ترقينات نقدية :
منطق العالم / منطق النص
في حواره مع طرفي المعادلة الإبداعية بمفهوم الاقتصاد المنتج / المستهلك تتعدى الرؤى والتصورات ، وتبدل المواقع والأمكنة التي يتبوأها كل من المبدع / النص / الملتقى ، ففي حالة يكون النص وسيطاً بين شخصين يحاول أن يجعل لنفسه شخصية ثالثة لا ذائبة في الاثنين ، وفي حالة أخرى يصبح الملتقى في مستوى من مستوياته وسيطاً بين النص والمتلقين في مستوياتهم الأقل ومع هذه الديناميكية اللانهائية يصبح لزاماً علينا أن نطرح مجموعة من الأسئلة لا نهتم بإثارتها مرة واحدة أو دفعة واحدة أنما تأتى متتالية ، وفي أوانها.
فإذا ما قاربنا علاقتين من العلاقات السابقة (النص /الملتقى) ونعني بالملتقى ذلك الذي يقف في مستوى أعلى من التلقى ، حيث هو لا يكتفي بقراءة فاهمة تقف عند حدود الإدراك لرسالة أولية تبدو سطحية إلى حد كبير ، قراءة لا تكتفي بذاتها ، تضيء لنفسها فقط عالم النص، وإنما نعني تلك القراءة المضيئة عالم النص لنفسها ولغيرها، وللآخر، ذلك المترقب لمجهود يقترب على مستوى الكم من مجهود المبدع نفسه، إنها قراءة الناقد الذي يدخل النص بغية فك مغاليقه والعزف على أوتاره نغمات هي من صنع النص ليس غيره وهو إذ يدخل النص فإنما يدخله مسلحاً بحزمة من الأفكار عن نص له قوانين تراكمت في ذهنه (الناقد) عبر خبرة بنوع إبداعي هو يعرف قوانينيه شبه الثابتة . هنا يمكننا أن نشير إلى دخول خطر ، فالنص ينتظمه دائما نوعان من القوانين:
النوع الأول : ذلك القانون الذي يدخله في إطار النوع الأدبي من حيث هو قصة أو رواية ونعني تلك الآليات التي يعتمدها المبدع ، والتي يكون على وعي تام بها حال إنتاج النص ، إذ هو يكون على دراية بالقوانين التي تجعل من نصه يندرج تحت نوع أدبي، وهي قوانين يمكننا أن نسميها قوانين الإنشاء التي يعتمدها المبدع لإنشاء الهيكل النصي.
النوع الثاني : تلك القوانين الحاكمة عملية التلقي والمؤثرة في تقريب النص لمدارك المتلقي والقادرة على أن تصنع خصوصية النص.
القوانين من النوع الأول تجعل من النص واحداً من متعدد يشترك مع غيره في مجموعة من الملامح المشتركة كالنص السردي الذي يشترك مع غيره في عناصر الشخصية السردية والمكان والزمان والسرد والاستهلال والوصف وغيرها من قوانين سردية متعارف عليها ، وعلى وجوب تحققها في النص تمييزا له عن غيره ، في حين يجعل النوع الثاني من النص واحداً لا يشترك مع غيره إلا في ملامح المغايرة إذ هو يتفوق أو يقل بدرجات متفاوتة عن غيره من النصوص ، إنه يصنع بلاغته الخاصة ، تلك البلاغة التي تجعل منه نصاً قادراً على الإشارة إلى ذاته باعتزاز.
وقد يلتقي النوعان بدرجة أو بأخرى ولكنهما لا يتطابقان ، فالملتقى حين يحتكم إلى قوانين التلقي يرى النص وقد استقام ، وقد يعيد ترتيب عناصره في صورة لا نهائية من الأنساق التي تخدم عملية إدراكه واهتمامه هو ، ليس ذلك فقط وإنما هو يسعى إلى رؤية النص بصورة مغايرة إلى حد مضاد لرؤية غيره من المتلقين الذين قد يشتركون معه في ثقافة واحدة وتكون عملية التذوق المختلفة قادرة على أن تجعل النص قادراً على أن يعمق علاقته بالملتقى ذلك الذي يتداخل مع النص في علاقة جمالية بفعل جماليات خاصة كامنة في النص، يكون لها تأثيرها في تشكيل العلاقة .
