-حـــروف الجـــــر
لقد بلغ عددها في المحيط لدى (الأنطاكي) عشرون حرفاً، هي:
((مِنْ-إلى-عَنْ-على-في- رُبَّ-الباء-الكاف-اللام-واو القسَم-تاء القسَم- مُذْ-مُنْذُ-خَلا-عدا-حَاشا-حَتى-متى-كي-لعلَّ))
حول الترتيب المتبع في دراستها:
نبدأ بما يتشكل من حرف عربي واحد، ثم من حرفين اثنين فأكثر، بذات الترتيب الزمني الذي أبدع العربي فيه هذه الحروف بترجيح شديد.
وذلك لأن وظائف وأصول استعمالات حروف المعاني المؤلفة من حرف عربي واحد، هي ألصق بخصائصه الفطرية (الهيجانية أو الإيمائية أو الإيحائية)، فيسهل علينا الاهتداء إلى حقيقة معانيها وأصول استعمالاتها. ثم نتزود بما يتحصل لنا من حقائقها البسيطة فنتابع مهمتنا الشاقة في تقصي معاني حروف الجر من حرفين فأكثر التي جاءت في مراحل لغوية متطورة لاحقة على أيدي هزاج العرب وشعرائهم وفصحائهم.
ولكن قبل أن نتصدى لدراسة حروف الجر يستحسن بنا أن نعْرِف أولاً من (هم) أعضاء أسرتها- النحوية، كيما نعرف أصول وظائفها الفطرية التي اعتمدها العربي في جر مجروراتها.
الأسرة الأولى: المضاف إليه.
ليس ثمة ما هو أقرب حسباً إلى هذه المجرورات من المضاف إليه.
أ- فكلاهما يُجر بالكسرة. والأصل في جر المضاف إليه يعود إلى أنه اسم تكملة لاسم آخر نكرة قبله يضم إليه ليفيده (التعريف) إذا كان هو معرفة، نحو: ((كتاب زيدٍ))، أو ليفيده (التخصيص) إذا كان هو نفسه نكرة، نحو: ((حفظت درس حسابٍ)). فكان من ذوق العربي ونهجه وفلسفته في تعامله مع حركات الشكل (الفتحة والضمة والكسرة) مخففات (الألف اللينة والواو والياء)، أن يجرَّ المضاف إليه بالكسرة. وذلك ليتحمل وقع التكملة، أي وقع الإضافة إليه. و (زيدٍ) في المثال الأول هو الذي يتحمل وقع إسناد الكتاب إليه. وكذلك (حسابٍ) بالنسبة للدرس في المثال الثاني.
ب- كما أن الرابطة بين المجرور بحرف الجر وبين المضاف إليه تعود أصلاً إلى أن العلاقة بين المضاف والمضاف إليه تضبطها بصورة عامة رابطة ضمنية بأحد أحرف الجر الأربعة، هي: ((اللام-من-في-الكاف)، كما في العبارات التالية:
كتاب التلميذ، أي (كتاب للتلميذ) خاتم ذهب- أي (خاتم من ذهب)-سهر الليل مضن، أي: (سهر في الليل مضن). لؤلؤ الدمع، أي (دمع كاللؤلؤ). كرام الناس، أي (كرام من الناس).
وما شذ عن ذلك إلا أن يكون ثمة علاقة عمل نحوية بين المضاف والمضاف إليه، فيمتنع تقدير أي من حروف الجر، نحو: (كاتب الرسالة)، لأن الرسالة هنا مفعول به. ونحو: (حسن الوجه) لأن الوجه فاعل: وفي هاتين الحالتين يجر المضاف إليه ليتحمل وقع التكملة والإسناد إليه، كما أسلفنا. (المحيط ج2 ص 303-318).
الأسرة الثانية-المفعولاتَ
كما أنه ليس ثمة ما هو أقرب نسباً إلى هذه المجرورات من المفعولات، وهي خمسة (المفعول به-المفعول له أو لأجله-المفعول معه-المفعول فيه-المفعول المطلق).
وهذه المفعولات تنصب بالفتحة ليسهل الاعتداء عليها. وذلك سواء أَكان الاعتذار صريحاً كما في المفعول به، أو ضمنيّاً، كما في بقية المفعولات. فالفتحة مخفف (الألف اللينة) هي أضعف حركات الشكل، مما يناسب موقع المفعول به من معنى العبارة. كما جاء في دراستي بشيء من التفصيل: ((الحرف العربي والشخصية العربية ص 128-131).
ولكن هذه المفعولات لا تستطيع أن تؤدي خدماتها للفعل إلا إذا توافرت في كل منها شروط معينة.
ففي المفعول به مثلاً، يجب أن يكون الفعل متعدياً بنفسه، كما في: ((أكل التفاحةَ)).
أما إذا كان الفعل لازماً، فيستعان بأحد حروف الجر لتعديته، كما في: ((فرح الطالب بنجاحِه)) فليس ثمة من سبيل للنجاح كيما يصل الفرح إلى قلب الطالب، إلا بوسيط ظاهر من أحد حروف الجر (الباء). وهكذا الأمر مع هذه الرابطة العصبية في بقية المفعولات في كل مرة لا تتوافر لها شروطها الخاصة، كما في الأمثلة التالية:
((دخلت امرأة النار في هرة))، للمفعول له (أي بسبب هرّة). و ((جلست في الدار)) للمفعول فيه. و ((اهبط بسلام)) للمفعول معه. و ((انطلق الفرس كالريح))، للمفعول المطلق.
وإذن فالمجرور بحرف الجر ليس في حقيقته إلا واحداً من المفعولات الخمس. ولهذا السبب سمَّى النحاة هذا النوع من المفعول به ((المفعول غير الصريح، أو المفعول غير المباشر)) (المحيط ج2 ص131-133).
وهكذا فالمجرورات بحروف الجر، باعتبارها مفعولات غير مباشرة، قد جرها العربي بالكسرة ليسهل الاعتداء عليها في هذا المكان الخفيض. وذلك على مثال ما اختار الكسرة للمضاف إليه ليسهل تحميله واقعة الإسناد، أي الإضافة في هذا المكان الخفيض أيضاً.
على أنه كان من الممكن نصب هذه المفعولات غير المباشرة بالفتحة أيضاً كالمفعولات المباشرة ولكن العربي قد اختار لها الكسرة لأمرين اثنين:
1-للعلاقة الفطرية بين المجرورات بحروف الجر والمضاف إليه كما أسلفنا: (علاقة حسب عضوية).
2-منعاً للالتباس بينها وبين المفعولات المباشرة (علاقة نسب معنوية).
فالكسرة هي كالفتحة، لا بل وأشد رضوخاً، من شأنها أن تضع المجرورات في موقع يسهل معه الاعتداء عليها مباشرة أو بصورة غير مباشرة.
فماذا عن حروف الجر؟
1- (اللاّم)
أولاً-حول خصائصها ومعانيها الفطرية:
يتشكل صوتها كما جاء في المحيط: ((بالتِصاق إحدى حافتي اللسان بالحنك الأعلى مع ترك الحافة الثانية سائبة يتسرب على جانبيها الهواء الخارج من الجوف، أي النفَس)).
إن التِصاق جانب اللسان بالحنك الأعلى يضاهي واقعة الالتصاق في الطبيعة.
ولقد كان لمعاني الالتصاق في المعجم الوسيط (83) مصدراً جذراً تبدأ باللام من أصل (212) مصدراً، كما في (لبد-لثب-لحف-لحم-لأم-لطأ-لزَّ-لزم-لزب-لزق-لصق.).
وما نحسب أن ثمة حرف جر هو أقدم استعمالاً من (اللام). وذلك ليس لأنها حرف إيمائي-تمثيلي قد أبدعها العربي في المرحلة الزراعية فحسب، وإنما لأن خاصية الالتصاق في طريقة النطق بصوتها هي من أهم وظائفها ومعانيها التراثية. والتملك هو أحد التطبيقات الميدانية لواقعة الإلصاق.
ومن المرجَّح أنَّ كلمة (لي) المؤلفة من حرف زراعي (اللام) وحرف غابي (الياء) كانت أقدم المجرورات المستعملة، تلبية لحاجات الإنسان الغريزية في التملك.
ونظراً لبساطة (اللام) المنفردة بلا قرين، ولمرونة صوتها وتماسكه، فقد أهلها ذلك كيما تكون أكثر حرية وتحرراً وطواعية في أداء مختلف المعاني مما يدور حول الإلصاق والالتصاق والتملك والإلزام والالتزام، وما إليها، مما يتماس مع معاني الجمع والضم، كما سيأتي:
ونظراً لاشتراك (اللام) في كثير من حروف الجر وحروف المعاني وسواهما، سنتوسع هنا في استعراض مختلف معانيها واستعمالاتها التراثية، للجر وغيره.
ثانياً-حول معانيها واستعمالاتها التراثية.
لقد أثبت الأنطاكي في محيطه (24) معنى لـ (اللام) بوصفها عاملة جر، وكذلك (7) معان بوصفها عاملة جزم، وأخيراً ( معانٍ بوصفها غير عاملة. بما مجموعه (39) قسماً ومعنى.
لتتفوق (اللام) بذلك على معظم حروف المعاني.
أما لدى (ابن هشام) فكان لها قرابة (50) معنىً وقسماً ووجهاً واستعمالاً.
الحالة الأولى: (اللام) بوصفها عاملة جر:
على الرغم من أن معانيها واستعمالاتها في هذه الحالة مستمدة أصلاً من خاصية الإلصاق في طريقة النطق بصوتها، إلا أنه يمكننا تقسيمها إلى ثلاثة فئات:
فالفئة الأولى: تتحول فيها معاني الإلصاق إلى مسائل الملكية صراحة أو ضمناً.
والفئة الثانية: تستمد معانيها (صراحة) من خاصية الإلصاق في التلفظ بصوتها.
والفئة الثالثة: تستمدها (ضمناً) من خاصية الإلصاق، أيضاً.
الفئة الأولى: الملكية: وهي لسبعة معان:
1-الاستحقاق، نحو ((الحمد لله)) 2-الاختصاص، نحو: ((السرج للفرس)). 3-التملك نحو: ((الكتاب لزيد)). 4-التمليك نحو ((وهبت لزيد كتاباً)) 5-شبه التمليك نحو: ((جعل لكم من أنفسكم أزواجاً)). وهذه المعاني الخمسة مستمدة مباشرة من خاصية الإلصاق المادي أو المعنوي في (اللام)، مما لا حاجة معها لأي توضيح.
6-التعليل: كما في قول امرئ القيس في معلقته: ((ويومَ عقرتُ للعذارى مَطيَّتي..))
ولكن معنى (شبه التمليك) هنا غير خفي، وإن كان للتعليل. فمطيته قد أصبحت ملكاً للعذارى بعد عقرها.
7-للتعدية: كقوله تعالى: ((فهب لي من لدنك ولياً)). وهي عند (ابن مالك) لشبه التمليك.
أما عند (ابن هشام) فهي للتبليغ، نحو ((ما أحب زيداً لبكر)). وهذا المعنى في المثال الأخير مستمد من خاصية الإلصاق في (اللام) كما سيأتي في الفئة الثانية.
الفئة الثانية-الإلصاق: وهي على ثلاثة أوجه:
1-توكيد النفي: كقوله تعالى: ((لم يكن الله ليغفر لهم))(10). يقول الكوفيون: إن (اللام) أدخلت هنا لتقوية النفي. وهذه التقوية فيما نرى مستمدة أصلاً من خاصية الإلصاق في (اللام) مما لا مجال مع هذه المادة اللاّصقة للخروج عن حكم النفي في هذه الآية:
2-التوكيد الإيجابي: وهو على أربعة أنواع:
آ- (اللام) المعترضة بين الفعل المتعدي ومفعوله كقول الشاعر.
[لِيكْسرَ] عُودَ الدَّهرِ، فالدهرُ كاسِره)).
(((ومنْ يكُ ذا عظمٍ صليبٍ رجا به
ب- (اللام) المقحمة-وهي المعترضة بين المتضايفين نحو: ((يا بؤس لِلحرب))، وأصلها ((يا بؤس الحرب)).
