ومما يجعل الأمور في نصابها لتبقى الوسيلة وسيلة والغاية غاية كقول حاتم الطائي :
وَعاذِلَةٍ هَبَّت بِلَيلٍ تَلومُني وَقَد غابَ عَيّوقُ الثُرَيّا فَعَرَّدا
تَلومُ عَلى إِعطائِيَ المالَ ضِلَّةً إِذا ضَنَّ بِالمالِ البَخيلُ وَصَرَّدا
تَقولُ أَلا أَمسِك عَلَيكَ فَإِنَّني أَرى المالَ عِندَ المُمسِكينَ مُعَبَّدا
ذَريني يَكُن مالي لِعِرضِيَ جُنَّةً يَقي المالُ عِرضي قَبلَ أَن يَتَبَدَّدا
فالعاذلة تحاول إقناعه بالكف عن البذل وحمله على الاقتصاد والحرص لان المال غاية يسعى إليها الجميع فكان رده بالتذكير بان المال وسيلة تحمي العرض وتحقق المجد. ونجد في حجة الغاية الحجج التالية :
أ/ حجة التبذير : وهي تقوم على ضرورة استكمال ما بدئ فيه وإتمام ما شرع بعد في القيام به وهذا كوننا سنسخر ونتكبد تضحيات لو تخلينا عن إتمامه وفيها يقول حاتم الطائي :
وَقائِلَةٍ أَهلَكتَ بِالجودِ مالَنا وَنَفسَكَ حَتّى ضَرَّ نَفسَكَ جودُها
فَقُلتُ دَعيني إِنَّما تِلكَ عادَتي لِكُلِّ كَريمٍ عادَةٌ يَستَعيدُها
فقد أصبح الكرم عادة وفضيلة سار عليها الشاعر وعرف بها ولا يمكنه أن يتخلى عنها ،.ومنها كذلك ضرورة استغلال المواهب المعطاة والمزايا الطبيعية لأنها ستفقد إن لم تستغل فيقول زهير
ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله على قومه ستغن عنه ويذمم
ب/ حجة الاتجاه : وهي تقوم على رفض أمر ما إن كان في ذاته أمر مقبول أو جيد لأنه يقودنا الى غاية لا نريدها وهذا ما ذهب إليه قيس بن الملوح :
عَلامَ تَخافُ البَينَ وَالبَينُ نافِعٌ إِذا كانَ قُربُ الدارِ لَيسَ بِنافِعِ
إِذا لَم تَزَل مِمَّن تُحِبُّ مُرَوَّعاً بِغَدرٍ فَإِنَّ البَينَ لَيسَ بِرائِعِ
فقرب الدار رائع لا اعتراض عليه بل هو مما يسعى وبما انه لا يجلب السعادة والرضا يرفض ويؤثر عليه البين جاعلا من القرب فزعا ومن البين راحة وأمنا.
ج/ حجة التجاوز : وهي حجة على خلاف سابقتها إذ فيها يمكن اعتبار ما عائقا مجرد وسيلة لبلوغ مستوى أعلى ويمكن اعتباره مجرد عارض يوظف للوصول الى الهدف المنشود وقد أوردها الأحوص في قوله :
ما من مصيبة نكبة أمنى بها إلا تعظمني وترفع شأني
فالمصائب وحوادث الدهر لا تؤثر في الشاعر إلا من جهة أنها تزيده صلابة وقوة .
2/ التعايش :وتعمد الى علاقة الذات بصفاتها أو الشخص بأفعاله من خلال تفسير حدث أو موقف أو التنبؤ به انطلاقا من الذات كقول زهير :
إن ابن ورقاء لا تخشى غوائله لكن وقائعه في الحرب تنتظر
واضح جدا أن الشاعر تنبأ بوفاء ممدوحه وافتراض نصرره في الحرب بناء على ما يعرف به من الشجاعة والوفاء فلا يعرف الغدر ولا الهزيمة.وكذلك قول عنترة :
لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب ولا ينال العلا من طبعه الغضب
فالشاعر واثق من أن الماجد لا يعرف الحقد ومن لا يكظم غيظه لن ينال المجد أبدا وهو ربط للصفات بالذات.وفيها:
أ/ حجة الشخص وأعماله : تقوم على انه متى اتصلت بشخصية صفة معينة وعرفت بها ظلت كذلك مدى الحياة وهو قريب من السفسطة.
وعادة ما يكون عدم ثبات الشخصية وتطور الظروف داعيا لكسر العلاقة بين الشخص وأفعاله ومنها قول النابغة :
أَتاني أَبَيتَ اللَعنَ أَنَّكَ لُمتَني وَتِلكَ الَّتي تَستَكُّ مِنها المَسامِعُ
مَقالَةُ أَن قَد قُلتَ سَوفَ أَنالُهُ وَذَلِكَ مِن تِلقاءِ مِثلِكَ رائِعُ
فالنابغة يعترف بقدرة ممدوحه الدائمة وعجزه الدائم وما أتاه من قول النعمان مفزع لأنه قول قادر لا يشك في تحوله الى فعل ، مقرا بتلك القدرة وصدق الوعيد.
ب/ حجة السلطة :وتتمثل في الاحتجاج لفكرة أو رأي أو موقف بناء على قيمة صاحبها فيقول الأعشى :
شُرَيحُ لا تَترُكَنّي بَعدَما عَلِقَت حِبالَكَ اليَومَ بَعدَ القِدِّ أَظفاري
قَد طُفتُ ما بَينَ بانِقيا إِلى عَدَنٍ وَطالَ في العُجمِ تِرحالي وَتَسياري
فَكانَ أَوفاهُمُ عَهداً وَأَمنَعَهُم جاراً أَبوكَ بِعُرفٍ غَيرِ إِنكارِ
كُن كَالسَمَوأَلِ إِذ سارَ الهُمامُ لَهُ في جَحفَلٍ كَسَوادِ اللَيلِ جَرّارِ
والشاعر يمدح شريح بن حصن بن عمران بن السموأل بن عاديا وهو يحاول إقناعه بان يكرم وفادته ويوفر له الأمن ، وافيا بعهده ولإقناعه جاء باسم معروف بالكرم والوفاء ليحمله على الاقتداء به ، وهو أحد أجداده.
ثم يستطرد الكاتبة في الصفات الموالية بضرب مجموعة من الأمثلة تصب في نفس الاتجاه.وتشير الى مراعاة التوافق بين الباث والمتلقي في الرموز الموظفة في عملية الاحتجاج والإقناع .بين الصفات والقداسة والانتماء والاشتراك.
3/الحجج المؤسسة لبنية الواقع : وهي نوع من الحجج يؤسس الواقع ويبنيه أو على الأقل تكمله أو تظهر ما خفي من علاقات بين أشيائه أو تجلي ما لم يتوقع من هذه العلاقات وما لم ينتظر من صلات بين عناصره ومكوناته وهما تقنيتان :
1/ تأسيس الواقع بواسطة الحالات الخاصة: وهي تقوم عللا اعتماد المثال المفرد المعزول لتعميم حكم أو فكرة لينقل الى حالة عامة وهو يشبه النموذج ، يقول معاوية بن مالك :
وَكُنتُ إِذا العَظيمَةُ أَفظَعَتهُم نَهَضتُ وَلا أَدِبُّ لَها دِبابا
بِحَمدِ اللَهِ ثُمَّ عَطاءِ قَومٍ يَفَكّونَ الغَنائِمَ وَالرِقابا
إِذا نَزَلَ السَحابُ بِأَرضِ قَومٍ رَعَيناهُ وَإِن كانوا غِضابا
بِكُلِّ مُقَلِّصٍ عَبلٍ شَواهُ إِذا وُضِعَت أَعِنَّتُهُنَّ ثابا
فهو ينتقل من حالته الخاصة وهي قدرته وقوته الى حالة عامة وهي باس وقوة قومه وان لقوا قوما أهل بطش وقوة.
وكضرب خاص من المثال نجد النموذج وهو توجيه المتلقي الى سلوك معين وقيادته نحو موقف معين على أن تكون النماذج مختارة وجديرة بالتقليد.وفيها يقول الحطيئة :
يَسوسونَ أَحلاماً بَعيداً أَناتُها وَإِن غَضِبوا جاءَ الحَفيظَةُ وَالجِدُّ
أَقِلّوا عَلَيهِم لا أَبا لِأَبيكُمُ مِنَ اللَومِ أَو سُدّوا المَكانَ الَّذي سَدّوا
أولَئِكَ قَومٌ إِن بَنَوا أَحسَنوا البُنى وَإِن عاهَدوا أَوفَوا وَإِن عَقَدوا شَدّوا
وَإِن كانَتِ النُعمى عَلَيهِم جَزَوا بِها وَإِن أَنعَموا لا كَدَّروها وَلا كَدّوا
وَتَعذُلُني أَبناءُ سَعدٍ عَلَيهِمُ وَما قُلتُ إِلّا بِالَّذي عَلِمَت سَعدُ
يسم الشاعر ممدوحيه بالقدرة السياسية وما تعنيه من تحمل الأعباء والبطش والقوة أحيانا ثم فجأة يتحول الخطاب من ممدوحيه الى متلق آخر يدعوه ساخطا الى ترك لوم لا معنى له ويخيره بين الرضا بممدوحيه أو الحلول محلهم والقيام بما قاموا به، ثم يرفع من هيبة هذا النموذج.
وقد يكون الاحتجاج بالنموذج المضاد فيتأسس نموذج في الكرم أو في البخل أو في الشجاعة أو الجبن . وفيها :
أ/ حجة المقارنة : والتي عدها بيرلمان من الحجج شبه المنطقية بكونها تعمد القيس بينما أوليفي روبول عده من هذا النموذج وهي تبرز احد الطرفين انطلاقا من الآخر ومنها قول عنترة :
لو سابقتني المنايا وهي طالبة قبض النفوس أتاني قبلها السبق
فالمنية والشاعر إن تسابقا نحو شخص بعينه ليهلكاه كان هو الفائز ، وقد رتب طرفي المقارنة فالمنية تسابقه لا هو يسابقها والسبق يأتيه قبل أن يتحرك هو نحوه.
ب/ حجة التضحية : وهي تقوم على إثبات قيمة شيء أو قضية بواسطة التضحيات التي قدمت او ستقدم من اجلها وما يزيد قوتها غموض مفهوم التضحية وقد لا يظهر طرفي المقارنة فيغيب احدهما فتكون مقارنة ضمنية كقول جميل بن معمر :
وَإِنّي لَأَرضى مِن بُثَينَةَ بِالَّذي لَوَ اَبصَرَهُ الواشي لَقَرَّت بَلابِلُه
بِلا وَبِأَلّا أَستَطيعَ وَبِالمُنى وَبِالوَعدِ حَتّى يَسأَمَ الوَعدَ آمِلُه
وَبِالنَظرَةِ العَجلى وَبِالحَولِ تَنقَضي أَواخِرُهُ لا نَلتَقي وَأَوائِلُه
وهنا الشاعر يعقد مقارنة ضمنية بينه وبين غيره من العاشقين فهو يرضى بالصد والتمنع والوعد الكاذب والنظرة العجلى وبالبين على خلاف غيره.
