقا
نبتت صروح للعلا وجسور
وتنفست صحراؤنا فكأنها
بعثت فأضحت بالحياة تفور
وطني منار العز والأمل الذي
لحماه يرنو معوز وفقير
هذا ولقد تم اختيارنا للأبيات دون التراتب الذي صنعه الشاعر، لنحكم
الإجراءات المنهجية في تلك الثنائيات المتجادلة التي تشكل الصورة الشعرية
من جهة، وتفيدنا في هذا المستوى الصوتي لاستجلاء عالم النص واستكناه
خباياه؛ وتتجلي تلك الثنائيات في الأبيات في قوله : ( لك في القلوب منازل/
وقصور) فقد جعل مكانة الملك / فهد في أسمى مكان ألا وهو القلب، وكأن القلب
غدا أرضاً عليها المنازل والقصور التي بنيت خصيصاً للملك، كما أن هذه
القصور بنيت ليس على جدار القلب كما جاء العنوان، بل بنيت داخل القلب، حيث
يفيد حرف الجر (في) في النسبة المكانية الداخلية للقلب، وقد بنيت بالحب،
وليس بالأسمنت لأنها بيوت مبنية داخل القلب النابض بالحب، والمتسعة أرجاؤه
كذلك للمنازل والقصو، فهو لم يقل قصراً أو منزلاً، بل قال : منازلاً
وقصوراً متعددة، وهذا دليل المحبة، وارداف البيوت بالقصور، هو دلالة إلى
ثنائية الحب، ليس لدى الشاعر فحسب، بل لدى كل سكان المملكة كذلك، فعندما
قال: لك في (القلوب) وليس في (قلبي) أكدت العمومية أي المحبة التي تسع كل
قلوب أفراد الشعب السعودي، بل انسحبت في سياقاتها اللغوية لتشمل كل قلوب
العرب، و العالم، فكلمة القلوب لم يقصرها الشاعر على قلوب السعوديين؛ أو
العرب وإنما جعلها عامة، لتحيلنا إلى قلوب كل سكان العالم، وفى هذا نظرة
كلية تدل على الحب والإعزاز للملك (فهد)، ومكانته بين ربوع العالم كذلك0
وإذا نظرنا إلى سياقات الأبيات:
يا أيها الملك الذي ازدهرت به
أرض وعم رحابها التعمير
فهنا نلحظ (الثنائية) تتجلى في معطيات المعاني، حيث الأرض
المزدهرة/ المحاطة بالتعمير الرحب المتسع، وهكذا يمكن أن نحلل المستويات
الصوتية والدلالية لتحيلنا إلى سيميائيات النص الشعري، وسياقاتها المتعددة
عبر بنية التكرار والجناس والثنائيات.
ثانيا : المستوى المعجمي:
ويتناول هذا المستوى الاختيارات المعجمية ، من حيث المستوى الدلالي لمعاني
الألفاظ وأبعادها وتكرارها ليشكّل الديوان معجمه بما يتناسب مع التجربة
الشعورية من جهة، و المعجم الخاص الذي يكشف عن ثقافة الشاعر من جهة ثانية،
ويجب أن نلمّح كذلك: أنه لا يجب الفصل في الدرس النقدي بين المستوى
الصوتي، والمستوى المعجمي، والتركيبي، والدلالي؛ إذ أنه نسيج مترابط،
والفصل من جانبنا، فصل إجرائي بالطبع بغية الوقوف على الأنساق السيميائية
وجمالياتها، في نصوص الديوان.
هذا و يتجلى (المستوى المعجمي) في استخدام الشاعر ألفاظاً من (معجم الألم والنوح والحزن) في قصائده: ( فلسطين والأسر) يقول:
ناحت مآذن في الأقصى فما سمعت
لها صدى في مدى الآفاق ينتشر
من يقتل الطفل جوراً في منازله
و يدفن الحي والأحقاد تستعر
وكذلك قصيدته (أم الشهيد الفلسطيني) مثل قوله:
ضمت الابن نحوها
دمعها في العيون دم
عانقت روحه الردى
يلثم الموت لا العدم
وكذلك قصيدته (العيد والحمى) بقوله:
قلب يتوق وآهة تتردد
و العيد أقبل و الفؤاد مقيد
وفى قصيدته طيف يقول:
مازلت أبحث عن خل يؤانسني
فما وجدت سوى الآلام تنتظر
ومن معجم الحزن والشجن والجرح في قصيدته: (العزف على أوردة مبتورة) يقول:
(طالعة أنت/ من بين ركام الأشجان القبلية/ من قلبك تنفر أحلام وردية/ في
وديانك ترقص غابات الجرح/ تذوب مع الريح نداءات العشاق العذرية)..
