استلهام النص التراثي في رواية رحلة ابن فطومة
رؤية تناصيّة
حـــســن الـنعـمـي
تعد قضية تناص الرواية العربية مع النص التراثي السردي من القضايا الملحة في النقد الأدبي الحديث. وظاهرة التناص بين هذين النوعين، الرواية والنص التراثي، باتت تشكل اتجاهاً واضحاً في السنوات الأخيرة بعد أن استنفذت الأشكال التعبيرية الروائية الأخرى كل حضورها الدلالي والجمالي. إن هذه الظاهرة تندرج تحت مفهوم التناص إبداعاً ونقداً. فالروائي يكتب بوعي التناص من أجل فتح أقنية الحوار مع السرديات التراثية. أما الناقد فإنه يستقرئ الظاهرة من أجل بلورة هذه التجارب ضمن معطيات ثقافية وفلسفية تبرر هذه التوجهات في الخطاب الروائي العربي الحديث.
نعلم أن استلهام الموروث السردي العربي كان هاجساً ملحاً منذ بدء الكتابة الروائية في منتصف القرن الماضي. فقد كان جنس المقامة أكثر الأشكال حضوراً في محاولات كُتاب تلك المرحلة، كونه الفن القصصي الصريح الذي وجد في الأدب العربي الوسيط. إن اعتبار المقامة جنساً قصصياً يأتي من منطلق التميز الذي حظيت به، فقد توفر للمقامة نمط يتكرر سواء في كتابات بديع الزمان الهمذاني أو الحريري أو في كتابات أدباء القرن الماضي وبداية هذا القرن من أمثال محمد المويلحي. ويتمثل هذا النمط في راو يقوم بفعل القص، وبطل يقوم بفعل الحكاية وفق تيمة معينة تقوم على الشحاذة والكدية والاحتيال. لقد كان هذا الجنس الأدبي، المقامة، هدفاً لبعض أدباء العصر الحديث، إما بالمحاكاة المباشرة مثل ما فعل ناصيف اليازجي في مجمع البحرين، أو بالتفاعل مع تجربة المقامة كما فعل محمد المويلحي. ولعل تجربة المويلحي هي من أهم التجارب في تلك الفترة. ففي عمله حديث عيسى بن هشام مزج المويلحي مزجاً إبداعياً بين تقنية المقامة وتقنية الرواية الغربية إلى حد ما. وهذه التجربة المبكرة، بعينيها الفضوليتين، عين على التراث وأخرى على الحديث المستعار، كانت واعية بضرورة الاستناد إلى فضاء من الموروث السردي.
على الرغم من أن النص التراثي له خصوصيته البنائية والموضوعية، فإنه يكتسب، أيضا، جلاله وهيبته من تاريخيته. فالنص التراثي يمتلك نسقاً خاصاً له أبنيته ومتونه وتاريخيته. فهو تراثي لأنه ينهض وفق أبنية سردية خاصة، تتبلور في أشكال معلومة في المقامات، والسير الشعبية، والأخبار. وهو تراثي لأنه يملك خصوصية اجتماعية تحيل إلى واقعه سواء المادي منها أو المتخيل. وهو، أخيراً، تراثي لأنه يرتهن إلى فضاء تاريخي تشكل وفقاً لمعطيات زمانية معاصرة لولادته. ولذلك فإن الحديث عن النص التراثي السردي يستدعي بالضرورة ربطه بالتاريخ بكل معطياته الزمانية والمكانية وما توحي به من ظلال إيديولوجية. وعندما نتحدث عن التاريخ، هنا، لا نقصد تاريخ الوقائع المادية، بل نقصد التاريخ باعتباره مدونات تحمل وجهة نظر كاتبيها فيما كان يحدث من وقائع.
يمكن اعتبار روايات جورجي زيدان التاريخية محاولة لاستخدام التاريخ كموضوع روائي. لقد كان الهدف، كما يمكن أن نقرأه الآن، هو تسجيل مظاهر التاريخ ضمن نسق سردي. ووفقاً لتجربة زيدان، فإن التاريخ تعاد صياغته من داخله دون ربطه بنسق اجتماعي معاصر. وهذه التجربة جاءت على خلاف تجربة نجيب محفوظ الروائية التاريخية في مطلع حياته الأدبية ، حيث وظف محفوظ التاريخ كمادة وكبنية لرؤية معاصرة عبر اختيار نسق تاريخي يتظافر مع معطيات الواقع الذي كان يخاطبه. إن تجربة محفوظ هذه تسجل قفزة نوعية في الاستفادة من مادة التاريخ. وهي بكل تأكيد أكثر وعياً بضرورة تحويل التاريخ إلى أبنية سردية من شأنها إعادة صياغة الخطاب التاريخي ليكون خطاباً ثقافياً يخرج من مجرد رصد لوقائع ومصائر مجتمعات أصبحت رهن الماضي إلى خطاب فاعل متجدد. لكن تجربة محفوظ هذه توقفت فترة طويلة حتى عاودها بوعي جديد وضمن ضرورات فنية كشفت عنها رحلته في كتابة الرواية.
ومما لا شك فيه، فإن هناك تجارب أخرى لمجموعة من الكتاب المرموقين على خارطة الرواية العربية، نذكر منهم جمال الغيطاني، وخاصة في" الزيني بركات" و" التجليات"، حيث يشتبك خطاب الواقع مع خطاب التاريخ في محاولة للإفادة من سلطة التاريخ الثقافية والفكرية. إن حضور التاريخ في روايات الغيطاني يتبلور تارة عبر نماذج لها حضور تاريخي مؤثر، بيد أنها تكتسب بعداً فلسفياً يجعل حضورها مؤدلجاً، يحمل إسقاطات معاصرة. واستخدام الوثيقة من الطرائق التي يلجأ إليها الغيطاني لتجسيد رؤية التاريخ في محاولة لنفي المتخيل وتثبيت الموثق. وهذا يعطي للكاتب مساحة أرحب للتعبير عن واقع قد لا يحتمل حدة الكشف والتشريح الذي قد يتعرض لها موضوع الرواية. كما أن تجربة واسيني الأعرج في روايته " نوار اللوز أو تغريبة صالح بن عامر الزوفوي" تتعالق مع تغريبة بني هلال، مع التركيز على فضاء السيرة كوجه من وجوه السرد المعروفة في النص التراثي. إن الأعرج في نصه هذا يؤسس نصه على تغريبة بني هلال بهدف الإضافة، فهو نص يعتمد المغايرة وتجاوز نص السيرة من أجل تشيكل أفق جديد للكتابة الروائية العربية.
هذه التجارب وغيرها من أمثال رواية "الرحيل إلى الزمن الدامي" لمصطفى المدائني، و "النفير والقيامة" لفرج لحوار، و "عرس بغل" للطاهر وطار، و "بدر زمانه" لمبارك ربيع، تندرج تحت باب التناص بغرض تشكيل نص حداثي يستفيد من تجربة السرد العربي كما هو حادث في المقامات والسير الشعبية، وتقنية السند في رواية الحديث. وهذه التجارب تمت من أجل خلق خصوصية إبداعية تتجاوز النموذج الغربي المستعار، وتستفيد من أبنية النص التراثي، مع تأكيد أهمية المجاوزة لا على مستوى المضمون فقط، بل من خلال اجتراح شكل يمثل الطموح لخلق نص حداثي عربي له حضوره الجمالي والدلالي. إن هذه التجارب وغيرها لتؤكد أن تناص الرواية العربية مع النص التراثي بات يشكل اتجاهاً واضحاً في مسار الرواية العربية.
سنناقش في هذا البحث ظاهرة استلهام النص التراثي من خلال تأسيس تقابلية نصية بين رحلة ابن بطوطة "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" باعتباره النص النموذج، ورواية نجيب محفوظ رحلة ابن فطومة (1983). سيسعى هذا البحث إلى كشف العلائق النصية بين هذين النصين، رحلة ابن بطوطة، باعتباره النص النموذج أو الأساس الذي اعتمد عليه محفوظ في كتابة روايته، رحلة ابن فطومة، التي تمثل النص اللاحق في هذا السياق.
*****
ينظر للتناص غالباً من منظورين: الممارسة والمصطلح. أما فيما يتعلق بالممارسة، أي تداخل نص لاحق مع نص سابق، فهي تجربة قديمة بقدم الكتابة ذاتها. فكل نص يولد هو حاصل نص سابق، وهو في ذات الوقت يحمل بذور نص لاحق. أما فيما يتعلق بالتناص كمصطلح، فقد قدمته جوليا كريستيفا (Julia Kristeva) عند مناقشتها لنظرية ميخائل باختن (Mikhail Bakhtin)، أصوات الرواية المتعددة. والتناص، كما تراه كريستيفا، يشير إلى الطرائق المتعددة التي يتداخل بها نص ما مع نص أو نصوص سابقة أو معاصرة سواء عن طريق إشارات أو اقتباسات صريحة أو ضمنية، أو مجرد تمثل واستيعاب لشكل ومضمون نص سابق . لكن لا يجب أن يقصر تصور هذا المفهوم عند حدود الاقتباسات الجزئية، بل هو كما تراه كريستيفا، "علاقة بين الخطاب في النص وبين خطابات محيطة وملازمة، أكثر منه علاقة بين جمل معينة تُقتبس أو نُنْحَل أو تُعارض في جمل أخرى مساوية أو مقاربة، في نص آخر" .