2/ الاستدلال بواسطة التمثيل:وهو اقرب الأنواع الى الشعر لأنه قائم على التخييل فهو احتجاج لأمر معين عن طريق علاقة الشبه التي تربطه بأمر آخر أي تشكيل بنية واقعية تسمح بإيجاد أو إثبات حقيقة عن طريق التشابه وبذلك ندخل التشبيه والاستعارة أو القياس الشعري وكما هو معروف فالقياس يبنى على مقدمتين صغرى وكبرى تقودان الى استنتاج ن وفي الشعر عادة ما يكون القياس الضمني فعادة نجد استنتاج مبني على مقدمتين خفيتين لان القياس الصريح يهدم الطاقة الإيحائية للتشبيه والاستعارة ، وهنا يتم تناول التشبيه والاستعارة من الجانب الحجاجي الخالص وهما تسعيان الى التقريب بين عنصرين من نظامي مختلفين مع سعي حثيث لطمس ما بينهما من فروق فاستعمال كلمة " نسر " أو " حمار " على الحيوان أو الإنسان تختلفان في المدح والقدح.
ثم تشير إشارة خفيفة الى آراء لوقرن وديكرو وبيرلمان والجرجاني في الحقيقة والمجاز.لتنتقل بعده الى الحديث عن السلم الحجاجي .
السلم الحجاجي : وهو مرتبط بالقوة الحجاجية للاستعارة ويهدف الى وصف الأقوال وتحديد مراتبها باعتبار وجهتها وقوتها ورمز له بما يلي :
ن : نتيجة
أ وب : قولان أو حجتان ن
ب
أ
ويعني ذلك أن كل قول يرد في درجة من درجات السلم يكون للقول الذي يعلوه دليلا أقوى وانه بالضرورة إذا كان (أ) يؤدي الى النتيجة (ن ) فان (ب) الذي يعلوه يؤدي الى نفس النتيجة والعكس غير صحيح.وقد أوردت الكاتبة مجموعة أمثلة لعل أكثرها وضوحا قول أبو ذؤيب الهذلي "
وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع
فالشاعر يحتج لضعف الإنسان بل لعجزه أمام الموت فهو خصم لا يرد ولا يدفعه دافع ونجد له سلما حجاجيا كالتالي :
ن : الإنسان عاجز أمام الموت
ب : الموت وحش كاسر مميت
أ :الموت لا يرد
ومن التشبيه الضمني قول عنترة :
يعيبون لوني بالسواد جهالة ولولا سواد الليل ما طلع الفجر
فالشاعر يرى أن السواد لا يضيره ولا ينقص منه شيئا وان عدنا الى البنية القياسية وجدناها :
لون عنترة اسود
الليل اسود
وسواد الليل يبشر ببياض الفجر بل يتولد منه
ن : سواد عنترة ليس عيبا لأنه يبشر ببياض الأفعال ويحيل على نقاء السريرة
وأشارت الكاتبة الى القوة الحجاجية للتمثيل إذ يقول الراعي :
إِنّي وَإِيّاكِ وَالشَكوى الَّتي قَصَرَت خَطوي وَنَأيُكِ وَالوَجدُ الَّذي أَجِدُ
كَالماءِ وَالظالِعُ الصَديانُ يَطلُبُهُ هُوَ الشِفاءُ لَهُ وَالرِيُّ لَو يَرِدُ
فقدم الشاعر التشبيه على أنه حجة قوية للاعتذار من ترك الزيارة رغم ما به من وجد فحاله تماثل حال العاجز شديد العطش الذي يرقب الماء ويعلم أنه شفاء له لكنه بعجزه لا يستطيع الوصول إليه. في حين لو قال :" لا آتي لزيارتك لني لا أستطيع " كان رد الحجة سهلا فقط باستعمال " لكن " كرابط معارض : " لكننا نراك تستطيع " مثلا أو : " لكن الإرادة تكون الوسيلة" بينما بسبب التشبيه جعل الراعي زيارته غير إرادية بل هو العجز يتجاوز طاقته ولا ينفي ما به من وجد .والقول التمثيلي يرفض الروابط المعارضة " لمن " و " بل " أن تجيء بعده .
وهناك عند تفكيك الاستعارة أو التشبيه إجبار على تقبل النتيجة بينما يمكن ردها بواسطة تشبيه أو استعارة كأن تشبه الموت بالنوم.
4/ الحجج التي تستدعي القيم : وهي ذات سلطة تهدف الى فرض الرأي وإظهار الفرضيات على أنها حقائق لا لبس فيها دفعا للجبار على اختيار ما ،ولا تتورع في الترهيب والترغيب والحمل على الإذعان ، فالمحتج يعمد الى تبرير المواقف والآراء وإثباتها الى انتقاء قيم بدقة تلائم أهدافه وغاياته المنشودة فتجده يرفض فكرة أو رأي بحجة مخالفة قيمة معينة ويدعو الى موقف باسم قيمة محددة و منها أيضا :
1/ القيم الكونية : وهي تستدعي الخير والحق والجمال ويتخذها مراجع وخلفيات يستند إليها ونجد شعرنا العزل يستند على الجمال بينما الفخر والمدح والرثاء تستند على الخير والحق فيقول المجنون :
فَلَو أَنَّها تَدعو الحَمامَ أَجابَها وَلَو كَلَّمَت مَيتاً إِذاً لَتَكَلَّما
وَلَو مَسَحَت بِالكَفِّ أَعمى لَأَذهَبَت عَماهُ وَشيكاً ثُمَّ عادَ بِلا عَمى
فالشاعر يحتج لحبه وتعلقه وعجزه عن البعد و السلو استنادا الى جمال هذه المرأة الساحر الذي يتجاوز حدود المألوف فتنتفي معه المقاومة وردع النفس وتصبح معه إلاها .
2/ قيم مجردة: وتكون محل اتفاق من قبل قومه يلتزمون بتطبيقها أو على الأقل يحرصون على احترامها يقول النابغة :
وَأَنتَ رَبيعٌ يُنعِشُ الناسَ سَيبُهُ وَسَيفٌ أُعيرَتهُ المَنِيَّةُ قاطِعُ
فالشاعر يثبت لممدوحه صفة الصدق ويؤكد على كرمه وبطشه ولا ينشد الحماية إلا عنده.
3/ قيم محسوسة :وهي توجه الفعل وتقيد السلوك وهي ملاحظة متحققة في الواقع منها النظام والصدق والأمانة والتقوى والاستقامة.يقول أبو ذؤيب :
وما حُمِّلَ البُختِيُّ عامَ غِيارِهِ عَلَيهِ الوُسوقُ بُرُّها وَشَعيرُها
أَتى قَريَةً كانَت كثيراً طَعامُها كَرَفغِ التُرابِ كُلُّ شَيءٍ يَميرُها
4/ حجة الاستحقاق : من قبيل انه نال ما استحقه ، يقول النابغة :
نَصَحتُ بَني عَوفٍ فَلَم يَتَقَبَّلوا وَصاتي وَلَم تَنجَح لَدَيهِم وَسائِلي
وَقَد خِفتُ حَتّى ما تَزيدُ مَخافَتي عَلى وَعِلٍ في ذي المَطارَةِ عاقِلِ
مَخافَةَ عَمروٍ أَن تَكونَ جِيادُهُ يُقَدنَ إِلَينا بَينَ حافٍ وَناعِلِ
فالشاعر ينظر على أن هزيمة القوم مستحقة لأنهم خالفوا تحذيره فيصور الهزيمة تصوير المنتظر.
5/ الحجج التي تستدعي المشترك : وهي يستدعي المشترك وتستند الى ما يشكل اتفاقا بين المتلقين أي المعارف المشتركة بينهم ، وقد أشار أرسطو الى ذلك في كتابه : "الجدل " تحت مسمى " المواضع المشتركة " ، وهي استناد الى حجاج استنتاجي لكنه غير صارم فهو يمثل ضربا من العلاقة بين الواقع والمنطق وقد أشار إليه دكلارك في : " فن الحجاج "، وابن رشد : " تلخيص الخطابة ".ويظهر في الشعر العربي القديم في مواضع كثيرة منها قول الخنساء :
قد كان حصنا شديد الركن ممتنعا ليثا إذا نزل الفتيان أو ركبوا
اعتمدا على الموضع القائل : " ما كان أنفع في أكثر الأوقات فهو آثر من النافع في وقت ما " فالشاعرة تمجد الفقيد فتسمه بالقوة والبأس وتحتج لمكانته بجعل شجاعته مطلقة ثابتة في الركوب والنزول .ويقول العباس بن مرداس :
هم سودوا هجنا وكل قبيلة يبين عن أحسابها من يسودها
فالشاعر ينفي عن قبيلته الحسب والمجد وحجته أنهم اتخذوا من الهجن أسيادا وعند المفاضلة مع القبائل الأخرى صارت كل قبيلة سادنها أهل حسب ومجد آثر من هذه القبيلة.
وقد يشمل المشترك المثال والحكم والأساطير والحكايات الشعبية ولعل أكثرها شيوعا هو المثل ، وطاقة المثل الحجاجية تقوم على القياس : قياس حالة حاضرة على أخرى مشابهة يعرفها الجميع وهي قائمة على علاقة الإيهام ومنها قول مسكين الدارمي :
وإذا الفاحش لاقى فاحشاً فهناكم وافق الشن الطبق
إِنَّما الفحش ومن يعتاده كَغُراب السوء ما شاء نعق
فالشاعر يذهب الى أن الفاحش متى وجد الفحش في مكان ارتاده فأطال المكوث فاستدعى المثل الذي يضرب في التوافق وهو : " وافق شن طبقة" وهو يستمد طاقته من ميل الإنسان للتقليد.
ويستلهم الأعشى في توظيف الرمز الأسطوري " منشم وعطرها المشؤوم" :
أَراني وَعَمرواً بَينَنا دَقُّ مَنشِمٍ فَلَم يَبقَ إِلّا أَن أُجَنَّ وَيَكلَبا
كِلانا يُرائي أَنَّهُ غَيرُ ظالِمٍ فَأَعزَبتُ حِلمي أَو هُوَ اليَومَ أَعزَبا
وَمَن يُطِعِ الواشينَ لا يَترُكوا لَهُ صَديقاً وَإِن كانَ الحَبيبَ المُقَرَّبا
فوظف الشاعر رمزا أسطوريا للتعبير عن العداوة الحادة بينه وبين عمرو وإشارة لطيفة الى تأزم الأوضاع بفعل مناخ الشر السائد فيكون المصير واحد.
