بسم الله الرحمن الرحيم
مفهوم التداولية
إن أقرب حقل معرفي إلى "التداولية" La pragmatique في منظورنا هو "اللسانيات". وإذا كان الأمر كذلك فإنه من المشروع البحث في صلة هذا العلم التواصلي الجديد باللسانيات وبغير اللسانيات من الحقول المعرفية الأخرى التي يشترك معها في بعض الأسس المعرفية ،نظرية كانت أم إجرائية، وذلك قبل وضع تعريف للتداولية أو تحديد مفهومها. . ومن ثم نرى أنه من الواجب التساؤل عن المعيار الذي يكون أساسا في تحديد مفهوم "التداولية". فعلى أي معيار نحدد هذا المفهوم؟ هل نحدد بناءً على معيار البنية اللغوية وحدها ؟ إن هذا الصنيع يجعلها مساوية للسانيات البنيوية فلا يكون هناك أي فرق بينهما ،وليس هذا ما تقوله البحوث التداولية ! هل نحدده على معيار الاستعمال اللغوية وحده ؟ إن تحديده على هذا الضابط فيه إقرار بأن لا صلة تذكر بينه وبين البنية اللغوية ،وهو ما يُخالف أيضا النتائج التي انتهت إليها آخر الأبحاث التداولية .هل نحدده بناء على تعالق البنية اللغوية بمجال استعمالها ؟ إن هذا الصنيع يبدو مبررا ولكنه – إذا ذكر من دون تفصيل – قد يُغفل بعض الصِّلات الرابطة بين العلوم المتشابكة والمتكاملة مفاهيميا، خاصة مجالات: الفلسفة والتداوليات اللغوية وعلم النفس المعرفي وعلوم الاتصال . فالتداولية ليست علما لغويا محضا، بالمعنى التقليدي ،علما يكتفي بوصف وتفسير البنى اللغوية ويتوقف عند حدودها وأشكالها الظاهرة ،ولكنها علم جديد للتواصل يدرس الظواهر اللغوية في مجال الاستعمال؛ ويدمج، من ثمَّ، مشاريع معرفية متعددة في دراسة ظاهرة "التواصل اللغوي وتفسيره". وعليه، فإن الحديث عن "التداولية" وعن "شبكتها المفاهيمية" يقتضي الإشارة إلى العلاقات القائمة بينها وبين الحقول المختلفة لأنها تشي بانتمائها إلى حقول مفاهيمية تضم مستويات متداخلة، كالبنية اللغوية ،وقواعد التخاطب، والاستدلالات التداولية، والعمليات الذهنية المتحكمة في الإنتاج والفهم اللغويين، وعلاقة البنية اللغوية بظروف الاستعمال ...إلخ . فنحن نرى أن التداولية تمثل حلقة وصل هامة بين حقول معرفية عديدة، منها : الفلسفة التحليلية، ممثلة في فلسفة اللغة العادية، ومنها علم النفس المعرفي ممثلا في "نظرية الملاءمة" Théorie de pertinence على الخصوص ، ومنها علوم التواصل ، ومنها اللسانيات بطبيعة الحال . وعلى الرغم من اختلاف وجهات النظر بين الدارسين حول "التداولية" وتساؤلاتهم عن القيمة العلمية للبحوث التداولية وتشكيكهم في جدواها ... فإن معظمهم يقر بأن قضية التداولية هي "إيجاد" القوانين الكلية للاستعمال اللغوي، والتعرف على القدرات الإنسانية للتواصل اللغوي ، وتصير "التداولية" ، من ثم جديرة بأن تسمى: "علم الاستعمال اللغوي" .
****في مصادر الدرس التداولي المعاصر
ليس للدرس التداولي المعاصر مصدر واحد انبثق منه، ولكن تنوعت مصادر استمداده إذ لكل مفهوم من مفاهيمه الكبرى حقل معرفي انبثق منه .ف«الأفعال الكلامية» ،مثلا، مفهوم تداولي منبثق من مناخ فلسفي عام هو تيار "الفلسفة التحليلية" بما احتوته من مناهج وتيارات وقضايا ،وكذلك مفهوم« نظرية المحادثة» الذي انبثق من فلسفة بول غرايس Grice ،وأما «نظرية الملاءمة» فقد ولدت من رحم علم النفس المعرفي، وهكذا ...
