توأمان في مكتبة الدكتور محمد الداهي
عرفت وتيرة الكتابة عند الباحث المغربي محمد الداهي تزايدا كبيرا .والواقع أن هذا الانضباط ينم عن زخم في الكتابة النقدية ،كما يكشف عن مراس نظري وتطبيقي مميزين . وأبت عزيمته خلال هذه السنة إلا أن تخرج للقراء المغاربة والعرب كتابين اثنين .جاء الأول بعنوان :
التشخيص الأدبي للغة
مقاربة سيميائية-اجتماعية
أما الثاني فيحمل عنوان :
وقد توصلنا من الصديق عبد المولى بنمالك بدراستين للكتابين معا ننشرهما دعما لمجهود الصديق الباحث محمد الداهي :
صدر مؤخرا كتابان للدكتور محمد الداهي. يحمل الأول عنوان سيميائية الكلام الروائي ( منشورات المدارس، الدار البيضاء 2006)، أما الثاني فموسوم بـ التشخيص الأدبي للغة في رواية الفريق لعبد الله العروي (منشورات دار الأمان، الرباط 2006). صدر الناشر الكتاب الثاني- الذي سنحاول بيان بعض مفاصله في هذا المقال- بشهادة للدكتور عبد الله العروي تحت عنوان " الفريق وجاذبية الواقع". وفيها بين المفكر والروائي عبدالله العروي الملابسات العامة التي أوحت له بكتابة رواية الفريق (1996) التي تعتبر، في نظر النقاد، من بين الروايات العربية الشاملة التي استطاعت بنياتها أن تستوعب تحولات اجتماعية، وتواكب تأثير الخطابات الإيديولوجية في نفسية البشر وتطلعاتهم. " كان المشروع إذن، من البدء تقنيا، بمعنى أن المراهنة كانت على اللغة والأسلوب. والتعامل مع اللغة، على مستوياتها المختلفة، هو الذي جعلني أنقاد كليا للواقع.. منذ البداية لفت انتباهي عدد اللاعبين على الميدان، أحد عشر بعد الحارس.رقم ساحر ما ذكرت بعض الأسماء ( محمد، علي، الحسين) حتى استتبعت السلسلة كاملة، سلسلة الأئمة وكان الإغراء قويا أن أسحب مكارم الاسم على المسمى. أنقذني من " الخطأ" هم الواقع بقيت أصداء من الميل العابر قد تؤثر في شعور بعض القراء النبهاء. لا تنافي ، إذن، بين الواقعية والرمزية، بل خطر الرمز كامن في الواقع المجرد. واجب الكاتب هو الممانعة. وهذه لا تتحقق إلا إذا شحنت الرواية بأكبر قدر ممكن من دقة وصف وكمال" ص4.
يدور الكتاب حول سؤال جوهري يتعلق ليس بدور اللغة في نسخ الواقع وتشخيصه وإنما في قدرتها على جعل القارئ يعتقد بأنها تنسخه أو تشخصه. ويقصد بالتشخيص الأدبي للغة ذلك الوعي الذي يتسم به بعض الروائيين لتمييز الشخوص لغويا وفق انتماءاتها الاجتماعية والطبقية ومواقفها الإيديولوجية. وفي هذا الصدد يستبدل عبدالله العروي مفهوم الأدب المساوي للواقع بمفهوم علائقي يفترض إعادة تشخيص الواقع عبر الكلمات والأخيلة والرموز. وهذا ما يضفي على الكتابة بعدا لعبيا يكشف عن هموم الكاتب وأحلامه وأسئلته.
تناول محمد الداهي معضلة التشخيص الأدبي للغة ( أو ما يصطلح عليه كذلك بمعضلة صورة اللغة) بمنهجية سيميائية واجتماعية(Socio-sémiotique).فبعد أن عرض محمد الداهي تصور كريماص وبيير زيما لهذه المنهجية، خلص إلى التركيب الآتي :
1-تشخيص الظواهر الاجتماعية على المستوى اللغة التخييلية، والتعامل مع البني الخارجية للنص بوصفها بنيات لغوية.