ج- (لام) التقوية، نحو: ((فعّال لما يريد))، وأصلها ((فعّال ما يريد)).
د- (لام) المستغاث، نحو: ((يا لَزيد))، بفتح (اللام)، بمعنى أن (زيداً) هو المستغاث به أي المطالب بالإغاثة. فإن كسرت (اللام)، كان زيد هو المستغاث لأجله. وهذه الكسرة مخفف (الياء) تتوافق مع جعل الاستغاثة لمتعلقها (زيد) قياساً على وظيفة (الياء) في النسبة (كتاب-كتابي).
وهذه المعاني في الأمثلة الآنفة الذكر تعود جميعاً إلى خاصية الإلصاق في (اللام). فالتكويد الإيجابي مثل توكيد النفي ووظيفته إلصاق الأحكام بمتعلقيها. فطبيعة التوكيد ذاتها تتضمن معنى الإلصاق.
3- التبيين-وهي ثلاثة أقسام:
آ- (لام) تبين المفعول من الفاعل. وهي التي تقع بعد فعل تعجب أو اسم تفضيل للحب أو البغض نحو: ((ما أحبني-أبغضني لِزيد)). أي ما أشد حبي أو بغضي له. و (اللام) هنا للإلصاق، قد ألصقت حبي أو بغضي بزيد. أما لو قلنا: ((ما أحبني-أبغضني إلى زيد)). لا نقلب المعنى، وصرت أنا المحبوب أو المبغوض من زيد، وذلك لأن من معاني (إلى ) بلوغ الغاية، وليس الإلصاق، كما سيأتي ففعل الحب أو البغض قد انتقل (مني) إلى أن بلغ (زيد)، فصار هو الذي يُحب أو يُبغِض.
ب- (لام)تبين المفعول في أسلوب دعائي نحو: ((سقياً لِزيد، وجوعاً له)). فاللام هنا مبيّنة للمدعو له أو عليه. بمعنى (سقى الله زيداً وجوّعه).
ج- (لام)تبين الفاعل في أسلوب دعائي، نحو: ((تباً لِزيد وويحاً له))، بمعنى (خسر زيدٌ وهلك).
وخاصية التبيين في المعنيين الأخيرين مستمدة أيضاً من خاصية الإلصاق في حرف (اللام)، كما في المعنى الأول، فالإلصاق يتضمن معنى التبيين.
4-التبليغ نحو: ((قلت له، وأذنت له، وفسّرت له)). وذلك لخاصية الإلصاق في (اللام).
5-التعجب مع القسم: وتختص باسم الله تعالى، نحو (لله، لقد أصبح زيد شاعراً).
6-التعجب وحده نحو: ((يا لَجمال الربيع)). وخاصية الإلصاق في الفقرتين الأخيرتين غير خفية.
7-الصيرورة: وتسمى (لام) العاقبة، كقوله تعالى ((فالتقطه آل فرعون، (ليكون) لهم عدواً وحزناً)).(11) وخاصية الإلصاق في الصيرورة أشد ثباتاً ووضوحاً بفعل الاستمرارية.
الفئة الثالثة-لموافقة معاني بعض حروف الجر وسواها:
1-موافقة (إلى)، نحو: ((كلُّ يجري لأجلٍ مُسمَّى)).
2-موافقة (على) في الاستعلاء الحقيقي، كقوله تعالى: ((ويخرّون للأذقان(12))). وفي الاستعلاء المجازي، نحو: ((وإن اسأتم فلها)).
3-موافقة (في)، نحو: ((مضى لسبيله)).
4-بمعنى ((عند))، نحو: ((كتبته لخمس خلون)).
5-موافقة (بعد)، كما في الحديث: ((صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته)).
6-موافقة (من)، نحو: ((سمعت له صراخاً)).
7-موافقة (مع) كقول الجحدري:
(لطولِ) اجتماعٍ لمْ نبتْ ليلةً معاً)).
((فلما تفرَّقنا كأنِّي ومالِكاً
وواضح أن خاصية الإلصاق الفطرية في (اللام) هي الرابطة بين استعمالاتها التراثية وبين ما وافقته من حروف الجر (إلى-على-في-من)، وأسماء الظرف: (عند-مع-بعد). وهذا التوافق مرده أن أحرف الجر وأسماء الظرف آنفة الذكر تتضمن هي ذاتها معاني الإلصاق، سواء أكانت (اللام) توافقها أو لا توافقها. كما في أقوالنا: ((ذهب إلى البيت-جلس (على) الكرسي- وضعه في الصندوق- أقام (عند) صديقه –جاء بعده- خرج (من) المنزل- سكن (مع) صاحبه)) فالملاصقة في هذه الأمثلة واضحة لا تحتاج إلى تقدير.
ولكن خاصية الإلصاق الغالبة على معاني (اللام) بوصفها عاملة جر، هل ستظل تلاحقها بوصفها عاملة جزم، ولا عمل لها؟.
الحالة الثانية- (اللام) بوصفها عاملة جزم: ولها سبعة أوجه:
حذر التكرار، سنؤجل الحديث عن هذه الحالة، إلى أن نستعرض معاني (اللام) مع الأحرف الجازمة. وسنرى أن خاصية الإلصاق لن تفارقها في الجوازم أيضاً، لا بل ستكون هناك أشد وضوحاً.
الحالة الثالثة- (اللام) لا عمل لها، ولها سبعة معان:
1-(لام) الابتداء، وتسمى (لام) التوكيد، نحو: ((لَنِعْمَ الرجل زيد)).
2-(لام) المزحلقة عن صدر الجملة إلى عجزها بعد دخول (إنّ) المشددة، نحو: ((إنّ)) زيداً لقائم)).
3-(اللام) الفارقة- وهي (اللام) المزحلقة بعد (إنْ) المخففة، نحو: (إنْ زيداً لقائم).
4-(اللام) الزائدة. وهي الواقعة في خبر المبتدأ، نحو: (الرجل لكريم مِحتِدُه)). وكذلك في خبر (لكنَّ)، وخبر (ما)، وخبر (ما زال). وفي المفعول الثاني لـ (أرى)، نحو: ((أراك لشاتمي)).
ويرى الأنطاكي أن /اللام/ الزائدة في المواقع الآنفة الذكر هي (لامات) ابتداء إذ المعنى فيهن جميعاً واحد وهو /التوكيد/ المحيط (الجزء 3 ص204).
5- (اللام) الواقعة في جواب (لو، ولولا)، كقوله تعالى ((لو كان معهما آلهة إلا الله لفسدتا)).(13)
6- (اللام) الواقعة في جواب القسم كقوله تعالى (تا لله لأكيدنَّ أصنامَهم)).(14).
7- (اللام) الموطئة للقسم، كقوله تعالى: ((.. ولئن نصروهم (ليولُّنَّ)، الأدبارَ، ثم لا يُنصرون)).(15)
وهذه (اللامات) في مختلف معانيها تفيد التوكيد صراحة أو ضمناً، مما يفيد إلصاق- الأحكام بمتعلقيها، كما أسلفنا بمعرض الحديث عن التوكيد الإيجابي والمنفي.
وهكذا، على الرغم من تنوع معاني (اللام) وأقسامها واستعمالاتها التي قاربت الخمسين لدى (ابن هشام) و (39) لدى الأنطاكي، فإن المتمّعن فيها لا بد واجد بينها وبين خاصية الإلصاق الفطرية فيها صلات مباشرة تارة وضمنية تارة أخرى.
2-(الباء)
أولاً-حول خصائصها ومعانيها الفطرية:
يبدأ تشكل صوت (الباء) بضغط الشفة على الشفة بشيء من الشّدة حبساً للنفَس، ويتم تشكله بانفراجهما الفجائي عن بعضهما البعض بشيء من الانفجار.
وباستعراض معاني المصادر الجذور التي تتصدرها (الباء) في المعجم الوسيط. لوحظ أن معانيها موزعة بين ثلاث فئات رئيسية هي: 1-الحفر والبقر 2-التوسع 3-الظهور والبيان، بنسب بلغت (53%).
ولما كانت (الباء) الجارة منفردة وحدها لا تلتزم بخصائص حرف قرين آخر، فمن المتوقع أن يكون لها المزيد من المعاني والاستعمالات التراثية. فهل تحدُّ خاصية الانفجار في صوتها شيئاً من حريتها في التنوع والتشعب؟.
ثانياً- حول معانيها واستعمالاتها التراثية:
لها في المحيط أخذاً عن (ابن هشام) بشيء من الاختصار في الشروح كما هي عادة (الأنطاكي) (14) معنى، وهي:
1-الإلصاق: و قد اقتصر سيبويه على هذا المعنى زاعماً أنه لا يفارقها. وهو إما حقيقي، نحو: (أمسكت بزيد)، إذا قبضت على شيء من جسمه، وإما مجازي، نحو: ((مررت بزيد)) أي- ألصقت مروري بمكان يقرب من زيد.
ولكن (الإلصاق) يتوافق في (اللام) مع واقعة التصاق طرف اللسان بالحنك الأعلى حبساً للنفس قبيل خروج صوتها. أما معنى (الإلصاق) في (الباء) فهو يتعارض مع خاصية (الانفجار) في صوتها الذي يوحي ويشير إلى الحفر والتوسع والبقر كما لاحظنا آنفاً في معاني المصادر التي تبدأ بها.
ففي مثال (أمسكت بزيد): الإلصاق هنا عائد لفعل (أمسكت) الذي يفيد الإلصاق. فلو قلنا مثلاً: (استهنت بزيد) لغاب معنى الإلصاق. وكذا الأمر في تقدير ((مررت بزيد)). فمعنى (الباء) هنا هو أقرب إلى (التعدية) منه إلى الإلصاق، كما في المعنى التالي لها. مما ينفي عنها خاصية الإلصاق.
2-التعدية: وأكثر ما تُعدِّي الفعل القاصر، كما تفعل (الهمزة). ففي قولنا: ((ذهب زيد)) نُعديه بالباء: ((ذهب بزيد))، أو بالهمزة: ((أذهبه)). وكما في قوله تعالى: ((ولولا دفع الله الناسَ بعضهم ببعض…)) وفي قولنا ((صككت الحجر بالحجر)). ومعنى التعدية قريب من المعنى الفطري (للباء) بما يتوافق مع صوتها الانفجاري شدة وتأثيراً.
3-الاستعانة: وهي الداخلة على آلة الفعل، نحو: ((طعنته بالرمح، ونشرته بالمنشار)).
وهذا المعنى هو (أقرب) إلى معانيها الفطرية في الحفر والبقر، بما يتوافق مع إيحاءات صوتها الانفجاري فكان الطعن والنشر والحفر والشق يتم بـ (الباء)، وليس بأي أداة أخرى.
وهكذا تكون (الباء) من الأسلحة الصوتية الانفجارية التي يُعتدى بها على الآخرين ويُستعان بها عليهم أيضاً. وهذان المعنيان هما الألصق بخصائصها الفطرية من باقي المعاني المسندة إليها. كما سيأتي.
4-السببية: كقوله تعالى ((إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل))(16). أي معبوداً. ونرى أنه يمكن صرف (الباء) هنا إلى معناها الفطري في الاستعانة. وذلك بتقدير: ((إنّ اتخاذكم العجل كان وسيلة لظلمكم أنفسكم))، بمعنى أن عبادة العجل كانت أداة لظلمكم أنفسكم، كما في قولنا ((نجح الطالب باجتهاده، وفاز العدّاء بسرعته)). فالاجتهاد وسرعة العدو، كانتا أداتي النجاح والفوز، وإن كان بالإمكان صرفهما إلى السببية.
5-المصاحبة: نحو ((اهبط بسلام))، أي معه. ولكنهم اختلفوا في معنى (الباء) في قوله تعالى ((فسبح بحمد ربك)). فقيل للمصاحبة، وقيل للاستعانة.
ونرى أن الاستعانة أكثر توافقاً مع المعنى الفطري (للباء). فالحمد هو الآلة المعنوية للتسبيح إذا صح التعبير.