إننا نهتم كثيراً بالقوانين التي تحكم المبدع محاولين معرفة الأسباب التي أدت إلى إنتاج النص رابطين إياه أحياناً بسياق خارج عنه قد يصل إلى حد التنافر ، قد لا يؤثر كثيراً في عملية التلقي وهي عملية موروثة من التراث العربي الذي يصدر النص بعبارات تعورف عليها بجو النص تعرض لعوامل خارجية كانت دافعة لإنتاجه فيبدو الأمر كما لو كنا نبحث عن معرفة النص من خلال المبدع مع أن العكس هو الصحيح إذ يمكننا أن نعرف المبدع من خلال نصه ، وهي مسألة تخرجنا كثيراً عن جماليات النص وقوانينه الخاصة وفي هذا الإطار يمكننا الوقوف عند مثالين يهتم المتلقي فيهما بالعرض دون الجوهر وهي مسألة لها خطورتها عندما يكون الأمر معنياً بتلقين طلاب مراحل التعليم المختلفة بمثل هذه التعاليم في التعامل مع النص.
المثال الأول : ما يدور من خلاف حول معلقة (عمرو بن كلثوم) التي يقال أنها كتبت في زمنين مختلفين متباعدين مستدلين على ذلك بالخطاب المختلف من ابن كلثوم لابن هند إذ هو يخاطبه بداية بقوله:
أبا هند فلا تجعل علينا وانظرنا نخبرك اليقينا
تأويلا للخطاب بالمدح والتقرب والمودة .
بعد قليل يتغير الخطاب :
بأي مشيئة عمرو أبن هند تطيح بنا الوشاة وتزدرينا
فإنه خطاب الذم والعتاب واللوم الذي وجهه ابن كلثوم إلى الملك بعد أن قتل الأول الأخير ووقف على يلوم ويؤنب . وقد نقبل المغايرة التي يتضمنها الخطاب ولكن في الوقت الذي نؤكد فيه اعتزاز العربي بكرامته وحرصه على الثأر [1].
المثال الثاني : خاص بقصيدة المتنبي ، ميميته المعروفة وفيها بيته الشهير :
الخليل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم
فلا يكون لنا هم إلا تفسير البيت أنه : "الذي قتل صاحبه." وهي حكاية لا يقبلها العقل أيضاً فالمتنبي حاول الفرار لأن هناك فرصة تتمثل في مساحة مكانية بينه والذين يحاولون النيل منه وهي مساحة تكشف عن أنه لا مجال لهؤلاء لسماع حديث دار بينه وبين تابعه فإذا قتل هؤلاء المتنبي وتابعه فمن أخبرنا إذاً بهذه الحكاية ؟ [2] التي يكون في صحتها ظلم لبيت المتنبي الذي صاغه صياغة فريدة [3]
هكذا ينال البيت عقوبته لأنه قتل المتنبي طارحين كل الأسباب التي يعرفها التاريخ دافعا لقتل المتنبي الذي لم يقتله إلا عداوة بينه وبين الآخرين، عداوة لم يكن البيت سبباً مباشراً فيها كما نفهم ونحاول اتهام الآخرين . وهكذا نخرج عن النص إلى تعسف واضح يلغي قوانين النص العامة والخاصة ونجعل من النصوص الأدبية توابع لنصوص لا أدبية .
إن النص الذي تضمن لنفسه قوانينه الخاصة لا يقبل أن يفتح بمفتاح غير مفتاحه الخاص ولا يصلح مطلقاً مفتاح واحد لنصين يحملان قدراّ من الفن والجمال .
والنقد التطبيقي حين يتجاوز حدود النص فإنه يقتل نفسه أولاً والنص ثانياً لأنه يصبح مجرد فضفضة تبعده عن أدبية النص وجمالياته.
إنه دخول إلى عالم النص دون وعي بقدرة (النص) ، ذلك القدر الذي يقترب فيه النص من القدسية إلى حد ما .
وقد يظل النص يخضع لتطبيقات متعسفة تبعده عن الفن حتى يأتي من يقارب قوانين النص فيضع المتلقي مكانة النص في نصابها وينزل النص منزلته الخاصة .
إن أزمة النقد التطبيقي ، ذلك النقد الذي يطبق قوانين ونظريات خارجة عن سياق النص أو بالتحديدات عن أدبيته ؛ لهي قوانين تثقل النص ، وإنما تكمن أزمته في البعد عن أدبية النص المتمثلة في قوانينه الخاصة وسبيلنا إلى توضيح ذلك أن نقف عند واحد من النصوص التي أثقلها بعض المتلقين بما ليس من الفن في شيء . واقفين عند استجلاء قوانين خاصة يطرحها النص وتمثل صورة من صور متعددة لقراءة النص وإدراك تجلياته المتعددة .