2-إضفاء مسحة اجتماعية على المفاهيم السيميائية حتى تتخلص من الطابع السكوني أو البنيوي الصرف.
ويتكون الكتاب من الفصول الآتية:
1-الأشكال الأولية للسرد: قدم فيه محمد الداهي نظرة مجملة عن التحول الجوهري في الرواية، ورصد التنظيم التركيبي وما يستتبعه من جهات أساسية وبرامج سردية وبرامج سردية مضادة وآليات الوصل والفصل. واستعان بمقولتي الظهور والكينونة للكشف عن أوجه الشبه بين مدلول المظاهرة ( ما حدث في الدار البيضاء) ومدلول البركان (ما حدث في ميسور).
2-التمفصلات الدلالية للزمن: حاول التوفيق بين التقنيات الزمنية وأبعادها الدلالية؛ وذلك بالتركيز على موضوعاتية الزمن المتواترة، وتزمينها سيميائيا، وبيان تجلياتها الخطابية، وتدارك ما لبعض المفاهيم الزمنية من حمولات موضوعاتية ودلالية، واستثمار بعض تصورات ميخائيل باختين حول الكرنطوب، وجعل التجربة الزمنية مرتبطة بالمتلفظ بوصفه ذاتا اختبارية أو ذاتا نصية تثمن الزمن من الوجهة الاجتماعية.
3-التناص: تعامل محمد الداهي مع التناص بوصفه آلة لامتصاص اللغات الشفهية والمكتوبة، والتصرف فيها بإدخال تحويلات وتعديلات عليها، وإعطائها منزلة خاصة داخل الراوية. وقد مكن التناص الباحث من تشخيص الوضعية الاجتماعية واللغوية، واستنتاج اللغات الاجتماعية التي كانت سائدة في المغرب خلال الفترة الزمنية المتحدث عنها (1986-1985).
4-اللغات الاجتماعية: اشتغل محمد الداهي على جملة من الخطابات الاجتماعية ( الخطاب الليبرالي، الخطاب الديني، خطاب السلطة، خطاب الرأي العام، خطاب الجمعية الرياضية..) مبينا مقوماتها المعجمية والدلالية، ودورها في تعميق الهوة بين التطلعات والواقع، وتشخيص عوائق التحديث في المجتمع.
5-اللغة الثالثة: أفرد محمد الداهي فصلا للغة الثالثة التي تعتبرها رواية الفريق نموذجا للغة المحكية، ذولك للتوقف عند بنياتها التركيبية والنحوية والمعجمية والصوتية، واستخلاص الإيحاءات الطبقية والإقليمية منها.
6-إيحاءات اسم العلم: اعتبر اسم العلم دليلا لغويا، مشددا على بعده اللغوي ومساهمته في إغناء التعدد الصوتي والدلالي للرواية. وقد اتضح، من خلال التحليل، الوعي الكراتيلي بالأدلة عند الكاتب. فهو اختارها بناء على ما تتضمنه من تعليلات صوتية وصرفية واشتقاقية، وما تخضع له من قواعد منطقية وجمالية وإيديولوجية.
7-ملاءمة الكلام في البنية العاملية: أبرز الباحث مدى أهمية الكلام في تحريك البرامج الحكائية، ونقل الفعل من العالم الطبيعي إلى العالم السيميائي، وتمييز القوى الفاعلة حسب قدرتها على التواصل والإقناع (وهو سيتوسع فيه في كتاب سيمائية الكلام الروائي).
من خلال هذه الكتاب نخرج بالتأملات الآتية:
1-حاول كتاب محمد الداهي أن يعيد الاعتبار لدور الأصوات الإيديولوجية والذات الفاعلة والأنساق الثقافية في إنتاج النص الروائي وإضفاء الحركية عليه. ولهذا تحرر الباحث نسبيا من التصور البنيوي الذي كان يبحث عن العلاقات الشكلية في النص على نحو يجردها ويفرغها من حمولاتها الدلالية.