ويوسع جيرار جينيت (Gلrard Genette) دائرة التفاعل بين النصوص ليصبح التناص نوعاً من خمسة أنواع. فهو يرى أن هذه الأنواع تندرج كلها تحت مفهوم عبر النصوصية أو النصية (Transtextuality). وجينيت لا يلغي مفهوم مصطلح كريستيفا، بل إنه يوسع نطاقه ليشمل كل أشكال التفاعلات النصية. فإذا كانت كريستيفا قد أدوردت تحت مصطلح التناص كل التفاعلات النصية الممكنة، فإن جينيت فصل القول بدقة بين أشكال هذه التفاعلات. ويحدد مصطلح (Hypertextuality)، لاحقية النص أو التحويل النصي، وهو أحد التقسيمات النصية التي قدمها جينيت، مفهوم العلاقة بين نص سابق (Hypotext)، ونص لاحق (Hypertext)، بحيث يُبنى النص اللاحق انطلاقاً من النص السابق . وهذا المفهوم للتفاعل النصي "يعني أن العلاقة بين النصين إنما هي علاقة اشتقاق وتحويل ومحاكاة" ، غرضها تأسيس شكل جمالي مستنداً على نوع سابق، بهدف الاستفادة من تاريخيته، أو شهرته الأدبية والجماهيرية، أو بغرض إسقاط بعد فلسفي معاصر انطلاقاً من منظور تاريخي. ويجب أن نؤكد أن التقارب في المفهومين، التناص كما عند كريستيفا ولاحقية النص كما عند جينيت، يتيح استخدام المصطلح الأكثر شيوعاً، وهو التناص دون أن نستغني عن ظلال مفهوم لاحقية النص أو التحويل النصي. ونحن نشير إلى هذا النوع بالذات لأنه المفهوم الذي ينطبق على تجربة التحول النصي كما هو ملحوظ في تجربة نجيب محفوظ التي نحن بصدد الحديث عنها.
إن دراسة أي عمل أدبي يقتضي فهم الإجراءات النقدية التي تعين الباحث على استقراء الظاهرة وتحليلها. وإذا كانت كرستفا ومن بعدها جينيت قد سعيا إلى تعميق المفهوم الفلسفي للتفاعلات النصية، فإن الباحث بحاجة إلى أدوات تعينه على تحليل بنية النص وكشف منطلقاته التي ترمي إلى تسجيل حضور له يميزه عن النص السابق. وفي هذا السياق نجد أن المنهج الذي حدده أوين ميلر (Owen Miller) يحيل إلى طريقتين أساسيتين لتحديد التناص كممارسة نقدية. الأولى تتعلق بتحديد ما إذا كان تداخل نص لاحق مع نص سابق تم مصادفة أم عمداً. فيجب على الباحث تحديد السمات والظروف والأطر التاريخية التي يتبلور فيها النص اللاحق. وهذا الإجراء يساعد على تحديد منظور العمل اللاحق وكيفية تفاعله مع النص السابق. فالمصادفة في التفاعل النصي تؤكد عدم قصدية الفعل التناصي، وبالتالي ربما يقلل من إمكانية العمق في البعد الفلسفي. أما الطريقة الثانية، التي يقترحها ميلر، فهي ناتجة عن الأولى، فبعد أن يتم تحديد علاقة النص اللاحق بما قبله من نص أو نصوص، يشرع الدارس في تأسيس الفروق التي تميز النص اللاحق عما سبقه، حتى تتضح هويته كنص أدبي له حضوره الفلسفي الخاص به . فكشف هذه الفروق، سواء في البنية أو في المحتوى، مهم في تأكيد استقلالية النص اللاحق وفرض سيادته كنص متجاوز أو مساوٍ في أهميته للنص السابق. وبما أننا نتحدث في هذا البحث عن رواية رحلة ابن فطّومة، كنص لاحق، فإننا في البدء سنحدد العلائق المرجعية التي استند إليها نجيب محفوظ في النص السابق، رحلة ابن بطّوطة. وبعد هذا التحديد سنعمد إلى بلورة وبناء النص اللاحق وفقاً للمعطيات المكتسبة من كشف العلائق المرجعية مع النص السابق. وهذا بالتالي سيساعد على تبيان مدى وحدة وتناسق وتميز رواية نجيب محفوظ، رحلة ابن فطّومة عن رحلة ابن بطّوطة.
رحلة ابن بطّوطة: النص والتاريخ
تعتبر الرحلة من أهم مصادر المعرفة الجغرافية التي تبنى على المشاهدة والمراقبة ثم التدوين. وتنقسم الرحلة في الأدب العربي إلى قسمين: قسم تم بدافع علمي غرضه الكشف الجغرافي. ويعتبر اليعقوبي والمقدسي وابن حوقل والإدريسي والمسعودي أشهر الرحالة الذين عنوا عناية خاصة بالمادة الجغرافية في مدوناتهم. أما القسم الثاني فتم بدافع تجاري أو ديني أو سياسي. ومثل هذا الاتجاه رحالة من مثل أحمد ابن فضلان وابن جبير وأبو حامد الغرناطي وابن بطوطة .
وابن بطوطة، رغم عدم ريادته في هذا المجال، فهو "يعتبر سيد الرحالة العرب والمسلمين" . فقد استغرقت رحلته حوالي ثلاثين عاماً قضاها متنقلاً بين البلدان والأمصار. ولما استقر في فاس في أحضان الدولة المرينية بدأ بإملاء رحلته. والرحلة مرتبة ترتيباً تصاعدياً من نقطة البدء حتى آخر مطاف الرحلة بعودته إلى وطنه. إن طابع الرحلة الذي يتكرر في كل الفصول يكمن في الوصف السريع للأمكنة، والانطباع الشخصي عمن قابل من الرجال، فليس هناك من هدف آخر إلا تحقيق ذلك مع سرد ما أمكن من مفارقات وطرائف الرحلة. إذ لم تحقق الرحلة أي كشف جغرافي غير معروف في ذلك الحين. لكن أهمية الرحلة تكمن في قيمتها الأنثروبولوجية، ففيها رصد لكثير من عادات وتقاليد الشعوب التي لا يهتم بها التاريخ السياسي عادة. وقد ظهر ولع ابن بطوطة بذكر الغريب من كرامات الأولياء والدراويش الذين لقيهم في رحلته، فجاءت رسالته حافلة بنزعة أسطورية أعطى لخياله العنان في تخيل الكثير من المفارقات والأحداث .
والدوافع التي دفعت ابن بطوطة للقيام برحلته تتمثل في نزعة دينية تجلت دلائلها في ثنايا رحلته. فهو لم يقم بها بهدف الكشف الجغرافي كما أسلفنا. فدافعه الأول ما كان سوى الحج وزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم . ولكن في أثناء رحلته تولدت لديه فكرة مواصلة الرحلة بإيحاء من "الإمام العالم الزاهد الورع الخاشع" برهان الدين الأعرج الإسكندري كان ابن بطوطة قد لقيه في الإسكندرية. يقول ابن بطوطة:
دخلت عليه [برهان الدين الأعرج الإسكندري] يوماً فقال لي: أراك تحب السياحة والجولان في البلاد. فقلت له: نعم، أني أحب ذلك. ولم يكن حينئذٍ بخاطري التوغل في البلاد القاصية من الهند والصين. فقال: لا بد لك إن شاء الله من زيارة أخي فريد الدين بالهند، وأخي ركن الدين زكريا بالسند، وأخي برهان الدين بالصين. فإذا بلغتهم فأبلغهم مني السلام. فعجبت من قوله، وألقى في روعي التوجه إلى تلك البلاد، ولم أزل أجول حتى لقيت الثلاثة الذين ذكرهم، وأبلغتهم سلامه" .
أما الدافع الثالث، فقد نتج عن تفسير الشيخ الصوفي عبد الله المرشدي لرؤيا رآها ابن بطوطة قائلاً: "سوف تحج وتزور النبي صلى الله عليه وسلم، وتجول في بلاد اليمن والعراق وبلاد الترك، وتبقى بها مدة طويلة، وستلقى بها دلشاد الهندي، ويخلصك من شدة تقع فيها" . هذه كانت الجذوة التي دفعت ابن بطوطة لاكتشاف الآفاق. فإلى جانب روح المغامرة وحب الترحال، فقد لعب الدافع الديني لدى ابن بطوطة "دوراً هاماً في تكييف رحلته" .