6-الظرفية: كقوله تعالى: ((ونصركم الله ببدر))(17) بمعنى (في) بدر. وكقوله تعالى ((إنك بالوادي المقدس طوى)). وهذا المعنى يتماس مع معاني (الباء) في الحفر، قريباً من معاني (في) كحفرة صوتية:
7-البدل: كقول الشاعر:
شنُّوا الإغارةَ فُرساناً ورُكباناً)).
((فليتَ لي (بهمْ) قوماً إذا ركِبوا
والمعنى هنا فيما نرى أقرب إلى (المقابلة) وله حكمها، كما سيأتي في الفقرة التالية:
8-المقابلة: وهي الداخلة على الأعواض، نحو: ((اشتريته بألف)).
وهذا المعنى يمكن صرفه إلى (البدل)، أو الاستعانة. وذلك بتقدير: استبدلته بألف، أي استعنت بألف لشرائه. وهكذا الأمر في قوله تعالى ((ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون))(18) يمكن أن يصرف للاستعانة بتقدير: ادخلوا الجنة مستعينين بما (كنتم تعملون).
9-المجاوزة: (عن). وتختص بالسؤال، نحو: ((فاسأل به خبيراً)). وقيل لا تختص بالتجاوز بدليل قوله تعالى: ((ويوم تشقَّقُ السماء بالغمام))
(19). فالباء على رأي الزمخشري هي هنا للاستعانة إذ جعل الغمام كالآلة التي يشق بها)).
ومعنى الاستعانة في رأينا ينسحب أيضاً على المثال الأول:
((فاسأل به خبيراً))، إذ يمكن اعتبار صاحب الخبرة آلة للإخبار عن حقيقته ويكون معنى الاستعانة أقرب لها من معنى المجاوزة.
10-الاستعلاء: ومثلوا له بقوله تعالى ((ومنهم من أن تأمنه بقنطار))(20)، أي على قنطار.
ونرى أن الاستعانة أولى بهذا المعنى، بتقدير أن القنطار هو أداة اختبار أمانته، ونحو: ((وإذا مروا به يتغامزون))، أي عليه.
والتعدية هنا فيما نرى أولى بهذا المعنى كما لحظنا في الفقرة (1) آنفاً. ومثلوا لذلك أيضاً بقول الشاعر:
لقد هان منْ بالتْ عليه الثعالبُ)).
(أربُّ يبولُ الثعلبانُ (برأسه)
والاستعلاء هنا فيما نرى اصطلاح اقتضاه الوزن، وهو ضعيف وغير مألوف، ولا عبرة له.
11-التبعيض: كقوله تعالى: ((عينا يشرب بها عباد الله))(21)، أي منها، وكقول الشاعر:
شُرْبَ النزيفِ ((ببُردِ) ماءِ الحشرجِ)).
((فلثمتُ فاها آخذاً بقرونِها
ومعنى التبعيض هنا يتماس مع معنى التعدية.
12-القسم: (الباء) هي أصل أحرف القسم. يجوز ذكر فعل القسم معها ويجوز عدم ذكره نحو ((أقسم بالله العظيم)) و (بالله العظيم)). كما يجوز دخولها على الضمير، نحو: ((بك لأفعلَنَّ)).
ونرى أن القسم هنا ينصرف إلى معنى الاستعانة بالمُقْسَمِِ به لكسب الثقة بصدق القول. وذلك بتقدير أنّ المقسَمَ به رمز للقداسة والتكريم والاحترام،. فكانَ أداة للثقة والطمأنينة على صدق القول.
13-الغاية: كقوله تعالى: ((وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن))(22)، أي أحسن إليّ. وهذا المعنى يمكن صرفه إلى التعدية، كقولنا: ((استهان به))، فهو يتوافق مع خاصية الانفجار في صوتها. وذلك بتقدير أنه وقع عليه فعل الإحسان في المثال الأول وفعل الاستهانة في المثال الثاني.
14-التوكيد: و(الباء) هنا حرف جر زائد في ستة مواضع.
أ- تزاد في الفاعل إمّا وجوباً في صيغة التعجب ((أكرِمْ بزيدٍ))، وإما غالباً مع فاعل (كفى)، نحو: ((كفى بالفعلِ مرشداً))
ب- تزاد في المفعول به. كقوله تعالى ((وهُزِّي إليكِ بجِزعِ النخلة))(23).
ج- وتزاد في المبتدأ، نحو: ((خرجت فإذا بزيد)).
د- وتزاد في الخبر المنفي عنه، نحو: ((ما زيد بقائم)).
هـ-وتزاد في الحال المنفي عاملها. كقوله تعالى: (وما ربك بظلام للعبيد))(24).
و- وتزاد في التوكيد بالنفس والعين، كقوله تعالى: ((يتربصن بأنفسهن))
(25).
وعلى الرغم من أن (الباء) في هذه المواضع زائدة فإن بعضها يتماس مع معنى التعدية كما في ((اكرِمْ بزيد)). كقوله تعالى: ((وهزِّي إليك بجزع النخلة)).(26) وبعضها يتماس مع معنى الاستعانة، كما في قوله تعالى ((كفى بالله شهيداً))(27). وبعضها اصطلاحي لا يتماس مع أي معنى آخر كما في ((ما زيد بقائم-خرجت فإذا بزيد)).
وهكذا كان للباء (14) معنى والمزيد من التفرعات والاستعمالات. كان منها معنيان أصليان يتوافقان مع خصائص صوتها الانفجاري، ومع بعض معانيها المستمدة من المعاجم، هما: ((التعدية والاستعانة)). وكان منها (13) معنى، أعيدت تقديراً إلى الاستعانة أو التعدية. وكان ثمة معنى واحد هو: (التوكيد) قد أمكَن إعادة أربعة من تفرعاته تقديراً إلى الاستعانة والتعدية، والاثنان الباقيان مصطلحان.
وهكذا بإعادة معظم ما ورد من معاني (الباء) تلك إلى التعدية والاستعانة، فإن العربي يكون بذلك قد تمكن ببراعته اللغوية المعتادة من ضبط هذا الانفجار الصوتي في قنواته الصحيحة من المعاني والاستعمالات كما فعل بانفجار صوت (الهمزة)، فوظفها في صناعة معانيه. وذلك على مثال ما سيطرت الصناعة الحديثة على انفجار المواد المشتعلة في محركاتها الانفجارية.
3-الكاف:
أولاً-حول خصائصها ومعانيها الفطرية:
تختلف معاني (الكاف) باختلاف طريقة النطق بها. فإذا لفظ صوتها مخفوتاً به قليلاً-ومضغوطاً عليه بعض الشيء، كما يقع لها ذلك في نهاية المصادر، حاكى حادثة احتكاك الخشب بالخشب على الطبيعة. فكان من معانيها الفطرية الاحتكاك. وباستعراض معاني المصادر التي تنتهي بالكاف كان لمعاني الاحتكاك (15) مصدراً جذراً.
أما إذا لفظ صوتها بنبرة عالية وبشيء من التفخيم، كما يقع لها في مقدمة المصادر، أوحى صوتها بالضخامة والامتلاء والتجمع والتراكم والتكوم. وكان لهذه المعاني (40) مصدراً جذراً تبدأ بالكاف.
وللكاف معان أخرى من موحيات الشدة والحرارة، مما لا يعنينا أمرها هنا. انظر خصائص الحروف ص (70-72).
ثانياً-حول معانيها واستعمالاتها التراثية:
هي لدى (ابن هشام) جارَّةٌ وغيرها، الجارة: حرف واسم:
أ- الكاف الحرفية الجارة: لها خمسة معان
أ-التشبيه، نحو: ((زيد كالأسد))، وهذا المعنى المستمد من خاصية الاحتكاك في صوتها هو المعنى الفطري الأصيل لها. فتشبيه شيء بشيء يتطلب إجراء المطابقة بين صفاتهما الحسية أو المعنوية المشتركة، في صور من الاحتكاك المادي أو الذهني.
ب-التعليل: كقوله تعالى: ((واذكروه كما هداكم)) ونحو: ((وأحسِنْ كما أحسنَ اللهُ إليك))، ولم يسلم هذا المعنى من الاعتراض. فقال بعضهم: إن (الكاف) هنا للتشبيه بتقدير: ((مثلما هداكم، ومثلما أحسن الله إليك)). ونحن أميل إلى الأخذ بهذا المعنى لتوافقه مع خاصية الاحتكاك في صوتها.
ح-الاستعلاء: نحو: ((كن كما أنت))، بمعنى (كن على ما أنت عليه)). ويرى بعضهم أن /كما/ هنا هي بمعنى (مثل). بتقدير ((كن في الحاضر أو المستقبل مثلما كنت في الماضي)). وبذلك ينصرف معنى الاستعلاء إلى التشبيه وهو أحد المعاني الفطرية لـ (الكاف). وهو الأصحّ.
د-المبادرة: نحو: ((سلّم كما تدخل)). أي (عند دخولك). وذكر بعضهم أن هذا المعنى غريب جداً، وبالتالي شاذ الاستعمال، كما يرى (ابن هشام)، وإذن فلا عبرة له.
هـ-التوكيد: وهي (الكاف) الزائدة كقوله تعالى: ((ليس كمثله شيء)). فقد رأى الأكثرون أن تقدير الآية هو: ((ليس شيء مثله)). فقالوا بزيادة (الكاف) في (كمثله) تجنباً من تقدير الآية (ليس مثل مثله شيء)، وهذا محال لأنه تعالى لا مثل له. وقد اعترض بعضهم، بأن الزائدة هي (مثل) وليس (الكاف)، قد زيدت لتفصل بين (الكاف) والضمير (الهاء) فصارت (كمثله) بدلاً من (كهِ) ونحن أميل للأخذ بهذا الرأي لتوافقه مع خصائصها الصوتية في الاحتكاك.
2- (الكاف الاسمية الجارة: وهي مرادفة (مثل) كقول الشاعر:
يضحكْن عنْ (كالبردِ) المنهَمِّ)).
((بيضٌ ثلاثُ كنعاجٍ جُمِّ
أي مثل (البرد).
وهكذا يبدو أن المعنى الأصلي ((للكاف)) الجارة هو التشبيه، وأن باقي المعاني مشوبة به. وهو المعنى الفطري لها المستمد من خاصية الاحتكاك في صوتها.
3-الكاف غير الجارة، هي لدى (ابن هشام) نوعان اثنان:
أ-مضمر منصوب أو مجرور. وهي اللاحقة بالأفعال والأسماء، كقوله تعالى: ((ما ودعك ربك))(28).
ب-حرف معنى لا محل له، ومعناه الخطاب. وهي اللاحقة لاسم الإشارة، نحو: (ذلك-تلك)، وللضمير المنفصل المنصوب، نحو: (إياك- إياكم) ولبعض أسماء الأفعال، نحو: (رويدك).
وواضح أن استعمالات (الكاف) غير الجارة في الأمثلة آنفة الذكر لا علاقة لها بخاصيتها الفطرية في الاحتكاك.
وهكذا يبدو أن خاصية الاحتكاك في صوت (الكاف) قد حدّ من حرية العربي في التوسع-باستعمالاتها ليقتصر في ذلك على ما يتوافق مع موحيات صوتها في الاحتكاك لمعاني التشبيه.
4-(واو القسَم)
لقد سبق أن تحدثنا عن خصائصها الصوتية بوصفها عاطفة لمجرد الجمع بلا ترتيب، وبتراخ وبلا تراخ بما يتوافق مع واقع تدافع النفَس في جوف الفم عند خروج صوتها.
أما (الواو) هنا فلها قسمان.
1-(واو) القسم: وهي لا تدخل إلا على مُظهر، ولا تتعلق إلا بمحذوف فهي والمقسم به متعلقان بفعل القسم المحذوف وجوباً معها كقوله تعالى: ((والقرآنِ الكريم))(29). فإن تلتها (واو) أخرى. كقوله تعالى: ((والتين والزيتون))(30)، كانت (الواو) التالية للعطف.