مهام التداولية :
تتلخص مهام التداولية في :
- دراسة "استعمال اللغة" التي لا تدرس "البنية اللغوية" ذاتها، ولكن تدرس اللغة عند استعمالها في الطبقات المقامية المختلفة ،أي باعتبارها "كلاما محددا" صادرا من "متكلم محدد" وموجَّها إلى "مخاطب محدد" ب"لفظ محدد" في "مقام تواصلي محدد" لتحقيق "غرض تواصلي محدد" .
- شرح كيفية جريان العمليات الاستدلالية في معالجة الملفوظات .
- بيان أسباب أفضلية التواصل غير المباشر وغير الحرفي على التواصل الحرفي المباشر .
- شرح أسباب فشل المعالجة اللسانية البنيوية الصرف في معاجلة الملفوظات .
وعليه فإن بعض الدارسين يعولون على التداولية في تحقيق مجموعة من الرهانات تعبر عنها الأسئلة التالية :
- كيف نصف الاستدلالات في عملية التواصل ،علما بأن الاستدلالات التداولية غير مُعقلنة ، وربما كانت غير مُقنِعة في كثير من الأحيان؟
- ما هو نموذج التواصل الأمثل؟ (أهو الترميز أم الاستدلال؟)
- ما هي العلاقة بين الأنشطة الإنسانية الآتية : اللغة والتواصل والإدراك؟ وما هي العلاقة بين الفروع المعرفية المشتغلة بهذه الأنشطة ( أي علم اللغة وعلم التواص وعلم النفس المعرفي)؟
****تصورات خاطئة عن التداولية :
بالنظر إلى ما شاع من تصورات خاطئة عن هذا المنهج الجديد، فإننا نوضح أن التداولية ليست أي شيء مما يلي :
1- إنها ليست سلة ًلمهملات اللسانيات ،بحيث تعتبر كل ظاهرة عجزت اللسانيات عن حلها مجالا للبحث التداولي، وهذا يقتضي أن الظواهر التي تدرسها التداولية ليست مهملة ولا متروكة بالضرورة . ومن ثمَّ فهي تقوم بإزالة الغموض عن عناصر التواصل اللغوي، وشرح طرق الاستدلال ومعالجة الملفوظات . وهذه القضايا ليست من اهتمامات اللسانيات الصريحة، بل هي تشبه أن تكون مرحلة وسيطة بين المعارف اللغوية والمعارف الموسوعية . والتداولية تُستمد من رافدين :الرافد المعرفي كما تقدمه بعض المباحث في علم النفس المعرفي: الاستدلالات، الاعتقادات، والنوايا. والرافد التواصلي: أغراض المتكلمين واهتماماتهم، ورغباتهم .
2 – وليست مكوِّنا من مكونات اللسانيات البنيوية ،لأن التداولية ليست هي المرحلة الأخيرة للتحليل اللساني .
3 – وليست نظرية ًللخطاب بصورة تعتبر التداولية نظرية لتحليل الخطاب ،كما أن اللسانيات نظرية للجملة ،فتقابلها أو تكملها. ذلك أن لسانيات الخطاب تقتضي بنية خِطابية وقواعد خِطابية، ومن ثمَّ تكون الجملة منتجا مركبا من القواعد التركيبية واللفظية التي تنشئها، بما يعني نوعا من الانصهار والذوبان .