رحلة ابن فطومة: بحث في المرجعية النصية
في البدء يجدر بنا أن نجيب على السؤال التالي: على أي أساس يمكن أن يكون كتاب رحلة ابن بطّوطة هو المرجع النصي الأساس؟ إن افتراض كتاب رحلة ابن بطّوطة كمرجع نصي له ما يدعمه في رواية نجيب محفوظ آنفة الذكر. لكن قبل ذلك يجب أن نتعرف على ظروف ظهور كتاب رحلة ابن بطّوطة. توضح مقدمة هذا الكتاب عدة أمور على درجة كبيرة من الأهمية، تتعلق بالظروف التي أحاطت بظهوره. إن فكرة تأليف كتاب رحلة ابن بطوطة جاءت بعد أن أتم ابن بطوطة رحلاته مطوفاً ومقيماً في كثير من الأمصار، من مثل بلاد السند والهند والصين بالإضافة إلى الأقطار العربية. وقد بدأ ابن بطوطة بإملاء رحلته على الأديب البارع محمد بن جزي الكلبي بأمر مقام السلطان أبي عنان المريني، سلطان الدولة المرينية. وقد ترك ابن بطوطة لابن جزي الحرية في نقل معانيه التي قصدها "بألفاظ موفية للمقاصد" . وابن جزي بذلك يضطلع بمهمة تأليف الرحلة، رغم تأكيده عدم التعرض لحقيقة ما أورده ابن بطوطة بالبحث أو الاختبار . والأهم من ذلك، فإن ابن جزي يتدخل في سياق النص كثيراً، إما مفسراً أو مؤيداً لبعض المسائل. وتدخله في السياق يأتي دائماً صريحاً ومقدماً بعبارة، قال ابن جزي. والتدخل في السياق والصياغة اللغوية التي تعتبر مرحلة لاحقة للإملاء تؤكد أن ابن جزي لم يكن مجرد ناسخ، بل لقد كان له القرار في التقديم والـتأخير، وترتيب الأولويات، والإشارة في مواضع كثيرة إلى حوادث سترد لاحقاً. وابن جزي نفسه يفرق بين التقييد والتأليف. فالتقييد هو كتابة ما أملاه ابن بطوطة كتابة أولية. وقد انتهى من هذا التقييد في سنة ست وخمسين وسبعمائة، بينما استغرق التأليف سنة أخرى، حيث انتهى ابن جزي من تأليف الرحلة في سنة سبع وخمسين وسبعمائة . قال ابن جزي في خاتمة الرحلة: "انتهى ما لخصته من تقييد الشيخ أبي عبد الله محمد بن بطوطة" . إذن فالعمل قد مر بثلاث مراحل، تقييد ما أملاه الشيخ، تلخيصه، ثم تأليفه في صورته النهائية التي هو عليها الآن. فالعمل فيه صنعة التأليف التي تقتضي خصوصية في اختيار الألفاظ، وفي عرض أحداث الرحلة التي تحمل التشويق. وهو -التشويق- أمر لا يمكن إلا أن ننسبه إلى ابن جزي بحكم سيطرته على العمل في مرحلة التأليف. وهكذا فإننا نرى أن دور ابن بطوطة، على الرغم من أهميته، قد اقتصر على الفعل المادي للرحلة، ثم سرد ما تذكره من أحداث. فهو كبطل روائي يخوض غمار تجربة درامية فيها الكثير من المواقف الإنسانية، ومواقف الصبر والتحدي في مكابدة الرحلة التي امتدت لسنوات طويلة من السفر المتواصل، مدفوعاً برغبة السفر وارتياد المجهول. ولكن تجربة الرحلة هذه تصل إلينا عبر وسيط له فهمه المعرفي الخاص به. والغرض مما نحن بصدده ليس نفي نسب الرحلة إلى ابن بطوطة، ولكننا نسعى إلى تأكيد دور ابن جزي في وصول هذا العمل بهذه الصورة التي وصل بها إلينا.
نحن نفترض أن كتاب رحلة ابن بطّوطة هو المرجع الرئيس لرواية رحلة ابن فطومة دون غيره من مصنفات الرحلات العربية. وهذا الافتراض ليس اعتباطياً، بل هو افتراض نجد له ما يبرره في رواية رحلة ابن فطّومة. إن البناء الخارجي لهذه الرواية هو بناء الرحلة ذاتها. فهناك رحالة يسرد مشاهداته عبر ضمير المتكلم، محدداً الإطار المكاني الذي تجري فيه تجربة الرحلة. يستهل نجيب محفوظ روايته بعبارة في غاية الأهمية، قائلاً: "نقلاً عن المخطوط المدون بقلم قنديل محمد العنابي الشهير بابن فطّومة". وينهي نجيب محفوظ روايته قائلاً:
بهذه الكلمات ختم مخطوط رحلة قنديل محمد العنابي الشهير بابن فطومة. ولم يرد في كتاب من كتب التاريخ ذكر لصاحب الرحلة بعد ذلك. هل واصل رحلته أو هلك في الطريق؟ هل دخل دار الجبل وأي حظ صادفه فيها؟ وهل أقام بها لآخر عمره أو رجع إلى وطنه كما نوى؟ وهل يعثر ذات يوم على مخطوط جديد لرحلته الأخيرة؟ علم ذلك كله عند عالم الغيب والشهادة .
ونشعر هنا أن نجيب محفوظ يتقمص دور ابن جزي في رحلة ابن بطّوطة. فحضوه هو حضور المؤلف لا حضور الرحالة. وإذا كان ابن جزي قد أفصح عن دوره في رحلة ابن بطوطة، فإن نجيب محفوظ يتمثل ذات الدور تماماً، فيقدم عمله على أنه نقلاً عن ابن فطّومة. وفي عمل نجيب محفوظ، يبدأ الرحالة قنديل محمد العنابي الشهير بابن فطّومة بسرد دوافع رحلته، ثم الأحداث التي عاصرها في رحلته. وقد ترحل هذا الرحالة في البلدان مصوراً مشاهداته وانطباعاته عن النظم السياسية والاجتماعية في البلدان التي زارها. والعنوان بذاته يحمل دلالة مشابهة. فنجيب محفوظ يقدم روايته كرحلة لشخص يلقب بابن فطّومة. فالارتباط الصوتي بين اللقبين، ابن بطّوطة وابن فطّومة، كبير جداً، مما يغدو الربط بين العملين بديهية لا تحتاج إلى كبير عناء. وإذا أردنا أن نرصد المتقابلات النصية، فإننا نرى أن العلاقة تبدأ من المشترك اللفظي بين الاسمين، ولكنها لا تتوقف عند هذا الاشتراك، رغم ما تتركه من دلالة عميقة، بل تتعداه إلى تكوين الشخصية. فابن بطوطة رحالة أحب المغامرة وأمضى ما يقرب من ثلاثين عاماً متجولاً في البلدان يدفعه حب الإطلاع واكتشاف الجديد. قام برحلته وهو ما يزال أعزب في الثانية والعشرين من عمره. وكان في أثناء رحلته يحرص على لقاء الرجال ذوي المقام العالي من ملوك وولاة وقضاة ومشايخ وأئمة. وفي أثناء ترحاله تزوج وولي القضاء، وأخذ يمكث في البلدان من الوقت لآخر حسب ما تمليه ظروف رحلته. وينتهي به المطاف في بلاط السلطان أبي عنان المريني حيث أخذ يملي رحلته. هذا الصورة العامة لشخصية ابن بطوطة يقابلها ذات التخطيط لشخصية ابن فطومة. فهو رحالة أمضى ربما ذات الفترة في رحلته مسجلاً كل غريب يراه من شؤون الخاصة والعامة، من أمور الحرب والسياسة، من طقوس العادات وغرائب الأحداث. كما أنه رحل وهو أعزب في العشرينيات من عمره. وكان مدفوعاً بالمغامرة في الوصول إلى كشف معرفي كما سيرد التفصيل فيه لاحقاً. وقد تنقل في البلدان، واحدة تلو الأخرى ، بغرض الوصول إلى الغاية التي يريد. وإذا كان ابن بطوطة قد عاد إلى وطنه فإن ابن فطومة لم تتسن له العودة، فبعث بمخطوطه مع القافلة العائدة إلى وطنه. وبذلك يكون كل رحالة منهما قد ترك أثر رحلته مدوناً لينتفع به من يأتي من بعد.