2-(واو) ربّ. كقول الشاعر:
عليّ بأنواعِ الهمومِ ليبتلي)).
((وليلٍ كموجِ البحرِ أرخى سُدولَه
وهي لا تدخل إلا على منكر، ولا تتعلق إلا بمؤخَّر. ولا تدخل (واو) العطف على (واو) ربّ ولكنها تدخل على (واو) القسم كقول الشاعر:
ولا كان أدنى من عُبَيْدٍ ومُشْرِقِ))
((وواللهِ لولا تمرُهُ ما حَببتُه
وهذان المعنيان لـ (الواو) الجارة مصطلحان، ليس بينهما وبين خصائص (الواو) في التدافع والفعالية والاستمرارية رابطة ظاهرة. فكان العطف أهم وظائفها لتوافقه مع خصائصها الصوتية كما أسلفنا في حينه.
5-(التَّاء)
أولاً-حول خصائصها ومعانيها الفطرية:
يوحي صوتها بالرقة واللين. فكان من معاني المصادر الجذور التي تبدأ بها: الرقة والضعف واللين والتفاهة، بما يتوافق مع صدى صوتها في النفْس، ولكن بنسب ضئيلة لم تتجاوز (18) في المئة. وذلك لأنّها من أضعف الحروف العربية شخصية، إذ لم تستطع أن تؤثر في معاني المصادر التي تبدأ بها أو تنتهي بها إلا قليلاً.
وهكذا كان لا بد من اعتماد الخصائص الفطرية لصوتها من رقة ولين وضعف كمعان لها أينما وجدت في حروف المعاني وسواها. لذلك لا بد لنا أن نتجاهل ضعف تأثيرها في معاني المصادر التي تشارك في تراكيبها، ما دام ذلك ناجماً عن طبيعة الضعف في صوتها وشخصيتها. ليكون الضعف والمطاوعة من خصائصها الفطرية أينما وجدت فكان لها بذلك دورها الهام في ضمائر (المخاطب وأسماء الإشارة وتاء التأنيث) كما سيأتي.
ثانيا-حول معانيها واستعمالاتها التراثية:
لها في المحيط وفي مغني اللبيب ثلاثة أوجه.
1-حرف جر: وهي المختصة بجر لفظ الجلالة في القسم، كقوله تعالى: ((وتاللهِ لأكيدنَّ أصنامَكم..)(31) وربما قالوا: ((تربّي-تربِّ الكعبةِ-تالرحمنِ).
2-حرف خطاب: وهي الموجودة في سلسلة ضمائر المخاطب: (أنت-أنتم-أنتن). وهذا على مذهب من يرى أن الضمير هو (أنْ) وحدها. ومن يخالف ذلك يرى أن الحروف كلها هي الضمير وعلى هذا لا يكون هناك (تاء) خطاب.
والرأي الأول، فيما نرى هو الصحيح. وذلك لتوافقه مع أصول نشأة اللغة العربية من حرف واحد هو (أ) ثم ضُمَّ إليه حرف ثان (ن) في مرحلة لغوية متطورة لاحقة فأصبحا (أنْ)، ثم ضُمَّ إليهما في مرحلة لغوية أكثر تطوراً (الألف اللينة) فصارت (أنا) للمتكلم. ثم أُلحقت (التاء) الضعيفة الرقيقة بضمير(أنْ) فصارت (أنتَ) للتقليل من شأن المخاطب والمخاطبة في مواجهة (أنا) للمتكلم، كما نوهنا بذلك سابقاً.
3-للتأنيث: وهي الساكنة الداخلة على الفعل، نحو: ((قامتْ هندُ)). وهذه حرف لا محل لها من الإعراب. خلافاً للجلولي الذي زعم أنها ضمير وأنها في محل رفع.
ولئن كانت (الباء) هي أصل أحرف القسم، فإن (الواو) للقسم بدل منها. أمَّا (التاء) فهي بدل من (الواو)، لأنها أضعفها جميعاً، على ما اتُّفِقَ عليه.
وهكذا يكون العربي قد استعمل (التاء)، سواء في القسم أو الخطاب أو التأنيث، بما يتوافق مع خصائص الضعف الفطريّة في صوتها. لتكون (التاء) على ضعفها هي إحدى الصور التراثية التي تهدينا إلى أصالة اللغة العربية وفطرتها.
6- (مِنْ)
أولاً-حول خصائص حرفيها ومعانيهما الفطرية:
1-الميم)-من معانيها في بداية المصادر: (المصُّ والرُّضاع واستخراج الأشياء من أمكنتها). فكان لها في المعجم الوسيط(33) مصدراً جذراً لهذه المعاني. وكان من معانيها في نهاية المصادر الجمع والضم) ولها (36) لهذه المعاني.
2-(النون)- من معانيها (البطون والصميمية والنفاذ في الأشياء) وكان لها (165) مصدراً تبدأ بها لهذه المعاني.
والمعاني الفطرية لهذين الحرفين تتناسق فيما بينها لتشكل حركة (اندفاع) من الداخل إلى الخارج بفعل جاذبية الامتصاص في (الميم). فيكون معنى (التبعيض أو التجزئة) هو المعنى الفطري الأصل لها، باعتباره هو محصلة خصائص حرفيها: (الميم والنون). فهل سيغلب هذا المعنى الفطري على معانيها واستعمالاتها؟.
ثانياً-حول معانيها واستعمالاتها التراثية
هي لدى (ابن هشام) على خمسة عشر وجهاً. ويرى أن الغالب عليها هو (ابتداء الغاية) فيجعله في مقدمة معانيها ووجوهها. أما نحن، فنرى أن (التبعيض) هو أساس معظم معانيها، فجعلناه في مقدمتها.
1-التبعيض: ويصحُّ أن نطلق عليه اسم (التجزئة)، أي (جزء من)، نحو (شربت من الإناء)، أي (جزءاً من محتوى الإناء)، وكقوله تعالى: ((لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون))(32) بمعنى (جزءاً)، مما تحبون من الأموال. ونحو: (هذا الرجل من قريش)، إذ يشكل جزءاً من رجال قريش. وهذا المعنى التراثي يتوافق مع المعاني الفطرية لمحصلة حرفي (الميم والنون).
2-ابتداء الغاية: وهو الغالب عليها فيما يرى (ابن هشام)، حتى ادّعى جماعة أنَّ سائر معانيها راجعة إليه. فهل هذا صحيح؟.
إنَّ ابتداء الغاية، إمّا مكاني، كقوله تعالى: ((سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى))(33). ولئن كان (إسراء) الله بعبده قد ابتدا (من) المسجد الحرام إلاَّ إن هذا الإسراء قد تضمَّن (استخراج) عبده (مِنَ) المسجد الحرام، بما يتوافق مع أحد معاني (الميم) في الاستخراج كقولنا ((استدنت من زيد)).
وإما أن تكون زمانية. كقول رسول الله (ص): ((فمطرنا مِنَ الجمعة إلى الجمعة)). فالجمعة الأولى فيما نرى هي (جزء) من أيام الأسبوع، أو بعضه.
وهكذا فإن معنى ابتداء الغاية يتماس مع معاني الاستخراج والتبعيض والتجزئة.
3-بيان الجنس: كقوله تعالى: ((ما ننسخ من آية أو ننسها، نأت بخير منها أو مثلها)). ولكن نرى أن الآية المنسوخة هي (جزء) مستخرج من مجموع الآيات. فالمعنى هنا للتبعيض والتجزئة.
وكما في قوله تعالى: ((يُحلّون فيها من أساور (من) ذهب..). ولئن كانت (من) الثانية لبيان جنس الأساور، ولكنها في الوقت ذاته (جزء) من الذهب أو بعضه.
وهكذا يتماس معنى التجزئة هنا أيضاً مع معنى (بيان الجنس).
4-التعليل: كقول الشاعر:
فما يُكلَّم إلاَّ حِينَ يبتَسِمُ)).
((يُغضِي حَياءً ويُغضَى من مَهابَتِهِ
وهذا المعنى يمكن صرفه إلى التبعيض، بمعنى أن (المهابة) هي بعض من مزاياه (صدق. شرف. تقى…)
5-البدل: كقوله تعالى: ((أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة))(34). وهذا المعنى يتماس مع (الاستخراج) بتقدير: ((باستخراجها من حساب الآخرة)).
6-مرادفة (عن): كقوله تعالى: ((فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله))(35). وهذا المعنى يمكن صرفه إلى التبعيض، بمعنى أن (ذكر الله) هو بعض من الواجبات المفروضة عليهم (طاعته-محبته-شكره).
7-مرادفة (الباء): نحو: ((ينظرون من طرْف خفي)). الطرْف بتسكين الراء، هو (تحريك الجفن)، وهو أصل معانيه، بدليل قوله تعالى: ((وعندهم قاصرات الطرْف عين)(36)، كناية عن خجلهن وحيائهن. كما يأتي الطرْف بمعنى (العين). ونرى أن معنى (من) هنا قد أشرب بمعنى (ابتداء الغاية) وما يلابسه من معنى التجزئة أو التبعيض كما أسلفنا.
8-مرادفة (في): كقوله تعالى: ((أروني ماذا خلقوا من الأرض))(37). وهي هنا برأينا للتجزئة والتبعيض صراحة، بتقدير: ((أروني أي جزء من أجزاء الأرض قد خلقوا)).
9-موافقة (عند): كقوله تعالى: ((لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم (من) الله شيئاً))(38). وهذا المعنى يمكن صرفه أيضاً إلى التبعيض بتقدير: من بعض ما عند الله من صنوف العذاب وهو المقصود.
10-مرادفة (على): كقوله تعالى: ((ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا، إنهم كانوا قوم سوءٍ فأغرقناهم أجمعين))(39). والتقدير أنّه تعالى نصره باستخراجه من بينهم فسلم وهلكوا. وهذا المعنى هو أقرب للتجزئة والتبعيض.
11-الفصل: كقوله تعالى: ((الله يعلم المفسد من المصلح)). قال بعضهم أن (من) هنا للابتداء أو بمعنى (عن). ويصح عليها فيما نرى معنى (استخراج) المفسد من فئة المصلحين. وهذا يتماس أصلاً
مع معنى (الفصل).
12-مرادفة- (ربما): كقول الشاعر:
على رأسهِ نُلَقي اللسانَ مِنَ الفمِ)).
((وإنّا (لمّما) نَضربُ الكبْشَ ضربةً
نرى أنَّ (ممّا) تنصرف هنا إلى تقدير ((مَن الذين)) يضربون الكبش، وليس إلى تقدير (لربما) فتكون للتجزئة والتبعيض، لا مرادفة (ربما). وقد اختلف الفقهاء حول هذا الوجه، مما يرجح معه التقدير الذي عرضناه.
13-(الغاية): وضرب لـه (سيبويه) مثالين: الأول: (رأيته من ذلك الموضع) فجعلته غاية لرؤيتك، أي محلاً للابتداء والانتهاء. وقد سبق أن لحظنا أن (الابتداء) يتوافق مع أحد معاني (الميم) في (استخراج) الأشياء. فكأنَّ الرؤية قد التقطت المنظور إليه من (ذلك الموضع). والثاني: ((أخذته من زيد)). وهي هنا لمعنى الاستخراج صراحة فيما نرى بتقدير ((أخذته مما هو موجود لدى زيد))، وليس للغاية والابتداء، كما قرَّر (ابن هشام).
14-التنصيص على العموم: نحو: ((ما جاءني من رجل)). ومعنى التبعيض والتجزئة أولى به هنا بتقدير: ((ما جاءني رجل من عموم الرجال)).
15-توكيد العموم: نحو: ((ما جاءني من أحد)). وهي هنا للتجزئة والتبعيض صراحة بتقدير ((ما جاءني أحد من الناس)). فحذفت لفظة (الناس) بلاغة في التعبير.
وهكذا كان المعنى الغالب على (مِنْ) هو (التجزئة والتبعيض) ومن ثم (الاستخراج) بما يتوافق مع الخصائص الفطرية لحرفيها، مما يؤهلها أن تكون إحدى مستحاثاتنا اللغوية أيضاً.