الخاتمة:
تنتهي في الخاتمة إقرار فحواه تعدد الحجج وتنوعها ، وتعيد الإشارة الى ما تم تناوله من حجج وأنواعها ، وتخلص الى نتائج أهمها :
- وفرة الحجاج وتنوعه في الشعر العربي القديم.
- أن بينة الحجاج تميل إلى التستر والخفاء.
- تفاوت الحجاج من حيث القوة .
- أنه لا يوجد البتة برهان معصوم من الخطأ أو حجة بعيدة عن الزلل.
- لا يمكن الحديث دائما عن حجاج ماكر مخادع أو صادق نزيه و إنما تظل القضية نسبية .
- أن الشيء الذي ينقذ الحجاج والبلاغة من الإيغال والسفسطة أن المحتج لا يكون أبدا وحيدا فما هو إلا طرف في حوار يقتضي وجود أطراف أخرى.
الباب الثالث :العلاقات الحجاجية وقد احتوى على تقديم وأهم العلاقات الحجاجية ثم بنية القصيدة ومن ثم خاتمة.
التقديم : وفي إشارة الى مجموعة من العناصر منها النظر الى العلاقات الحجاجية بين الحجج والبراهين من جهة والنتائج التي يهدف إليها من جهة ثانية ، فالخطاب الحجاجي عبارة عن شبكة معقدة من العلاقات غير العادية ، ونجد الخطاب كذلك غير أن الخطاب الحجاجي علاقات مخصوصة، وهذا نظرا للاشتراك في المنطلق وهو اللغة التي تقوم على شبكة مهمة من العلاقات فالجملة يمكن اعتبارها تواصلا على مستوى المعنى للخطاب.
واعتبار الخطاب نظاما دعاها الى الخوض في عالم الخطاب والمعنى السياقي ، فترى أنه هناك ثلاث وظائف حسب ج .ب.قريز : تخطيطية ، تبريرية ، تنظيمية.وترى اهتمامها في هذا الباب سيكون حول العلاقات التي بين قضايا الخطاب 0
ثم أشارت الى التمييز بين الروابط الحجاجية والعلاقات الحجاجية ، فترى أن الروابط هي جملة الأدوات التي توفرها اللغة للربط بين مفاصل الكلام وأجزائه فتأسس عندها العلاقة الحجاجية فيستعمل مثلا " بيد أن " ليؤسس علاقة حجاجية هي التناقض.
ثم تناولت أهمية الموضع الذي تحتله العلاقة الحجاجية في تحديد وظيفتها ، فيجب ترتيب الأفكار وتنسيق الحجج على نحو يجعلها تقود الى الغاية المنشودة مما يعني ترتيب العالم والربط بين أشيائه ، مما قادها إلى الحديث على قضية البنية في القصيدة التقليدية وقضية الغرضية ولأنها ترى أن ما قيل في بنية القصيدة ليس كاف ، فأرادت أن تبحث وتدرس العلاقات الحجاجية بين الأبيات داخل القصيدة الواحدة مهتمة بوضعية البيت والمصراع بل الكلمة المفردة بهدف الوصول إلى رأي في قضية البنية و الغرضية.
1/ العلاقات الحجاجية : لعل أهمها :
1/ علاقة التتابع : الاستدلال في عمومه يسمح بالربط بين فرضيات وقضايا متعددة بل هو عملية تسمح بالجمع بين الحديث و مستتبعاته ، أو الفعل ونتائجه ، أو السابق ولواحقه .فهي تجمع التطور المطرد والتناغم البين وفي العلاقة التتابعية يمكن أن نحتج بتقرير تتابع مستمر في الأحداث على مستويين :
- الأحداث : وتدخل بذلك في الحجج المؤسسة على بنية الواقع أو المؤسسة لبنية الواقع .
- القضايا والأفكار : وتدخل في الحجج شبه المنطقية.
ومنها قول المنخل اليشكري:
ولقد دخلت على الفتا ة الخدر في اليوم المطير
الكاعب الحسناء تر فل في الدمقس وفي الحرير
فدفعتها فتدافعت مشي القطاة إلى الغدير
ولثمتها فتنفست كتنفس الظبي البهير
فدنت وقالت يا من خل ما بجسمك من حرور
ما شف جسمي غير حـ بك فاهدئي عني سيري
كما نلاحظ فالشاعر يبني حجته على الأحداث و مستتبعاتها يجعلها تؤسس وحدة الأبيات وتؤكدها ، فيؤطر أول الأحداث بدخول الخدر في اليوم المطير ثم يحدد الشخصيات وهي الشاعر والحبيبة ثم يورد مستتبعاته من دفع وتدافع ، ولثم وتنفس ، ودنو و حوار وكلها تؤكد شدة الحب المتقدة في القلوب ، واستعان بالروابط : الواو والفاء.
وقد يلجأ الشاعر إلى العلاقة التتابعية على مستوى الأفكار والمواقف والأحكام فتنشأ وحدة خفية وفيها قول المثقب العبدي :
لا تَقولَنَّ إِذا ما لَم تُرِد أَن تُتِمَّ الوَعدَ في شَيءٍ نَعَم
حَسَنٌ قَولُ نَعَم مِن بَعدِ لا وَقَبيحٌ قَولُ لا بَعدَ نَعَم
فَإِذا قُلتَ نَعَم فَاِصبِر لَها بِنَجاحِ الوَعدِ إِنَّ الخُلفَ ذَم
وَاِعلَمَ أَنَّ الذَمَّ نَقصٌ لِلفَتى وَمَتى لا يَتَّقِ الذَمَّ يُذَم
أُكرِمُ الجارَ وَأَرعى حَقَّهُ إِنَّ عِرفانَ الفَتى الحقَّ كَرَم
والشاعر هنا يحتج بحجة السلطة وهي ما خبره من صروف الدهر : غير أن الشيء الذي يجب الإشارة إليه هو تنامي الأفكار من النهي عن الوعد الكاذب إلى تجنب الندم إلى اتقاء الذم.
2/ العلاقة السببية : وهي ضرب من العلاقات التتابعية يجعل فيه الشاعر بعض الأحداث أسبابا لأحداث أخرى ، ويسم فعلا أنه نتيجة متوقعة لفعل سابق ويجعل موقفا معينا سببا لآخر ،والعلاقة السببية هي علاقة شبه منطقية وفيها قول قيس بن الملوح :
رَضيتُ بِقَتلي في هَواها لِأَنَّني أَرى حُبَّها حَتماً وَطاعَتَها فَرضا
إِذا ذُكِرَت لَيلى أُهيمُ لِذِكرِها وَكانَت مُنى نَفسي وَكُنتُ لَها أَرضى
وفي الصفحات الموالية تحدثت عن غياب الروابط أو حضورها أو دقة الأسباب وخفائها أو تقديم علة أو سبب عن فعله أو نتيجة وهكذا.
3/ علاقة الاقتضاء : وهي علاقة تصل الحجة بالنتيجة المرصودة لذلك الخطاب بحيث تجعل الحجة تقتضي النتيجة والعكس وهذا ما ينتج تلازما بينهما ، وأكثر الأدوات التي تستدعي الاقتضاء أدوات الشرط وهي نابعة في الشرط من الشكل والمضمون والتلازم بين الشرط وجوابه. وفيها قول طرفة بن العبد :
إِذا كُنتَ في حاجَةٍ مُرسِلاً فَأَرسِل حَكيماً وَلا توصِهِ
وَإِن ناصِحٌ مِنكَ يَوماً دَنا فَلا تَنأَ عَنهُ وَلا تُقصِهِ
وَإِن بابُ أَمرٍ عَلَيكَ اِلتَوى فَشاوِر لَبيباً وَلا تَعصِهِ
فالشاعر يعقد علاقة اقتضاء بين أسباب ثلاثة ونتائج ثلاثة وهي الحاجة الملحة رسول ونتيجتها إرسال حكيم لا يحتاج إلى وصاية وثانيها مبادرة الناصح بنصحه ونتيجتها الإقبال عليه والاستماع لنصحه والثالثة إشكال الأمر واستعصاؤه والنتيجة طلب المشورة وكلها مجتمعة كحجة على نتيجة الكلام.
وقد تربط بين الحجة والنتيجة في غير التركيب الشرطي كقول عبيد بن الأبرص :
فَكُلُّ ذي نِعمَةٍ مَخلوسٌ وَكُلُّ ذي أَمَلٍ مَكذوبُ
وَكُلُّ ذي إِبِلٍ مَوروثٌ وَكُلُّ ذي سَلَبٍ مَسلوبُ
وَكُلُّ ذي غَيبَةٍ يَؤوبُ وَغائِبُ المَوتِ لا يَؤوبُ
فقد أدرك الشاعر أن لا شيء يدوم وقد ارتبطت الحجج المقدمة ارتباط اقتضاء مع نتائجها.
4/ علاقة الاستنتاج : وهي علاقة منطقية تعبر عن فن الانتقال من فكرة إلى فكرة أخرى بشكل منظم وميسر ويرمز لها ب :
أ إذن ب
ومنها قول امرؤ القيس :
أَلا عِم صَباحاً أَيُّها الطَلَلُ البالي وَهَل يَعِمَن مَن كانَ في العُصُرِ الخالي
وَهَل يَعِمَن إِلّا سَعيدٌ مُخَلَّدٌ قَليلُ الهُمومِ ما يَبيتُ بِأَوجالِ
وَهَل يَعِمَن مَن كانَ أَحدَثُ عَهدِهِ ثَلاثينَ شَهراً في ثَلاثَةِ أَحوالِ
فالشاعر يضمن في ثنايا تحيته للطلل تشكيك في جدوى هذا الدعاء وهذا بسبب الاستفهامات المتلاحقة التي تقود إلى عبثية مقارعة الزمن واستحضار الماضي واستعادة أحداثه.