إذن فأهمية هذه المشابهة تتعدى المظهر الشكلي للاسمين إلى أن دور ابن فطومة هو ذات الدور الذي لعبه ابن بطوطة في رحلته. فقد قاما بفعل الرحلة، أملى ابن بطوطة رحلته، بينما أرسل ابن فطومة مخطوطه مع القافلة العائدة إلى وطنه. ولأننا إزاء عمل روائي، فإن ذلك لا يعدو كونه استراتيجية من استراتيجيات القص التي وظفها الكاتب في نصه. فلو سلمنا جدلاً بوجود مخطوط من هذا النوع، فإنه يحتاج إلى كثير من الجهد حتى يتم تحقيقه ومراجعته والتعليق عليه، وبالتالي توجيهه وتصنيفه وفق نمط معرفي معين. فالمخطوط ما هو في النهاية إلا مادة خام تحتاج إلى جهد كبير لإخراجه إلى حيز الوجود. وهنا تظهر المتقابلات النصية على مستوى الشكل. فابن فطومة يشابه ابن بطوطة في كونهما صاحبا الرحلتين اللتين لولاهما لانتفى دور كل من ابن جزي ونجيب محفوظ. ومحفوظ كما أسلفنا يتقمص دور ابن جزي في تأليف الرحلة، وتوجيهها وفقاً لرؤيته الفكرية والمعرفية. فاستلهام نجيب محفوظ لتقنية شكل الرحلة فيه الكثير من الخصوصية. فهو لم يعمد إلى استلهام شكل الرحلة بعموميتها، بل عمد إلى استلهام رحلة معينة، مستلهماً كل تقنياتها وخصوصياتها.
لا يجب أن يغيب عن أذهاننا أننا نقارن بين عملين مختلفين في طبيعتهما. فرحلة ابن بطوطة رحلة لها واقعها التاريخي بأشخاصها، وأمكنتها وأزمنتها. فالرحلة ليست جنساً قصصياً يخضع لشرط الفن فقط، بل هي نمط فيه من القصة والتاريخ والانثروبولوجيا. فنجد روح القصة في عامل التشويق المسيطر على أجواء الرحلة. كذلك نجد روح القصة في السردية التي خيمت على العمل، إذ لا يوجد هناك إلا صوت ابن بطوطة بضمير المتكلم مع بعض التدخل- كما أشرنا سابقاً- من قبل ابن جزي. أما التاريخ فهو موجود في التوثيقية التي اهتم بها العمل من ذكر للأسماء ووظائفها، والحرص على ذكر التواريخ التي توثق ارتباط الرحلة بزمن معين. وأخيراً عنصر الأنثروبولوجيا الذي يسجل عادات الناس وتقاليدهم الدينية والاجتماعية. بينما رحلة ابن فطّومة رواية تخضع لتكنيك القص بكل أبعاده. وهذا الفرق كافٍ لأن يحدد غاية كل عمل. فغاية رحلة ابن بطوطة هي تسجيل الوقائع كما هي لا رابط بينها إلا كونها نتاج تجربة شخصية للرحالة ذاته. فانتقالاته في الزمان والمكان مرهونة بظروف رحلته لا بغاية محددة لا يحيد عنها. أما رواية نجيب محفوظ فهي معمار فني له دلالة الفلسفية بدءاً من أول الرواية إلى آخرها. فالزمن الذي يقطعه ابن فطومة زمن نفسي يمتد امتداد الوجود البشري ذاته، بدءاً من المجتمعات البدائية الوثنية في العمق السحيق من التاريخ البشري إلى عصر العلم والتكنولوجيا في القرن العشرين. فتنقلات ابن فطومة ليست تنقلات عفوية أو بدافع الاكتشاف المفرغ من الغائية، بل هي، على العكس من ذلك، مبنية وفق غاية لا تخضع لأي عامل سوى إرادة كاتب الرواية. واختيار الكاتب لهذا الشكل أتاح له فرصة السياحة في إيديولوجيات الأمم مع مقارنتها بالواقع العربي.
رحلة ابن فطّومة
1- خصوصية التجربة
ينهض مشروع نجيب محفوظ في هذه الرواية على شكل الرحلة في الأدب العربي باعتباره فضاء مفتوحاً، تتوفر فيه مقومات السرد، وتاريخية الوقائع، وجغرافية الأمكنة، وانثربولوجيا الشعوب. وإذا كانت رواية نجيب محفوظ قد استوعبت كل هذه المظاهر، فإنها قد تفادت السقوط في نمطية شكل الرحلة. إننا في هذه الرواية أمام رحالة غير تقليدي، فضاؤه مفتوح الزمان والمكان، واهتماماته ليست تسجيل الغريب والمدهش من المصادفات والمشاهدات، بل الدخول في حوار مع الحضارات قديمها وحديثها. إنه يدخل هذه الرحلة وهو محمل بإيديولوجية هدفها نقد الواقع الذي ينتمي إليه، العالم العربي المعاصر بكل تعقيداته وأزماته. وقد أتاحت لعبة الشكل التي استخدمها نجيب محفوظ أن ينأى ببطله عن الإقليمية، فالبطل / الرحالة في هذا السياق السردي، عربي الفكر والانتماء. وهذا يحيلنا إلى أزمة المثقف العربي في إقامة حوار مع السلطة التي تهدم أقنية الحوار، وتسعى، بدلاً من ذلك، إلى تأسيس مبدأ الأحادية. وهذا ما دفع ابن فطومة، على العكس من ابن بطوطة، إلى تجربة الحوار مع الآخر بعد أن عجز عن إقامة حوار مع الذات. ولذلك، فإن رواية رحلة ابن فطومة عبارة عن رحلة ذات هدف إيديولوجي باعثه الرغبة في معرفة الذات عبر معرفة الآخر.
إن الكاتب يعطينا كل المقومات التي تجعلنا نحس بواقعية الرحلة، وما يجري فيها من مفارقات، ولكنها بطبيعة الحال ليست رحلة عادية. فعبر شخصية ابن فطومة يقدم الكاتب صورة مؤرقة من دأب الإنسان في البحث عن الحرية والعدل. ففي الفصل الأول الموسوم بالوطن تتجسد صورة الظلم في حاجب الوالي الذي يتزوج خطيبة ابن فطومة عنوة. ويكتشف ابن فطومة معنى القهر والظلم الذي قزم رغبة الحياة عنده. وتحت وطأة الحرمان تتفاعل رغبة الرحلة في وجدان ابن فطومة، بحثاً عن العدل الإنساني كما قرأه في نصوص الدين. والغاية من رحلته هي أن يرجع إلى وطنه "المريض بالدواء الشافي" ، ولكن ليس قبل أن يصل إلى دار الجبل، ذلك السر المغلق، الذي يشبه "الكمال الذي ما بعده كمال" .
ورغم التقابل الواضح بين شخصيتي ابن بطوطة وابن فطومة، كما أشرنا آنفاً، فإن التضاد لا يقل وضحاً بحال من الأحوال. وهذا ما يعطي شخصية ابن فطومة تميزها عن شخصية ابن بطوطة. فعلاوة على أننا نتعامل مع شخصيتين مختلفتين في حقيقة الوجود، وجود حقيقي يمثله ابن بطوطة، ووجود خيالي يمثله ابن فطومة، فإن التضاد لا يتوقف عند هذا الحد، وهو كاف لو أننا نريد تحديد كينونة كل شخصية، بل يتعداه إلى الحيز المكاني والزماني الذي وجدت فيه كل شخصية. إن شخصية ابن فطومة، وهي وجود خيالي، تشكلت في مكان وزمان خياليين لهما أهدافهما ومراميهما الإيديولوجية التي سعى العمل إلى تأكيدها. إن شخصية ابن فطومة تسير ضمن إطار تتشكل غايته في كل خطوة يخطوها الرحالة. فرحيله من وطنه ليس رحيلاً عفوياً بلا غاية، بل إن غايته محددة وواضحة منذ البدء . فهو في رحلته لا يرى ويدون فقط، كما فعل ابن بطوطة، بل إنه يجادل ويدافع فكرياً، ولكنه ليس ذلك المتعصب الذي يفقد خاصية الباحث عن المعرفة. وهو دائماً يضع دينه ووطنه في الجهة المقابلة في أي جدل يدور بينه وبين من يلقى من الحكماء وغيرهم في البلدان التي يزور. كما أنه دائم النقد لكل سلبية تورث مجتمعه الظلم والقهر والجهل. وابن فطومة لا يخجل من أن يعترف بنقائص مجتمعه، بل إنه يسعى إلى معرفة كيفية الخلاص منها استناداً إلى ما اكتسبه من مشاهداته وحواراته. ويؤكد في كل حواراته عظمة الإسلام كمنهج شامل لكل شؤون الحياة، ولكنه في الوقت ذاته يؤكد أن المسلمين هم من أضاع الإسلام. فهو يرى أن "الإسلام اليوم قابع في الجوامع لا يتعداها إلى الخارج" .