لقد بلغ عددها في المحيط لدى (الأنطاكي) عشرون حرفاً، هي:
((مِنْ-إلى-عَنْ-على-في- رُبَّ-الباء-الكاف-اللام-واو القسَم-تاء القسَم- مُذْ-مُنْذُ-خَلا-عدا-حَاشا-حَتى-متى-كي-لعلَّ))
حول الترتيب المتبع في دراستها:
نبدأ بما يتشكل من حرف عربي واحد، ثم من حرفين اثنين فأكثر، بذات الترتيب الزمني الذي أبدع العربي فيه هذه الحروف بترجيح شديد.
وذلك لأن وظائف وأصول استعمالات حروف المعاني المؤلفة من حرف عربي واحد، هي ألصق بخصائصه الفطرية (الهيجانية أو الإيمائية أو الإيحائية)، فيسهل علينا الاهتداء إلى حقيقة معانيها وأصول استعمالاتها. ثم نتزود بما يتحصل لنا من حقائقها البسيطة فنتابع مهمتنا الشاقة في تقصي معاني حروف الجر من حرفين فأكثر التي جاءت في مراحل لغوية متطورة لاحقة على أيدي هزاج العرب وشعرائهم وفصحائهم.
ولكن قبل أن نتصدى لدراسة حروف الجر يستحسن بنا أن نعْرِف أولاً من (هم) أعضاء أسرتها- النحوية، كيما نعرف أصول وظائفها الفطرية التي اعتمدها العربي في جر مجروراتها.
الأسرة الأولى: المضاف إليه.
ليس ثمة ما هو أقرب حسباً إلى هذه المجرورات من المضاف إليه.
أ- فكلاهما يُجر بالكسرة. والأصل في جر المضاف إليه يعود إلى أنه اسم تكملة لاسم آخر نكرة قبله يضم إليه ليفيده (التعريف) إذا كان هو معرفة، نحو: ((كتاب زيدٍ))، أو ليفيده (التخصيص) إذا كان هو نفسه نكرة، نحو: ((حفظت درس حسابٍ)). فكان من ذوق العربي ونهجه وفلسفته في تعامله مع حركات الشكل (الفتحة والضمة والكسرة) مخففات (الألف اللينة والواو والياء)، أن يجرَّ المضاف إليه بالكسرة. وذلك ليتحمل وقع التكملة، أي وقع الإضافة إليه. و (زيدٍ) في المثال الأول هو الذي يتحمل وقع إسناد الكتاب إليه. وكذلك (حسابٍ) بالنسبة للدرس في المثال الثاني.
ب- كما أن الرابطة بين المجرور بحرف الجر وبين المضاف إليه تعود أصلاً إلى أن العلاقة بين المضاف والمضاف إليه تضبطها بصورة عامة رابطة ضمنية بأحد أحرف الجر الأربعة، هي: ((اللام-من-في-الكاف)، كما في العبارات التالية:
كتاب التلميذ، أي (كتاب للتلميذ) خاتم ذهب- أي (خاتم من ذهب)-سهر الليل مضن، أي: (سهر في الليل مضن). لؤلؤ الدمع، أي (دمع كاللؤلؤ). كرام الناس، أي (كرام من الناس).
وما شذ عن ذلك إلا أن يكون ثمة علاقة عمل نحوية بين المضاف والمضاف إليه، فيمتنع تقدير أي من حروف الجر، نحو: (كاتب الرسالة)، لأن الرسالة هنا مفعول به. ونحو: (حسن الوجه) لأن الوجه فاعل: وفي هاتين الحالتين يجر المضاف إليه ليتحمل وقع التكملة والإسناد إليه، كما أسلفنا. (المحيط ج2 ص 303-318).
الأسرة الثانية-المفعولاتَ
كما أنه ليس ثمة ما هو أقرب نسباً إلى هذه المجرورات من المفعولات، وهي خمسة (المفعول به-المفعول له أو لأجله-المفعول معه-المفعول فيه-المفعول المطلق).
وهذه المفعولات تنصب بالفتحة ليسهل الاعتداء عليها. وذلك سواء أَكان الاعتذار صريحاً كما في المفعول به، أو ضمنيّاً، كما في بقية المفعولات. فالفتحة مخفف (الألف اللينة) هي أضعف حركات الشكل، مما يناسب موقع المفعول به من معنى العبارة. كما جاء في دراستي بشيء من التفصيل: ((الحرف العربي والشخصية العربية ص 128-131).
ولكن هذه المفعولات لا تستطيع أن تؤدي خدماتها للفعل إلا إذا توافرت في كل منها شروط معينة.
ففي المفعول به مثلاً، يجب أن يكون الفعل متعدياً بنفسه، كما في: ((أكل التفاحةَ)).
أما إذا كان الفعل لازماً، فيستعان بأحد حروف الجر لتعديته، كما في: ((فرح الطالب بنجاحِه)) فليس ثمة من سبيل للنجاح كيما يصل الفرح إلى قلب الطالب، إلا بوسيط ظاهر من أحد حروف الجر (الباء). وهكذا الأمر مع هذه الرابطة العصبية في بقية المفعولات في كل مرة لا تتوافر لها شروطها الخاصة، كما في الأمثلة التالية:
((دخلت امرأة النار في هرة))، للمفعول له (أي بسبب هرّة). و ((جلست في الدار)) للمفعول فيه. و ((اهبط بسلام)) للمفعول معه. و ((انطلق الفرس كالريح))، للمفعول المطلق.
وإذن فالمجرور بحرف الجر ليس في حقيقته إلا واحداً من المفعولات الخمس. ولهذا السبب سمَّى النحاة هذا النوع من المفعول به ((المفعول غير الصريح، أو المفعول غير المباشر)) (المحيط ج2 ص131-133).
وهكذا فالمجرورات بحروف الجر، باعتبارها مفعولات غير مباشرة، قد جرها العربي بالكسرة ليسهل الاعتداء عليها في هذا المكان الخفيض. وذلك على مثال ما اختار الكسرة للمضاف إليه ليسهل تحميله واقعة الإسناد، أي الإضافة في هذا المكان الخفيض أيضاً.
على أنه كان من الممكن نصب هذه المفعولات غير المباشرة بالفتحة أيضاً كالمفعولات المباشرة ولكن العربي قد اختار لها الكسرة لأمرين اثنين:
1-للعلاقة الفطرية بين المجرورات بحروف الجر والمضاف إليه كما أسلفنا: (علاقة حسب عضوية).
2-منعاً للالتباس بينها وبين المفعولات المباشرة (علاقة نسب معنوية).
فالكسرة هي كالفتحة، لا بل وأشد رضوخاً، من شأنها أن تضع المجرورات في موقع يسهل معه الاعتداء عليها مباشرة أو بصورة غير مباشرة.
فماذا عن حروف الجر؟
1- (اللاّم)
أولاً-حول خصائصها ومعانيها الفطرية:
يتشكل صوتها كما جاء في المحيط: ((بالتِصاق إحدى حافتي اللسان بالحنك الأعلى مع ترك الحافة الثانية سائبة يتسرب على جانبيها الهواء الخارج من الجوف، أي النفَس)).
إن التِصاق جانب اللسان بالحنك الأعلى يضاهي واقعة الالتصاق في الطبيعة.
ولقد كان لمعاني الالتصاق في المعجم الوسيط (83) مصدراً جذراً تبدأ باللام من أصل (212) مصدراً، كما في (لبد-لثب-لحف-لحم-لأم-لطأ-لزَّ-لزم-لزب-لزق-لصق.).
وما نحسب أن ثمة حرف جر هو أقدم استعمالاً من (اللام). وذلك ليس لأنها حرف إيمائي-تمثيلي قد أبدعها العربي في المرحلة الزراعية فحسب، وإنما لأن خاصية الالتصاق في طريقة النطق بصوتها هي من أهم وظائفها ومعانيها التراثية. والتملك هو أحد التطبيقات الميدانية لواقعة الإلصاق.
ومن المرجَّح أنَّ كلمة (لي) المؤلفة من حرف زراعي (اللام) وحرف غابي (الياء) كانت أقدم المجرورات المستعملة، تلبية لحاجات الإنسان الغريزية في التملك.
ونظراً لبساطة (اللام) المنفردة بلا قرين، ولمرونة صوتها وتماسكه، فقد أهلها ذلك كيما تكون أكثر حرية وتحرراً وطواعية في أداء مختلف المعاني مما يدور حول الإلصاق والالتصاق والتملك والإلزام والالتزام، وما إليها، مما يتماس مع معاني الجمع والضم، كما سيأتي:
ونظراً لاشتراك (اللام) في كثير من حروف الجر وحروف المعاني وسواهما، سنتوسع هنا في استعراض مختلف معانيها واستعمالاتها التراثية، للجر وغيره.
ثانياً-حول معانيها واستعمالاتها التراثية.
لقد أثبت الأنطاكي في محيطه (24) معنى لـ (اللام) بوصفها عاملة جر، وكذلك (7) معان بوصفها عاملة جزم، وأخيراً ( معانٍ بوصفها غير عاملة. بما مجموعه (39) قسماً ومعنى.
لتتفوق (اللام) بذلك على معظم حروف المعاني.
أما لدى (ابن هشام) فكان لها قرابة (50) معنىً وقسماً ووجهاً واستعمالاً.
الحالة الأولى: (اللام) بوصفها عاملة جر:
على الرغم من أن معانيها واستعمالاتها في هذه الحالة مستمدة أصلاً من خاصية الإلصاق في طريقة النطق بصوتها، إلا أنه يمكننا تقسيمها إلى ثلاثة فئات:
فالفئة الأولى: تتحول فيها معاني الإلصاق إلى مسائل الملكية صراحة أو ضمناً.
والفئة الثانية: تستمد معانيها (صراحة) من خاصية الإلصاق في التلفظ بصوتها.
والفئة الثالثة: تستمدها (ضمناً) من خاصية الإلصاق، أيضاً.
الفئة الأولى: الملكية: وهي لسبعة معان:
1-الاستحقاق، نحو ((الحمد لله)) 2-الاختصاص، نحو: ((السرج للفرس)). 3-التملك نحو: ((الكتاب لزيد)). 4-التمليك نحو ((وهبت لزيد كتاباً)) 5-شبه التمليك نحو: ((جعل لكم من أنفسكم أزواجاً)). وهذه المعاني الخمسة مستمدة مباشرة من خاصية الإلصاق المادي أو المعنوي في (اللام)، مما لا حاجة معها لأي توضيح.
6-التعليل: كما في قول امرئ القيس في معلقته: ((ويومَ عقرتُ للعذارى مَطيَّتي..))
ولكن معنى (شبه التمليك) هنا غير خفي، وإن كان للتعليل. فمطيته قد أصبحت ملكاً للعذارى بعد عقرها.
7-للتعدية: كقوله تعالى: ((فهب لي من لدنك ولياً)). وهي عند (ابن مالك) لشبه التمليك.
أما عند (ابن هشام) فهي للتبليغ، نحو ((ما أحب زيداً لبكر)). وهذا المعنى في المثال الأخير مستمد من خاصية الإلصاق في (اللام) كما سيأتي في الفئة الثانية.
الفئة الثانية-الإلصاق: وهي على ثلاثة أوجه:
1-توكيد النفي: كقوله تعالى: ((لم يكن الله ليغفر لهم))(10). يقول الكوفيون: إن (اللام) أدخلت هنا لتقوية النفي. وهذه التقوية فيما نرى مستمدة أصلاً من خاصية الإلصاق في (اللام) مما لا مجال مع هذه المادة اللاّصقة للخروج عن حكم النفي في هذه الآية:
2-التوكيد الإيجابي: وهو على أربعة أنواع:
آ- (اللام) المعترضة بين الفعل المتعدي ومفعوله كقول الشاعر.
[لِيكْسرَ] عُودَ الدَّهرِ، فالدهرُ كاسِره)).
(((ومنْ يكُ ذا عظمٍ صليبٍ رجا به
ب- (اللام) المقحمة-وهي المعترضة بين المتضايفين نحو: ((يا بؤس لِلحرب))، وأصلها ((يا بؤس الحرب)).