يستقبل الكثيرون قصيدة المساء لخليل مطران بالوقوف عند الأبيات التي تضمنت بعض الإشارات المفضية لخطأ الشاعر في استعمال لغته [4]، حيث مفردة مآتم:
يا للغروب ومــــا بــــــه عبرة
للمستهام وعـبـــرة للرائي
أو ليس نزاعاً للنهار وصرعة
للشمس بين مآتم الأضواء
مصوبين اللفظ للشاعر الذي كان عليه أن يستخدم "جنائز" بدلاً من "مآتم" محملين النص بذلك منطقاً غير منطقه (وهذا ما سنرد عليه لاحقاً) .
ولكن العودة للقصيدة من بدايتها وتتبع خيط يكاد يكون دراميا يكون من شأنه أن يكشف عن الكثير ، فالبيت الأول :
داء ألم فخلت فيه شفائي
من صبوتي فتضاعفت برحائي
ويمكننا التوقف بعد ذلك عند خمسة أبيات تالية تمثل محطات مختلفة في سياق القصيدة وهي على التوالي وحسب ترتيبها النصي :
السابع :
عمرين فيك أضعت لو أنصفتني لـــــــم يجدرا بتأسفي وبكائي
التاسع :
فغدوت لـــم أنعم كذي جهل ولم أغنم كذي عقل ضمان بقــائي
الثامن عشر :
إني أقمت على الـتـعـلـة بالمنى في غربة قالوا تـكـــون دوائي
الرابع والثلاثون :
ولقد ذكرتك والـنـهــــار مودع والقلب بين مـهـــــابة ورجــاء
الأربعون :
وكأنني أنست يومي زائـــــــلا ورأيت في المرأة كيف مسائي
فإذا ما توقفنا عند أفعال النص في سياقه نجدها تنقسم إلى نوعين حسب فاعلها ،
الأول : أفعال تشترك في كون فاعلها هو ذات المتكلم / الشاعر :
(خلت – أضعت – غدوت – لم أنعم – لم أغنم – أقمت – ذكرك – آنست – رأيت)
أما النوع الثاني : فأفعال تسند إلى فاعل مغاير متعدد ، أفعال من مثل : (ألم – تضاعفت – استبدال – يشفى ...وغيره) ، فإذا عرفنا أن النوع الأول لا يتعدى الأفعال التسعة في
مقابل النوع الثاني الذي يبلغ عدد أفعاله تسعة وعشرين فعلاً فإننا أمام دلالة واضحة تكشف عن غلبة القوى الأخرى على شاعر ضعيف الفعل وأن هذه الأفعال بدورها تشير إلى قوى متعددة لها القدر نفسه من الفاعلية ، ولأن النوع الأول المسند إلى الشاعر لا يقف عند هذه الناحية الكمية وإنما يوظفه النص لإنتاج خط درامي سردي يكون بمثابة الخيط الذي يمثل رابطاً لعلاقات النص ومن ثم إقامة هيكله الوطيد ، فإذا ما توقفنا عند هذه الأفعال التسعة فن كما لا بأس به من الوظائف يمكنه القيام به وهذا معناه الدخول إلى منطق النص الذي لا بد أنه كائن فيه .
والقضية هنا تكمن في أننا نحاول دائماً تحكيم منطقنا على منطق النص أو إجبار النص على أن يدخل في سياق منطقنا نحن متناسين أن له منطقه الخاص النابع من شخصيته التي لا بد من احترامها أيما احترام . وكل الذين تعاملوا مع هذا النص تقريباً لم يفعلوا ذلك ، أعنى أنهم لم يدخلوا النص بمنطقه وهذا ما جعلهم يعولون كثيراً على تخطئة الشاعر في بعض ألفاظه واستعمالاته للغة .
إن دخولنا منطق النص جعلنا نرى علاقات تقوم بين مجموعة الأفعال التسعة التي تكشف عن مرحلتين عاشهما الشاعر ...
الأولى : مرحلة ما قبل حياته في المنفى الاختياري ويمثلها الأفعال .
(خلت – أضعت – غدوت – لم أنعم – لم أغنم) ، وهي أفعال إلى عدم استقرار تتجاور كلها معلناً ركوداً في المكان إذ هي تتراكم بصورة لا تفتح خلالها أفقاً جديداً للمكان ، بادئة حركة واصفة تمهيد لحركة سردية قادمة .