ثم تشير إلى أن العلاقة الاستنتاجية لا يمكن أن تنحصر في التركيب المشار إليه إذ يمكن التعبير عنها ب ـ : إذا " أ" ف "ب" أو " ب" باعتبار "أ" أو "ب" فعلا "أ".أوردت ما ذهب إليه ديكرو من أن : إذا" أ" فــ"ب" تفترض وجود رابط تضميني وهي يجب أن يتواتر استعماله لتوضيح هذا الرابط بينما الأشكال الأخرى تبنى على التبرير ولا تظهر بمظهر من يريد إعلانها .فمن الصنف الأول قول زهير:
أَخي ثِقَةٍ لا تُتلِفُ الخَمرُ مالَهُ وَلَكِنَّهُ قَد يُهلِكُ المالَ نائِلُه
تَراهُ إِذا ما جِئتَهُ مُتَهَلِّلاً كَأَنَّكَ تُعطيهِ الَّذي أَنتَ سائِلُه
فالشاعر يصف ممدوحه بالعفة لقلة إمعانه في اللذات وبالسخاء لإهلاكه ماله في النوال فالعلاقة تضمينية.ومن الصنف الثاني قول عباس بن مرداس :
وَأَوعِد وَقُل ما شِئتَ إِنَّكَ جاهِلٌ عَلى إِنَّما أَنتَ اِمرُؤٌ مِن بَني نَضرِ
فالشاعر يهجو أحدهم بأنه كائن تافه جدير بالهجاء باعتباره جاهلا لا يفقه ما يقول ولا يقدر عواقب الكلم وكذلك باعتباره مضريا تنتظر منه المعايب.
5/ علاقة التناقض أو عدم الاتفاق : وهي علاقة ذات خلفية منطقية إذ ندفع أمرا بإثبات تناقضه مع نتيجة الخطاب وهنا لا نتحدث عن بنية الحجاج وإنما عن علاقة الحجج فيما بينها : ومنها قول عنترة :
أَلا يا عَبلَ ضَيَّعتِ العُهودا وَأَمسى حَبلُكِ الماضي صُدودا
وَما زالَ الشَبابُ وَلا اِكتَهَلنا وَلا أَبلى الزَمانُ لَنا جَديدا
وَما زالَت صَوارِمُنا حِداداً تَقُدُّ بِها أَنامِلُنا الحَديدا
سَلي عَنّا الفَزارِيِّينَ لَمّا شَفَينا مِن فَوارِسِها الكُبودا
وَخَلَّينا نِسائَهُمُ حَيارى قُبَيلَ الصُبحِ يَلطِمنَ الخُدودا
مَلَأنا سائِرَ الأَقطارِ خَوفاً فَأَضحى العالَمونَ لَنا عَبيدا
وَجاوَزنا الثُرَيّا في عُلاها وَلَم نَترُك لِقاصِدِنا وُفودا
فالشاعر يعاني من ظلم الحبيبة وتجنيها وعدم الاتفاق جلي فالشاعر ما زال شابا لم يأت عليه الزمان وفارسا مقداما ورفيع المكانة مع ذلك تصده.
• ثم تنتقل إلى الحديث عن الروابط الحجاجية : لكن وبل وحتى ، وهي جميعا تشترك في إثبات القطع مع سابقها أو نفيه وإثباته لما لحقها أو تأكيده ، فهي توحي بالخلاف وتحيل على حجة عدم الاتفاق مع فروق جزئية أشارت إليها كالتالي:
- لكن : متى توسطت دليلين باعتبارها رابطا حجاجيا جعلت ما بعدها أقوى مما قبلها فتكون للاحق الغلبة المطلقة فتكون النتيجة بعد الدليل الثاني هي مبتغى القول.منها قول عبد الله بن العباس :
وليس الذي يجري من العين ماءها ولكنها روح تذوب فتقطر
نلاحظ أن لكن ربطت بين صدر البيت وعجزه وهذا الرابط ليس نحويا بل حجاجيا فنجد أن الدموع ليست ماء يجري من العين وإنما هي الروح وليس بعد ذلك تفجعا.
- بل : لا يختلف الرابط الحجاجي بل عن لكن من حيث أنه يتوسط دليلين أو يربط بينهما فيقول جرير :
قال العواذل قد جهلت بحبها بل من يلوم على هواك جهول
فالشاعر يثبت الحكم الوارد بعد بل ، فهو يرى الجهل كل الجهل في لوم المحب على حبه بعد ادعاء العواذل أن الحب قد قاده إلى الجهل .وهنا يبرز فرق واضح وهو أن لكن يفاضل بين دليلين يخدمان النتيجة نفسها بينما بل تنفي الأول وتقصيه.
- حتى : والسياق نفسه يحكم اعتماد الرابط حتى ونقصد بها حتى التي بمعنى :meme أي نفس " رغم " وليست حتى التعليلية أو انتهاء الغاية فعبارة من نوع : أ ب
أ+ب ج
فهي تفيد الجمع بين حجتين " أ و ب " أو ثلاثة " أ و ب و ج " تخدم مجتمعة نتيجة ما وتعتمد شروطا ثلاثة :
- ما يسبق حتى يشكل حجة لفائدة نتيجة معينة .
- ما يسبق حتى وما يليها يشتركان في الوجهة الحجاجية.
- أن يمثل ما يليها إضافة من حيث الطاقة الحجاجية دون أن يكون هو الأقوى مما يسمح بإمكانية تغيير مكان الدليلين.
فيقول جرير :
وَما زالَتِ القَتلى تَمورُ دِماؤُها بِدِجلَةَ حَتّى ماءَ دِجلَةَ أَشكَلُ
لَنا الفَضلُ في الدُنيا وَأَنفُكَ راغِمٌ وَنَحنُ لَكُم يَومَ القِيامَةِ أَفضَلُ
فالشاعر يحتج لفروسية قومه وشدة باسهم فيذكر كثرة القتلى في الأعداء كحجة أولى ثم يعطف بحتى ويأتي بحجة أخرى هي تغير مياه دجلة لكثرة دماء القتلى.وقد ذكرت الكاتبة السلم الحجاجي لهذين البيتين أوردت أمثلة كثيرة يمكن الرجوع غليها .
- حتى إذا : وتشير أخيرا إلى رابط وهو: أ حتى إذا ب وهو بمعنى " وإن " وفيها قول جميل بن معمر :
وَماذا عَسى الواشونَ أَن يَتَحَدَّثوا سِوى أَن يَقولوا إِنَّني لَكِ عاشِقُ
نَعَم صَدَقَ الواشونَ أَنتِ كَريمَةٌ عَلَيَّ وَإِن لَم تَصفُ مِنكِ الخَلائِقُ
فالشاعر يقر بسوء طباع بثينة وقسوتها عليه ويجعلها دليل ممكن لإعراضه وعزمه على هجرها ولكنه دليل ضعيف يرفضه وبالتالي يرفض النتيجة ضمنيا ويثبت ضمنيا النتيجة المناقضة.
2/ بينة القصيدة : بعد الوقوف على أهم العلاقات الحجاجية وأهم الروابط فيها تحدثت عن بنية القصيدة ككل باعتبارها نصا حجاجيا يفترض فيه الترابط والتناسق على نحو يلفت الانتباه ويحمل على الاقناع وقد يبدو ذلك سهلا واضحا بينا إذا ما تعلق بخطبة أو نص نثري فإنا يصعب في الشعر خاصة القصيدة القديمة.
ثم تشير إلى رؤية تقليدية حملها النقاد القدامى في بنية القصيدة ثم رؤية المحدثين وهي على فريقين وأشارت إلى نظرة المتأخرين جدا وهي الدراسات العربية والدراسات الأنجلوسكسونية.
ثم بدأت في تحليل بعض القصائد للوصول إلى بنيتها الحجاجية قد يضيق المقام بذكرها وهي :
1- تحليل يائية علقمة الفحل .
2- تحليل ميمية تميم بن مقبل
3- تحليل نونية كعب بن مالك الأنصاري
4- تحليل قصيدة لجرير
5- تحليل عينية عمرو بن أبي ربيعة
6- تحليل عينية مروان بن أبي حفصة.
الخاتمة : وقد أشارت إلى ما تم تناوله في هذا الباب وهو : العلاقات الحجاجية والروابط ، وبنية القصيدة وما يحيط بها من غموض ، وضرورة الإلمام بالشعر العربي القديم وقوانين البلاغة ومذاهب الشعراء القدامى.
الخاتمة العامة للكتاب : وقد ضمت النتائج والهداف التالية :
- ثراء بنية الحجاج في الشعر العربي القديم .
- انفتاح الحجاج وعنايته بأكثر من متلق.
- بنية القصيدة القديمة.أهمية الضمني وخطورة المسكوت عنه من الكلام.
- أغراض الشعر القديم وحضور الأنا في القصيدة .
- في الصلة بين الاقناع والجمال.
- في صناعة الشعر.
وفي الأخير جاءت فهارس الكتاب كالتالي :
- فهارس الأشعار.
- فهارس المفاهيم.
- فهارس العلام .
- فهارس المصادر والمراجع والدوريات.
خاتمة : والآن جاء دورنا لنقول كلمة حول الكتاب لا ترقى الى مستوى النقد إنما هي أشياء أثارت انتباهنا لا تتعدى كونها ملاحظات:
- الحقيقة أن الكتاب مفيد إلى درجة كبيرة في التعرف على الحجاج خاصة عند المبتدئين فهو أرضية يمكن الانطلاق منها للتأصيل لبنية وعلاقات وروابط حجاجية عربية ، والتعرف إلى ما وصل إليه الغرب في هذا المجال .كما أرادت أن توظف الحجاج في الكشف عن بنية النص القديم و الغرضية فيه.
- والإنسان بطبعه ميال إلى تسجيل الزلات و المعايب أكثر من المحاسن فإننا لاحظنا ما يلي :
• الإطناب الكبير في الكتاب إذ القارئ في بعض المواضع يشعر أن الكاتبة في غنى عن الاسترسال في الشرح والتوضيح، إضافة إلى التكرار الوارد في الأفكار.
• اعتمدت الكاتبة على الإسقاط بين الحجج الغربية والشعر العربي القديم ، والسعي إلى الجزئيات .فتجد نفسها تلوي أعناق النصوص للنظرية الغربية.
• الانتقاء الذي وقعت فيه الكاتبة فأقصت واعتمدت مدونة خاصة وهي الشعر الغزلي .
• نسبة أبيات إلى غير أهلها .
• هناك جانب تنظيمي غير مراعى في الكتاب خاصة التبويب إذ نجد الإشارة إلى حجج غير مذكورة في العناوين ، كما نجدها تسهب أحيانا في الشرح ، وتخل أحيانا أخرى.
ومن أراد الاستفادة فعليه العودة إلى كتاب " الحجاج في الشعر العربي القديم من الجاهلية إلى القرن الثاني الهجري بنيته وأساليبه " للأستاذة الدكتورة سامية الدريدي.
المرجع :
-د/ سامية دريدي - الحجاج في الشعر العربي القديم من الجاهلية إلى القرن الثاني الهجري : بنيته وأساليبه ط1 - عن دار الكتب الحديثة - تونس 2008.