ج- (لام) التقوية، نحو: ((فعّال لما يريد))، وأصلها ((فعّال ما يريد)).
د- (لام) المستغاث، نحو: ((يا لَزيد))، بفتح (اللام)، بمعنى أن (زيداً) هو المستغاث به أي المطالب بالإغاثة. فإن كسرت (اللام)، كان زيد هو المستغاث لأجله. وهذه الكسرة مخفف (الياء) تتوافق مع جعل الاستغاثة لمتعلقها (زيد) قياساً على وظيفة (الياء) في النسبة (كتاب-كتابي).
وهذه المعاني في الأمثلة الآنفة الذكر تعود جميعاً إلى خاصية الإلصاق في (اللام). فالتكويد الإيجابي مثل توكيد النفي ووظيفته إلصاق الأحكام بمتعلقيها. فطبيعة التوكيد ذاتها تتضمن معنى الإلصاق.
3- التبيين-وهي ثلاثة أقسام:
آ- (لام) تبين المفعول من الفاعل. وهي التي تقع بعد فعل تعجب أو اسم تفضيل للحب أو البغض نحو: ((ما أحبني-أبغضني لِزيد)). أي ما أشد حبي أو بغضي له. و (اللام) هنا للإلصاق، قد ألصقت حبي أو بغضي بزيد. أما لو قلنا: ((ما أحبني-أبغضني إلى زيد)). لا نقلب المعنى، وصرت أنا المحبوب أو المبغوض من زيد، وذلك لأن من معاني (إلى ) بلوغ الغاية، وليس الإلصاق، كما سيأتي ففعل الحب أو البغض قد انتقل (مني) إلى أن بلغ (زيد)، فصار هو الذي يُحب أو يُبغِض.
ب- (لام)تبين المفعول في أسلوب دعائي نحو: ((سقياً لِزيد، وجوعاً له)). فاللام هنا مبيّنة للمدعو له أو عليه. بمعنى (سقى الله زيداً وجوّعه).
ج- (لام)تبين الفاعل في أسلوب دعائي، نحو: ((تباً لِزيد وويحاً له))، بمعنى (خسر زيدٌ وهلك).
وخاصية التبيين في المعنيين الأخيرين مستمدة أيضاً من خاصية الإلصاق في حرف (اللام)، كما في المعنى الأول، فالإلصاق يتضمن معنى التبيين.
4-التبليغ نحو: ((قلت له، وأذنت له، وفسّرت له)). وذلك لخاصية الإلصاق في (اللام).
5-التعجب مع القسم: وتختص باسم الله تعالى، نحو (لله، لقد أصبح زيد شاعراً).
6-التعجب وحده نحو: ((يا لَجمال الربيع)). وخاصية الإلصاق في الفقرتين الأخيرتين غير خفية.
7-الصيرورة: وتسمى (لام) العاقبة، كقوله تعالى ((فالتقطه آل فرعون، (ليكون) لهم عدواً وحزناً)).(11) وخاصية الإلصاق في الصيرورة أشد ثباتاً ووضوحاً بفعل الاستمرارية.
الفئة الثالثة-لموافقة معاني بعض حروف الجر وسواها:
1-موافقة (إلى)، نحو: ((كلُّ يجري لأجلٍ مُسمَّى)).
2-موافقة (على) في الاستعلاء الحقيقي، كقوله تعالى: ((ويخرّون للأذقان(12))). وفي الاستعلاء المجازي، نحو: ((وإن اسأتم فلها)).
3-موافقة (في)، نحو: ((مضى لسبيله)).
4-بمعنى ((عند))، نحو: ((كتبته لخمس خلون)).
5-موافقة (بعد)، كما في الحديث: ((صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته)).
6-موافقة (من)، نحو: ((سمعت له صراخاً)).
7-موافقة (مع) كقول الجحدري:
(لطولِ) اجتماعٍ لمْ نبتْ ليلةً معاً)).
((فلما تفرَّقنا كأنِّي ومالِكاً
وواضح أن خاصية الإلصاق الفطرية في (اللام) هي الرابطة بين استعمالاتها التراثية وبين ما وافقته من حروف الجر (إلى-على-في-من)، وأسماء الظرف: (عند-مع-بعد). وهذا التوافق مرده أن أحرف الجر وأسماء الظرف آنفة الذكر تتضمن هي ذاتها معاني الإلصاق، سواء أكانت (اللام) توافقها أو لا توافقها. كما في أقوالنا: ((ذهب إلى البيت-جلس (على) الكرسي- وضعه في الصندوق- أقام (عند) صديقه –جاء بعده- خرج (من) المنزل- سكن (مع) صاحبه)) فالملاصقة في هذه الأمثلة واضحة لا تحتاج إلى تقدير.
ولكن خاصية الإلصاق الغالبة على معاني (اللام) بوصفها عاملة جر، هل ستظل تلاحقها بوصفها عاملة جزم، ولا عمل لها؟.
الحالة الثانية- (اللام) بوصفها عاملة جزم: ولها سبعة أوجه:
حذر التكرار، سنؤجل الحديث عن هذه الحالة، إلى أن نستعرض معاني (اللام) مع الأحرف الجازمة. وسنرى أن خاصية الإلصاق لن تفارقها في الجوازم أيضاً، لا بل ستكون هناك أشد وضوحاً.
الحالة الثالثة- (اللام) لا عمل لها، ولها سبعة معان:
1-(لام) الابتداء، وتسمى (لام) التوكيد، نحو: ((لَنِعْمَ الرجل زيد)).
2-(لام) المزحلقة عن صدر الجملة إلى عجزها بعد دخول (إنّ) المشددة، نحو: ((إنّ)) زيداً لقائم)).
3-(اللام) الفارقة- وهي (اللام) المزحلقة بعد (إنْ) المخففة، نحو: (إنْ زيداً لقائم).
4-(اللام) الزائدة. وهي الواقعة في خبر المبتدأ، نحو: (الرجل لكريم مِحتِدُه)). وكذلك في خبر (لكنَّ)، وخبر (ما)، وخبر (ما زال). وفي المفعول الثاني لـ (أرى)، نحو: ((أراك لشاتمي)).
ويرى الأنطاكي أن /اللام/ الزائدة في المواقع الآنفة الذكر هي (لامات) ابتداء إذ المعنى فيهن جميعاً واحد وهو /التوكيد/ المحيط (الجزء 3 ص204).
5- (اللام) الواقعة في جواب (لو، ولولا)، كقوله تعالى ((لو كان معهما آلهة إلا الله لفسدتا)).(13)
6- (اللام) الواقعة في جواب القسم كقوله تعالى (تا لله لأكيدنَّ أصنامَهم)).(14).
7- (اللام) الموطئة للقسم، كقوله تعالى: ((.. ولئن نصروهم (ليولُّنَّ)، الأدبارَ، ثم لا يُنصرون)).(15)
وهذه (اللامات) في مختلف معانيها تفيد التوكيد صراحة أو ضمناً، مما يفيد إلصاق- الأحكام بمتعلقيها، كما أسلفنا بمعرض الحديث عن التوكيد الإيجابي والمنفي.
وهكذا، على الرغم من تنوع معاني (اللام) وأقسامها واستعمالاتها التي قاربت الخمسين لدى (ابن هشام) و (39) لدى الأنطاكي، فإن المتمّعن فيها لا بد واجد بينها وبين خاصية الإلصاق الفطرية فيها صلات مباشرة تارة وضمنية تارة أخرى.
2-(الباء)
أولاً-حول خصائصها ومعانيها الفطرية:
يبدأ تشكل صوت (الباء) بضغط الشفة على الشفة بشيء من الشّدة حبساً للنفَس، ويتم تشكله بانفراجهما الفجائي عن بعضهما البعض بشيء من الانفجار.
وباستعراض معاني المصادر الجذور التي تتصدرها (الباء) في المعجم الوسيط. لوحظ أن معانيها موزعة بين ثلاث فئات رئيسية هي: 1-الحفر والبقر 2-التوسع 3-الظهور والبيان، بنسب بلغت (53%).
ولما كانت (الباء) الجارة منفردة وحدها لا تلتزم بخصائص حرف قرين آخر، فمن المتوقع أن يكون لها المزيد من المعاني والاستعمالات التراثية. فهل تحدُّ خاصية الانفجار في صوتها شيئاً من حريتها في التنوع والتشعب؟.
ثانياً- حول معانيها واستعمالاتها التراثية:
لها في المحيط أخذاً عن (ابن هشام) بشيء من الاختصار في الشروح كما هي عادة (الأنطاكي) (14) معنى، وهي:
1-الإلصاق: و قد اقتصر سيبويه على هذا المعنى زاعماً أنه لا يفارقها. وهو إما حقيقي، نحو: (أمسكت بزيد)، إذا قبضت على شيء من جسمه، وإما مجازي، نحو: ((مررت بزيد)) أي- ألصقت مروري بمكان يقرب من زيد.
ولكن (الإلصاق) يتوافق في (اللام) مع واقعة التصاق طرف اللسان بالحنك الأعلى حبساً للنفس قبيل خروج صوتها. أما معنى (الإلصاق) في (الباء) فهو يتعارض مع خاصية (الانفجار) في صوتها الذي يوحي ويشير إلى الحفر والتوسع والبقر كما لاحظنا آنفاً في معاني المصادر التي تبدأ بها.
ففي مثال (أمسكت بزيد): الإلصاق هنا عائد لفعل (أمسكت) الذي يفيد الإلصاق. فلو قلنا مثلاً: (استهنت بزيد) لغاب معنى الإلصاق. وكذا الأمر في تقدير ((مررت بزيد)). فمعنى (الباء) هنا هو أقرب إلى (التعدية) منه إلى الإلصاق، كما في المعنى التالي لها. مما ينفي عنها خاصية الإلصاق.
2-التعدية: وأكثر ما تُعدِّي الفعل القاصر، كما تفعل (الهمزة). ففي قولنا: ((ذهب زيد)) نُعديه بالباء: ((ذهب بزيد))، أو بالهمزة: ((أذهبه)). وكما في قوله تعالى: ((ولولا دفع الله الناسَ بعضهم ببعض…)) وفي قولنا ((صككت الحجر بالحجر)). ومعنى التعدية قريب من المعنى الفطري (للباء) بما يتوافق مع صوتها الانفجاري شدة وتأثيراً.
3-الاستعانة: وهي الداخلة على آلة الفعل، نحو: ((طعنته بالرمح، ونشرته بالمنشار)).
وهذا المعنى هو (أقرب) إلى معانيها الفطرية في الحفر والبقر، بما يتوافق مع إيحاءات صوتها الانفجاري فكان الطعن والنشر والحفر والشق يتم بـ (الباء)، وليس بأي أداة أخرى.
وهكذا تكون (الباء) من الأسلحة الصوتية الانفجارية التي يُعتدى بها على الآخرين ويُستعان بها عليهم أيضاً. وهذان المعنيان هما الألصق بخصائصها الفطرية من باقي المعاني المسندة إليها. كما سيأتي.
4-السببية: كقوله تعالى ((إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل))(16). أي معبوداً. ونرى أنه يمكن صرف (الباء) هنا إلى معناها الفطري في الاستعانة. وذلك بتقدير: ((إنّ اتخاذكم العجل كان وسيلة لظلمكم أنفسكم))، بمعنى أن عبادة العجل كانت أداة لظلمكم أنفسكم، كما في قولنا ((نجح الطالب باجتهاده، وفاز العدّاء بسرعته)). فالاجتهاد وسرعة العدو، كانتا أداتي النجاح والفوز، وإن كان بالإمكان صرفهما إلى السببية.
5-المصاحبة: نحو ((اهبط بسلام))، أي معه. ولكنهم اختلفوا في معنى (الباء) في قوله تعالى ((فسبح بحمد ربك)). فقيل للمصاحبة، وقيل للاستعانة.
ونرى أن الاستعانة أكثر توافقاً مع المعنى الفطري (للباء). فالحمد هو الآلة المعنوية للتسبيح إذا صح التعبير.