2-أعاد النظر في بعض المفاهيم حتى تكون منسجمة مع تصوره النقدي ( التوليف بين المقاربة السيمائية والمقاربة الاجتماعية). فهو، في غياب تحليل اجتماعي للوضعية الاجتماعية اللغوية، لم يتعامل معها بوصفها معطى خارجيا، وإنما استنتج معالمها الكبرى من بنية النص الروائي، وحصرها في لغات اجتماعية تبين موقف بعض الفئات الاجتماعية من التحولات الاجتماعية التي عرفها المغرب خلال الفترة الزمنية المتحدث عنها. كما أنه استبدل مفهوم الرؤية للعالم باللغة الاجتماعية(Sociolecte) التي تعتبر بنية خطابية يتحكم فيها مفهوم الملاءمة في اختيار الألفاظ وتنظيمها في شكل تشاكلات دلالية. وهكذا بدلا من يسقط معطيات اجتماعية وإيديولوجية على النص عمد على استنتاجها منه معززا أطروحة مفادها أن البنيات الاجتماعية ملازمة لعوالمه الداخلية وأن العلاقة بين الاجتماعي والأدبي تتشخص على المستوى اللغوي ( من خلال التهجين، والأسلبة، والتنويع، والمحاكاة الساخرة، والأجناس المتخللة)، ومدعما المحايثة النصية في تقاطعها التحولات الاجتماعية التي تحكمت في إنتاج الرواية، وتفاعلها مع الذوات الفاعلة ( الأصوات المتعددة) التي أسهمت في تنويع بنياتها بالتعدد اللغوي و العينات الإيديولوجية(Idéologèmes).
3-لقد أسعفت اللغات الاجتماعية المستخلصة من الرواية على إبراز عوائق التحديث في المجتمع المغربي، واستجلاء تصاعد المد التقليدي في مختلف أشكاله و تجلياته. وتتمثل عوائق التحديث في عدم قيام الوسائط الاجتماعية ( وفي مقدمتها الجمعية الرياضية) بدورها التأطيري، واستغلالها من ذوي النزوع التقليدي لتسريب قيم قديمة والحض على " الجهاد"، وتهافت الناس على الانخراط فيها ليس اقتناعا بمحتوياتها وإنما لإدراك مآربهم الشخصية ( كل شخصية يحذوها أمل في تحقيق غرض من الأغراض الشخصية) ، وإحياء أشكال الترابطات الاجتماعية التقليدية ( التضامن القبلي والعشائري). وهذا ما جعل شخصية واحدة ممن راسلتهم لجنة المساندة تقاطع المشروع الرياضي بمدينة الصديقية بدعوى أنه يقوم على إثارة التنابذ والعصبية القبلية بدلا من إذكاء روح التعاون والتعارف. " لقد جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا. ما قال: لتناحروا ولتمايزوا. لو قلتم هذه جمعية سكان لإذكاء روح التعاون لكانت فكرة حميدة. لكن قلتم هذه جمعية أولا والفرق لايحتاج إلى توضيح. لا يحق أن نرجع إلى عهد التنابذ بعد أن هدينا إلى كلمة سوء. لست منكم ولا أنتم مني. والله يحكم بالحق بين القوم الظالمين" ص109.
وهكذا، يتضح أن الرواية ترهص بتنامي التقليدية الجوهرية ( بتعبير جورج بالاندييه G. Balandier) التي تتجسد في الجمود اللغوي والثوابت الفكرية المستوحاة من الماضي. وتعمل هذه اللغة الاجتماعية على تدريب اللاعبين على الجري فجرا عبر أهم أضرحة المدينة مرددين شعارات دينية وصوفية (على نحو الله حي الله حي..)؛ وذلك لإعدادهم بدنيا وذهنيا للمباراة المصيرية التي ستجرى على أرضية الملعب الشرفي في البيضاء ( شكل من أشكال المجاهدة). كما أنها تشحن المنخرطين في النادي بالتعاليم الرياضية سواء أتعلقت بالجسد أو النفس المطمئنة. ويستسيغ المنخرطون هذا الخطاب لكونه يستجيب لتطلعاتهم ويخاطب وجدانهم. في حين يجدون صعوبة كبيرة في فهم خطاب معقلن على نحو المحاضرة التي ألقاها سرحان بالنادي عن العقلية الأمريكية. علقت الجماهير آمالا عريضة على الفريق الجديد لإعادة أمجاد الماضي وبطولاته، ونسيان الفريق القديم الذي لم يكن في مستوى تطلعاتهم وأمانيهم. وبالمقابل، كانت السلطة تنتظر تعثر الفريق الجديد للتدخل لحله، ومحاسبة المؤطرين على نوياهم وسلوكاتهم، وإعادة التوازن إلى الحياة الاجتماعية. خانت " البركة" الفريق الجديد في المقابلة المصيرية، وخابت آمال الجماهير التي رفعت شعارات " دينية" منددة بمستواه الضعيف، واحتجت في مظاهرة عارمة ومدمرة اضطرت الشرطة للتدخل واعتقال المدبرين المعروفين لديها ( وخاصة شعيب ذو النزوع التقليدي وصاحب فكرة تأسيس فريق جديد في الصديقية، وسرحان ذو النزوع الليبرالي الذي انضم إلى الجمعية الرياضية لتحقيق غرضه الشخصي ( تنظيم مهرجان العيطة)).
