النزعة الإنسانية ... وموت الإنسان 1
إذا كانت دراسات كلاستر قد ساهمت في تحرير النفي الذي مارسه الغربي على الوحشى فيما يتجاوز المعرفة العلمية به، وهو نفي أدى إلى إقصاء الغير من فلك الأجتماع ، فإن الدراسات في ميدان الأستشراق، ونعني على نحو خاص دراسة ادوارد سعيد عن الاستشراق، تسعى بدورها الى التنقيب عن أصول النظرة الغربية الى الشرق، والى تعرية النفي الذي مارسه الغربي على الشرقي، والذي كان من نتائجه استبعاد هذا الأخير من دارة الرقي والتقدم، وإقصاؤه الى عالم التخلف والأنحطاط ، وبالفعل فقد أراد صاحب الأستشراق، أن يكتب أثريات الأستشراق ، على غرار أثريات المعرفة الإنسانية عند فكو، وبالأستناد الى منهجها، محاولا أن ينزع الأغلفة التي تطفو على رؤية الغرب الى الشرق، وأن يتقصى جذور النظرة التي يتحدث بها الأوروبيون عن العرب والمسلمين، أي أراد أن يذهب الى أبعد مما تقوله لغة هذا العلم الذي سمي استشراقا، محاولا فضح أقاويلها بتبيان ما تنطوي عليه من أوهام الذاتية، ذلك أن تصور الغرب للشرق إنما هو تصور ينتج فيه الغرب ذاته أيضا، فنظرة الغرب للشرق تتضمن قدرا من النفي له ، وحقيقة النفي نفي الأنا للآخر ، أن ننفي عنه ما نمتلكه نحن، فنرى فيه ما نستبعده من أنفسنا وما نقصيه من ذواتنا.
فكل معرفة بالآخر تتضمن نفيا له بوجه من الوجوه، تؤكد من جهة أخرى في الذات على ما تنفيه عند الآخر، أوتنفي في الذات ما تجده عند الآخر، وبمعنى أدق كل معرفة بالآخر هي وجه من أوجه المعرفة بالذات، بقدر ما هي مظهر من مظاهر نفيه، ونفي الغرب للشرق معناه الحكم على الشرق ليس بما هو فعلا فيه أو يشتمل عليه من مظاهر التخلف، بل بما في الغرب من ذات المظاهر، فإذا كان الغرب هو في نظر نفسه العقل والحرية، فالشرق هو الخرافة والأستبداد، وإذا كان الغرب مصدر الحداثة والتقدم فالشرق موطن التقليد والتخلف، وإذا كان الغرب هوموطن النزعة المادية فالشرق هو موطن النزعة الروحية . وهكذا ينتج الغرب الشرق بما ينفيه عن نفسه، اي ينتجه على نقيضه تماما، فيصفه ويصنفه ويحلله ويقيمه بغية امتلاكه وتطويعه، فوراء المعرفة بالشرق تكمن إذا رغبة الغرب في أن لا يرى إلا ما تعطيه نفسه، وإرادته في السطيرة والإخضاع.واليوم تنحو المباحث في علوم الإنسان الى بلورة مفهوم للإنسان أكثر توازنا واعتدالا، وذلك بدمج المستويات والمياديين المعرفية التي تتناول دراسة هذا اللغز الوعي المضاد ـ نظرة التشكيك في الغرب بنظرته الى ذاته والى الآخر على السواء ، وإعادة النظر بادعائه أنه مركز العالم ومحور التاريخ ومرجع البشرية، بل ومصدر الحقيقة، إنه تشكل الوعي المضاد على حد تعبير ادوارد سعيد ، وعي مضاد في الذات الغربية وفي كل ذات تروم الانسلاخ عن البشرية، وكل هوية تميل الى العزلة والانطواء وكل جماعة تنظر الى غيرها بمنظار التفوق والاستعلاء أو تنزع الى اسعباد الآخر ونفيه واقصاؤه.
وهذا يحمل على اعادة النظر في مفهوم الإنسان نحو تصور أكثر تكاملا ، لا يسقط الطبيعية الحيوانية التي تقبع في داخلنا، ولا يهمل الميول التي نندفع بها، بل نتدافع بسببها ، ولا يتغاضى عن الشهوات التي تسكننا، تصور يتجاوز الثنائيات التي تصنف البشر بين قطبين ، الأعلى والأدنى ، النبيل والدنيء، الحسن والقبيح، السوي واللاسوي المؤمن والضال المتحضر والبدائي، ففي داخل كل منا يعيش طفل أو فاسق أو مجنون أو همجي ، إنه تصور لا يجعلنا ننفر أو نشمئز من الآخر والغريب، فالغير هو الوجه الآخر لنا ، معتقده هو القناع الذي يتلبسنا ومذهبه هو السبيل الذي قد نتبعه برغبة أو بدون رغبة وهوية قد تكون الصورة التي كنا ننطوي عليها.
