للمساعدة انظر هذا البحث للدكتور دنحاكوركيس.
البرغماتية والفائداتية
البرغماتية والفائداتية
الدكتور دنحا طوبيا كوركيس
استاذ اللغويات
جامعة جدارا للدراسات العليا
إربد/ الأردن
"البرغماتية"، كما وردت في مقدمة إبن خلدون، أو كما يعربها المحدثون إلى "البراغماتية"، أو "برجماتيك"، أو "براغماطيقا"،أو ما شابه ذلك، أو كما تترجمها القواميس إلى "الذرائعيات"، أو "النفعية"، أو "الغائية"، هي كلمة يونانية الأصل، وتعني "العمل" أو "الفعل". وتنسب الموسوعة البريطانية أول استعمال لها إلى المؤرخ الأغريقي بوليبوس (المتوفى سنة 118 ق.م.). أطلق هذه التسمية على كتاباته لتعني آنذاك تعميم "الفائدة" العملية، ولتكون منبرا تعليميا. ومنها اشتقت اللغة لأنجليزية جميع المفردات التي ترتبط بكلمة practice ، وأهمها practical التي من رحمها ولدت ما يسمى بالفلسفة الذرائعية أو البرغماتية pragmatism التي ذاع صيتها في القرن التاسع عشر، وبشكل خاص في أمريكا. ومن هذه الفلسفة تولد مصطلح في القرن العشرين، نختلف عليه اليوم في ترجمته إلى العربية، ألا وهو pragmatics الذي ترجمته قبل عقدين من الزمان إلى "الفائداتية"، ثم وجدته مترجما إلى "التداولية" قبل سنوات، ناهيك عن تعريبه في القواميس بأشكال تتطابق والمصطلح الأول صيغا ومعان.
كتبت هذا المقال قبل إحدى وعشرين سنة بالضبط. وكانت غايتي في حينها هي التفريق بين المصطلحين ترجمة ونهجا أو نهوجا. أنقل إلى القارىء العربي ما كتبت، ومرحبا في عين الوقت بما يردني من نقد أو انتقاد. وقبل هذا وذاك، سأتمسك بترجمة المصطلح الأول إلى "الذرائعية"، كفلسفة، والثاني إلى "الفائداتية"، كمنهج تواصلي يسعى إلى تطوير الحياة البشرية من خلال فهمنا لجميع أدوات التواصل، وأهمها اللغة. وبذلك تكون "التداولية" كترجمة بديلة مختصة بالجانب اللغوي حصرا.
الفلسفة الذرائعية عبارة عن شتات من الأيديولوجيات المتضاربة. لم تكن في يوم من الأيام منهجا فكريا واحدا، ولا حتى في أيامنا هذه. ومن الرواد الذين ذاع صيتهم خلال العقود الثلاث الأخيرة من القرن التاسع عشر في أمريكا نذكر (شارلس بيرس) وصديقه (وليم جيمس)، ويضاف اليهما الفيلسوف التربوي (جون ديوي). لم يأت هذا المثلث الذرائعي عن طريق الصدفة، وإنما كانت هنالك جملة من العوامل أسهمت في تكوينه كحركة فلسفية رائجة.
أولا، تأثر (بيرس) بالتجريبية البريطانية متمثلة في أعمال (جون ستيوارت ميل) و (أليكساندر باين) و (جون فيين)، إضافة إلى (جورج بيركيلي) الذي يشير إليه (بيرس) بأنه أول فيلسوف مهد لظهور الذرائعية. وتأثر (بيرس) أيضا بالفلسفة الألمانية المعاصرة ابتداء من الفيلسوف (كانت)، ومرورا بالمثاليين الرومانسيين، وانتهاء بفلسفة (هيغل). و كان للفلسفة الكانتية، كما للأسكتلندية، تأثيرهما البالغ على (بيرس) في مسألة النظر للحياة ب"عين العقل".