لقد سيطر على الشاعر تخيل يكشف عن تعامله مع الآخر ، أو مع الأحداث تعاملاً من منطقة الخيال والوهم مما نتج عنه – وهذا طبيعي – أحساس بالضياع ذلك الذي أدى بدوره إلى نتيجة حتمية إذ يتحول الشاعر إلى حالة مغايرة يظهرها الفعل (غدوت) حالة لم ينعم الشاعر فيها كالجاهل ، ولم يغنم كالعاقل ولأنه ذات خاصة متفردة لا تقبل هذا الوضع فأنه تلجأ إلى تغيير هذا الواقع بأن يغتاله بالسفر وهنا ينتقل النص إلى مرحلة ثانية هي مرحلة الإقامة في وطن جديد . وإذا كانت الإقامة قد تمت في الغربة فلأنه لم تتح له هذه الإقامة بمعناها الاستقرار في الوطن الأصلى فأنه يتم فعلها في الغربة لأنه لم يجد غيرها أي غربة ، فهو وقد حلم بأن المكان الآخر مكان السفر سيكون الوطن اليوتوبيا فإنه لم يجده كذلك وهذا يؤكد فعل الإجبار .
ها هنا يبدأ النص في حركة سردية تمد خيوطها الواضحة فالشاعر يقيم في المنفى والمنفى يطرح عليه آثاره الواضحة ومن هنا تزداد المساحة بين الفعل الأول (فعل الإقامة المؤكد بإن : أقمت) في البيت الثامن عشر إلى الفعل التالي له (فعل الذكرى المؤكد أيضا بقد : ذكرتك) في البيت الرابع والثلاثين ، فالشاعر يحتاج إلى مساحة تكفيه أو على الأقل تتسع لسرد ما حدث له في الإقامة وما حدث هو في الحقيقة بمثابة الشكوى التي يبسها الشاعر من خلال قصيدته التي تعتمد الفعل السردي في التوصيل والتعبير عن الحالة ، فإذا ما وصلنا إلى لفعل التالي (ذكرتك) يكون الشاعر قد حاول الخلاص مما هو فيه بالخروج إلى عالم آخر ولأنه جرب عالمين (الوطن – المنفى) ولأنه لا ثالث لهما إذا هو لا يريد الدخول في تجربة موطن ثالث فإنه يعود بشكل فطري أو لا إرادي إلى الموطن البعيد مما يجبره على العودة عبر فعل الذكرى .
ولقد ذكرتك والنهار مـودع والقلب بين مهابة ورجاء
ولكن فعل الذكرى الذي يحاول الشاعر الاحتماء به من ويلات المنفى ظناً منه الخلاص فإنه ليس قادراً على أن يكون بمثابة الحماية والذكرى التي ظنها الشاعر ملجأ وحماية وخلاصاً تتحول هي الأخرى إلى فعل مثير للحزن والشجن وهذا ما يرسمه الشاعر من خلال الأبيات التالية :
وخواطري تبدو تجــاه نواظري كلمى كدامـيــة السحاب إزائي
والدمع من جفني يسيل مشعشعاً بسنا الشعاع الغارب المترائي
والشمس في شفق يسيل نضاره فـوق العقيق على ذرى سوداء
مرت خلال غمامتين تـحـــــدراً وتقطرت كالدمـعــــة الحمراء
فكأن آخر دمـعـــــــــة للكون قد مزجت بآخـــر أدمعي لرثائي
وكأنني أنست يومي زائـــــــــلاً فرأيت في المرأة كيف مسائي
فانتقال الشاعر للذكرى يزيد حزنه حزناً مما يجعله لا يحتمل ما هو فيه فيستسلم إلى النهاية المحتومة (آنست – رأيت) وهي نهاية طبيعية تعلن عن توافق الشاعر لحالة جديدة .
إن قراءة النص بهذه الصورة يمكنها أن تستكشف جوانب بعيدة عن منطقية مقحمة عليه ، فالشاعر يختزل قصته في مجموعة الأفعال التسعة ؛ خمسة منها تصف مرحلته الأولى وهي أفعال وصفية وأربعة أفعال تكشف عن حالته في المنفى وهي أفعال سردية في المقام الأول.