وَعاذِلَةٍ هَبَّت بِلَيلٍ تَلومُني وَقَد غابَ عَيّوقُ الثُرَيّا فَعَرَّدا
تَلومُ عَلى إِعطائِيَ المالَ ضِلَّةً إِذا ضَنَّ بِالمالِ البَخيلُ وَصَرَّدا
تَقولُ أَلا أَمسِك عَلَيكَ فَإِنَّني أَرى المالَ عِندَ المُمسِكينَ مُعَبَّدا
ذَريني يَكُن مالي لِعِرضِيَ جُنَّةً يَقي المالُ عِرضي قَبلَ أَن يَتَبَدَّدا
فالعاذلة تحاول إقناعه بالكف عن البذل وحمله على الاقتصاد والحرص لان المال غاية يسعى إليها الجميع فكان رده بالتذكير بان المال وسيلة تحمي العرض وتحقق المجد. ونجد في حجة الغاية الحجج التالية :
أ/ حجة التبذير : وهي تقوم على ضرورة استكمال ما بدئ فيه وإتمام ما شرع بعد في القيام به وهذا كوننا سنسخر ونتكبد تضحيات لو تخلينا عن إتمامه وفيها يقول حاتم الطائي :
وَقائِلَةٍ أَهلَكتَ بِالجودِ مالَنا وَنَفسَكَ حَتّى ضَرَّ نَفسَكَ جودُها
فَقُلتُ دَعيني إِنَّما تِلكَ عادَتي لِكُلِّ كَريمٍ عادَةٌ يَستَعيدُها
فقد أصبح الكرم عادة وفضيلة سار عليها الشاعر وعرف بها ولا يمكنه أن يتخلى عنها ،.ومنها كذلك ضرورة استغلال المواهب المعطاة والمزايا الطبيعية لأنها ستفقد إن لم تستغل فيقول زهير
ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله على قومه ستغن عنه ويذمم
ب/ حجة الاتجاه : وهي تقوم على رفض أمر ما إن كان في ذاته أمر مقبول أو جيد لأنه يقودنا الى غاية لا نريدها وهذا ما ذهب إليه قيس بن الملوح :
عَلامَ تَخافُ البَينَ وَالبَينُ نافِعٌ إِذا كانَ قُربُ الدارِ لَيسَ بِنافِعِ
إِذا لَم تَزَل مِمَّن تُحِبُّ مُرَوَّعاً بِغَدرٍ فَإِنَّ البَينَ لَيسَ بِرائِعِ
فقرب الدار رائع لا اعتراض عليه بل هو مما يسعى وبما انه لا يجلب السعادة والرضا يرفض ويؤثر عليه البين جاعلا من القرب فزعا ومن البين راحة وأمنا.
ج/ حجة التجاوز : وهي حجة على خلاف سابقتها إذ فيها يمكن اعتبار ما عائقا مجرد وسيلة لبلوغ مستوى أعلى ويمكن اعتباره مجرد عارض يوظف للوصول الى الهدف المنشود وقد أوردها الأحوص في قوله :
ما من مصيبة نكبة أمنى بها إلا تعظمني وترفع شأني
فالمصائب وحوادث الدهر لا تؤثر في الشاعر إلا من جهة أنها تزيده صلابة وقوة .
2/ التعايش :وتعمد الى علاقة الذات بصفاتها أو الشخص بأفعاله من خلال تفسير حدث أو موقف أو التنبؤ به انطلاقا من الذات كقول زهير :
إن ابن ورقاء لا تخشى غوائله لكن وقائعه في الحرب تنتظر
واضح جدا أن الشاعر تنبأ بوفاء ممدوحه وافتراض نصرره في الحرب بناء على ما يعرف به من الشجاعة والوفاء فلا يعرف الغدر ولا الهزيمة.وكذلك قول عنترة :
لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب ولا ينال العلا من طبعه الغضب
فالشاعر واثق من أن الماجد لا يعرف الحقد ومن لا يكظم غيظه لن ينال المجد أبدا وهو ربط للصفات بالذات.وفيها:
أ/ حجة الشخص وأعماله : تقوم على انه متى اتصلت بشخصية صفة معينة وعرفت بها ظلت كذلك مدى الحياة وهو قريب من السفسطة.
وعادة ما يكون عدم ثبات الشخصية وتطور الظروف داعيا لكسر العلاقة بين الشخص وأفعاله ومنها قول النابغة :
أَتاني أَبَيتَ اللَعنَ أَنَّكَ لُمتَني وَتِلكَ الَّتي تَستَكُّ مِنها المَسامِعُ
مَقالَةُ أَن قَد قُلتَ سَوفَ أَنالُهُ وَذَلِكَ مِن تِلقاءِ مِثلِكَ رائِعُ
فالنابغة يعترف بقدرة ممدوحه الدائمة وعجزه الدائم وما أتاه من قول النعمان مفزع لأنه قول قادر لا يشك في تحوله الى فعل ، مقرا بتلك القدرة وصدق الوعيد.
ب/ حجة السلطة :وتتمثل في الاحتجاج لفكرة أو رأي أو موقف بناء على قيمة صاحبها فيقول الأعشى :
شُرَيحُ لا تَترُكَنّي بَعدَما عَلِقَت حِبالَكَ اليَومَ بَعدَ القِدِّ أَظفاري
قَد طُفتُ ما بَينَ بانِقيا إِلى عَدَنٍ وَطالَ في العُجمِ تِرحالي وَتَسياري
فَكانَ أَوفاهُمُ عَهداً وَأَمنَعَهُم جاراً أَبوكَ بِعُرفٍ غَيرِ إِنكارِ
كُن كَالسَمَوأَلِ إِذ سارَ الهُمامُ لَهُ في جَحفَلٍ كَسَوادِ اللَيلِ جَرّارِ
والشاعر يمدح شريح بن حصن بن عمران بن السموأل بن عاديا وهو يحاول إقناعه بان يكرم وفادته ويوفر له الأمن ، وافيا بعهده ولإقناعه جاء باسم معروف بالكرم والوفاء ليحمله على الاقتداء به ، وهو أحد أجداده.
ثم يستطرد الكاتبة في الصفات الموالية بضرب مجموعة من الأمثلة تصب في نفس الاتجاه.وتشير الى مراعاة التوافق بين الباث والمتلقي في الرموز الموظفة في عملية الاحتجاج والإقناع .بين الصفات والقداسة والانتماء والاشتراك.
3/الحجج المؤسسة لبنية الواقع : وهي نوع من الحجج يؤسس الواقع ويبنيه أو على الأقل تكمله أو تظهر ما خفي من علاقات بين أشيائه أو تجلي ما لم يتوقع من هذه العلاقات وما لم ينتظر من صلات بين عناصره ومكوناته وهما تقنيتان :
1/ تأسيس الواقع بواسطة الحالات الخاصة: وهي تقوم عللا اعتماد المثال المفرد المعزول لتعميم حكم أو فكرة لينقل الى حالة عامة وهو يشبه النموذج ، يقول معاوية بن مالك :
وَكُنتُ إِذا العَظيمَةُ أَفظَعَتهُم نَهَضتُ وَلا أَدِبُّ لَها دِبابا
بِحَمدِ اللَهِ ثُمَّ عَطاءِ قَومٍ يَفَكّونَ الغَنائِمَ وَالرِقابا
إِذا نَزَلَ السَحابُ بِأَرضِ قَومٍ رَعَيناهُ وَإِن كانوا غِضابا
بِكُلِّ مُقَلِّصٍ عَبلٍ شَواهُ إِذا وُضِعَت أَعِنَّتُهُنَّ ثابا
فهو ينتقل من حالته الخاصة وهي قدرته وقوته الى حالة عامة وهي باس وقوة قومه وان لقوا قوما أهل بطش وقوة.
وكضرب خاص من المثال نجد النموذج وهو توجيه المتلقي الى سلوك معين وقيادته نحو موقف معين على أن تكون النماذج مختارة وجديرة بالتقليد.وفيها يقول الحطيئة :
يَسوسونَ أَحلاماً بَعيداً أَناتُها وَإِن غَضِبوا جاءَ الحَفيظَةُ وَالجِدُّ
أَقِلّوا عَلَيهِم لا أَبا لِأَبيكُمُ مِنَ اللَومِ أَو سُدّوا المَكانَ الَّذي سَدّوا
أولَئِكَ قَومٌ إِن بَنَوا أَحسَنوا البُنى وَإِن عاهَدوا أَوفَوا وَإِن عَقَدوا شَدّوا
وَإِن كانَتِ النُعمى عَلَيهِم جَزَوا بِها وَإِن أَنعَموا لا كَدَّروها وَلا كَدّوا
وَتَعذُلُني أَبناءُ سَعدٍ عَلَيهِمُ وَما قُلتُ إِلّا بِالَّذي عَلِمَت سَعدُ
يسم الشاعر ممدوحيه بالقدرة السياسية وما تعنيه من تحمل الأعباء والبطش والقوة أحيانا ثم فجأة يتحول الخطاب من ممدوحيه الى متلق آخر يدعوه ساخطا الى ترك لوم لا معنى له ويخيره بين الرضا بممدوحيه أو الحلول محلهم والقيام بما قاموا به، ثم يرفع من هيبة هذا النموذج.
وقد يكون الاحتجاج بالنموذج المضاد فيتأسس نموذج في الكرم أو في البخل أو في الشجاعة أو الجبن . وفيها :
أ/ حجة المقارنة : والتي عدها بيرلمان من الحجج شبه المنطقية بكونها تعمد القيس بينما أوليفي روبول عده من هذا النموذج وهي تبرز احد الطرفين انطلاقا من الآخر ومنها قول عنترة :
لو سابقتني المنايا وهي طالبة قبض النفوس أتاني قبلها السبق
فالمنية والشاعر إن تسابقا نحو شخص بعينه ليهلكاه كان هو الفائز ، وقد رتب طرفي المقارنة فالمنية تسابقه لا هو يسابقها والسبق يأتيه قبل أن يتحرك هو نحوه.
ب/ حجة التضحية : وهي تقوم على إثبات قيمة شيء أو قضية بواسطة التضحيات التي قدمت او ستقدم من اجلها وما يزيد قوتها غموض مفهوم التضحية وقد لا يظهر طرفي المقارنة فيغيب احدهما فتكون مقارنة ضمنية كقول جميل بن معمر :
وَإِنّي لَأَرضى مِن بُثَينَةَ بِالَّذي لَوَ اَبصَرَهُ الواشي لَقَرَّت بَلابِلُه
بِلا وَبِأَلّا أَستَطيعَ وَبِالمُنى وَبِالوَعدِ حَتّى يَسأَمَ الوَعدَ آمِلُه
وَبِالنَظرَةِ العَجلى وَبِالحَولِ تَنقَضي أَواخِرُهُ لا نَلتَقي وَأَوائِلُه
وهنا الشاعر يعقد مقارنة ضمنية بينه وبين غيره من العاشقين فهو يرضى بالصد والتمنع والوعد الكاذب والنظرة العجلى وبالبين على خلاف غيره.