4-لا يمكن أن نفهم مدلول المظاهرة إلا بربطه بمدلول. فالحدثان معا وقعا في التوقيت عينه. فكل حدث يحيل على الآخر، ويفسره، ويبين أبعاده الرمزية والدلالية. فما أراد الروائي أن يوصله إلى القراء هو أن ما حدث في البيضاء ( وما سبق أن حدث في الصديقية ومدن أخرى) هو بركان اجتماعي يضرب بجذوره في أعماق نفسية البشر. فمن الفينة إلى الأخرى تطفو على السطح مظاهرات/براكين غير متوقعة تقلب كل الحسابات والتحليلات السياسية رأسا على عقب، وتبين ضعف التأطير السياسي والمدني وهشاشة التنظيمات الوسائطية . وتردد الجماهير الغاضبة في مثل هذه التظاهرات شعارات التقليدية الجوهرية التي تمتح من معين السلف الصالح، وتستعين بالصالحين والأوليا لجلب النصر ودفع الهزائم المتكررة والمفجعة.
5- تنتهي الرواية بإخفاق فردي وجماعي. فعلى المستوى الفردي خابت أمال الشخصيات التي رغبت في تحقيق أغراضها الشخصية. وعلى المستوى الجماعي تم الاحتفاظ بالمدبر ( شعيب) رهن الاعتقال، و فتح ملف قضائي لمحاكمة الجمعية الرياضية بدعوى أن ما حدث ليس نتيجة الصدفة، وحل الفريق الجديد." قلت مرارا آن أن تنطق حل الفريق وحرم اللعب. خمدت النار وعاد السكون، همدت الأرض، واستقر الكون" ص367. وبتفكيك الفريق انتهى حلم أغرام المراهن على الانتخابات، وخاب أمل سرحان في تنظيم مهرجان للطرب الشعبي. وبانفجار المطبخ يمكن أن تتأزم العلاقة بين خميطة وعلي نور. وتأزمت نفسية المختار وشان إن لم نقل إنها وصلت إلى حد الانهيار النهائي لأنه لم يجد من يساعده على إيجاد حلول لمشاكله المزمنة. وانتهت قصة ذات العينين الزرقاوين بتورط عمر في مصيبة أخلاقية.
*****************
1-مشروع سيمائية الكلام:
صدر مؤخرا للناقد والباحث محمد الداهي كتاب جديد موسوم بسيميائية الكلام الروائي ( منشورات المدارس، الدار البيضاء، 2006). ينطلق فيه من إشكالات وفرضيات للبحث عن منزلة الكلام في النظرية السيميائية، وبيان كيف يتفاعل مع المكونات الأخرى التي يتشكل منها المسار التوليدي العام. وبين في المقدمة أنه قبل الإقدام على هذا المشروع أرسل تقريرا عنه إلى جاك فونتاني ( أحد أقطاب مدرسة باريس) للتأكد من مدى ملاءمته. وأجابه برسالة بتاريخ17-4-2001 يشجعه فيها على مواصلته مبحثه والاستفادة من بعض المراجع للتدليل على مكانة التحدث في النظرية السيميائية.