فما هي أبرز الأنشطة التداولية إذن ؟والجواب: أن نجملها فيما يلي :
- "دراسة استعمال اللغة" عوضا عن "دراسة اللغة ". فاللسانيات ،كما هو معلوم، تتفرغ للدراسة الثانية أي لدراسة المستويات الصوتية والتركيبية وربما الدلالية، فقد تحولت مع البنيويين إلى علم تجريدي مغلق ذي إجراءات داخلية خالصة، يؤمن بكيانية البنية اللغوية في مستواها الصوري المجرد، في حين أن دراسة استعمال اللغة لا تنحصر ضمن الكينونة اللغوية بمعناها البنيوي الضيق ،وإنما تتجاوزها إلى أحوال الاستعمال في الطبقات المقامية المختلفة حسب أغراض المتكلمين وأحوال المخاطبين .
- دراسة الآليات المعرفية (المركزية) التي هي أصل معالجة الملفوظات وفهمها، فالتداولية تقيم روابط بين اللغة والإدراك عن طريق بعض المباحث في علم النفس المعرفي .
- دراسة الوجوه الاستدلالية للتواصل الشفوي، فتقيم، من ثمَّ، روابط وشيجة بين علمَيْ اللغة والتواصل .
****بين اللسانيات البنيوية والتداولية .
توصف اللسانيات البنيوية بوصف "الشكلانية والصورية" أي البعد عن "الأحداث الكلامية الحقيقية في الواقع المجسد" مما جعل جهازها الواصف مفتقرا إلى التعيين والإحالة، لافتقادها للقواعد الإحالية التفسيرية ،فالملفوظ كالآتي :«لقَدْ زادُوْا فِي قِيمَة الضَّرَائِب» ملفوظ لا تقدم اللسانيات البنيوية فيه أي قاعدة تفسر الضمير الذي أسند إليه الفعل "زاد" وتعين المرجعَ الذي يحال عليه في الواقع الخارجي عن اللغة، إذا ما استثنينا بعض التوجيهات اللسانية الوظيفية التي ظهرت في السنوات الأخيرة ك "نظرية النحو الوظيفي" ليسمون ديكSimon Dick مثلا ، ولكن نظريته ليست نظرية بنيوية، بل إن تأثرها بالتداولية أشد.
أما في التداولية فتوجد آلية (أو عدة آليات) لتفسير هذا الضمير وتعيين المرجع في الواقع الخارجي؛ وهذا ما يعزو للتداولية بعض المميزات عن اللسانيات البنيوية: كالاتصال المباشر، ومباشرة العالم الخارجي. ومن القواعد العامة التي يمدنا بها العالم الخارجي أن ليس لأحد الحق في زيادة الضرائب إلا السلطات المخولة بذلك . وتتأسس الاستدلالات التداولية على أعراف اجتماعية ،ولذلك قد تكون نسبية، فمثلا في الملفوظين الآتيين:
- "هل تريدُ فنجَانا مِن القهْوَةِ ؟"
- "إنها تحول بينِي وبين النوم "
كيف عرف السائل أن محاوره يرفض القهوة؟ وكيف عرف المجيب أن القهوة تحول بينه وبين النوم؟ وكيف تم الاتفاق والتواطؤ بينهما من جهة وبين أفراد المجتمع من جهة أخرى على ذلك ؟إنهما يعالجان تلك الملفوظات باستدلالات و معلومات مستقاة من معارف مستمدة من الواقع الخارجي، وبتواضع من أفراد المجموعات اللغوية المتواطئة على ذلك .