نحن إزاء تصور يعترف بما هو أدنى كما ينزع الى ما هو أعلى ، ويستعيد الماضي كما يستشرف المستقبل، وينفتح على الغير كما ينطوي على الذات.
فالإنسانية لا تستغرقها ثقافة بعينها ولا تحتوها جماعة واحدة أو عرق مخصوص ولا حقبة معينة ولا معتقد خاص.
وما الإنسانية إلا هذه الشفافية التي يبدها هذا الكائن الطبيعي الذي هو نحن إزاء نفسه، إنها الثقوب التي تخترقه والتجاوز الذي يسعى الى تحقيقه، والمغايرة التي يستنبطها والمفارقة التي ينطوي عليها ، وهي البحث عن الزمن الضائع والارتحال وراء الدلالات ، باختصار إنها تلك المسافة التي يصنعها الإنسان بينه وبين نفسه ، فنحن كائنات خاصتنا المجاز، ولعل هذا ما تقوم به كينونتنا ، لا مراء في أننا ننزع الى التغاير ونتوق الى المفارقة ونهجر صوب الحق . لكن ينبغي الأعتراف بأنه لا قدرة لنا على استبعاد الجسمانية والحيوانية من أفقنا، أو على اقصاء الطفل والمجنون أو نفي الغريب ، فهي الوجوه الأخرى لنا ، هي ما كناه وما يمكن أن نكونه، ولا مجال للحديث عن نفوس مريضة أو ضمائر فاسدة أو عقليات بدائية أو شعوب متخلفة، كما لا مجال للحديث عن مقالات تخلو من المعاني والدلالات ، فأحلامنا هي منبت وعينا وطفولتنا هي الأثلام التي تؤلف معالم شخصيتنا، وأخطاؤنا هي التي تولد أفكارنا ، وخرافاتنا هي الوجه الآخر لعقلانينا ، وهكذا فقدرنا أن تتجاذبنا الملازمة والمفارقة ، أن نتأرجح بين الوجود والعدم ، أن نحيا بين النعيم والشقاء قدرنا أن نزهد في الدنيا رغبة فيها، وأن نلتقي بالآخر هربا منه، وأن نهوى الروح جزعا من فرط الجسد، وليس ذلك دعوة يائسة بقدر ما هي دعوة للاعتراف بضعفنا، دعوة لنكون أكثر تواضعا وتوازنا وتكاملا في النظر الى أنقسنا. فالحكمة قد علمت الإنسان منذ القدم أن السبيل الأفضل لحل المشكلات هي مجابهتها وأن الطريق الملكي للسيطرية على الأشياء هو العلم بها أي معرفة قوانينها واكتناه طبائعها .
وهذا الوعي يفتح افقا جديدا لتصور الأنسان والهوية، فإنه يحمل على إعادة النظر في فهم العقل العربي للإنسان والذات ، فكيف يتصور الفكر العربي المعاصر إشكالية الإنسان ؟ وما هي بالتالي صورة الإنسانية العربية ؟
لا شك أننا إذا أردنا أن نتعررف الى الإنسان في الفكر العربي المعاصر فلن نجد له صورة واضحة ، فالمفكرون العرب لم ينظروا بشكل جدي لما تعنيه كلمة الإنسان ولم يبلوروا مفهوما محددا للإنسان ، ولاعجب في ذلك، ان هذا المفهوم هو مفهوما جديدا، كما خلص الى ذلك المفكر الفرنسي فوكو في الأسطر الأخيرة من الكلمات والأشياء.
وإذا كان مشروعا أن نستعيد الإنسان الذي أستلب في الماضي ، في التاريخ والتراث ، فإنه ينبغي أن ننظر فيما آلت إليه الحضارة التي تمحورت حول الإنسان ومن أجله، لكي نعرف معنى قيام علوم إنسانية ، أو لكي نتسائل عن إنسان اليوم هل هو موجود أم لا؟ وبكلام آخر هل يفضي بنا تحويل الإنسان الى مقولة مستقلة ، الى حل الأزمة التي يعاني منها الإنسان المعاصر ؟ هذه التساؤلات تستحق ان ينظر بشأنها ، وأن يعثر على حلول لها ، فعلوم الإنسان شاهد على على أن الإنسان الحديث بمقدار ما تعمق في أغوار ذاته افتقدها أي افتقد صورة الإنسان كما تكونت في الفكر الفلسفي ، فوراء علوم الإنسان تكتشف في النهاية قوانين الرغائب وأشكال الرموز وأحاجي الخرافات ، وكل ما يمت بصلة الى مفهوم الإنسان حسبما نعرفه أي حسبما نعرفه ونتعرف إليه وهذا التشكيك إنما يطال الأسس تقوم عليها علوم الإنسان ويطرح التساؤل حول ضرورتها ومشروعيتها .