في قصيدته (رثاء الأم) يقول:
لم أدر أن الحزن حل بساحتي
حتى نعتك لمسمعي الصرخات
وفى معجم (الحب) توزعت قصائده: ( الفهد والمجد، حنين عاشق،
احتفالية مولد الفرح، عهد الهوى، حلوة العينين، العيد، نهى، لمى (حفيدات
الشاعر)، الحب يجمعنا، وهج الشوق).
كذلك يتوزع المعجم الشعري لدى شاعرنا المبدع/ خليل إبراهيم الفزيع بين
الحزن والفرح، وبين مناجاة النفس، ومناجاة الوطن ، ومناجاة الديار، وهنا
ينطلق من توجهات الشاعر العربي القديم في تنويع معجمه الدلالي بين أغراض
الشعر الإنسانية، فهو شاعر اجتماعي، ذاتي، تتوزع آهاته الموشومة على جدار
القلب بين الحزن والرجاء، وبين الأنين واليأس، وبين الأمل والفقد، وبين
السباحة والغوص في عالم الذات، وبين حوقلاته وهو على سجادة الصلاة، وبتنوع
هذه الأغراض المعجمية الدلالية وترميزاتها السيميائية، يكون الشاعر قد نجح
في تسمية ديوانه (وشم على جدار القلب ) إذ القلب أصبح جداراً ينقش كل يوم
عليه نقطة حزينة تارة، وسعيدة تارة، ومتأرجحة بين محبة الوطن تارة، وحنينه
إلى ماضيه تارة أخرى، فنلمح تداخل (ما هو ذاتي) مع (ما هو وطني) وتداخل
(العام) مع (الخاص) ليصنع لنا عالم / خليل الفزيع، المتشعب ، والمتصارع
والمتشاكل مع قضاياه، و المتصالح مع ذاته والمجتمع والعالم كذلك، فنظرته
ليست أحادية، بل تنويعاته تشبه موسيقا يربط جدلياتها (هارمونية بديعية)
تشكل الذات،وتتّسق مع المجتمع، وتستشرف أحلام الشاعر و عالمه المليء
بالأصداف، في بحر القلب المتدفق بالحب و الأمل والأنين أيضاً .
(3) المستوى التركيبي:
يتكون المستوى التركيبي في القصيدة من مستويين رئيسيين:
(1) المستوى النحوي.
(2) المستوى البلاغي.
و يتشابك المستوى النحوي بالبلاغي بالطبع، ليشكل سياقاً عاماً، ليصنع
الخطاب الشعري، أو الرؤية التي يريدها الشاعر ويتمناها، ونرى هنا استخدام
الشاعر بكثرة لأساليب: النداء، والتقديم والتأخير، والحذف، والإزاحة،
والأفعال الماضوية، والمضارعة بكثرة، وذلك للتحسّر على ماض قديم، أو
لتأكيد واستمرارية الحدث، كما يستخدم الشاعر الأساليب الخبرية والإنشائية،
وكل معطيات البلاغة العربية، ليحيلنا إلى سياقات النص البنائية، والجمالية
من جهة، وليوازن بين الشكل والمضمون، من جهة أخرى، كما يزاوج و يراوح بين
ما هو عمودي وتفعيلي، في مزاوجة تكشف عن ثقافة الشاعر، وتماهيه مع المنجز
الحداثي، لإعادة (إنتاجية التراث) بصورة عصرية، تشي عن فهم جماليات
الشّعرية، وتكشف عن أسلوبية متجذرة في الأصالة، ومستشرفة لعالم أكثر
حداثية؛ كما يستخدم الشاعر (المستوى الدلالي المعنوي) و(المستوى العمودي)
لإحداث التفاعل بين النص والمتلقي، أو بين المرسل والمستقبل، لتتلاقي
الحالة الشعورية لدى الكاتب (ثناء فعل الكتابة) بحالة المستقبل - المتلقي
- ليعيد كشف جـماليات النص، ويمكن أن نأخذ مثالاً دالاً، ، وليس شاملاً
بالطبع لكل ما أسلفناه، لأن الحديث يطول ويمتد، ففي قصيدته (حلوة العينين)
يقول:
يا حلوة العينين لمّي
شعرك النزق
نامي على ساعدي
كي تطردي قلقي
شاهدت خلف المدى
أطياف أمنية
تلوح من بعدها
دنيا من الألق ..