- - بتصرف - -
من كتاب «التداولية عند العلماء العرب، دراسة تداولية لظاهرة "الأفعال الكلامية" في التراث اللساني العربي» للدكتور مسعود صحراوي، دار الطليعة للطباعة والنشر ، بيروت، الطبعة الأولى 2005 . ص: 15-30
مع تحيات الطالبة اسماء موسى
_________________
قال الطغرائي :
حُبُّ السَّلامة يُثنِي عَزمَ صاحِبهِ ٭٭٭٭ عن المَعالِي ويُغري المَرْءَ بالكسلِ
فإن جَنحْت إليه فاتخذ نفقا ٭٭٭٭ في الأرض أو سُلّما في الجَوِّ فاعْتزلِ
مفهوم التداولية
إن أقرب حقل معرفي إلى "التداولية" La pragmatique في منظورنا هو "اللسانيات". وإذا كان الأمر كذلك فإنه من المشروع البحث في صلة هذا العلم التواصلي الجديد باللسانيات وبغير اللسانيات من الحقول المعرفية الأخرى التي يشترك معها في بعض الأسس المعرفية ،نظرية كانت أم إجرائية، وذلك قبل وضع تعريف للتداولية أو تحديد مفهومها. . ومن ثم نرى أنه من الواجب التساؤل عن المعيار الذي يكون أساسا في تحديد مفهوم "التداولية". فعلى أي معيار نحدد هذا المفهوم؟ هل نحدد بناءً على معيار البنية اللغوية وحدها ؟ إن هذا الصنيع يجعلها مساوية للسانيات البنيوية فلا يكون هناك أي فرق بينهما ،وليس هذا ما تقوله البحوث التداولية ! هل نحدده على معيار الاستعمال اللغوية وحده ؟ إن تحديده على هذا الضابط فيه إقرار بأن لا صلة تذكر بينه وبين البنية اللغوية ،وهو ما يُخالف أيضا النتائج التي انتهت إليها آخر الأبحاث التداولية .هل نحدده بناء على تعالق البنية اللغوية بمجال استعمالها ؟ إن هذا الصنيع يبدو مبررا ولكنه – إذا ذكر من دون تفصيل – قد يُغفل بعض الصِّلات الرابطة بين العلوم المتشابكة والمتكاملة مفاهيميا، خاصة مجالات: الفلسفة والتداوليات اللغوية وعلم النفس المعرفي وعلوم الاتصال . فالتداولية ليست علما لغويا محضا، بالمعنى التقليدي ،علما يكتفي بوصف وتفسير البنى اللغوية ويتوقف عند حدودها وأشكالها الظاهرة ،ولكنها علم جديد للتواصل يدرس الظواهر اللغوية في مجال الاستعمال؛ ويدمج، من ثمَّ، مشاريع معرفية متعددة في دراسة ظاهرة "التواصل اللغوي وتفسيره". وعليه، فإن الحديث عن "التداولية" وعن "شبكتها المفاهيمية" يقتضي الإشارة إلى العلاقات القائمة بينها وبين الحقول المختلفة لأنها تشي بانتمائها إلى حقول مفاهيمية تضم مستويات متداخلة، كالبنية اللغوية ،وقواعد التخاطب، والاستدلالات التداولية، والعمليات الذهنية المتحكمة في الإنتاج والفهم اللغويين، وعلاقة البنية اللغوية بظروف الاستعمال ...إلخ . فنحن نرى أن التداولية تمثل حلقة وصل هامة بين حقول معرفية عديدة، منها : الفلسفة التحليلية، ممثلة في فلسفة اللغة العادية، ومنها علم النفس المعرفي ممثلا في "نظرية الملاءمة" Théorie de pertinence على الخصوص ، ومنها علوم التواصل ، ومنها اللسانيات بطبيعة الحال . وعلى الرغم من اختلاف وجهات النظر بين الدارسين حول "التداولية" وتساؤلاتهم عن القيمة العلمية للبحوث التداولية وتشكيكهم في جدواها ... فإن معظمهم يقر بأن قضية التداولية هي "إيجاد" القوانين الكلية للاستعمال اللغوي، والتعرف على القدرات الإنسانية للتواصل اللغوي ، وتصير "التداولية" ، من ثم جديرة بأن تسمى: "علم الاستعمال اللغوي" .
****في مصادر الدرس التداولي المعاصر
ليس للدرس التداولي المعاصر مصدر واحد انبثق منه، ولكن تنوعت مصادر استمداده إذ لكل مفهوم من مفاهيمه الكبرى حقل معرفي انبثق منه .ف«الأفعال الكلامية» ،مثلا، مفهوم تداولي منبثق من مناخ فلسفي عام هو تيار "الفلسفة التحليلية" بما احتوته من مناهج وتيارات وقضايا ،وكذلك مفهوم« نظرية المحادثة» الذي انبثق من فلسفة بول غرايس Grice ،وأما «نظرية الملاءمة» فقد ولدت من رحم علم النفس المعرفي، وهكذا ...