2/ الاستدلال بواسطة التمثيل:وهو اقرب الأنواع الى الشعر لأنه قائم على التخييل فهو احتجاج لأمر معين عن طريق علاقة الشبه التي تربطه بأمر آخر أي تشكيل بنية واقعية تسمح بإيجاد أو إثبات حقيقة عن طريق التشابه وبذلك ندخل التشبيه والاستعارة أو القياس الشعري وكما هو معروف فالقياس يبنى على مقدمتين صغرى وكبرى تقودان الى استنتاج ن وفي الشعر عادة ما يكون القياس الضمني فعادة نجد استنتاج مبني على مقدمتين خفيتين لان القياس الصريح يهدم الطاقة الإيحائية للتشبيه والاستعارة ، وهنا يتم تناول التشبيه والاستعارة من الجانب الحجاجي الخالص وهما تسعيان الى التقريب بين عنصرين من نظامي مختلفين مع سعي حثيث لطمس ما بينهما من فروق فاستعمال كلمة " نسر " أو " حمار " على الحيوان أو الإنسان تختلفان في المدح والقدح.
ثم تشير إشارة خفيفة الى آراء لوقرن وديكرو وبيرلمان والجرجاني في الحقيقة والمجاز.لتنتقل بعده الى الحديث عن السلم الحجاجي .
السلم الحجاجي : وهو مرتبط بالقوة الحجاجية للاستعارة ويهدف الى وصف الأقوال وتحديد مراتبها باعتبار وجهتها وقوتها ورمز له بما يلي :
ن : نتيجة
أ وب : قولان أو حجتان ن
ب
أ
ويعني ذلك أن كل قول يرد في درجة من درجات السلم يكون للقول الذي يعلوه دليلا أقوى وانه بالضرورة إذا كان (أ) يؤدي الى النتيجة (ن ) فان (ب) الذي يعلوه يؤدي الى نفس النتيجة والعكس غير صحيح.وقد أوردت الكاتبة مجموعة أمثلة لعل أكثرها وضوحا قول أبو ذؤيب الهذلي "
وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع
فالشاعر يحتج لضعف الإنسان بل لعجزه أمام الموت فهو خصم لا يرد ولا يدفعه دافع ونجد له سلما حجاجيا كالتالي :
ن : الإنسان عاجز أمام الموت
ب : الموت وحش كاسر مميت
أ :الموت لا يرد
ومن التشبيه الضمني قول عنترة :
يعيبون لوني بالسواد جهالة ولولا سواد الليل ما طلع الفجر
فالشاعر يرى أن السواد لا يضيره ولا ينقص منه شيئا وان عدنا الى البنية القياسية وجدناها :
لون عنترة اسود
الليل اسود
وسواد الليل يبشر ببياض الفجر بل يتولد منه
ن : سواد عنترة ليس عيبا لأنه يبشر ببياض الأفعال ويحيل على نقاء السريرة
وأشارت الكاتبة الى القوة الحجاجية للتمثيل إذ يقول الراعي :
إِنّي وَإِيّاكِ وَالشَكوى الَّتي قَصَرَت خَطوي وَنَأيُكِ وَالوَجدُ الَّذي أَجِدُ
كَالماءِ وَالظالِعُ الصَديانُ يَطلُبُهُ هُوَ الشِفاءُ لَهُ وَالرِيُّ لَو يَرِدُ
فقدم الشاعر التشبيه على أنه حجة قوية للاعتذار من ترك الزيارة رغم ما به من وجد فحاله تماثل حال العاجز شديد العطش الذي يرقب الماء ويعلم أنه شفاء له لكنه بعجزه لا يستطيع الوصول إليه. في حين لو قال :" لا آتي لزيارتك لني لا أستطيع " كان رد الحجة سهلا فقط باستعمال " لكن " كرابط معارض : " لكننا نراك تستطيع " مثلا أو : " لكن الإرادة تكون الوسيلة" بينما بسبب التشبيه جعل الراعي زيارته غير إرادية بل هو العجز يتجاوز طاقته ولا ينفي ما به من وجد .والقول التمثيلي يرفض الروابط المعارضة " لمن " و " بل " أن تجيء بعده .
وهناك عند تفكيك الاستعارة أو التشبيه إجبار على تقبل النتيجة بينما يمكن ردها بواسطة تشبيه أو استعارة كأن تشبه الموت بالنوم.
4/ الحجج التي تستدعي القيم : وهي ذات سلطة تهدف الى فرض الرأي وإظهار الفرضيات على أنها حقائق لا لبس فيها دفعا للجبار على اختيار ما ،ولا تتورع في الترهيب والترغيب والحمل على الإذعان ، فالمحتج يعمد الى تبرير المواقف والآراء وإثباتها الى انتقاء قيم بدقة تلائم أهدافه وغاياته المنشودة فتجده يرفض فكرة أو رأي بحجة مخالفة قيمة معينة ويدعو الى موقف باسم قيمة محددة و منها أيضا :
1/ القيم الكونية : وهي تستدعي الخير والحق والجمال ويتخذها مراجع وخلفيات يستند إليها ونجد شعرنا العزل يستند على الجمال بينما الفخر والمدح والرثاء تستند على الخير والحق فيقول المجنون :
فَلَو أَنَّها تَدعو الحَمامَ أَجابَها وَلَو كَلَّمَت مَيتاً إِذاً لَتَكَلَّما
وَلَو مَسَحَت بِالكَفِّ أَعمى لَأَذهَبَت عَماهُ وَشيكاً ثُمَّ عادَ بِلا عَمى
فالشاعر يحتج لحبه وتعلقه وعجزه عن البعد و السلو استنادا الى جمال هذه المرأة الساحر الذي يتجاوز حدود المألوف فتنتفي معه المقاومة وردع النفس وتصبح معه إلاها .
2/ قيم مجردة: وتكون محل اتفاق من قبل قومه يلتزمون بتطبيقها أو على الأقل يحرصون على احترامها يقول النابغة :
وَأَنتَ رَبيعٌ يُنعِشُ الناسَ سَيبُهُ وَسَيفٌ أُعيرَتهُ المَنِيَّةُ قاطِعُ
فالشاعر يثبت لممدوحه صفة الصدق ويؤكد على كرمه وبطشه ولا ينشد الحماية إلا عنده.
3/ قيم محسوسة :وهي توجه الفعل وتقيد السلوك وهي ملاحظة متحققة في الواقع منها النظام والصدق والأمانة والتقوى والاستقامة.يقول أبو ذؤيب :
وما حُمِّلَ البُختِيُّ عامَ غِيارِهِ عَلَيهِ الوُسوقُ بُرُّها وَشَعيرُها
أَتى قَريَةً كانَت كثيراً طَعامُها كَرَفغِ التُرابِ كُلُّ شَيءٍ يَميرُها
4/ حجة الاستحقاق : من قبيل انه نال ما استحقه ، يقول النابغة :
نَصَحتُ بَني عَوفٍ فَلَم يَتَقَبَّلوا وَصاتي وَلَم تَنجَح لَدَيهِم وَسائِلي
وَقَد خِفتُ حَتّى ما تَزيدُ مَخافَتي عَلى وَعِلٍ في ذي المَطارَةِ عاقِلِ
مَخافَةَ عَمروٍ أَن تَكونَ جِيادُهُ يُقَدنَ إِلَينا بَينَ حافٍ وَناعِلِ
فالشاعر ينظر على أن هزيمة القوم مستحقة لأنهم خالفوا تحذيره فيصور الهزيمة تصوير المنتظر.
5/ الحجج التي تستدعي المشترك : وهي يستدعي المشترك وتستند الى ما يشكل اتفاقا بين المتلقين أي المعارف المشتركة بينهم ، وقد أشار أرسطو الى ذلك في كتابه : "الجدل " تحت مسمى " المواضع المشتركة " ، وهي استناد الى حجاج استنتاجي لكنه غير صارم فهو يمثل ضربا من العلاقة بين الواقع والمنطق وقد أشار إليه دكلارك في : " فن الحجاج "، وابن رشد : " تلخيص الخطابة ".ويظهر في الشعر العربي القديم في مواضع كثيرة منها قول الخنساء :
قد كان حصنا شديد الركن ممتنعا ليثا إذا نزل الفتيان أو ركبوا
اعتمدا على الموضع القائل : " ما كان أنفع في أكثر الأوقات فهو آثر من النافع في وقت ما " فالشاعرة تمجد الفقيد فتسمه بالقوة والبأس وتحتج لمكانته بجعل شجاعته مطلقة ثابتة في الركوب والنزول .ويقول العباس بن مرداس :
هم سودوا هجنا وكل قبيلة يبين عن أحسابها من يسودها
فالشاعر ينفي عن قبيلته الحسب والمجد وحجته أنهم اتخذوا من الهجن أسيادا وعند المفاضلة مع القبائل الأخرى صارت كل قبيلة سادنها أهل حسب ومجد آثر من هذه القبيلة.
وقد يشمل المشترك المثال والحكم والأساطير والحكايات الشعبية ولعل أكثرها شيوعا هو المثل ، وطاقة المثل الحجاجية تقوم على القياس : قياس حالة حاضرة على أخرى مشابهة يعرفها الجميع وهي قائمة على علاقة الإيهام ومنها قول مسكين الدارمي :
وإذا الفاحش لاقى فاحشاً فهناكم وافق الشن الطبق
إِنَّما الفحش ومن يعتاده كَغُراب السوء ما شاء نعق
فالشاعر يذهب الى أن الفاحش متى وجد الفحش في مكان ارتاده فأطال المكوث فاستدعى المثل الذي يضرب في التوافق وهو : " وافق شن طبقة" وهو يستمد طاقته من ميل الإنسان للتقليد.
ويستلهم الأعشى في توظيف الرمز الأسطوري " منشم وعطرها المشؤوم" :
أَراني وَعَمرواً بَينَنا دَقُّ مَنشِمٍ فَلَم يَبقَ إِلّا أَن أُجَنَّ وَيَكلَبا
كِلانا يُرائي أَنَّهُ غَيرُ ظالِمٍ فَأَعزَبتُ حِلمي أَو هُوَ اليَومَ أَعزَبا
وَمَن يُطِعِ الواشينَ لا يَترُكوا لَهُ صَديقاً وَإِن كانَ الحَبيبَ المُقَرَّبا
فوظف الشاعر رمزا أسطوريا للتعبير عن العداوة الحادة بينه وبين عمرو وإشارة لطيفة الى تأزم الأوضاع بفعل مناخ الشر السائد فيكون المصير واحد.