فهل علوم الإنسان ضرورية ؟ وهل بالفعل هناك قدرة على اقامة علوم إنسانية ؟ وهل أن ما يعرف ويتصور قابل هو نفسه لأن يعرف ويتصور ؟ وهل ما يعقل من أشياء وكائنات قابل لأن يعرف؟
إن مشروعية علوم الإنسان كعلم، كان قد طرح منذ القدم، منذ أرسطو وهو أول من تساءل حول إمكانية قيام هذا العلم ، علم الفرد بحسب تعبيره، وفي الواقع فإن علوم الإنسان علوم ملتبسة ، فهي ليست علوم تدرس الأشياء والكائنات كالفيزياء وعلم الحياة ، وليست أيضا من قبيل الأعتقاد والأوهام ، إنها معارف عن الإنسان لها ميادينها ومناهجها ومفاهيمها ومصطلحاتها، لكن هذه العلوم تختلف عن العلوم الطبيعية في كونها لا تتوجه الى معرفة الإنسان من الوجهة التجريبية ، أي ككائن حي ناطق، عارف، عالم، فاعل، بل تتوجه كذلك الى الكيفية التي يتصور بها حياته واجتماعه ، أي الى كيفية مضاعفته لها من خلال الوظيفة، والنزاع ،والدلالة، ثم كيف تتضاعف هذه التصورات عبر تصورات أخرى، كالمعيار الذي يحدد الوظيفة، والقاعدة التي تضبط النزاع، والنسق الذي يجعل المعنى امرا منظورا ، وبمعنى آخر فعلوم الإنسان تحتل هذه المسافة بين ما عليه الإنسان بالفعل وما يجعل من معرفته امرا ممكنا، حسبما صاغ المشكل صاحب الكلمات والأشياء، أي بين ما يتصوره الإنسان وبين ما يجعل هذا التصور أمرا ممكنا ، بين ما يعقل وما يجعل العقل أمرا ممكنا ، إن هذا الألتباس إنما يرد الى إزدواجية الإنسان ذاته أي ثنائيته، ذلك أنه إذا كانت العلوم الإنسانية تكرر العلوم وتضاعفها، فإن هذه المضاعفة لا تفهم من خلال إزدواجية الإنسان ، إزدواجية الحس والعقل ، والملازمة والمفارقة، التاريخي المتعالي والتاريخي الوضعي ، الوعي واللاوعي وهكذا،إذا فعلوم الإنسان تطل في في النهاية على الرعبة والموت واللغة في حدودها القصوى، اي عل الرغبة في حالتها الوحشية ، على اللغة بوصفها نسقا فارغا، على الموت كمعيار أقصى تسعى على الدوام الى ان تعقل ما لا يعقل والى ان تتصور ما يستعصى على التصور ، ولذلك فإن العلوم الإنسانية تفضي في مآلها الأقصى مع التحليل الأثنولوجي الى زوال الإنسان الى بلوغه الضفاف التي تحده حيث ينطفئ الفكر ويفلت الأصل ويرخي الموت سدوله ، وهذا معنى موت الإنسان ، إنه استحالة الوصول بهذا الكائن الطبيعي الذي هو نحن الى معرفة صادقة وحقيقة ، وكأنه على من ينشأ العلم يصير هو ذاته موضوعا للعلم ، ولهذا السبب يبدو أن كل معرفة بالأنسان تفضي الى الأفق المغاير فالإنساني حده مجهول، والمعني يحيل دوما الى اللامعنى ، وهكذا فالمعرفة بالإنسان محكومة بتعارض لا فكاك منه فالعلم بالإنسان ثمنه التضحية بالذات ، وهذا الطفل المدلل الذي احتل واجهة الفكر منذ القدم وقع بين خيارين ، إما ذات بلا معقولية وإما معقولية بلا ذات وهذا هو مأزق العلوم الإنسانية في النهاية، إن هذه العلوم تثبت أنه لا يمكن تناول الإنسان كمادة للمعرفة بمعزل عن الكون الذي يحيط به والطبيعة التي تحده ،وهذه تحيل الى المنظومات والقواعد اللاشعورية التي تكشف عن شروط الوعي ومصدر الدلالات ومرجع الوعي .
من قلم : تيسير الفارس