نغيب في عالم الأحلام
حين دنت
بنا المسافات لا
نغفو و لم نقف
إذا تمادى بنا
سهر يعانقنا
يا حلوة العينين لمّي
شعرك النزق.ففي
هذه القصيدة القصيرة نلمح إحداثيات الخطاب بين الشاعر والمتلقي، فهو يخاطب
الأنثى ويعقد معها جدلية، بل ويأمرها بأن تلمّ شعرها الفاتن، الذي يؤثر
عليه بالطبع، ثم يأمرها – يا للعجب – بالنوم – على ساعده ولكن لماذا؟
يقول: لتطردي قلقي، ثم يبدأ في سرد حلم رآه، أو أمنية تخاطره، وفى النهاية
نكتشف أن المخاطبة هي حلمه، الذي يخاطبه، فيرى المحبوبة على هذا الحال، و
يمكن لنا أن نستجلي كل ما سردناه في شرح القصيدة وجمالياتها، ولكننا لسنا
معنيين بالشرح والتفسير في هذه الدراسة السيميائية، بقدر ما نحن معنيين
بالوقوف على مواطن الجمال، لنقبض على الشعرية ونستجلي مكنوناتها، وعلى
القارئ أن يعرف بأننا نوقفه إلى مفاتتح النص الشعري ليفكك شفراته، ليقف هو
– معنا - إلى جمالياته ويكتشفها بنفسه، وبالتالي نشترك جميعاً ( الشاعر
والناقد والمتلقي) مع الشاعر في إحداثياته البنائية ونحلّّق حولها، ونشير
إليها دون الغوص في تفصيلاتها ومعطياتها.
وطالما تحدثنا عن (المعطيات النصية) فإننا ننتقل بالطبع إلى (المستوى
الدلالي) للنصوص، ونحن بالطبع نعلم – بأننا خالفنا التراتب النسقي
للإجراءات السيميائية التي تعمد إلى دراسة النصوص بمستوييها:
(1) المستوى الأفقي والسطحي: والذي يضم مستويات أربعة: (المستوى الصوتي – المستوى المعجمي – المستوى التركيبي- المستوى الدلالي).
(2) المستوى الصوتي .
ونقول: لقد قدمنا (لمستوى الصوتي) على (المستوى الأفقي والسطحي) ؛ ثم عدنا
( للتراتب ) من جديد ، لنحدث أيضاً جدلية نقدية في المعطيات النقدية،
لنكسر تسلسل المنهجية، معتمدين ما انتهجناه سلفاً، وألمحنا إليه – في
بداية الدراسة – على أن النص يطرح منهجياته، مستفيداً من المدارس النقدية،
وليس هو أسيراً لديها، بل هو الذي يطوّع المنهج لاستجلاء عوالمه
المتشابكة، وتلك الطريقة - لعمري - قد تثير حفيظة النقاد المنهجيين،
أوالمتقولبين على المنهجية، والتأطير لها، ولكن دليلنا إلى ذلك هو الكتابة
عبر النوعية والاستفادة من الحقول المعرفية العلمية والفلسفية والأدبية
والنفسية، وكل المعطى النقدي لإنتاج طريقة نقدية جديدة ركيزتها "النص"
وفروعها المناهج والقراءات، مستفيدين من العلم في تحديث أدبيات النقد،
وبالتالي يجوز لنا أن نخالف تراتب المنهج السيميائي، الذي أعلناه،
للانحياز إلى (عالم النص الأدبي) بأطروحاته ومعطياته الأدبية والإنسانية،
ولن نقول الميتافيزيقية كذلك، بل إلى الميتافيزيقا أحيانا عبر الأسطورة
ولامركزية الصورة الشعرية وعلاقتها بالفيزيقا والعلوم المتشابكة.
ومن هذا المنطلق الإعلامي للكشف عن منهجيتنا النقدية ومغايرتها، ننتقل إلى المعطيات الدلالية .