Top
عضو غير متواجدرسالة خاصةلمحة عن معلومات الشخصيةبريد المشارك
رؤية تناصيّة
حـــســن الـنعـمـي
تعد قضية تناص الرواية العربية مع النص التراثي السردي من القضايا الملحة في النقد الأدبي الحديث. وظاهرة التناص بين هذين النوعين، الرواية والنص التراثي، باتت تشكل اتجاهاً واضحاً في السنوات الأخيرة بعد أن استنفذت الأشكال التعبيرية الروائية الأخرى كل حضورها الدلالي والجمالي. إن هذه الظاهرة تندرج تحت مفهوم التناص إبداعاً ونقداً. فالروائي يكتب بوعي التناص من أجل فتح أقنية الحوار مع السرديات التراثية. أما الناقد فإنه يستقرئ الظاهرة من أجل بلورة هذه التجارب ضمن معطيات ثقافية وفلسفية تبرر هذه التوجهات في الخطاب الروائي العربي الحديث.
نعلم أن استلهام الموروث السردي العربي كان هاجساً ملحاً منذ بدء الكتابة الروائية في منتصف القرن الماضي. فقد كان جنس المقامة أكثر الأشكال حضوراً في محاولات كُتاب تلك المرحلة، كونه الفن القصصي الصريح الذي وجد في الأدب العربي الوسيط. إن اعتبار المقامة جنساً قصصياً يأتي من منطلق التميز الذي حظيت به، فقد توفر للمقامة نمط يتكرر سواء في كتابات بديع الزمان الهمذاني أو الحريري أو في كتابات أدباء القرن الماضي وبداية هذا القرن من أمثال محمد المويلحي. ويتمثل هذا النمط في راو يقوم بفعل القص، وبطل يقوم بفعل الحكاية وفق تيمة معينة تقوم على الشحاذة والكدية والاحتيال. لقد كان هذا الجنس الأدبي، المقامة، هدفاً لبعض أدباء العصر الحديث، إما بالمحاكاة المباشرة مثل ما فعل ناصيف اليازجي في مجمع البحرين، أو بالتفاعل مع تجربة المقامة كما فعل محمد المويلحي. ولعل تجربة المويلحي هي من أهم التجارب في تلك الفترة. ففي عمله حديث عيسى بن هشام مزج المويلحي مزجاً إبداعياً بين تقنية المقامة وتقنية الرواية الغربية إلى حد ما. وهذه التجربة المبكرة، بعينيها الفضوليتين، عين على التراث وأخرى على الحديث المستعار، كانت واعية بضرورة الاستناد إلى فضاء من الموروث السردي.
على الرغم من أن النص التراثي له خصوصيته البنائية والموضوعية، فإنه يكتسب، أيضا، جلاله وهيبته من تاريخيته. فالنص التراثي يمتلك نسقاً خاصاً له أبنيته ومتونه وتاريخيته. فهو تراثي لأنه ينهض وفق أبنية سردية خاصة، تتبلور في أشكال معلومة في المقامات، والسير الشعبية، والأخبار. وهو تراثي لأنه يملك خصوصية اجتماعية تحيل إلى واقعه سواء المادي منها أو المتخيل. وهو، أخيراً، تراثي لأنه يرتهن إلى فضاء تاريخي تشكل وفقاً لمعطيات زمانية معاصرة لولادته. ولذلك فإن الحديث عن النص التراثي السردي يستدعي بالضرورة ربطه بالتاريخ بكل معطياته الزمانية والمكانية وما توحي به من ظلال إيديولوجية. وعندما نتحدث عن التاريخ، هنا، لا نقصد تاريخ الوقائع المادية، بل نقصد التاريخ باعتباره مدونات تحمل وجهة نظر كاتبيها فيما كان يحدث من وقائع.
يمكن اعتبار روايات جورجي زيدان التاريخية محاولة لاستخدام التاريخ كموضوع روائي. لقد كان الهدف، كما يمكن أن نقرأه الآن، هو تسجيل مظاهر التاريخ ضمن نسق سردي. ووفقاً لتجربة زيدان، فإن التاريخ تعاد صياغته من داخله دون ربطه بنسق اجتماعي معاصر. وهذه التجربة جاءت على خلاف تجربة نجيب محفوظ الروائية التاريخية في مطلع حياته الأدبية ، حيث وظف محفوظ التاريخ كمادة وكبنية لرؤية معاصرة عبر اختيار نسق تاريخي يتظافر مع معطيات الواقع الذي كان يخاطبه. إن تجربة محفوظ هذه تسجل قفزة نوعية في الاستفادة من مادة التاريخ. وهي بكل تأكيد أكثر وعياً بضرورة تحويل التاريخ إلى أبنية سردية من شأنها إعادة صياغة الخطاب التاريخي ليكون خطاباً ثقافياً يخرج من مجرد رصد لوقائع ومصائر مجتمعات أصبحت رهن الماضي إلى خطاب فاعل متجدد. لكن تجربة محفوظ هذه توقفت فترة طويلة حتى عاودها بوعي جديد وضمن ضرورات فنية كشفت عنها رحلته في كتابة الرواية.
ومما لا شك فيه، فإن هناك تجارب أخرى لمجموعة من الكتاب المرموقين على خارطة الرواية العربية، نذكر منهم جمال الغيطاني، وخاصة في" الزيني بركات" و" التجليات"، حيث يشتبك خطاب الواقع مع خطاب التاريخ في محاولة للإفادة من سلطة التاريخ الثقافية والفكرية. إن حضور التاريخ في روايات الغيطاني يتبلور تارة عبر نماذج لها حضور تاريخي مؤثر، بيد أنها تكتسب بعداً فلسفياً يجعل حضورها مؤدلجاً، يحمل إسقاطات معاصرة. واستخدام الوثيقة من الطرائق التي يلجأ إليها الغيطاني لتجسيد رؤية التاريخ في محاولة لنفي المتخيل وتثبيت الموثق. وهذا يعطي للكاتب مساحة أرحب للتعبير عن واقع قد لا يحتمل حدة الكشف والتشريح الذي قد يتعرض لها موضوع الرواية. كما أن تجربة واسيني الأعرج في روايته " نوار اللوز أو تغريبة صالح بن عامر الزوفوي" تتعالق مع تغريبة بني هلال، مع التركيز على فضاء السيرة كوجه من وجوه السرد المعروفة في النص التراثي. إن الأعرج في نصه هذا يؤسس نصه على تغريبة بني هلال بهدف الإضافة، فهو نص يعتمد المغايرة وتجاوز نص السيرة من أجل تشيكل أفق جديد للكتابة الروائية العربية.
هذه التجارب وغيرها من أمثال رواية "الرحيل إلى الزمن الدامي" لمصطفى المدائني، و "النفير والقيامة" لفرج لحوار، و "عرس بغل" للطاهر وطار، و "بدر زمانه" لمبارك ربيع، تندرج تحت باب التناص بغرض تشكيل نص حداثي يستفيد من تجربة السرد العربي كما هو حادث في المقامات والسير الشعبية، وتقنية السند في رواية الحديث. وهذه التجارب تمت من أجل خلق خصوصية إبداعية تتجاوز النموذج الغربي المستعار، وتستفيد من أبنية النص التراثي، مع تأكيد أهمية المجاوزة لا على مستوى المضمون فقط، بل من خلال اجتراح شكل يمثل الطموح لخلق نص حداثي عربي له حضوره الجمالي والدلالي. إن هذه التجارب وغيرها لتؤكد أن تناص الرواية العربية مع النص التراثي بات يشكل اتجاهاً واضحاً في مسار الرواية العربية.
سنناقش في هذا البحث ظاهرة استلهام النص التراثي من خلال تأسيس تقابلية نصية بين رحلة ابن بطوطة "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" باعتباره النص النموذج، ورواية نجيب محفوظ رحلة ابن فطومة (1983). سيسعى هذا البحث إلى كشف العلائق النصية بين هذين النصين، رحلة ابن بطوطة، باعتباره النص النموذج أو الأساس الذي اعتمد عليه محفوظ في كتابة روايته، رحلة ابن فطومة، التي تمثل النص اللاحق في هذا السياق.
*****
ينظر للتناص غالباً من منظورين: الممارسة والمصطلح. أما فيما يتعلق بالممارسة، أي تداخل نص لاحق مع نص سابق، فهي تجربة قديمة بقدم الكتابة ذاتها. فكل نص يولد هو حاصل نص سابق، وهو في ذات الوقت يحمل بذور نص لاحق. أما فيما يتعلق بالتناص كمصطلح، فقد قدمته جوليا كريستيفا (Julia Kristeva) عند مناقشتها لنظرية ميخائل باختن (Mikhail Bakhtin)، أصوات الرواية المتعددة. والتناص، كما تراه كريستيفا، يشير إلى الطرائق المتعددة التي يتداخل بها نص ما مع نص أو نصوص سابقة أو معاصرة سواء عن طريق إشارات أو اقتباسات صريحة أو ضمنية، أو مجرد تمثل واستيعاب لشكل ومضمون نص سابق . لكن لا يجب أن يقصر تصور هذا المفهوم عند حدود الاقتباسات الجزئية، بل هو كما تراه كريستيفا، "علاقة بين الخطاب في النص وبين خطابات محيطة وملازمة، أكثر منه علاقة بين جمل معينة تُقتبس أو نُنْحَل أو تُعارض في جمل أخرى مساوية أو مقاربة، في نص آخر" .