مهام التداولية :
تتلخص مهام التداولية في :
- دراسة "استعمال اللغة" التي لا تدرس "البنية اللغوية" ذاتها، ولكن تدرس اللغة عند استعمالها في الطبقات المقامية المختلفة ،أي باعتبارها "كلاما محددا" صادرا من "متكلم محدد" وموجَّها إلى "مخاطب محدد" ب"لفظ محدد" في "مقام تواصلي محدد" لتحقيق "غرض تواصلي محدد" .
- شرح كيفية جريان العمليات الاستدلالية في معالجة الملفوظات .
- بيان أسباب أفضلية التواصل غير المباشر وغير الحرفي على التواصل الحرفي المباشر .
- شرح أسباب فشل المعالجة اللسانية البنيوية الصرف في معاجلة الملفوظات .
وعليه فإن بعض الدارسين يعولون على التداولية في تحقيق مجموعة من الرهانات تعبر عنها الأسئلة التالية :
- كيف نصف الاستدلالات في عملية التواصل ،علما بأن الاستدلالات التداولية غير مُعقلنة ، وربما كانت غير مُقنِعة في كثير من الأحيان؟
- ما هو نموذج التواصل الأمثل؟ (أهو الترميز أم الاستدلال؟)
- ما هي العلاقة بين الأنشطة الإنسانية الآتية : اللغة والتواصل والإدراك؟ وما هي العلاقة بين الفروع المعرفية المشتغلة بهذه الأنشطة ( أي علم اللغة وعلم التواص وعلم النفس المعرفي)؟
****تصورات خاطئة عن التداولية :
بالنظر إلى ما شاع من تصورات خاطئة عن هذا المنهج الجديد، فإننا نوضح أن التداولية ليست أي شيء مما يلي :
1- إنها ليست سلة ًلمهملات اللسانيات ،بحيث تعتبر كل ظاهرة عجزت اللسانيات عن حلها مجالا للبحث التداولي، وهذا يقتضي أن الظواهر التي تدرسها التداولية ليست مهملة ولا متروكة بالضرورة . ومن ثمَّ فهي تقوم بإزالة الغموض عن عناصر التواصل اللغوي، وشرح طرق الاستدلال ومعالجة الملفوظات . وهذه القضايا ليست من اهتمامات اللسانيات الصريحة، بل هي تشبه أن تكون مرحلة وسيطة بين المعارف اللغوية والمعارف الموسوعية . والتداولية تُستمد من رافدين :الرافد المعرفي كما تقدمه بعض المباحث في علم النفس المعرفي: الاستدلالات، الاعتقادات، والنوايا. والرافد التواصلي: أغراض المتكلمين واهتماماتهم، ورغباتهم .
2 – وليست مكوِّنا من مكونات اللسانيات البنيوية ،لأن التداولية ليست هي المرحلة الأخيرة للتحليل اللساني .
3 – وليست نظرية ًللخطاب بصورة تعتبر التداولية نظرية لتحليل الخطاب ،كما أن اللسانيات نظرية للجملة ،فتقابلها أو تكملها. ذلك أن لسانيات الخطاب تقتضي بنية خِطابية وقواعد خِطابية، ومن ثمَّ تكون الجملة منتجا مركبا من القواعد التركيبية واللفظية التي تنشئها، بما يعني نوعا من الانصهار والذوبان .