6-الظرفية: كقوله تعالى: ((ونصركم الله ببدر))(17) بمعنى (في) بدر. وكقوله تعالى ((إنك بالوادي المقدس طوى)). وهذا المعنى يتماس مع معاني (الباء) في الحفر، قريباً من معاني (في) كحفرة صوتية:
7-البدل: كقول الشاعر:
شنُّوا الإغارةَ فُرساناً ورُكباناً)).
((فليتَ لي (بهمْ) قوماً إذا ركِبوا
والمعنى هنا فيما نرى أقرب إلى (المقابلة) وله حكمها، كما سيأتي في الفقرة التالية:
8-المقابلة: وهي الداخلة على الأعواض، نحو: ((اشتريته بألف)).
وهذا المعنى يمكن صرفه إلى (البدل)، أو الاستعانة. وذلك بتقدير: استبدلته بألف، أي استعنت بألف لشرائه. وهكذا الأمر في قوله تعالى ((ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون))(18) يمكن أن يصرف للاستعانة بتقدير: ادخلوا الجنة مستعينين بما (كنتم تعملون).
9-المجاوزة: (عن). وتختص بالسؤال، نحو: ((فاسأل به خبيراً)). وقيل لا تختص بالتجاوز بدليل قوله تعالى: ((ويوم تشقَّقُ السماء بالغمام))
(19). فالباء على رأي الزمخشري هي هنا للاستعانة إذ جعل الغمام كالآلة التي يشق بها)).
ومعنى الاستعانة في رأينا ينسحب أيضاً على المثال الأول:
((فاسأل به خبيراً))، إذ يمكن اعتبار صاحب الخبرة آلة للإخبار عن حقيقته ويكون معنى الاستعانة أقرب لها من معنى المجاوزة.
10-الاستعلاء: ومثلوا له بقوله تعالى ((ومنهم من أن تأمنه بقنطار))(20)، أي على قنطار.
ونرى أن الاستعانة أولى بهذا المعنى، بتقدير أن القنطار هو أداة اختبار أمانته، ونحو: ((وإذا مروا به يتغامزون))، أي عليه.
والتعدية هنا فيما نرى أولى بهذا المعنى كما لحظنا في الفقرة (1) آنفاً. ومثلوا لذلك أيضاً بقول الشاعر:
لقد هان منْ بالتْ عليه الثعالبُ)).
(أربُّ يبولُ الثعلبانُ (برأسه)
والاستعلاء هنا فيما نرى اصطلاح اقتضاه الوزن، وهو ضعيف وغير مألوف، ولا عبرة له.
11-التبعيض: كقوله تعالى: ((عينا يشرب بها عباد الله))(21)، أي منها، وكقول الشاعر:
شُرْبَ النزيفِ ((ببُردِ) ماءِ الحشرجِ)).
((فلثمتُ فاها آخذاً بقرونِها
ومعنى التبعيض هنا يتماس مع معنى التعدية.
12-القسم: (الباء) هي أصل أحرف القسم. يجوز ذكر فعل القسم معها ويجوز عدم ذكره نحو ((أقسم بالله العظيم)) و (بالله العظيم)). كما يجوز دخولها على الضمير، نحو: ((بك لأفعلَنَّ)).
ونرى أن القسم هنا ينصرف إلى معنى الاستعانة بالمُقْسَمِِ به لكسب الثقة بصدق القول. وذلك بتقدير أنّ المقسَمَ به رمز للقداسة والتكريم والاحترام،. فكانَ أداة للثقة والطمأنينة على صدق القول.
13-الغاية: كقوله تعالى: ((وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن))(22)، أي أحسن إليّ. وهذا المعنى يمكن صرفه إلى التعدية، كقولنا: ((استهان به))، فهو يتوافق مع خاصية الانفجار في صوتها. وذلك بتقدير أنه وقع عليه فعل الإحسان في المثال الأول وفعل الاستهانة في المثال الثاني.
14-التوكيد: و(الباء) هنا حرف جر زائد في ستة مواضع.
أ- تزاد في الفاعل إمّا وجوباً في صيغة التعجب ((أكرِمْ بزيدٍ))، وإما غالباً مع فاعل (كفى)، نحو: ((كفى بالفعلِ مرشداً))
ب- تزاد في المفعول به. كقوله تعالى ((وهُزِّي إليكِ بجِزعِ النخلة))(23).
ج- وتزاد في المبتدأ، نحو: ((خرجت فإذا بزيد)).
د- وتزاد في الخبر المنفي عنه، نحو: ((ما زيد بقائم)).
هـ-وتزاد في الحال المنفي عاملها. كقوله تعالى: (وما ربك بظلام للعبيد))(24).
و- وتزاد في التوكيد بالنفس والعين، كقوله تعالى: ((يتربصن بأنفسهن))
(25).
وعلى الرغم من أن (الباء) في هذه المواضع زائدة فإن بعضها يتماس مع معنى التعدية كما في ((اكرِمْ بزيد)). كقوله تعالى: ((وهزِّي إليك بجزع النخلة)).(26) وبعضها يتماس مع معنى الاستعانة، كما في قوله تعالى ((كفى بالله شهيداً))(27). وبعضها اصطلاحي لا يتماس مع أي معنى آخر كما في ((ما زيد بقائم-خرجت فإذا بزيد)).
وهكذا كان للباء (14) معنى والمزيد من التفرعات والاستعمالات. كان منها معنيان أصليان يتوافقان مع خصائص صوتها الانفجاري، ومع بعض معانيها المستمدة من المعاجم، هما: ((التعدية والاستعانة)). وكان منها (13) معنى، أعيدت تقديراً إلى الاستعانة أو التعدية. وكان ثمة معنى واحد هو: (التوكيد) قد أمكَن إعادة أربعة من تفرعاته تقديراً إلى الاستعانة والتعدية، والاثنان الباقيان مصطلحان.
وهكذا بإعادة معظم ما ورد من معاني (الباء) تلك إلى التعدية والاستعانة، فإن العربي يكون بذلك قد تمكن ببراعته اللغوية المعتادة من ضبط هذا الانفجار الصوتي في قنواته الصحيحة من المعاني والاستعمالات كما فعل بانفجار صوت (الهمزة)، فوظفها في صناعة معانيه. وذلك على مثال ما سيطرت الصناعة الحديثة على انفجار المواد المشتعلة في محركاتها الانفجارية.
3-الكاف:
أولاً-حول خصائصها ومعانيها الفطرية:
تختلف معاني (الكاف) باختلاف طريقة النطق بها. فإذا لفظ صوتها مخفوتاً به قليلاً-ومضغوطاً عليه بعض الشيء، كما يقع لها ذلك في نهاية المصادر، حاكى حادثة احتكاك الخشب بالخشب على الطبيعة. فكان من معانيها الفطرية الاحتكاك. وباستعراض معاني المصادر التي تنتهي بالكاف كان لمعاني الاحتكاك (15) مصدراً جذراً.
أما إذا لفظ صوتها بنبرة عالية وبشيء من التفخيم، كما يقع لها في مقدمة المصادر، أوحى صوتها بالضخامة والامتلاء والتجمع والتراكم والتكوم. وكان لهذه المعاني (40) مصدراً جذراً تبدأ بالكاف.
وللكاف معان أخرى من موحيات الشدة والحرارة، مما لا يعنينا أمرها هنا. انظر خصائص الحروف ص (70-72).
ثانياً-حول معانيها واستعمالاتها التراثية:
هي لدى (ابن هشام) جارَّةٌ وغيرها، الجارة: حرف واسم:
أ- الكاف الحرفية الجارة: لها خمسة معان
أ-التشبيه، نحو: ((زيد كالأسد))، وهذا المعنى المستمد من خاصية الاحتكاك في صوتها هو المعنى الفطري الأصيل لها. فتشبيه شيء بشيء يتطلب إجراء المطابقة بين صفاتهما الحسية أو المعنوية المشتركة، في صور من الاحتكاك المادي أو الذهني.
ب-التعليل: كقوله تعالى: ((واذكروه كما هداكم)) ونحو: ((وأحسِنْ كما أحسنَ اللهُ إليك))، ولم يسلم هذا المعنى من الاعتراض. فقال بعضهم: إن (الكاف) هنا للتشبيه بتقدير: ((مثلما هداكم، ومثلما أحسن الله إليك)). ونحن أميل إلى الأخذ بهذا المعنى لتوافقه مع خاصية الاحتكاك في صوتها.
ح-الاستعلاء: نحو: ((كن كما أنت))، بمعنى (كن على ما أنت عليه)). ويرى بعضهم أن /كما/ هنا هي بمعنى (مثل). بتقدير ((كن في الحاضر أو المستقبل مثلما كنت في الماضي)). وبذلك ينصرف معنى الاستعلاء إلى التشبيه وهو أحد المعاني الفطرية لـ (الكاف). وهو الأصحّ.
د-المبادرة: نحو: ((سلّم كما تدخل)). أي (عند دخولك). وذكر بعضهم أن هذا المعنى غريب جداً، وبالتالي شاذ الاستعمال، كما يرى (ابن هشام)، وإذن فلا عبرة له.
هـ-التوكيد: وهي (الكاف) الزائدة كقوله تعالى: ((ليس كمثله شيء)). فقد رأى الأكثرون أن تقدير الآية هو: ((ليس شيء مثله)). فقالوا بزيادة (الكاف) في (كمثله) تجنباً من تقدير الآية (ليس مثل مثله شيء)، وهذا محال لأنه تعالى لا مثل له. وقد اعترض بعضهم، بأن الزائدة هي (مثل) وليس (الكاف)، قد زيدت لتفصل بين (الكاف) والضمير (الهاء) فصارت (كمثله) بدلاً من (كهِ) ونحن أميل للأخذ بهذا الرأي لتوافقه مع خصائصها الصوتية في الاحتكاك.
2- (الكاف الاسمية الجارة: وهي مرادفة (مثل) كقول الشاعر:
يضحكْن عنْ (كالبردِ) المنهَمِّ)).
((بيضٌ ثلاثُ كنعاجٍ جُمِّ
أي مثل (البرد).
وهكذا يبدو أن المعنى الأصلي ((للكاف)) الجارة هو التشبيه، وأن باقي المعاني مشوبة به. وهو المعنى الفطري لها المستمد من خاصية الاحتكاك في صوتها.
3-الكاف غير الجارة، هي لدى (ابن هشام) نوعان اثنان:
أ-مضمر منصوب أو مجرور. وهي اللاحقة بالأفعال والأسماء، كقوله تعالى: ((ما ودعك ربك))(28).
ب-حرف معنى لا محل له، ومعناه الخطاب. وهي اللاحقة لاسم الإشارة، نحو: (ذلك-تلك)، وللضمير المنفصل المنصوب، نحو: (إياك- إياكم) ولبعض أسماء الأفعال، نحو: (رويدك).
وواضح أن استعمالات (الكاف) غير الجارة في الأمثلة آنفة الذكر لا علاقة لها بخاصيتها الفطرية في الاحتكاك.
وهكذا يبدو أن خاصية الاحتكاك في صوت (الكاف) قد حدّ من حرية العربي في التوسع-باستعمالاتها ليقتصر في ذلك على ما يتوافق مع موحيات صوتها في الاحتكاك لمعاني التشبيه.
4-(واو القسَم)
لقد سبق أن تحدثنا عن خصائصها الصوتية بوصفها عاطفة لمجرد الجمع بلا ترتيب، وبتراخ وبلا تراخ بما يتوافق مع واقع تدافع النفَس في جوف الفم عند خروج صوتها.
أما (الواو) هنا فلها قسمان.
1-(واو) القسم: وهي لا تدخل إلا على مُظهر، ولا تتعلق إلا بمحذوف فهي والمقسم به متعلقان بفعل القسم المحذوف وجوباً معها كقوله تعالى: ((والقرآنِ الكريم))(29). فإن تلتها (واو) أخرى. كقوله تعالى: ((والتين والزيتون))(30)، كانت (الواو) التالية للعطف.