لقد ظلت السيمائية متحفظة من النزعة اللغوية، وهذا ما جعلها تعتبر الخطاب أثرا من الآثار الممكنة للنظام الطاقي الداخلي أو الخزان اللغوي المفترض. لكن نتيجة انفتاح السيميائية على المكتسبات التي راكمها تحليل الخطاب والتداولية والتلفظ، أصبح السيميائيون يولون أهمية للظواهر الخطابية التي تهم بلاغة الخطاب ومساراته الصورية. وفي هذا الإطار يدخل مشروع الباحث محمد الداهي للتدليل على استقلالية البعد الكلامي داخل النظرية السيميائية. وهذا ما يقتضي تصنيف وحداته، وتصنيف تمظهراته الدلالية والمعجمية، وإبراز جهاته وبرامجه الحكائية وبنياته العاملية، واستنتاج أنساقه الصغرى والكبرى..الخ. لقد حتم هذا المشروع على الباحث أن يتحرك على أرضية تلفظية، والتعامل مع التلفظ بوصفه فعلا سيميائيا يكشف عن هوية المضطلع به، وباعتباره أثرا تلفظيا يميط اللثام عن ذاتية المتلفظ غير المصرح به، وعيناته الإيديولوجية، وانفعالاته وأهوائه. اعتمد محمد الداهي على متن مكون من أربع رويات صدرت خلال مطلع التسعينات من الألفية الثانية. وهي ذات لصنع الله إبراهيم، والضوء الهارب لمحمد برادة، وبرج السعود لمبارك ربيع، و شطح المدينة لجمال الغيطاني.
لم يكن ألجيرداس جوليان كريماص مطمئنا على استمرار السيميائية مستقبلا. وإثر انعقاد مناظرة سيميائية الفضاء سنة 1973، أبدى تخوفه من انحسار التقليعة السيميائية بعد ثلاث سنوات على أكبر تقدير. لكن وقع عكس ما توقعه، إذ اتعست دائرة الإشعاع السيميائي في مختلف بقاع العالم، واستطاعت أن تتكيف مع المستحدثات المعرفية والمنهجية. وفي تقويم محمد الداهي للتاريخ السيميائي لاحظ أنه يتدرج في سيرورة عمودية وسيرورة أفقية.
في السيرورة العمودية، تنشطر السيمائية إلى مرحلتين: سيمائية العمل Sémiotique de l’action، ثم سيميائية الأهواء Sémiotique des passions. ويندرج مبحث محمد الداهي في إطار إضافة حلقة جديدة تتعلق بمشروع سيميائية الكلام.
وفي السيرورة الأفقية، تندرج تحاليل ومقاربات متعددة. إما تعاملت مع السيميائية بطريقة مدرسية، أو تقيدت بمستوياتها ومكوناتها حرفيا، أو فتحت السيمائية على آفاق منهجية ومعرفية جديدة.
ومن خلال السيرورتين معا، يتضح أن السيميائية مفرد بصيغة الجمع، وأنها ما فتئت تتطور تبعا لتجدد الأسئلة، وباين الفرضيات المنطلق منها. ولا أحد يدعي بأنه يملك القطعة الأخيرة ل" لمربكة الشاسعة". إنها الصورة التي أثارها كريماص سنة 1976." أعتقد أنا، والمتعاونين معي، بأننا نملك قطعا عديدة قادرة على بناء هذه المربكة الشاسعة التي يمكن أن تكون هي النحو الخطابي. ما يتعدى ذلك هو من باب التضليل".
وإن ركز محمد الداهي على الكلام الروائي ، فإن الأمر قد تطلب منه الاستعانة بالمعاجم لضبط التمظهرات المعجمية والدلالية لوحداته الكبرى المهيمنة، والاستئناس بأنواع خطابية أخرى ( القرآن الكريم، الحديث النبوي، الشعر، الصحف) لاستنتاج الأنساق الصغرى والكبرى والخطاطة التحدثية. وفي عملية التخطيب يتأكد ما إذا انضبط الكاتب للخطاطة الأصلية أو أنه أضاف إليها عناصر جديدة.