الخاتمة:
تنتهي في الخاتمة إقرار فحواه تعدد الحجج وتنوعها ، وتعيد الإشارة الى ما تم تناوله من حجج وأنواعها ، وتخلص الى نتائج أهمها :
- وفرة الحجاج وتنوعه في الشعر العربي القديم.
- أن بينة الحجاج تميل إلى التستر والخفاء.
- تفاوت الحجاج من حيث القوة .
- أنه لا يوجد البتة برهان معصوم من الخطأ أو حجة بعيدة عن الزلل.
- لا يمكن الحديث دائما عن حجاج ماكر مخادع أو صادق نزيه و إنما تظل القضية نسبية .
- أن الشيء الذي ينقذ الحجاج والبلاغة من الإيغال والسفسطة أن المحتج لا يكون أبدا وحيدا فما هو إلا طرف في حوار يقتضي وجود أطراف أخرى.
الباب الثالث :العلاقات الحجاجية وقد احتوى على تقديم وأهم العلاقات الحجاجية ثم بنية القصيدة ومن ثم خاتمة.
التقديم : وفي إشارة الى مجموعة من العناصر منها النظر الى العلاقات الحجاجية بين الحجج والبراهين من جهة والنتائج التي يهدف إليها من جهة ثانية ، فالخطاب الحجاجي عبارة عن شبكة معقدة من العلاقات غير العادية ، ونجد الخطاب كذلك غير أن الخطاب الحجاجي علاقات مخصوصة، وهذا نظرا للاشتراك في المنطلق وهو اللغة التي تقوم على شبكة مهمة من العلاقات فالجملة يمكن اعتبارها تواصلا على مستوى المعنى للخطاب.
واعتبار الخطاب نظاما دعاها الى الخوض في عالم الخطاب والمعنى السياقي ، فترى أنه هناك ثلاث وظائف حسب ج .ب.قريز : تخطيطية ، تبريرية ، تنظيمية.وترى اهتمامها في هذا الباب سيكون حول العلاقات التي بين قضايا الخطاب 0
ثم أشارت الى التمييز بين الروابط الحجاجية والعلاقات الحجاجية ، فترى أن الروابط هي جملة الأدوات التي توفرها اللغة للربط بين مفاصل الكلام وأجزائه فتأسس عندها العلاقة الحجاجية فيستعمل مثلا " بيد أن " ليؤسس علاقة حجاجية هي التناقض.
ثم تناولت أهمية الموضع الذي تحتله العلاقة الحجاجية في تحديد وظيفتها ، فيجب ترتيب الأفكار وتنسيق الحجج على نحو يجعلها تقود الى الغاية المنشودة مما يعني ترتيب العالم والربط بين أشيائه ، مما قادها إلى الحديث على قضية البنية في القصيدة التقليدية وقضية الغرضية ولأنها ترى أن ما قيل في بنية القصيدة ليس كاف ، فأرادت أن تبحث وتدرس العلاقات الحجاجية بين الأبيات داخل القصيدة الواحدة مهتمة بوضعية البيت والمصراع بل الكلمة المفردة بهدف الوصول إلى رأي في قضية البنية و الغرضية.
1/ العلاقات الحجاجية : لعل أهمها :
1/ علاقة التتابع : الاستدلال في عمومه يسمح بالربط بين فرضيات وقضايا متعددة بل هو عملية تسمح بالجمع بين الحديث و مستتبعاته ، أو الفعل ونتائجه ، أو السابق ولواحقه .فهي تجمع التطور المطرد والتناغم البين وفي العلاقة التتابعية يمكن أن نحتج بتقرير تتابع مستمر في الأحداث على مستويين :
- الأحداث : وتدخل بذلك في الحجج المؤسسة على بنية الواقع أو المؤسسة لبنية الواقع .
- القضايا والأفكار : وتدخل في الحجج شبه المنطقية.
ومنها قول المنخل اليشكري:
ولقد دخلت على الفتا ة الخدر في اليوم المطير
الكاعب الحسناء تر فل في الدمقس وفي الحرير
فدفعتها فتدافعت مشي القطاة إلى الغدير
ولثمتها فتنفست كتنفس الظبي البهير
فدنت وقالت يا من خل ما بجسمك من حرور
ما شف جسمي غير حـ بك فاهدئي عني سيري
كما نلاحظ فالشاعر يبني حجته على الأحداث و مستتبعاتها يجعلها تؤسس وحدة الأبيات وتؤكدها ، فيؤطر أول الأحداث بدخول الخدر في اليوم المطير ثم يحدد الشخصيات وهي الشاعر والحبيبة ثم يورد مستتبعاته من دفع وتدافع ، ولثم وتنفس ، ودنو و حوار وكلها تؤكد شدة الحب المتقدة في القلوب ، واستعان بالروابط : الواو والفاء.
وقد يلجأ الشاعر إلى العلاقة التتابعية على مستوى الأفكار والمواقف والأحكام فتنشأ وحدة خفية وفيها قول المثقب العبدي :
لا تَقولَنَّ إِذا ما لَم تُرِد أَن تُتِمَّ الوَعدَ في شَيءٍ نَعَم
حَسَنٌ قَولُ نَعَم مِن بَعدِ لا وَقَبيحٌ قَولُ لا بَعدَ نَعَم
فَإِذا قُلتَ نَعَم فَاِصبِر لَها بِنَجاحِ الوَعدِ إِنَّ الخُلفَ ذَم
وَاِعلَمَ أَنَّ الذَمَّ نَقصٌ لِلفَتى وَمَتى لا يَتَّقِ الذَمَّ يُذَم
أُكرِمُ الجارَ وَأَرعى حَقَّهُ إِنَّ عِرفانَ الفَتى الحقَّ كَرَم
والشاعر هنا يحتج بحجة السلطة وهي ما خبره من صروف الدهر : غير أن الشيء الذي يجب الإشارة إليه هو تنامي الأفكار من النهي عن الوعد الكاذب إلى تجنب الندم إلى اتقاء الذم.
2/ العلاقة السببية : وهي ضرب من العلاقات التتابعية يجعل فيه الشاعر بعض الأحداث أسبابا لأحداث أخرى ، ويسم فعلا أنه نتيجة متوقعة لفعل سابق ويجعل موقفا معينا سببا لآخر ،والعلاقة السببية هي علاقة شبه منطقية وفيها قول قيس بن الملوح :
رَضيتُ بِقَتلي في هَواها لِأَنَّني أَرى حُبَّها حَتماً وَطاعَتَها فَرضا
إِذا ذُكِرَت لَيلى أُهيمُ لِذِكرِها وَكانَت مُنى نَفسي وَكُنتُ لَها أَرضى
وفي الصفحات الموالية تحدثت عن غياب الروابط أو حضورها أو دقة الأسباب وخفائها أو تقديم علة أو سبب عن فعله أو نتيجة وهكذا.
3/ علاقة الاقتضاء : وهي علاقة تصل الحجة بالنتيجة المرصودة لذلك الخطاب بحيث تجعل الحجة تقتضي النتيجة والعكس وهذا ما ينتج تلازما بينهما ، وأكثر الأدوات التي تستدعي الاقتضاء أدوات الشرط وهي نابعة في الشرط من الشكل والمضمون والتلازم بين الشرط وجوابه. وفيها قول طرفة بن العبد :
إِذا كُنتَ في حاجَةٍ مُرسِلاً فَأَرسِل حَكيماً وَلا توصِهِ
وَإِن ناصِحٌ مِنكَ يَوماً دَنا فَلا تَنأَ عَنهُ وَلا تُقصِهِ
وَإِن بابُ أَمرٍ عَلَيكَ اِلتَوى فَشاوِر لَبيباً وَلا تَعصِهِ
فالشاعر يعقد علاقة اقتضاء بين أسباب ثلاثة ونتائج ثلاثة وهي الحاجة الملحة رسول ونتيجتها إرسال حكيم لا يحتاج إلى وصاية وثانيها مبادرة الناصح بنصحه ونتيجتها الإقبال عليه والاستماع لنصحه والثالثة إشكال الأمر واستعصاؤه والنتيجة طلب المشورة وكلها مجتمعة كحجة على نتيجة الكلام.
وقد تربط بين الحجة والنتيجة في غير التركيب الشرطي كقول عبيد بن الأبرص :
فَكُلُّ ذي نِعمَةٍ مَخلوسٌ وَكُلُّ ذي أَمَلٍ مَكذوبُ
وَكُلُّ ذي إِبِلٍ مَوروثٌ وَكُلُّ ذي سَلَبٍ مَسلوبُ
وَكُلُّ ذي غَيبَةٍ يَؤوبُ وَغائِبُ المَوتِ لا يَؤوبُ
فقد أدرك الشاعر أن لا شيء يدوم وقد ارتبطت الحجج المقدمة ارتباط اقتضاء مع نتائجها.
4/ علاقة الاستنتاج : وهي علاقة منطقية تعبر عن فن الانتقال من فكرة إلى فكرة أخرى بشكل منظم وميسر ويرمز لها ب :
أ إذن ب
ومنها قول امرؤ القيس :
أَلا عِم صَباحاً أَيُّها الطَلَلُ البالي وَهَل يَعِمَن مَن كانَ في العُصُرِ الخالي
وَهَل يَعِمَن إِلّا سَعيدٌ مُخَلَّدٌ قَليلُ الهُمومِ ما يَبيتُ بِأَوجالِ
وَهَل يَعِمَن مَن كانَ أَحدَثُ عَهدِهِ ثَلاثينَ شَهراً في ثَلاثَةِ أَحوالِ
فالشاعر يضمن في ثنايا تحيته للطلل تشكيك في جدوى هذا الدعاء وهذا بسبب الاستفهامات المتلاحقة التي تقود إلى عبثية مقارعة الزمن واستحضار الماضي واستعادة أحداثه.