ثانيا، تأثر (وليم جيمس)، الذي يتمتع بخلفية طبية ونفسية، بالتجريبية البريطانية أيضا، وبالطوعية من أمثال (جيمس وورد). كما تأثر بالنسبية الفردية للفيلسوف الفرنسي (شارل رينوفيي)، إضافة إلى تأثره بنظرية (داروين) في التطور. ولسوء طالع (جيمس)، الذي تصفه الموسوعة البريطانية بأنه كان "ديموقراطيا"، يدّعي (موسوليني) بأنه وجد في أفكار (جيمس) "ذلك الأيمان ب(الفعل) والأرادة العزومة من أجل البقاء" لتقوم الفاشية على دعائمها.
ثالثا، تأثر (جون ديوي) بما جاء به الشاعر الرومانسي (كوليريج) من تصحيحات للفكر الكانتي الأصولي، وبالمدرسة الكانتية الجديدة، وكذلك بمثالية (هيغل) التي حاول جاهدا أن يقوّضها سنة 1890، وليتأثر أخيرا بأفكار (وليم جيمس)، ويستفاد لاحقا من (بيرس) في بلورة أفكاره المستقلة.
ويضاف إلى ما سبق، تجربة أمريكا في الأصلاح الأجتماعي خلال القرن التاسع عشر وما رافقها من توسع في الصناعة والتجارة والأقتصاد مما حدا بالأعتقاد الشوفيني السائد آنذاك في فهم الحياة المستقبلية والتعامل معها بشكل مرسوم سلفا إلى التنازل عن العرش الفلسفي لصالح النهج التجريبي من أجل حياة أفضل.
وبناء على ما تقدم، سنضع كل التيارات في ستة محاور، وإن تداخلت أحيانا، وصولا إلى فهم أفضل للذرائعية كفلسفة، والتجريبية كوليد شرعي في المنهج العلمي، والفائداتية كثمرة من ثمارهما، و"التداولية"، إن أجمعنا عليها، كرافد أساسي لها:
1. لقد تجاوبت الذرائعية مع الفلسفة المثالية ومع نظرية التطور لأنها تؤكد، وهنا بيت القصيد، على الطبيعة المرنة للواقع والوظيفة العملية للمعرفة كأداة تطويع لهذا الواقع والتحكم به. فالوجود يرتبط حتما بعلاقة وثيقة مع الفعل مما حدا ببعض الذرائعيين إلى التفكير بالحياة على مستوى الظواهر ما وراء الطبيعة. كما ونظروا إلى التغيير كشرط لابد منه في استمرار الحياة. وعليه، فأن مفكرين من مثل هؤلاء نادوا بالطرق الكفيلة لتطويع التغيير خدمة للفرد والمجتمع. وكنتيجة لمثل هذا النوع من التفكير، أصبح هؤلاء من أكثر المحاججين للتيارات الأخلاقية التي تنظر إلى التغيير والفعل من زاوية عملية وحسب، وعلى مستوى متدن في الهرم القيمي. أما البعض الآخر، فقد اتخذ من الفلسفة الوجودية مخرجا، أي أن الفعل وحده والمعوقات التي تحيط به تجبر الأنسان على الأختيار، وتعطي شكلا للتجربة الأنسانية ليدرك الأنسان بذلك ذاته ويكتشف وجوده.
2. لم تمت الذرائعية. إنها استمرار للتجريبية النقدية في تأكيدها على مفاضلة الخبرة الحقيقية على المبادىء الجامدة (وهذا نقيض الماركسية)، وإعطاء اولوية التفكير إلى البحث الجاد. وهذا يعني، بالنسبة إلى (وليم جيمس)، أن الذرائعية بعيدة عن التجريد واللاكفاية والحلول اللفظية وإعطاء الأسباب المسبقة سيئة الصيت والمبادىء الجامدة والنظم المنغلقة على ذاتها والتي تتظاهر بالأطلاق والأصالة. بل العكس من ذلك، فقد اتجه (جيمس) نحو الحقيقة الشاخصة والكفاية، نحو الفعل الحي في أرض الله الواسعة، مستفيدا من معطيات الطبيعة. هذه الصورة إذن هي عكس الجمود والتصنع والتظاهر بحتمية الوصول إلى الحقيقة.