وإذا كان هم الباحث منكبا أساسا على الكلام العربي بما يحفل به من خصوصيات وإيحاءات ثقافية وأكسيولويجة، فإن المنهجية المتبعة قابلة للتشغيل والتعميم على كلام آخر. وهكذا يتضح أن بحثه ذو طبيعة منهجية لوصف الكلام وإعادة سميأته، ثم إثارة قضايا معرفية تهم موضعة الكلام ضمن ديناميتي العمل و الهوى:
ا-سيميائية العمل:
تستمد هذه السيميائية نسغها من دينامية البرامج الحكائية وحالات الاتصال والانفصال، ومن الشروط التي ينبغي للذات أن تتوفر عليها حتى تنفذ عملها (أهليتها، إنجازها، منزلتها النمطية، أدوارها المتباينة، أنماط وجودها).
ب- سيميائية الأهواء:
إذا كانت الاختصاصات أغلبها تعتني بالأهواء من الزاوية الموضوعاتية والتصنيفية، وتبين أهميتها بالنسبة للكائن البشري؛ فإن السيميائية تدرسها خصيصا لإعادة بنائها . وهذا ما استدعى منها التدليل على استقلالية البعد الانفعالي(Dimenssion thymique) داخل النظرية السيميائية، وتحديد مجال دراستها ( الحالة النفسية)، وبيان من تتضمنه الوحدات الاستهوائية(pathèmes) من جهات، وبرامج حكائية، وخطاطات مقننة، وأدوار استهوائية (pathémiques)، وإيحاءات ثقافية وأكسيولوجية. وما يسترعي الانتباه أن المصادر السيميائية درست الأهواء من زاوية تلفظية تعيد النظر في التصور السيميائي للخطاب والتخطيب، وتنشط من جديد مفهوم الذاتية ليستوعب العينات الاستهوائية أو علامات الإحساس بوصفها آثارا خطابية.
2-الجانب التطبيقي:
يتوخى الجانب التطبيقي التدليل على استقلالية البعد التحدثي داخل النظرية السيميائية العامة ، وإرساء دعامات سيميائية الكلام وتمييزها عن سيميائيتي العمل والهوى. ولتحقيق هذا الغرض انكب محمد الداهي على ما يلي:
1- التمظهرات المعجمية و الدلالية للبث:
خصص الباحث هذا الفصل لاستجلاء وتحليل التمظهرات المعجمية-الدلالية لوحدة البث المتواترة في رواية ذات. وبعد أن أبرز معانيها المعجمية، وما تستتبعه من جهات ووجهات وبرامج ومسارات تلفظية وعلائق تركيبية، استقرأ بعض تجليات تخطيبها في القرآن الكريم والشعر والواقعة الصحفية ؛ وذلك بهدف فهم التمظهر في كليته، ورصد الخطاطة التركيبية التحدثية القابلة للانسحاب على وحدات أخرى. ولما تفحص مختلف استعمالاتها في رواية ذات، تبين لنا بأنها تقترن بمقوم الإرسال الذي فرضته وسائل الإعلام، وجعلته بديلا للمقومات المتعارف عليها: [+التفريق]، [+الذر]،[+الاطلاع]،[+النشر].
2-التمظهرات المعجمية و الدلالية للحديث والشكوى والطلب:
حلل روايات أخرى من المتن نفسه ( الضوء الهارب، برج السعود، وشطح المدينة) للتأكد من صحة النتائج المتوصل إليها، ومن إجرائية المفاهيم المشغلة وسدادها. وهكذا حلل الوحدات الكلامية المهيمنة معجميا ودلاليا، ثم بين جهاتها ووجهاتها وأدوارها التحدثية وبرامجها وأنساقها ومقاطعها الصغرى، ثم توقف عند مدى انضباطها للخطاطة التحدثية المقننة التي استخلصها من وحدة البث.