2-(واو) ربّ. كقول الشاعر:
عليّ بأنواعِ الهمومِ ليبتلي)).
((وليلٍ كموجِ البحرِ أرخى سُدولَه
وهي لا تدخل إلا على منكر، ولا تتعلق إلا بمؤخَّر. ولا تدخل (واو) العطف على (واو) ربّ ولكنها تدخل على (واو) القسم كقول الشاعر:
ولا كان أدنى من عُبَيْدٍ ومُشْرِقِ))
((وواللهِ لولا تمرُهُ ما حَببتُه
وهذان المعنيان لـ (الواو) الجارة مصطلحان، ليس بينهما وبين خصائص (الواو) في التدافع والفعالية والاستمرارية رابطة ظاهرة. فكان العطف أهم وظائفها لتوافقه مع خصائصها الصوتية كما أسلفنا في حينه.
5-(التَّاء)
أولاً-حول خصائصها ومعانيها الفطرية:
يوحي صوتها بالرقة واللين. فكان من معاني المصادر الجذور التي تبدأ بها: الرقة والضعف واللين والتفاهة، بما يتوافق مع صدى صوتها في النفْس، ولكن بنسب ضئيلة لم تتجاوز (18) في المئة. وذلك لأنّها من أضعف الحروف العربية شخصية، إذ لم تستطع أن تؤثر في معاني المصادر التي تبدأ بها أو تنتهي بها إلا قليلاً.
وهكذا كان لا بد من اعتماد الخصائص الفطرية لصوتها من رقة ولين وضعف كمعان لها أينما وجدت في حروف المعاني وسواها. لذلك لا بد لنا أن نتجاهل ضعف تأثيرها في معاني المصادر التي تشارك في تراكيبها، ما دام ذلك ناجماً عن طبيعة الضعف في صوتها وشخصيتها. ليكون الضعف والمطاوعة من خصائصها الفطرية أينما وجدت فكان لها بذلك دورها الهام في ضمائر (المخاطب وأسماء الإشارة وتاء التأنيث) كما سيأتي.
ثانيا-حول معانيها واستعمالاتها التراثية:
لها في المحيط وفي مغني اللبيب ثلاثة أوجه.
1-حرف جر: وهي المختصة بجر لفظ الجلالة في القسم، كقوله تعالى: ((وتاللهِ لأكيدنَّ أصنامَكم..)(31) وربما قالوا: ((تربّي-تربِّ الكعبةِ-تالرحمنِ).
2-حرف خطاب: وهي الموجودة في سلسلة ضمائر المخاطب: (أنت-أنتم-أنتن). وهذا على مذهب من يرى أن الضمير هو (أنْ) وحدها. ومن يخالف ذلك يرى أن الحروف كلها هي الضمير وعلى هذا لا يكون هناك (تاء) خطاب.
والرأي الأول، فيما نرى هو الصحيح. وذلك لتوافقه مع أصول نشأة اللغة العربية من حرف واحد هو (أ) ثم ضُمَّ إليه حرف ثان (ن) في مرحلة لغوية متطورة لاحقة فأصبحا (أنْ)، ثم ضُمَّ إليهما في مرحلة لغوية أكثر تطوراً (الألف اللينة) فصارت (أنا) للمتكلم. ثم أُلحقت (التاء) الضعيفة الرقيقة بضمير(أنْ) فصارت (أنتَ) للتقليل من شأن المخاطب والمخاطبة في مواجهة (أنا) للمتكلم، كما نوهنا بذلك سابقاً.
3-للتأنيث: وهي الساكنة الداخلة على الفعل، نحو: ((قامتْ هندُ)). وهذه حرف لا محل لها من الإعراب. خلافاً للجلولي الذي زعم أنها ضمير وأنها في محل رفع.
ولئن كانت (الباء) هي أصل أحرف القسم، فإن (الواو) للقسم بدل منها. أمَّا (التاء) فهي بدل من (الواو)، لأنها أضعفها جميعاً، على ما اتُّفِقَ عليه.
وهكذا يكون العربي قد استعمل (التاء)، سواء في القسم أو الخطاب أو التأنيث، بما يتوافق مع خصائص الضعف الفطريّة في صوتها. لتكون (التاء) على ضعفها هي إحدى الصور التراثية التي تهدينا إلى أصالة اللغة العربية وفطرتها.
6- (مِنْ)
أولاً-حول خصائص حرفيها ومعانيهما الفطرية:
1-الميم)-من معانيها في بداية المصادر: (المصُّ والرُّضاع واستخراج الأشياء من أمكنتها). فكان لها في المعجم الوسيط(33) مصدراً جذراً لهذه المعاني. وكان من معانيها في نهاية المصادر الجمع والضم) ولها (36) لهذه المعاني.
2-(النون)- من معانيها (البطون والصميمية والنفاذ في الأشياء) وكان لها (165) مصدراً تبدأ بها لهذه المعاني.
والمعاني الفطرية لهذين الحرفين تتناسق فيما بينها لتشكل حركة (اندفاع) من الداخل إلى الخارج بفعل جاذبية الامتصاص في (الميم). فيكون معنى (التبعيض أو التجزئة) هو المعنى الفطري الأصل لها، باعتباره هو محصلة خصائص حرفيها: (الميم والنون). فهل سيغلب هذا المعنى الفطري على معانيها واستعمالاتها؟.
ثانياً-حول معانيها واستعمالاتها التراثية
هي لدى (ابن هشام) على خمسة عشر وجهاً. ويرى أن الغالب عليها هو (ابتداء الغاية) فيجعله في مقدمة معانيها ووجوهها. أما نحن، فنرى أن (التبعيض) هو أساس معظم معانيها، فجعلناه في مقدمتها.
1-التبعيض: ويصحُّ أن نطلق عليه اسم (التجزئة)، أي (جزء من)، نحو (شربت من الإناء)، أي (جزءاً من محتوى الإناء)، وكقوله تعالى: ((لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون))(32) بمعنى (جزءاً)، مما تحبون من الأموال. ونحو: (هذا الرجل من قريش)، إذ يشكل جزءاً من رجال قريش. وهذا المعنى التراثي يتوافق مع المعاني الفطرية لمحصلة حرفي (الميم والنون).
2-ابتداء الغاية: وهو الغالب عليها فيما يرى (ابن هشام)، حتى ادّعى جماعة أنَّ سائر معانيها راجعة إليه. فهل هذا صحيح؟.
إنَّ ابتداء الغاية، إمّا مكاني، كقوله تعالى: ((سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى))(33). ولئن كان (إسراء) الله بعبده قد ابتدا (من) المسجد الحرام إلاَّ إن هذا الإسراء قد تضمَّن (استخراج) عبده (مِنَ) المسجد الحرام، بما يتوافق مع أحد معاني (الميم) في الاستخراج كقولنا ((استدنت من زيد)).
وإما أن تكون زمانية. كقول رسول الله (ص): ((فمطرنا مِنَ الجمعة إلى الجمعة)). فالجمعة الأولى فيما نرى هي (جزء) من أيام الأسبوع، أو بعضه.
وهكذا فإن معنى ابتداء الغاية يتماس مع معاني الاستخراج والتبعيض والتجزئة.
3-بيان الجنس: كقوله تعالى: ((ما ننسخ من آية أو ننسها، نأت بخير منها أو مثلها)). ولكن نرى أن الآية المنسوخة هي (جزء) مستخرج من مجموع الآيات. فالمعنى هنا للتبعيض والتجزئة.
وكما في قوله تعالى: ((يُحلّون فيها من أساور (من) ذهب..). ولئن كانت (من) الثانية لبيان جنس الأساور، ولكنها في الوقت ذاته (جزء) من الذهب أو بعضه.
وهكذا يتماس معنى التجزئة هنا أيضاً مع معنى (بيان الجنس).
4-التعليل: كقول الشاعر:
فما يُكلَّم إلاَّ حِينَ يبتَسِمُ)).
((يُغضِي حَياءً ويُغضَى من مَهابَتِهِ
وهذا المعنى يمكن صرفه إلى التبعيض، بمعنى أن (المهابة) هي بعض من مزاياه (صدق. شرف. تقى…)
5-البدل: كقوله تعالى: ((أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة))(34). وهذا المعنى يتماس مع (الاستخراج) بتقدير: ((باستخراجها من حساب الآخرة)).
6-مرادفة (عن): كقوله تعالى: ((فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله))(35). وهذا المعنى يمكن صرفه إلى التبعيض، بمعنى أن (ذكر الله) هو بعض من الواجبات المفروضة عليهم (طاعته-محبته-شكره).
7-مرادفة (الباء): نحو: ((ينظرون من طرْف خفي)). الطرْف بتسكين الراء، هو (تحريك الجفن)، وهو أصل معانيه، بدليل قوله تعالى: ((وعندهم قاصرات الطرْف عين)(36)، كناية عن خجلهن وحيائهن. كما يأتي الطرْف بمعنى (العين). ونرى أن معنى (من) هنا قد أشرب بمعنى (ابتداء الغاية) وما يلابسه من معنى التجزئة أو التبعيض كما أسلفنا.
8-مرادفة (في): كقوله تعالى: ((أروني ماذا خلقوا من الأرض))(37). وهي هنا برأينا للتجزئة والتبعيض صراحة، بتقدير: ((أروني أي جزء من أجزاء الأرض قد خلقوا)).
9-موافقة (عند): كقوله تعالى: ((لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم (من) الله شيئاً))(38). وهذا المعنى يمكن صرفه أيضاً إلى التبعيض بتقدير: من بعض ما عند الله من صنوف العذاب وهو المقصود.
10-مرادفة (على): كقوله تعالى: ((ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا، إنهم كانوا قوم سوءٍ فأغرقناهم أجمعين))(39). والتقدير أنّه تعالى نصره باستخراجه من بينهم فسلم وهلكوا. وهذا المعنى هو أقرب للتجزئة والتبعيض.
11-الفصل: كقوله تعالى: ((الله يعلم المفسد من المصلح)). قال بعضهم أن (من) هنا للابتداء أو بمعنى (عن). ويصح عليها فيما نرى معنى (استخراج) المفسد من فئة المصلحين. وهذا يتماس أصلاً
مع معنى (الفصل).
12-مرادفة- (ربما): كقول الشاعر:
على رأسهِ نُلَقي اللسانَ مِنَ الفمِ)).
((وإنّا (لمّما) نَضربُ الكبْشَ ضربةً
نرى أنَّ (ممّا) تنصرف هنا إلى تقدير ((مَن الذين)) يضربون الكبش، وليس إلى تقدير (لربما) فتكون للتجزئة والتبعيض، لا مرادفة (ربما). وقد اختلف الفقهاء حول هذا الوجه، مما يرجح معه التقدير الذي عرضناه.
13-(الغاية): وضرب لـه (سيبويه) مثالين: الأول: (رأيته من ذلك الموضع) فجعلته غاية لرؤيتك، أي محلاً للابتداء والانتهاء. وقد سبق أن لحظنا أن (الابتداء) يتوافق مع أحد معاني (الميم) في (استخراج) الأشياء. فكأنَّ الرؤية قد التقطت المنظور إليه من (ذلك الموضع). والثاني: ((أخذته من زيد)). وهي هنا لمعنى الاستخراج صراحة فيما نرى بتقدير ((أخذته مما هو موجود لدى زيد))، وليس للغاية والابتداء، كما قرَّر (ابن هشام).
14-التنصيص على العموم: نحو: ((ما جاءني من رجل)). ومعنى التبعيض والتجزئة أولى به هنا بتقدير: ((ما جاءني رجل من عموم الرجال)).
15-توكيد العموم: نحو: ((ما جاءني من أحد)). وهي هنا للتجزئة والتبعيض صراحة بتقدير ((ما جاءني أحد من الناس)). فحذفت لفظة (الناس) بلاغة في التعبير.
وهكذا كان المعنى الغالب على (مِنْ) هو (التجزئة والتبعيض) ومن ثم (الاستخراج) بما يتوافق مع الخصائص الفطرية لحرفيها، مما يؤهلها أن تكون إحدى مستحاثاتنا اللغوية أيضاً.