إن النص يقدم أسئلة من داخله وينوه عن عالمه وقضاياه من خلال تفاصيل هذا العالم الخاص وهذا ما يؤكد المنطق النصي المشار إليه ، ذلك المنطق الذي يجعل النص قادراً على أن يدافع عن نفسه ، فلقد حاول البعض أن يحملوا النقاد تبعة تخطئة الشاعر في استخدامه كلمة (مأتم) والحجة التي ترفع في وجه النص أن المأتم في اللغة العربية تعني مجتمع الناس رجالاً ونساءً في الغم والفرح ولأن حالة الشاعر النفسية هي الحزن والغم لذا فإن المأتم في شقه الفرح ليس مناسباً ها هنا ، ويمكن للمؤول أن يرد بأن الجنازة وقت الدفن فقط في الوقت الذي يكون فيه المأتم هو الاجتماع قبل وأثناء وبعد الدفن ، وإذا ما أضفنا أن المعنى الذي استقر في الأذهان للمأتم هو الاجتماع للحزن يكون الشاعر محقاً في استخدامه للفظ الدال على فترة حزن أفضل لا توفر في اللفظ الذي يريدون إقحامه (جنائز) ، إضافة إلى ذلك فالشاعر أي شاعر له لغته الدلالية المغايرة للغة المعجمية والتي يباح له أن يغايرها وأن يوظف ألفاظه لما يسعى النص لأن يؤسسه من دلالات ، فإذا ما تم للمؤول ذلك فهل يكون قد استطاع أن يدافع عن النص ؟ ، إذا ما أجبنا بالإيجاب فإن للنص كلمته أيضاً التي تكشف عن قصور المتلقي الذي وقف عند آخر البيت تاركاً أوله فالشاعر الذي يرى الغروب عنده مغايراً لغروب عند الآخرين مما يؤسس رؤيتين لهذا الغروب المجازي أو الحقيقي يبلورهما الشاعر حين يتساءل (أوليس نزعاً للنهار؟) هذا التساؤل الذي يحمل بين طياته قوى الدفاع فالتركيب (أوليس نزعاً) مكون من :-
الهمزة الاستفهامية .
الواو العاطفة التي تعطف مذكور (ليس نزعاً) على محذوف (حياة) .
محذوف قبل الواو (المعطوف عليه) ويكون مضاداً لما بعد الواو المعطوف المذكور .
فإذا ما اجتمع لدينا الحياة والموت (النزع) أصبح لوجود المأتم مبرره وقيمته الفنية والجمالية . المأتم بما يحمل من معنى أصيل : الفرح يناسب الحياة والحزن الذي يناسب الموت :
والشاعر موفق إلى حد بعيد حين يغيب الحياة ويبقي الموت ويجعل الفرح تبعاًَ لذلك غائباً في مقابل حضور الحزن ، هنا يكون النص قادراً تمام القدرة على أن يدافع عن نفسه ولكن من خلال من يمتلك القدرة على الدخول في منطقه (النص) للمغاير لمنطق العالم المألوف ذلك المنطق الذي قد يتوافق بدرجة ما مع منطق النص أو العكس .
السؤال الذي يطرح نفسه ها هنا : هل يحتاج النص إلى نظرية معينة للدفاع عنه أو على الأقل توضيح صورته التي تبدو غامضة أمام المتلقي العادى ؟ تماماً مثل السؤال عن أي المناهج النقدية أكثر قدرة على إدراك فعالية النص ؟ وهو سؤال قد نسارع بالإجابة عليه بأن هناك منهجاً معيناً لديه هذه القدرة وبالطبع نكون متحيزين لفكر جمالي ما ؟ أو هكذا يبدو الأمر كذلك ولكن الإجابة الأكثر واقعية أن الداخل عالم النص هو الأساس في ذلك من حيث قدرته على امتلاك أدوات تصلح لأن تتعامل مع النص ولا يكون الأمر فرضاً أو قسراً على النص في عملية تشبه تماماً من يملك مفاتيح متعددة كل منها يصلح لباب واحد ولا يصلح لسواه تماماً في حين لا يصلح مفتاح واحد لجميع الأبواب ، هذا يجرنا إلى سؤال عن النظرية النقدية وهي منطقة وعرة ينقسم القائلون فيها إلى فريقين : مؤيد لاستجلاب نظريات غربية ومعارض لهذا الاتجاه ، مع أن القضية تثار دون سؤال مهم من الجدير طرحه : هل حاولنا أن نبحث في تراثنا عن بذور نظرية عربية ؟ وإلى أي مدى وصل بنا البحث ؟ وهل تتضمن الثقافة العربية ما من شأنه أن يصلح لتأثيث نظرية نقدية ؟ أم أنها لا تتضمن ذلك ؟ أم أن القضية منسوفة من جذورها لأننا لم نحاول أن نبحث ، ويبقى السؤال عن القبول أو الرفض قبول ما هو قادم من الغرب من عدمه دون النظر لتراثنا في محاولة لاستنطاقه ، هذا على اعتبار أن نحسن الظن بتراثنا النقدي وأننا نميل إلى إجابة السؤال السابق بما نفهم منه أننا لم نحاول ، إذ أن ما حدث للشعر من تواصل – في فترة إحيائه على يد البارودي – تواصل مع التراث العربي المزدهر لم يحدث في النقد أو القصة ، فعندما بدأنا نكتب القصة الحديثة اتجهنا للغرب دون محاولة الربط أو الاتصال بتراثنا وهذا ما حدث في فترة متأخرة في النقد إذ لم نعد إلى هذا التراث النقدي الهائل واتجهنا مباشرة إلى الغرب ، بالطبع فإنني لا أرفض الاستفادة من الثقافة الجادة في شتى منابعها أو صورها فالعرب أنفسهم ما كانوا ليضيقوا إلى حضارة الإنسانية ما لم ينفتحوا على ثقافات عصورهم السائدة ، والنظر إلى ثقافة مغايرة يكون أحياناً دافعاً للإنجاز ولكن علينا في هذا السياق وكما أخذنا من الغرب أن نعيد النظر في تراثنا بصورة موضوعية . فإذا كانت المذاهب النقدية الغربية بصورة عامة والبنيوية بصورة خاصة قد حاولت أن تكشف عن بنية النص في محاولة إدراك وظيفة خاصة لهذه البنية فقد رحنا نتحدث عن بنية دون الوصول إلى المعنى وهي قيمة معيارية تعد واحد مما اهتم بها النقد القديم . يقول د.مصطفى ناصف تحت عنوان قليل من التراث :"كان أجدادنا في مقامات أخرى غير الشعر ينفقون أعظم الجهد في استنباط المعنى وتحقيقه يختلفون فيما بينهم ، ويضيف بعضهم إلى بعض ، ويستوقف بعضهم بعضاً ، نجم عن هذا كله تراث هائل لم يحظ بنصيب من الدرس والكشف . وقد أهملنا هذا كله ورحنا نتحدث عن بنية عجفاء متجاهلين مشكلة التعرف على ما يقوله النص . لقد عدنا إلى ما يقرب من نظرية البلاغة القديمة دون أن ندري ، وتصورنا أن المعنى معروف ، ولم يبق علينا أن نبحث عن بنية وبعبارة أخرى قاسية أبدلنا بكلمة (البلاغة) كلمة البناء أو التركيب ومن أجل ذلك بدت التطبيقات البنائية في العربية أحياناً غريبة ولو كنا أكثر ولاء لبعض آثار النقد الجديد لاستطعنا أن نتشكك فيما نصنع والنظريات لا يمحو بعضها بعضاً . وإن كان بعضها يتعقب بعضاً وما ينبغي أن نعامل النظريات معاملة البدع القديم والبدع الذي ينسخه . الثقافة الإنسانية ليست أزياء وليست أشياء قديمة أو جديدة" [5]
كان ما يشير إليه د. مصطفى ناصف يضعنا أمام مشكلة التطبيق غير الواعي للنظريات الغربية فإنه يحدد واحدة من مشكلتين أساسيتين يعاني منهما النقد التطبيقي الآن أما ثانيتهما بأنها غياب قوانين القراءة من ناحية وتغييب قوانين النص ثانياً وأعنى غياب قوانين القراءة ومجموعة المبادئ التي يفتقد إليها الناقد في دخوله لعالم النص مما يجعل القراءة تبدو انطباعية لا تقف عند خصوصية النص ، فليس من المنطقي ونحن في عصرنا هذا بكل ما يوصف به من عصر العلم والتقدم والتطور الإنساني، أن يظل نقدنا انطباعيا يقف أمام النص الروائي عامداً إلى التلخيص ، وأمام قصيدة النثر أو القصيدة الحديثة واصفاً إياها بكل ما هو خارج عنها دون محاولة استخدام الموضوعية تجاهها وهو ما يجعلنا لا ندخل النص باحثين عن قوانينه التي من شأنها أن تحدد قيمته الجمالية ، وإنما نأخذ منه ما يقع تحت أيدينا دون مجهود حقيقي وهو ما يجعلنا نقول : إن الكتابة تبدو متأثرة إلى حد بعيد بتطور الحياة ومن ثم فإنها تثير إلى طريق مفتوح تكسب فيه كل يوم أرضاً جديدة ولكن عكس ذلك يحدث في جانب التلقي الذي يقف خلف الإبداع بمراحل متأخرة ونعني بالتلقي ها هنا المستويات المتعددة والمختلفة له بداية من الملتقى العادي وصعوداً إلى الملتقى الناقد ، وهو تأخر لا تخطئه العين وله أسبابه التاريخي منها والمعاصر ، ويمكننا دون تعسف أن نقف عند الحلقات المفقودة في قضية التلقي محاولين إعادة النظر في القضية برمتها على الرغم من اتساعها وتشعبها .