ويوسع جيرار جينيت (Gلrard Genette) دائرة التفاعل بين النصوص ليصبح التناص نوعاً من خمسة أنواع. فهو يرى أن هذه الأنواع تندرج كلها تحت مفهوم عبر النصوصية أو النصية (Transtextuality). وجينيت لا يلغي مفهوم مصطلح كريستيفا، بل إنه يوسع نطاقه ليشمل كل أشكال التفاعلات النصية. فإذا كانت كريستيفا قد أدوردت تحت مصطلح التناص كل التفاعلات النصية الممكنة، فإن جينيت فصل القول بدقة بين أشكال هذه التفاعلات. ويحدد مصطلح (Hypertextuality)، لاحقية النص أو التحويل النصي، وهو أحد التقسيمات النصية التي قدمها جينيت، مفهوم العلاقة بين نص سابق (Hypotext)، ونص لاحق (Hypertext)، بحيث يُبنى النص اللاحق انطلاقاً من النص السابق . وهذا المفهوم للتفاعل النصي "يعني أن العلاقة بين النصين إنما هي علاقة اشتقاق وتحويل ومحاكاة" ، غرضها تأسيس شكل جمالي مستنداً على نوع سابق، بهدف الاستفادة من تاريخيته، أو شهرته الأدبية والجماهيرية، أو بغرض إسقاط بعد فلسفي معاصر انطلاقاً من منظور تاريخي. ويجب أن نؤكد أن التقارب في المفهومين، التناص كما عند كريستيفا ولاحقية النص كما عند جينيت، يتيح استخدام المصطلح الأكثر شيوعاً، وهو التناص دون أن نستغني عن ظلال مفهوم لاحقية النص أو التحويل النصي. ونحن نشير إلى هذا النوع بالذات لأنه المفهوم الذي ينطبق على تجربة التحول النصي كما هو ملحوظ في تجربة نجيب محفوظ التي نحن بصدد الحديث عنها.
إن دراسة أي عمل أدبي يقتضي فهم الإجراءات النقدية التي تعين الباحث على استقراء الظاهرة وتحليلها. وإذا كانت كرستفا ومن بعدها جينيت قد سعيا إلى تعميق المفهوم الفلسفي للتفاعلات النصية، فإن الباحث بحاجة إلى أدوات تعينه على تحليل بنية النص وكشف منطلقاته التي ترمي إلى تسجيل حضور له يميزه عن النص السابق. وفي هذا السياق نجد أن المنهج الذي حدده أوين ميلر (Owen Miller) يحيل إلى طريقتين أساسيتين لتحديد التناص كممارسة نقدية. الأولى تتعلق بتحديد ما إذا كان تداخل نص لاحق مع نص سابق تم مصادفة أم عمداً. فيجب على الباحث تحديد السمات والظروف والأطر التاريخية التي يتبلور فيها النص اللاحق. وهذا الإجراء يساعد على تحديد منظور العمل اللاحق وكيفية تفاعله مع النص السابق. فالمصادفة في التفاعل النصي تؤكد عدم قصدية الفعل التناصي، وبالتالي ربما يقلل من إمكانية العمق في البعد الفلسفي. أما الطريقة الثانية، التي يقترحها ميلر، فهي ناتجة عن الأولى، فبعد أن يتم تحديد علاقة النص اللاحق بما قبله من نص أو نصوص، يشرع الدارس في تأسيس الفروق التي تميز النص اللاحق عما سبقه، حتى تتضح هويته كنص أدبي له حضوره الفلسفي الخاص به . فكشف هذه الفروق، سواء في البنية أو في المحتوى، مهم في تأكيد استقلالية النص اللاحق وفرض سيادته كنص متجاوز أو مساوٍ في أهميته للنص السابق. وبما أننا نتحدث في هذا البحث عن رواية رحلة ابن فطّومة، كنص لاحق، فإننا في البدء سنحدد العلائق المرجعية التي استند إليها نجيب محفوظ في النص السابق، رحلة ابن بطّوطة. وبعد هذا التحديد سنعمد إلى بلورة وبناء النص اللاحق وفقاً للمعطيات المكتسبة من كشف العلائق المرجعية مع النص السابق. وهذا بالتالي سيساعد على تبيان مدى وحدة وتناسق وتميز رواية نجيب محفوظ، رحلة ابن فطّومة عن رحلة ابن بطّوطة.
رحلة ابن بطّوطة: النص والتاريخ
تعتبر الرحلة من أهم مصادر المعرفة الجغرافية التي تبنى على المشاهدة والمراقبة ثم التدوين. وتنقسم الرحلة في الأدب العربي إلى قسمين: قسم تم بدافع علمي غرضه الكشف الجغرافي. ويعتبر اليعقوبي والمقدسي وابن حوقل والإدريسي والمسعودي أشهر الرحالة الذين عنوا عناية خاصة بالمادة الجغرافية في مدوناتهم. أما القسم الثاني فتم بدافع تجاري أو ديني أو سياسي. ومثل هذا الاتجاه رحالة من مثل أحمد ابن فضلان وابن جبير وأبو حامد الغرناطي وابن بطوطة .
وابن بطوطة، رغم عدم ريادته في هذا المجال، فهو "يعتبر سيد الرحالة العرب والمسلمين" . فقد استغرقت رحلته حوالي ثلاثين عاماً قضاها متنقلاً بين البلدان والأمصار. ولما استقر في فاس في أحضان الدولة المرينية بدأ بإملاء رحلته. والرحلة مرتبة ترتيباً تصاعدياً من نقطة البدء حتى آخر مطاف الرحلة بعودته إلى وطنه. إن طابع الرحلة الذي يتكرر في كل الفصول يكمن في الوصف السريع للأمكنة، والانطباع الشخصي عمن قابل من الرجال، فليس هناك من هدف آخر إلا تحقيق ذلك مع سرد ما أمكن من مفارقات وطرائف الرحلة. إذ لم تحقق الرحلة أي كشف جغرافي غير معروف في ذلك الحين. لكن أهمية الرحلة تكمن في قيمتها الأنثروبولوجية، ففيها رصد لكثير من عادات وتقاليد الشعوب التي لا يهتم بها التاريخ السياسي عادة. وقد ظهر ولع ابن بطوطة بذكر الغريب من كرامات الأولياء والدراويش الذين لقيهم في رحلته، فجاءت رسالته حافلة بنزعة أسطورية أعطى لخياله العنان في تخيل الكثير من المفارقات والأحداث .
والدوافع التي دفعت ابن بطوطة للقيام برحلته تتمثل في نزعة دينية تجلت دلائلها في ثنايا رحلته. فهو لم يقم بها بهدف الكشف الجغرافي كما أسلفنا. فدافعه الأول ما كان سوى الحج وزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم . ولكن في أثناء رحلته تولدت لديه فكرة مواصلة الرحلة بإيحاء من "الإمام العالم الزاهد الورع الخاشع" برهان الدين الأعرج الإسكندري كان ابن بطوطة قد لقيه في الإسكندرية. يقول ابن بطوطة:
دخلت عليه [برهان الدين الأعرج الإسكندري] يوماً فقال لي: أراك تحب السياحة والجولان في البلاد. فقلت له: نعم، أني أحب ذلك. ولم يكن حينئذٍ بخاطري التوغل في البلاد القاصية من الهند والصين. فقال: لا بد لك إن شاء الله من زيارة أخي فريد الدين بالهند، وأخي ركن الدين زكريا بالسند، وأخي برهان الدين بالصين. فإذا بلغتهم فأبلغهم مني السلام. فعجبت من قوله، وألقى في روعي التوجه إلى تلك البلاد، ولم أزل أجول حتى لقيت الثلاثة الذين ذكرهم، وأبلغتهم سلامه" .
أما الدافع الثالث، فقد نتج عن تفسير الشيخ الصوفي عبد الله المرشدي لرؤيا رآها ابن بطوطة قائلاً: "سوف تحج وتزور النبي صلى الله عليه وسلم، وتجول في بلاد اليمن والعراق وبلاد الترك، وتبقى بها مدة طويلة، وستلقى بها دلشاد الهندي، ويخلصك من شدة تقع فيها" . هذه كانت الجذوة التي دفعت ابن بطوطة لاكتشاف الآفاق. فإلى جانب روح المغامرة وحب الترحال، فقد لعب الدافع الديني لدى ابن بطوطة "دوراً هاماً في تكييف رحلته" .