3. الذرائعية لم تمت. إن المعنى الذي تعطيه لفكرة، أو معتقد، أو مسألة ما، يلازم صنفا واضحا من النتائج التجريبية، او عملية ما، والتي تنجم عن استعمال أو تطبيق المفردات المعبرة عنها. يقول (بيرس) بهذا الصدد: "إن فكرتنا عن أي شىء هي نفس فكرتنا عما سيخلفه الشىء ذاته عقلانيا". تصور أن هنالك مسألتين لاينجم عنهما أي اختلاف. إذن سيكون الفرق بينهما ظاهريا فقط. وأي مسألة لاتحسم بنتائج نظرية أو عملية تترتب عليها تقع خارج المعنى الذرائعي. وبذلك نستطيع وضع اطار تحليلي يمكننا من خلاله التنبؤ بالمعاني. وهذه الفكرة مكنت فعلا بعض الذرائعيين من محاولة اكتشاف معنى مصطلح أو مسألة ما أثناء عملية التمحيص.
4. الذرائعية لن تمت لو أنها قاربت في البحث عن الحقيقة كونها البحث في المعنى. تحقق من واحدة تجد الأخرى. إذن الحقيقة حاصل تحقيق مسألة ما أو تنفيذ فكرة ما بنجاح. الحقيقة،ببساطة، هي كل ما يمكن عمله. أنها، وكما يقول (بيرس)، الحد الذي يتجه اليه الأستقصاء اللامتناهي لغرف المبادىء العلمية. ولايختلف كثيرا نظيره (جون ديوي)، مؤسس المدرسة الأداتية، الذي يكنه الأكاديمي العربي احتراما لامثيل له في الغرب، الذي يقول: "كل المبادىء مشروطة بالبحث". وخير الكلام ما قل ودل.
5. تفسر الذرائعية كل الأفكار على أنها أدوات وخطط عمل لايمكن الأستغناء عنها، وأن لكل فكرة وظيفة معينة. وما هذه الأفكار سوى فرضيات وخطط تنظيمية لما قد يحصل للعالم. وتكمن غايتها في تنظيم السلوك الأنساني، وهي ليست بأي حال من الأحوال صورا طبق الأصل لهذا العالم.
6. وكمنهج علمي، يمكن لنا أن نوصف الذرائعية اجمالا بأنها تيار فلسفي رحب يحاول بلورة المفاهيم والفرضيات والنظريات ويفلسف طرق تبريرها. إنها ترى في تفسير الواقع بالنسبة للأنسان مايبرره من اعتبارات الكفاية والفائدة لتلبية اهتماماته وحاجاته.
ومن أبواب هذه المحاور ندخل إلى عالم "الفائداتية"، هذا العالم الذي يتجاوز حدود "التداولية" من منظور لغوي بحت، وإن كانت الأدبيات تعطي حصة الأسد للتداول اللغوي. بيد أن هذا العلم معني أيضا بتواصل الأنسان مع الموسيقى والرسم...الخ. ولا غرابة في أن أقول بأنه يتناول حتى ظاهرة "التطنيش"، أي اهمال الآخر. ولأن هذا العلم من المعرفة الأنسانية حديث العهد نسبيا، بل لم تتبلور نظرياته بشكل يستكان لها لحد الآن، أجل الخوض في غمار كل أدوات التواصل، وهيمن التركيز على البحث في اللغة، أيا كانت، من "مقال" وما ورائه من "مقام".