(4) المعطيات الدلالية السيميائية الميتافيزيقية:
تنجلي البنية الدلالية أو المعطى الدلالي السيميائي للنصوص، من خلال دراستها البنائية عبر سياقاتها المتعددة:
1- السياقات السياسية.
2- السياقات التاريخية.
3- السياقات السسيولوجية.
4- السياقات البنائية/ الأسلوبية (التشاكل/ التناقض/ الهارمونية).
5- السياقات النفسية.
6- السياقات الدينية.
7- سياقات التناص، وإعادة الإنتاجية.
8- السياقات الفيزيائية، والمورفولوجية والميتافيزيقية.
9- السياقات الكونية الإنسانية.
وقد يقول قائل: أنت تغرّر بنا في هذا الحيز الضيق من القراءة، فهذه
السياقات، وتلك الإشكاليات تحتاج إلى كتاب، وربما كتب، تنظّم منهجيتها،
وتضبطها، وتطرح رؤاها، وأقول: نعم، ولكن ربما ما يشفع لنا، في هذا الدرس
النقدي القرائي، هو مناهضتنا للمنهجية، بغية طرح جديد ومغاير، يضيف للمعطى
النقدي، ويستفيد منه، ويؤسّس له رؤى، وأبعاداً جديدة، فالإبداع والتجديد
في النقد لابد وأن يسايرا التطورات التقنية والتكنولوجية في إنتاجية النص
كذلك، حتى ننهض بالنقد العربي ونستشرف له آفاقاً جديدة؛ ومحاور – ربما
يناهضها البعض، لكن لكل جديد مؤيدوه ومعارضوه، وقد انتهجنا التجريب النقدي
في إطار المعطى النقدي أيضاً، وهذا ما يعزّز المرجعيات النقدية، ويحفظ
للهوية النقدية ثوابتها؛ ويضيف إليها، وتلك لعمري مشروعية ننطلق منها في
مبحثنا القرائي التجديدي للسيمولوجيا خاصة، وللمعطى النقدي المتجدد.
وبعد :
تراني سأعمد إلى عدم التدليل بنصوص شارحه من ديوان الشاعر المبدع الأستاذ/
خليل إبراهيم الفزيع، فقد طرحت هذه الأسئلة في نهاية القراءة عبر سياقات
النصوص، وسيميائيتها، كي لا نظلم الشاعر بالطبع، وذلك بتجريب رؤى مازالت
تتشكّل، ولكنني أزعم أن (قصيدة النثر) يمكن أن تحتمل مثل هذه المباحث
الإجرائية التجريبية، وأراني أعدكم بالحديث عن كل ذلك، في دراسات جديدة.
يبقي أن نشير إلى أن شاعرنا الأستاذ/ خليل إبراهيم الفزيع، في ديوانه
الرائع : (وشم على جدار القلب) قد استنفرنا إلى مثل هذه الإجراءات
التحديثية في تناول المعطى الشعري لتجديده، وهذا يحسب للديوان وما حمله من
مضامين اجتماعية وذاتية وتراثية، وانفتاحه على العالم والإنسان بوصفه
حائطاً هلامياً مصنوعاً من جدار القلب لنعيد عنده رتق أحزاننا و جراحاتنا،
ونسجل عليه لحظات الحزن و السعادة أيضاً.
ربما جاءت هذه الدراسة لديوان (وشم على جدار القلب) للشاعر/ خليل إبراهيم
الفزيع، لتعدينا إلى ذواتنا النقدية، لننقش فوقها بداياتنا المستقبلية،
لاستشراف (منهج نقدي عربي) وما أرى ذلك ببعيد، إذ كل المعطيات الحداثية،
والحتميات، والمرجعيات، والتراث العربي النقدي الممتد، كل ذلك يجعلنا نحلم
بطبع نقش نقدي على جدار الحائط النقدي العالمي، كما وشم خليل إبراهيم
الفزيع، جدار قلبه بالحب والأمل واستشرف الحلم في مستقبل سعيد، وممتد،
وملغز، وغرائبي، وربما ميتافزيقي أيضاً.
كتبه/ سليمان الأفنس الشراري ـ طبرجل
بطاقة: اسم الديوان: وشم على جدار القلب ـ
الناشر: نادي المنطقة الشرقية الأدبي بالدمام ـ الطبعة الأولى 2003