إننا نقف عند رأس القضية ونعني الناقد حين يعتمد على مذهب غربي أو نظرية نقدية مستوردة موجهين إليه اللوم إما بمجرد الاستيراد وإما للخلل في التطبيق متناسين النظر إلى الجذور أو الأساس الذي نتجت عنه أزمة النقد ، ويمكننا الوقوف عند مجرد مجموعة من الأسباب ، أولها يترتب عليه ما تلاها من أسباب ومع أنها قد تبدو بعيدة عن مجال حديثنا ولكن ذلك ظاهرياً فقط :
العملية التعليمية .
وسائل الإعلام .
الأسرة والظروف الاجتماعية .
* * * * *
أولا ً: العملية التعليمية :
منذ المراحل الأولى للتعليم العملية التعليمية لا تسير وفق استراتيجية صحيحة فالعشوائية هي العملية المسيطرة على مجريات التعليم ، والآلية السائدة في التعليم ما قبل الجامعي هي التلقين دون غيره من آليات يمكن الاعتماد عليها في إجراء واحدة من أخطر العمليات التي يمكن من خلالها الارتقاء بالإنسان العربي ، حيث يتحول الطالب في مرحلة التعليم ما قبل الجامعي إلى مجرد كاسيت ليسجل دون أن يستوعب وعليه فقط أن يردد ما خزن فيه دونما أية محاولة للفهم ، والحالة المتردية التي وصلت إليها اللغة العربية في آليات تدريسها تكشف عن خلل واضح في هذه المراحل التعليمية ، والأعمال الأدبية المقررة ليست إلا نصوصاً سيئة السمعة عند القائمين على تدريسها لأنهم يعتبرون الأدب ترفاً يمكن الاستغناء عنه ، كما أن الفصل بين قواعد اللغة (النحو) والبلاغة يجعل النحو مادة جافة يحفظها الطالب دون دراية بها أو بالناحية الجمالية التي تجعل لكل قاعدة نحوية وظيفة فنية وعلينا أن نعي تماماً لم يضعوا قواعد اللغة نحواً أو بلاغة وإنما جاء ذلك عن وعي بذوق وجماليات ، ومن هنا علينا إدراك ذلك ، وأول من يجب عليه الوعي بذلك هم القائمون على التعليم فالعملية التعليمية في انهيارها الآن قائم بالأساس على من يقومون بالتدريس إذا لم تعد المسألة مسألة علم لأجل العلم . طبعاً لست متعسفاً فإذا كان هناك – وهذا موجود بالفعل – من يقومون بدورهم على وجه مكتمل فإنهم قلة بالطبع لا يقاس عليهم وليسوا مؤثرين بالدرجة الكافية .
وقد حول التعليم هذه الأجيال إلى مجرد أجهزة كاسيت تختزن دون وعي والقاعدة المؤكدة التي يمكن تطبيقها الآن : يظل الطفل المصري ذكياً حتى يدخل المدرسة ، إننا لم نغرس في الأجيال الجديدة القدرة على أن تتذوق الفن والإبداع لذا كانت نظرتهم قاصرة غير قادرة على النظر الصحيح .
عندما سئل طه حسين عما حققه للأدباء ، قال : "صنعت لهم قراء يعرفون قيمة الأدب" .
فإذا ما قورن التعليم قديماً بالتعليم في حاضرنا على صورته المشار إليها أمكننا أن نخرج بنتيجة حادة وحاسمة مؤداها : أن التعليم الآن وخاصة في مرحلة التشكيل أي ما قبل الجامعي لا يترتب عليه فقط إحداث خلخلة في التفكير وإعدام لكل العقول التي من المؤمل أن تكون منتجة للفكر في صورته المختلفة وإنما هي تحرم الأدب من جمهوره فتمارس قتلاً آخر يتمثل في القضاء على المتلقي أو بصيغة أخرى تتوقف على إنتاج المتلقي ، فإذا ما سايرنا النظريات الأدبية والنقدية المعاصرة التي ترى في المتلقي عنصراً فاعلاً في إنتاج الدلالة في النص حتى أنها تجعله الأب الشرعي للنص لأنه يمنحه معناه ودلالته ، فإننا نصل إلى نتيجة أشد قسوة وهي أن العملية التعليمية تصدر للحياة أشباحاً مصيرها خارج دائرة التاريخ .
ثانياً : وسائل الإعلام :
ما يحدث في وسائل الإعلام وأخص (المرئي والمقروء) يعد نتيجة طبيعية للعامل السابق . فالتجاوزات التي تصيب هاتين الوسيلتين نتيجة حتمية لما يحدث في العملية التعليمية (يرجى العودة إلى نوعية البرامج الثقافية والبرامج المهتمة بالإبداع هذا فيما يخص التليفزيون أما الصحف فيرجى العودة إلى بعض الأساليب الصحفية وخاصة في ما يشير إلى جانب الصياغة والأسلوب).