ثم تشير إلى أن العلاقة الاستنتاجية لا يمكن أن تنحصر في التركيب المشار إليه إذ يمكن التعبير عنها ب ـ : إذا " أ" ف "ب" أو " ب" باعتبار "أ" أو "ب" فعلا "أ".أوردت ما ذهب إليه ديكرو من أن : إذا" أ" فــ"ب" تفترض وجود رابط تضميني وهي يجب أن يتواتر استعماله لتوضيح هذا الرابط بينما الأشكال الأخرى تبنى على التبرير ولا تظهر بمظهر من يريد إعلانها .فمن الصنف الأول قول زهير:
أَخي ثِقَةٍ لا تُتلِفُ الخَمرُ مالَهُ وَلَكِنَّهُ قَد يُهلِكُ المالَ نائِلُه
تَراهُ إِذا ما جِئتَهُ مُتَهَلِّلاً كَأَنَّكَ تُعطيهِ الَّذي أَنتَ سائِلُه
فالشاعر يصف ممدوحه بالعفة لقلة إمعانه في اللذات وبالسخاء لإهلاكه ماله في النوال فالعلاقة تضمينية.ومن الصنف الثاني قول عباس بن مرداس :
وَأَوعِد وَقُل ما شِئتَ إِنَّكَ جاهِلٌ عَلى إِنَّما أَنتَ اِمرُؤٌ مِن بَني نَضرِ
فالشاعر يهجو أحدهم بأنه كائن تافه جدير بالهجاء باعتباره جاهلا لا يفقه ما يقول ولا يقدر عواقب الكلم وكذلك باعتباره مضريا تنتظر منه المعايب.
5/ علاقة التناقض أو عدم الاتفاق : وهي علاقة ذات خلفية منطقية إذ ندفع أمرا بإثبات تناقضه مع نتيجة الخطاب وهنا لا نتحدث عن بنية الحجاج وإنما عن علاقة الحجج فيما بينها : ومنها قول عنترة :
أَلا يا عَبلَ ضَيَّعتِ العُهودا وَأَمسى حَبلُكِ الماضي صُدودا
وَما زالَ الشَبابُ وَلا اِكتَهَلنا وَلا أَبلى الزَمانُ لَنا جَديدا
وَما زالَت صَوارِمُنا حِداداً تَقُدُّ بِها أَنامِلُنا الحَديدا
سَلي عَنّا الفَزارِيِّينَ لَمّا شَفَينا مِن فَوارِسِها الكُبودا
وَخَلَّينا نِسائَهُمُ حَيارى قُبَيلَ الصُبحِ يَلطِمنَ الخُدودا
مَلَأنا سائِرَ الأَقطارِ خَوفاً فَأَضحى العالَمونَ لَنا عَبيدا
وَجاوَزنا الثُرَيّا في عُلاها وَلَم نَترُك لِقاصِدِنا وُفودا
فالشاعر يعاني من ظلم الحبيبة وتجنيها وعدم الاتفاق جلي فالشاعر ما زال شابا لم يأت عليه الزمان وفارسا مقداما ورفيع المكانة مع ذلك تصده.
• ثم تنتقل إلى الحديث عن الروابط الحجاجية : لكن وبل وحتى ، وهي جميعا تشترك في إثبات القطع مع سابقها أو نفيه وإثباته لما لحقها أو تأكيده ، فهي توحي بالخلاف وتحيل على حجة عدم الاتفاق مع فروق جزئية أشارت إليها كالتالي:
- لكن : متى توسطت دليلين باعتبارها رابطا حجاجيا جعلت ما بعدها أقوى مما قبلها فتكون للاحق الغلبة المطلقة فتكون النتيجة بعد الدليل الثاني هي مبتغى القول.منها قول عبد الله بن العباس :
وليس الذي يجري من العين ماءها ولكنها روح تذوب فتقطر
نلاحظ أن لكن ربطت بين صدر البيت وعجزه وهذا الرابط ليس نحويا بل حجاجيا فنجد أن الدموع ليست ماء يجري من العين وإنما هي الروح وليس بعد ذلك تفجعا.
- بل : لا يختلف الرابط الحجاجي بل عن لكن من حيث أنه يتوسط دليلين أو يربط بينهما فيقول جرير :
قال العواذل قد جهلت بحبها بل من يلوم على هواك جهول
فالشاعر يثبت الحكم الوارد بعد بل ، فهو يرى الجهل كل الجهل في لوم المحب على حبه بعد ادعاء العواذل أن الحب قد قاده إلى الجهل .وهنا يبرز فرق واضح وهو أن لكن يفاضل بين دليلين يخدمان النتيجة نفسها بينما بل تنفي الأول وتقصيه.
- حتى : والسياق نفسه يحكم اعتماد الرابط حتى ونقصد بها حتى التي بمعنى :meme أي نفس " رغم " وليست حتى التعليلية أو انتهاء الغاية فعبارة من نوع : أ ب
أ+ب ج
فهي تفيد الجمع بين حجتين " أ و ب " أو ثلاثة " أ و ب و ج " تخدم مجتمعة نتيجة ما وتعتمد شروطا ثلاثة :
- ما يسبق حتى يشكل حجة لفائدة نتيجة معينة .
- ما يسبق حتى وما يليها يشتركان في الوجهة الحجاجية.
- أن يمثل ما يليها إضافة من حيث الطاقة الحجاجية دون أن يكون هو الأقوى مما يسمح بإمكانية تغيير مكان الدليلين.
فيقول جرير :
وَما زالَتِ القَتلى تَمورُ دِماؤُها بِدِجلَةَ حَتّى ماءَ دِجلَةَ أَشكَلُ
لَنا الفَضلُ في الدُنيا وَأَنفُكَ راغِمٌ وَنَحنُ لَكُم يَومَ القِيامَةِ أَفضَلُ
فالشاعر يحتج لفروسية قومه وشدة باسهم فيذكر كثرة القتلى في الأعداء كحجة أولى ثم يعطف بحتى ويأتي بحجة أخرى هي تغير مياه دجلة لكثرة دماء القتلى.وقد ذكرت الكاتبة السلم الحجاجي لهذين البيتين أوردت أمثلة كثيرة يمكن الرجوع غليها .
- حتى إذا : وتشير أخيرا إلى رابط وهو: أ حتى إذا ب وهو بمعنى " وإن " وفيها قول جميل بن معمر :
وَماذا عَسى الواشونَ أَن يَتَحَدَّثوا سِوى أَن يَقولوا إِنَّني لَكِ عاشِقُ
نَعَم صَدَقَ الواشونَ أَنتِ كَريمَةٌ عَلَيَّ وَإِن لَم تَصفُ مِنكِ الخَلائِقُ
فالشاعر يقر بسوء طباع بثينة وقسوتها عليه ويجعلها دليل ممكن لإعراضه وعزمه على هجرها ولكنه دليل ضعيف يرفضه وبالتالي يرفض النتيجة ضمنيا ويثبت ضمنيا النتيجة المناقضة.
2/ بينة القصيدة : بعد الوقوف على أهم العلاقات الحجاجية وأهم الروابط فيها تحدثت عن بنية القصيدة ككل باعتبارها نصا حجاجيا يفترض فيه الترابط والتناسق على نحو يلفت الانتباه ويحمل على الاقناع وقد يبدو ذلك سهلا واضحا بينا إذا ما تعلق بخطبة أو نص نثري فإنا يصعب في الشعر خاصة القصيدة القديمة.
ثم تشير إلى رؤية تقليدية حملها النقاد القدامى في بنية القصيدة ثم رؤية المحدثين وهي على فريقين وأشارت إلى نظرة المتأخرين جدا وهي الدراسات العربية والدراسات الأنجلوسكسونية.
ثم بدأت في تحليل بعض القصائد للوصول إلى بنيتها الحجاجية قد يضيق المقام بذكرها وهي :
1- تحليل يائية علقمة الفحل .
2- تحليل ميمية تميم بن مقبل
3- تحليل نونية كعب بن مالك الأنصاري
4- تحليل قصيدة لجرير
5- تحليل عينية عمرو بن أبي ربيعة
6- تحليل عينية مروان بن أبي حفصة.
الخاتمة : وقد أشارت إلى ما تم تناوله في هذا الباب وهو : العلاقات الحجاجية والروابط ، وبنية القصيدة وما يحيط بها من غموض ، وضرورة الإلمام بالشعر العربي القديم وقوانين البلاغة ومذاهب الشعراء القدامى.
الخاتمة العامة للكتاب : وقد ضمت النتائج والهداف التالية :
- ثراء بنية الحجاج في الشعر العربي القديم .
- انفتاح الحجاج وعنايته بأكثر من متلق.
- بنية القصيدة القديمة.أهمية الضمني وخطورة المسكوت عنه من الكلام.
- أغراض الشعر القديم وحضور الأنا في القصيدة .
- في الصلة بين الاقناع والجمال.
- في صناعة الشعر.
وفي الأخير جاءت فهارس الكتاب كالتالي :
- فهارس الأشعار.
- فهارس المفاهيم.
- فهارس العلام .
- فهارس المصادر والمراجع والدوريات.
خاتمة : والآن جاء دورنا لنقول كلمة حول الكتاب لا ترقى الى مستوى النقد إنما هي أشياء أثارت انتباهنا لا تتعدى كونها ملاحظات:
- الحقيقة أن الكتاب مفيد إلى درجة كبيرة في التعرف على الحجاج خاصة عند المبتدئين فهو أرضية يمكن الانطلاق منها للتأصيل لبنية وعلاقات وروابط حجاجية عربية ، والتعرف إلى ما وصل إليه الغرب في هذا المجال .كما أرادت أن توظف الحجاج في الكشف عن بنية النص القديم و الغرضية فيه.
- والإنسان بطبعه ميال إلى تسجيل الزلات و المعايب أكثر من المحاسن فإننا لاحظنا ما يلي :
• الإطناب الكبير في الكتاب إذ القارئ في بعض المواضع يشعر أن الكاتبة في غنى عن الاسترسال في الشرح والتوضيح، إضافة إلى التكرار الوارد في الأفكار.
• اعتمدت الكاتبة على الإسقاط بين الحجج الغربية والشعر العربي القديم ، والسعي إلى الجزئيات .فتجد نفسها تلوي أعناق النصوص للنظرية الغربية.
• الانتقاء الذي وقعت فيه الكاتبة فأقصت واعتمدت مدونة خاصة وهي الشعر الغزلي .
• نسبة أبيات إلى غير أهلها .
• هناك جانب تنظيمي غير مراعى في الكتاب خاصة التبويب إذ نجد الإشارة إلى حجج غير مذكورة في العناوين ، كما نجدها تسهب أحيانا في الشرح ، وتخل أحيانا أخرى.
ومن أراد الاستفادة فعليه العودة إلى كتاب " الحجاج في الشعر العربي القديم من الجاهلية إلى القرن الثاني الهجري بنيته وأساليبه " للأستاذة الدكتورة سامية الدريدي.
المرجع :
-د/ سامية دريدي - الحجاج في الشعر العربي القديم من الجاهلية إلى القرن الثاني الهجري : بنيته وأساليبه ط1 - عن دار الكتب الحديثة - تونس 2008.