رحلة ابن فطومة: بحث في المرجعية النصية
في البدء يجدر بنا أن نجيب على السؤال التالي: على أي أساس يمكن أن يكون كتاب رحلة ابن بطّوطة هو المرجع النصي الأساس؟ إن افتراض كتاب رحلة ابن بطّوطة كمرجع نصي له ما يدعمه في رواية نجيب محفوظ آنفة الذكر. لكن قبل ذلك يجب أن نتعرف على ظروف ظهور كتاب رحلة ابن بطّوطة. توضح مقدمة هذا الكتاب عدة أمور على درجة كبيرة من الأهمية، تتعلق بالظروف التي أحاطت بظهوره. إن فكرة تأليف كتاب رحلة ابن بطوطة جاءت بعد أن أتم ابن بطوطة رحلاته مطوفاً ومقيماً في كثير من الأمصار، من مثل بلاد السند والهند والصين بالإضافة إلى الأقطار العربية. وقد بدأ ابن بطوطة بإملاء رحلته على الأديب البارع محمد بن جزي الكلبي بأمر مقام السلطان أبي عنان المريني، سلطان الدولة المرينية. وقد ترك ابن بطوطة لابن جزي الحرية في نقل معانيه التي قصدها "بألفاظ موفية للمقاصد" . وابن جزي بذلك يضطلع بمهمة تأليف الرحلة، رغم تأكيده عدم التعرض لحقيقة ما أورده ابن بطوطة بالبحث أو الاختبار . والأهم من ذلك، فإن ابن جزي يتدخل في سياق النص كثيراً، إما مفسراً أو مؤيداً لبعض المسائل. وتدخله في السياق يأتي دائماً صريحاً ومقدماً بعبارة، قال ابن جزي. والتدخل في السياق والصياغة اللغوية التي تعتبر مرحلة لاحقة للإملاء تؤكد أن ابن جزي لم يكن مجرد ناسخ، بل لقد كان له القرار في التقديم والـتأخير، وترتيب الأولويات، والإشارة في مواضع كثيرة إلى حوادث سترد لاحقاً. وابن جزي نفسه يفرق بين التقييد والتأليف. فالتقييد هو كتابة ما أملاه ابن بطوطة كتابة أولية. وقد انتهى من هذا التقييد في سنة ست وخمسين وسبعمائة، بينما استغرق التأليف سنة أخرى، حيث انتهى ابن جزي من تأليف الرحلة في سنة سبع وخمسين وسبعمائة . قال ابن جزي في خاتمة الرحلة: "انتهى ما لخصته من تقييد الشيخ أبي عبد الله محمد بن بطوطة" . إذن فالعمل قد مر بثلاث مراحل، تقييد ما أملاه الشيخ، تلخيصه، ثم تأليفه في صورته النهائية التي هو عليها الآن. فالعمل فيه صنعة التأليف التي تقتضي خصوصية في اختيار الألفاظ، وفي عرض أحداث الرحلة التي تحمل التشويق. وهو -التشويق- أمر لا يمكن إلا أن ننسبه إلى ابن جزي بحكم سيطرته على العمل في مرحلة التأليف. وهكذا فإننا نرى أن دور ابن بطوطة، على الرغم من أهميته، قد اقتصر على الفعل المادي للرحلة، ثم سرد ما تذكره من أحداث. فهو كبطل روائي يخوض غمار تجربة درامية فيها الكثير من المواقف الإنسانية، ومواقف الصبر والتحدي في مكابدة الرحلة التي امتدت لسنوات طويلة من السفر المتواصل، مدفوعاً برغبة السفر وارتياد المجهول. ولكن تجربة الرحلة هذه تصل إلينا عبر وسيط له فهمه المعرفي الخاص به. والغرض مما نحن بصدده ليس نفي نسب الرحلة إلى ابن بطوطة، ولكننا نسعى إلى تأكيد دور ابن جزي في وصول هذا العمل بهذه الصورة التي وصل بها إلينا.
نحن نفترض أن كتاب رحلة ابن بطّوطة هو المرجع الرئيس لرواية رحلة ابن فطومة دون غيره من مصنفات الرحلات العربية. وهذا الافتراض ليس اعتباطياً، بل هو افتراض نجد له ما يبرره في رواية رحلة ابن فطّومة. إن البناء الخارجي لهذه الرواية هو بناء الرحلة ذاتها. فهناك رحالة يسرد مشاهداته عبر ضمير المتكلم، محدداً الإطار المكاني الذي تجري فيه تجربة الرحلة. يستهل نجيب محفوظ روايته بعبارة في غاية الأهمية، قائلاً: "نقلاً عن المخطوط المدون بقلم قنديل محمد العنابي الشهير بابن فطّومة". وينهي نجيب محفوظ روايته قائلاً:
بهذه الكلمات ختم مخطوط رحلة قنديل محمد العنابي الشهير بابن فطومة. ولم يرد في كتاب من كتب التاريخ ذكر لصاحب الرحلة بعد ذلك. هل واصل رحلته أو هلك في الطريق؟ هل دخل دار الجبل وأي حظ صادفه فيها؟ وهل أقام بها لآخر عمره أو رجع إلى وطنه كما نوى؟ وهل يعثر ذات يوم على مخطوط جديد لرحلته الأخيرة؟ علم ذلك كله عند عالم الغيب والشهادة .
ونشعر هنا أن نجيب محفوظ يتقمص دور ابن جزي في رحلة ابن بطّوطة. فحضوه هو حضور المؤلف لا حضور الرحالة. وإذا كان ابن جزي قد أفصح عن دوره في رحلة ابن بطوطة، فإن نجيب محفوظ يتمثل ذات الدور تماماً، فيقدم عمله على أنه نقلاً عن ابن فطّومة. وفي عمل نجيب محفوظ، يبدأ الرحالة قنديل محمد العنابي الشهير بابن فطّومة بسرد دوافع رحلته، ثم الأحداث التي عاصرها في رحلته. وقد ترحل هذا الرحالة في البلدان مصوراً مشاهداته وانطباعاته عن النظم السياسية والاجتماعية في البلدان التي زارها. والعنوان بذاته يحمل دلالة مشابهة. فنجيب محفوظ يقدم روايته كرحلة لشخص يلقب بابن فطّومة. فالارتباط الصوتي بين اللقبين، ابن بطّوطة وابن فطّومة، كبير جداً، مما يغدو الربط بين العملين بديهية لا تحتاج إلى كبير عناء. وإذا أردنا أن نرصد المتقابلات النصية، فإننا نرى أن العلاقة تبدأ من المشترك اللفظي بين الاسمين، ولكنها لا تتوقف عند هذا الاشتراك، رغم ما تتركه من دلالة عميقة، بل تتعداه إلى تكوين الشخصية. فابن بطوطة رحالة أحب المغامرة وأمضى ما يقرب من ثلاثين عاماً متجولاً في البلدان يدفعه حب الإطلاع واكتشاف الجديد. قام برحلته وهو ما يزال أعزب في الثانية والعشرين من عمره. وكان في أثناء رحلته يحرص على لقاء الرجال ذوي المقام العالي من ملوك وولاة وقضاة ومشايخ وأئمة. وفي أثناء ترحاله تزوج وولي القضاء، وأخذ يمكث في البلدان من الوقت لآخر حسب ما تمليه ظروف رحلته. وينتهي به المطاف في بلاط السلطان أبي عنان المريني حيث أخذ يملي رحلته. هذا الصورة العامة لشخصية ابن بطوطة يقابلها ذات التخطيط لشخصية ابن فطومة. فهو رحالة أمضى ربما ذات الفترة في رحلته مسجلاً كل غريب يراه من شؤون الخاصة والعامة، من أمور الحرب والسياسة، من طقوس العادات وغرائب الأحداث. كما أنه رحل وهو أعزب في العشرينيات من عمره. وكان مدفوعاً بالمغامرة في الوصول إلى كشف معرفي كما سيرد التفصيل فيه لاحقاً. وقد تنقل في البلدان، واحدة تلو الأخرى ، بغرض الوصول إلى الغاية التي يريد. وإذا كان ابن بطوطة قد عاد إلى وطنه فإن ابن فطومة لم تتسن له العودة، فبعث بمخطوطه مع القافلة العائدة إلى وطنه. وبذلك يكون كل رحالة منهما قد ترك أثر رحلته مدوناً لينتفع به من يأتي من بعد.