قد يتصور القارىء بأن "الفائداتية" فرع من فروع العلوم اللغوية linguistic sciences . ربما "التداولية" تكون صالحة في هذا السياق، إن شئنا ترجمتها عن:
Pragmalinguistics
أو
Linguistic pragmatics
إن "الفائداتية"، أو حتى "التداولية" ليست مستوى في التحليل اللغوي النظري، ولا التطبيقي، كالمستوى الدلالي أو النحوي، مثلا. هكذا بدأت الفائداتية، ومن ضمنها التداولية، بناء على ما اقتبسة علماء اللغة انفسهم، وخاصة علماء اللغة النفسيين، عن رائدهم في فلسفة اللغة (شارلس موريس)، صاحب النظرية السيمائية في مؤلفه الموسوم: "أساسيات نظرية العلامات" المنشور سنة 1938 في جامعة شيكاغو، والذي بدوره بناه على نظرية الفيلسوف (شارلس بيرس).
هكذا تتلمذنا، وهكذا بتنا نعلم. صورة مستوردة عن الغرب! نبدا في تدريس اللغويات linguistics بدءا من المستوى الصوتي وانتهاء بالدلالي، مع بعض الشىء عن التداول. ولكن للفيلسوف (موريس) ثلاث علاقات فقط، هي:
1. العلامات فيما بينها.
2. العلامات وما تدل عليه.
3. العلامات ومستخدميها من البشر.
والعلامة ليست بالضرورة كلمة، واللبيب تكفيه الأشارة.
أستطيع القول أن التنظير الحقيقي في الفائداتية بدأ من هنا، هذا التنظير الذي لم ينضج لحد الآن، وإن تقدم البحث في الجانب اللغوي بشكل ملحوظ. وبسبب هذا التقدم طغت فكرة "التداولية" على ساحة البحث، وكأن اللغة سلعة تباع وتشترى في أسواق تداول العملات. قد تكون هذه الأستعارة صالحة إزاء ما تقدم من أفكار، ولكن الفائداتية/التداولية لم تكن المنهج الوحيد ممن استفاد من الفلسفة الذرائعية. لقد استفاد علم اللغة التاريخي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين من المحور الأول بخصوص نظرية التطور. يقول (شليشر): اللغة والأنسان كائنان يولدان معا ويموتان معا، والتغيير فيهما شرط لأستمرار الحياة. وهل هنالك مدرسة فكرية/لغوية معاصرة في الغرب لم تتأثر بأي محور من محاور الذرائعية؟ ما من أحد ينكر دور خبرة الفرد في التواصل وصقل هذا التواصل في فترات لاحقة من عمر الأنسان. حتى (نعوم تشومسكي)، الذي عزل نفسه عن "الخبراتية" في البحث اللغوي، يقر بهذا.
وكلمة أخيرة لابد منها. الباحثون في الفائداتية منقسمون على أنفسهم، فهنالك من يتعامل مع "التداولية"، بمفهوم transaction ضمن "علم الدلالة"، وكأنها فرع من فروع اللغويات. وهنالك من يتخذها امتدادا للدلالة ويخرجها من قائمة مستويات التحليل اللغوي الوصفي، ويوجهها نحو "الغاية تبرر الوسيلة". وهنالك من يستقل بها عن هذا أو ذاك من الناحية اللغوية الصرفة، وكأنها بديل لكل النظريات اللغوية. والمبدأ الذي تستمد منه القوة، وباختصار شديد، هو: لكل مقام مقال. وهنالك من يتجاوز كل الحدود اللغوية ليشمل فيما يشمل عالم العلامات الرحب. ولهذا شاء أحدنا أن يترجم pragmatics إلى السيمائية، وله الحق. أما أنا، والعياذ بالله من أنا، أفضل ترجمتها إلى "الفائداتية" انطلاقا من المراجع التاريخية والأهداف المعلنة.
الموصل/ العراق في 16/11/1985
الأستاذ الدكتور دنحا طوبيا كوركيس
عضو الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب
عضو الجمعية الدولية للفائداتية (التداولية)- بلجيكا
عضو الجمعية الدولية لعلماء اللغة- أمريكا
عضو هيئة تحرير مجلة Linguistik التي تصدر عن الأتحاد الأوروبي
عضو الجمعية الدولية لهيئات تطوير تحرير الدوريات اللغوية- أمريكا
_________________
السلام عليكم . اود ان اشارككم معارفكم في مجال اللغات.
استعرض نبذة عن المستخدمين