ثالثاً : الأسرة والظروف الاجتماعية :
متعلم اليوم هو رب أسرة الغد وما يحاصر به الآباء أبناءهم من تعليمات تبعدهم عن قراءة كل ما هو خارج المقررات الدراسية ما هو إلا نتيجة لتعلم خاطئ لا يغرس في المتعلم ما يجب أن يغرس فيه ، ما زالت بعض الأسر تحرم الروايات والأعمال الأدبية . بحجج كنا نسمعها من عشرات السنين وما برحت تعد رواسب لهذه السنوات ، ما يقبله المتعلم محرم عليه وما لا يقبله مباح ولا يخفى دور القراءة في تكوين الشخصية أولاً والفعل ثانياً . وفي الوقت الذي أصبح فيه الحصول على الكتاب المستعار من مكتبات تنتشر في كل مكان ، ما زلنا نرفع شعار الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي نعزو إليها ابتعادنا عن القراءة.
إن مجموعة من الأسئلة يمكن إثارتها في النهاية ، أسئلة تخص المتلقي فالمبدع فالناقد وأعنى بالمتلقي ذلك القارئ غير الناقد.
هل بإمكاننا بوصفنا متلقين أن نؤمن بدور النقد وأن نقبله بوصفه وسيطاً يعبر عن رأي صاحبه الذي يتحمل وحده مسئولية الإقناع ؛ إقناع الآخر ممن يشاركه الدخول إلى عالم النص بأن لديه من المبررات الفنية مما يجعله يقارب النص من منطلق جمالي وصولاً إلى تحكيم منطق النص ، ذلك العنصر الجمالي الذي يجب أن يكون له السيادة إلى حين ؟
وهل نحلم بنقد تكون فيه مساحة القيمة الجمالية بقدر مساحة الفن الذي يتحرك في إطار النص هل نتحمل تبعة أن نكون بارتيين (نسبة إلى بارت) عندما نناشد الآخر الناقد ، عليك أن تهمس لنفسك من أين نبدأ ؟ وأن تتحمل قرارات النص بوصفه شخصية قادرة على أن تتخذ قراراً أيا كان هذا القرار ؟
وهل نكون محقين إذا طالبنا المبدعين – ولا تحدد وسيلة معينة – بأن يعملوا على إنتاج أو فلنقل صنع القارئ ؟ وهل نحلم بفاعلية أكبر على المستوى في محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه مما أفسدته مراحل التعليم ما قبل الجامعي ؟ بغية أن نجعل القارئ أكثر إيماناً بدور النص الأدبي فهذا واحد من السبل لنجعله أي القارئ يؤمن بدور النقد ليتاح له أن يقوم بدوره ؟
فلتكن أسئلة تعبر عن أحلام مشروعة حتى إن كانت شخصية خالصة .
هوامش وإشارات :
[1] - يتناقض هذا مع كل ما نلقنه لأبنائنا من أن قلة شعر الاعتذار في الجاهلية مرجعها اعتزاز العربي بنفسه، وأن حرب البسوس استمرت أربعين عاماً بسبب ناقة فكيف يمكن قبول أن يقتل ملك في عقر داره دون أن تشتعل الحرب متناسين طبيعة العربي وأخلاقياته التي تقيم للمرء حرمته ومتناسين أن العربي كان يمتلك قريحة نقية تجعله قادراً عل إنجاز نصه دون تجزئة .
[2] - بالطبع يمكن تصديق الحكاية لو علمنا أن الأقمار الصناعية الخاصة بأمريكا مثلا كانت ترصد الحدث .
[3] - يمكن العودة للتحليل الرائع الذي أنجزه الناقد المعروف د. صلاح فضل للبيت ، بوصفه نصا قائما بذاته ، متفردا من بين أبيات الميمية ...انظر : د. صلاح فضل ، مجلة العربي ، عدد يونيو 1990.
[4] - نجح التفسير المدرسي لمعلمي اللغة العربية في مصر بما له من سيطرة على عقول الطلاب ، وبما يمثل من معرفة تكون أساسا لتراكم معرفي بالنص نجح في تصدير خطأ الشاعر في استخدام مفردة (مأتم) في البيت الثلاثين من القصيدة .
[5] - د. مصطفى ناصف : خصام مع النقاد ، النادي الأدبي الثقافي بجدة ، 1999، ص 463.
د. مصطفى الضبع / مصر
eldab3@hotmail.com