إذن فأهمية هذه المشابهة تتعدى المظهر الشكلي للاسمين إلى أن دور ابن فطومة هو ذات الدور الذي لعبه ابن بطوطة في رحلته. فقد قاما بفعل الرحلة، أملى ابن بطوطة رحلته، بينما أرسل ابن فطومة مخطوطه مع القافلة العائدة إلى وطنه. ولأننا إزاء عمل روائي، فإن ذلك لا يعدو كونه استراتيجية من استراتيجيات القص التي وظفها الكاتب في نصه. فلو سلمنا جدلاً بوجود مخطوط من هذا النوع، فإنه يحتاج إلى كثير من الجهد حتى يتم تحقيقه ومراجعته والتعليق عليه، وبالتالي توجيهه وتصنيفه وفق نمط معرفي معين. فالمخطوط ما هو في النهاية إلا مادة خام تحتاج إلى جهد كبير لإخراجه إلى حيز الوجود. وهنا تظهر المتقابلات النصية على مستوى الشكل. فابن فطومة يشابه ابن بطوطة في كونهما صاحبا الرحلتين اللتين لولاهما لانتفى دور كل من ابن جزي ونجيب محفوظ. ومحفوظ كما أسلفنا يتقمص دور ابن جزي في تأليف الرحلة، وتوجيهها وفقاً لرؤيته الفكرية والمعرفية. فاستلهام نجيب محفوظ لتقنية شكل الرحلة فيه الكثير من الخصوصية. فهو لم يعمد إلى استلهام شكل الرحلة بعموميتها، بل عمد إلى استلهام رحلة معينة، مستلهماً كل تقنياتها وخصوصياتها.
لا يجب أن يغيب عن أذهاننا أننا نقارن بين عملين مختلفين في طبيعتهما. فرحلة ابن بطوطة رحلة لها واقعها التاريخي بأشخاصها، وأمكنتها وأزمنتها. فالرحلة ليست جنساً قصصياً يخضع لشرط الفن فقط، بل هي نمط فيه من القصة والتاريخ والانثروبولوجيا. فنجد روح القصة في عامل التشويق المسيطر على أجواء الرحلة. كذلك نجد روح القصة في السردية التي خيمت على العمل، إذ لا يوجد هناك إلا صوت ابن بطوطة بضمير المتكلم مع بعض التدخل- كما أشرنا سابقاً- من قبل ابن جزي. أما التاريخ فهو موجود في التوثيقية التي اهتم بها العمل من ذكر للأسماء ووظائفها، والحرص على ذكر التواريخ التي توثق ارتباط الرحلة بزمن معين. وأخيراً عنصر الأنثروبولوجيا الذي يسجل عادات الناس وتقاليدهم الدينية والاجتماعية. بينما رحلة ابن فطّومة رواية تخضع لتكنيك القص بكل أبعاده. وهذا الفرق كافٍ لأن يحدد غاية كل عمل. فغاية رحلة ابن بطوطة هي تسجيل الوقائع كما هي لا رابط بينها إلا كونها نتاج تجربة شخصية للرحالة ذاته. فانتقالاته في الزمان والمكان مرهونة بظروف رحلته لا بغاية محددة لا يحيد عنها. أما رواية نجيب محفوظ فهي معمار فني له دلالة الفلسفية بدءاً من أول الرواية إلى آخرها. فالزمن الذي يقطعه ابن فطومة زمن نفسي يمتد امتداد الوجود البشري ذاته، بدءاً من المجتمعات البدائية الوثنية في العمق السحيق من التاريخ البشري إلى عصر العلم والتكنولوجيا في القرن العشرين. فتنقلات ابن فطومة ليست تنقلات عفوية أو بدافع الاكتشاف المفرغ من الغائية، بل هي، على العكس من ذلك، مبنية وفق غاية لا تخضع لأي عامل سوى إرادة كاتب الرواية. واختيار الكاتب لهذا الشكل أتاح له فرصة السياحة في إيديولوجيات الأمم مع مقارنتها بالواقع العربي.
رحلة ابن فطّومة
1- خصوصية التجربة
ينهض مشروع نجيب محفوظ في هذه الرواية على شكل الرحلة في الأدب العربي باعتباره فضاء مفتوحاً، تتوفر فيه مقومات السرد، وتاريخية الوقائع، وجغرافية الأمكنة، وانثربولوجيا الشعوب. وإذا كانت رواية نجيب محفوظ قد استوعبت كل هذه المظاهر، فإنها قد تفادت السقوط في نمطية شكل الرحلة. إننا في هذه الرواية أمام رحالة غير تقليدي، فضاؤه مفتوح الزمان والمكان، واهتماماته ليست تسجيل الغريب والمدهش من المصادفات والمشاهدات، بل الدخول في حوار مع الحضارات قديمها وحديثها. إنه يدخل هذه الرحلة وهو محمل بإيديولوجية هدفها نقد الواقع الذي ينتمي إليه، العالم العربي المعاصر بكل تعقيداته وأزماته. وقد أتاحت لعبة الشكل التي استخدمها نجيب محفوظ أن ينأى ببطله عن الإقليمية، فالبطل / الرحالة في هذا السياق السردي، عربي الفكر والانتماء. وهذا يحيلنا إلى أزمة المثقف العربي في إقامة حوار مع السلطة التي تهدم أقنية الحوار، وتسعى، بدلاً من ذلك، إلى تأسيس مبدأ الأحادية. وهذا ما دفع ابن فطومة، على العكس من ابن بطوطة، إلى تجربة الحوار مع الآخر بعد أن عجز عن إقامة حوار مع الذات. ولذلك، فإن رواية رحلة ابن فطومة عبارة عن رحلة ذات هدف إيديولوجي باعثه الرغبة في معرفة الذات عبر معرفة الآخر.
إن الكاتب يعطينا كل المقومات التي تجعلنا نحس بواقعية الرحلة، وما يجري فيها من مفارقات، ولكنها بطبيعة الحال ليست رحلة عادية. فعبر شخصية ابن فطومة يقدم الكاتب صورة مؤرقة من دأب الإنسان في البحث عن الحرية والعدل. ففي الفصل الأول الموسوم بالوطن تتجسد صورة الظلم في حاجب الوالي الذي يتزوج خطيبة ابن فطومة عنوة. ويكتشف ابن فطومة معنى القهر والظلم الذي قزم رغبة الحياة عنده. وتحت وطأة الحرمان تتفاعل رغبة الرحلة في وجدان ابن فطومة، بحثاً عن العدل الإنساني كما قرأه في نصوص الدين. والغاية من رحلته هي أن يرجع إلى وطنه "المريض بالدواء الشافي" ، ولكن ليس قبل أن يصل إلى دار الجبل، ذلك السر المغلق، الذي يشبه "الكمال الذي ما بعده كمال" .
ورغم التقابل الواضح بين شخصيتي ابن بطوطة وابن فطومة، كما أشرنا آنفاً، فإن التضاد لا يقل وضحاً بحال من الأحوال. وهذا ما يعطي شخصية ابن فطومة تميزها عن شخصية ابن بطوطة. فعلاوة على أننا نتعامل مع شخصيتين مختلفتين في حقيقة الوجود، وجود حقيقي يمثله ابن بطوطة، ووجود خيالي يمثله ابن فطومة، فإن التضاد لا يتوقف عند هذا الحد، وهو كاف لو أننا نريد تحديد كينونة كل شخصية، بل يتعداه إلى الحيز المكاني والزماني الذي وجدت فيه كل شخصية. إن شخصية ابن فطومة، وهي وجود خيالي، تشكلت في مكان وزمان خياليين لهما أهدافهما ومراميهما الإيديولوجية التي سعى العمل إلى تأكيدها. إن شخصية ابن فطومة تسير ضمن إطار تتشكل غايته في كل خطوة يخطوها الرحالة. فرحيله من وطنه ليس رحيلاً عفوياً بلا غاية، بل إن غايته محددة وواضحة منذ البدء . فهو في رحلته لا يرى ويدون فقط، كما فعل ابن بطوطة، بل إنه يجادل ويدافع فكرياً، ولكنه ليس ذلك المتعصب الذي يفقد خاصية الباحث عن المعرفة. وهو دائماً يضع دينه ووطنه في الجهة المقابلة في أي جدل يدور بينه وبين من يلقى من الحكماء وغيرهم في البلدان التي يزور. كما أنه دائم النقد لكل سلبية تورث مجتمعه الظلم والقهر والجهل. وابن فطومة لا يخجل من أن يعترف بنقائص مجتمعه، بل إنه يسعى إلى معرفة كيفية الخلاص منها استناداً إلى ما اكتسبه من مشاهداته وحواراته. ويؤكد في كل حواراته عظمة الإسلام كمنهج شامل لكل شؤون الحياة، ولكنه في الوقت ذاته يؤكد أن المسلمين هم من أضاع الإسلام. فهو يرى أن "الإسلام اليوم قابع في الجوامع لا يتعداها إلى الخارج" .
Top
عضو غير متواجدرسالة خاصةلمحة عن معلومات الشخصيةبريد المشارك