فما هي أبرز الأنشطة التداولية إذن ؟والجواب: أن نجملها فيما يلي :
- "دراسة استعمال اللغة" عوضا عن "دراسة اللغة ". فاللسانيات ،كما هو معلوم، تتفرغ للدراسة الثانية أي لدراسة المستويات الصوتية والتركيبية وربما الدلالية، فقد تحولت مع البنيويين إلى علم تجريدي مغلق ذي إجراءات داخلية خالصة، يؤمن بكيانية البنية اللغوية في مستواها الصوري المجرد، في حين أن دراسة استعمال اللغة لا تنحصر ضمن الكينونة اللغوية بمعناها البنيوي الضيق ،وإنما تتجاوزها إلى أحوال الاستعمال في الطبقات المقامية المختلفة حسب أغراض المتكلمين وأحوال المخاطبين .
- دراسة الآليات المعرفية (المركزية) التي هي أصل معالجة الملفوظات وفهمها، فالتداولية تقيم روابط بين اللغة والإدراك عن طريق بعض المباحث في علم النفس المعرفي .
- دراسة الوجوه الاستدلالية للتواصل الشفوي، فتقيم، من ثمَّ، روابط وشيجة بين علمَيْ اللغة والتواصل .
****بين اللسانيات البنيوية والتداولية .
توصف اللسانيات البنيوية بوصف "الشكلانية والصورية" أي البعد عن "الأحداث الكلامية الحقيقية في الواقع المجسد" مما جعل جهازها الواصف مفتقرا إلى التعيين والإحالة، لافتقادها للقواعد الإحالية التفسيرية ،فالملفوظ كالآتي :«لقَدْ زادُوْا فِي قِيمَة الضَّرَائِب» ملفوظ لا تقدم اللسانيات البنيوية فيه أي قاعدة تفسر الضمير الذي أسند إليه الفعل "زاد" وتعين المرجعَ الذي يحال عليه في الواقع الخارجي عن اللغة، إذا ما استثنينا بعض التوجيهات اللسانية الوظيفية التي ظهرت في السنوات الأخيرة ك "نظرية النحو الوظيفي" ليسمون ديكSimon Dick مثلا ، ولكن نظريته ليست نظرية بنيوية، بل إن تأثرها بالتداولية أشد.
أما في التداولية فتوجد آلية (أو عدة آليات) لتفسير هذا الضمير وتعيين المرجع في الواقع الخارجي؛ وهذا ما يعزو للتداولية بعض المميزات عن اللسانيات البنيوية: كالاتصال المباشر، ومباشرة العالم الخارجي. ومن القواعد العامة التي يمدنا بها العالم الخارجي أن ليس لأحد الحق في زيادة الضرائب إلا السلطات المخولة بذلك . وتتأسس الاستدلالات التداولية على أعراف اجتماعية ،ولذلك قد تكون نسبية، فمثلا في الملفوظين الآتيين:
- "هل تريدُ فنجَانا مِن القهْوَةِ ؟"
- "إنها تحول بينِي وبين النوم "
كيف عرف السائل أن محاوره يرفض القهوة؟ وكيف عرف المجيب أن القهوة تحول بينه وبين النوم؟ وكيف تم الاتفاق والتواطؤ بينهما من جهة وبين أفراد المجتمع من جهة أخرى على ذلك ؟إنهما يعالجان تلك الملفوظات باستدلالات و معلومات مستقاة من معارف مستمدة من الواقع الخارجي، وبتواضع من أفراد المجموعات اللغوية المتواطئة على ذلك .
- - بتصرف - -
من كتاب «التداولية عند العلماء العرب، دراسة تداولية لظاهرة "الأفعال الكلامية" في التراث اللساني العربي» للدكتور مسعود صحراوي، دار الطليعة للطباعة والنشر ، بيروت، الطبعة الأولى 2005 . ص: 15-30
مع تحيات الطالبة اسماء موسى
_________________
قال الطغرائي :
حُبُّ السَّلامة يُثنِي عَزمَ صاحِبهِ ٭٭٭٭ عن المَعالِي ويُغري المَرْءَ بالكسلِ
فإن جَنحْت إليه فاتخذ نفقا ٭٭٭٭ في الأرض أو سُلّما في الجَوِّ فاعْتزلِ