3-التطويع التلفظي في رواية ذات:
منح الباحث في هذا الفصل منزلة سيميائية للتطويع التلفظي، ثم حدد المرتكزات التي يستند إليها ( الأفعال اللغوية، الجهات التحدثية، تقنية الإيضاح، والمشروع الكلامي). فالكلام يكون في البداية عبارة عن مشروع ( الإخراج المقاصدي، والسيناريوهات الممكنة)، ثم يتحقق في شكل استراتجيات خطابية محددة، ثم يمر عبر سيرورة تحدثية مراهنة على تطويع المتلفظ له وحمله على تصديق ما يبث له. وفي حالة ما إذا كان هذا الأخير واعيا بمناورات المتلفظ، فسيجد نفسه مضطرا لاستخدام دهائه وكفايته اللغوية لإحباطها ( التطويع المضاد).
4-التطويع التلفظي في الروايات الحافة([1]):
جرب محمد الداهي في هذا الفصل أوليات التطويع التلفظي على الروايات الحافة للتأكد من إجرائيتها ومرونتها. وقد فرضت عليه خصوصية كل عمل على حدة أن يتوقف على ثوابت التطويع ( الإخراج المقاصدي، جهة الحمل على الاعتقاد، البعد الاستيثاقي، وتغيير معتقدات المتلفظ له) ومتغيراته (تبادل الأدوار التلفظية، تفاوت الفواعل في استخدام الجهات التحدثية، تمرير الحجج في الخطابات غير المباشرة، وإعادة تنشيط البنيات اللغوية للمتخيل الجماعي..). ويتعزز التطويع التلفظي بالانفعالات ، وينسجم مع الشروط المقامية ومقتضياتها ليؤدي الوظيفة المنوطة به على الوجه الأحسن. ففي حالة تجرده من الانفعالات الملائمة، فإنه غالبا ما ينزاح من الدلالة الصريحة إلى الاستلزام الحواري. وفي حالة انتفاء الشروط المقامية التي تؤطره، فإنه يصبح مجرد لغو وصخب صبياني.
5-المقاطع التحدثية في رواية ذات:
ظلت خانة فارغة تتخلل الصوغ الفاعلي، وتنتظر أن يشغلها مالكها الحقيقي. وهي تتعلق بالمقاطع التحدثية التي تسعف على تفريد الفاعل، وإبراز انتماءاته الاجتماعية وانفعالاته ، والكشف عن هويته وموقفه من الوجود. وهذا ما استدعى من الباحث -في إطار تشييد مشروع سيميائية الكلام- التعريف بهذه المقاطع ( الكلام النمطي، اللغة الفردية، اللغة الاجتماعية)، وإبراز تجلياتها وتضاريسها في رواية ذات ، وبيان ما يميز الدور التحدثي من الدور الموضوعاتي.
6- المقاطع التحدثية في الروايات الحافة:
حرص محمد الداهي من مقاربة المقاطع التلفظية على إبراز مكانتها السيميائية، وتبيان ما أضفته الروايات الحافة من طابع خصوصي عليها. وبعد الفراغ من تحليلها خلص إلى ما للتشخيص الأدبي للغة من دور في توسيع البعد الحواري، وإغناء الفضاء الروائي بالعينات الإيديولوجية، واستحضار النزوع الديمقراطي الذي فرضته التقلبات العالمية الجديدة بعد انهيار جدار برلين، والتدليل على الأهمية التي يحظى بها الدور التحدثي لتغيير معتقدات المتلقين، وتحريك البرامج الحكائية، ونقلها من المستوى المجرد إلى المستوى الملموس.
7-تجليات الصورية في رواية ذات:
حظيت الصورية (Figurativité) - إلى جانب الأهواء والتلفظ- باهتمام السيميائيين في السنوات الأخيرة. ومنح لها محمد الداهي منزلة خاصة بعد الإفادة من تصوراتهم. في البداية أبرز مكانتها في بعض المصادر السيميائية، ثم بين ما يميز الصوري من الموضوعاتي، ثم استشف تجليات الصورية في رواية ذات من خلال قطبي الأيقوني و المجرد، والبعد الأكسيولوجي. وتتمثل المنزلة التي أعطيت لها في تبيان آثار التلفظ والإيحاءات الأكسيولوجية، وإظهار القيمة التي تستمدها الصور من طبيعة الطقوس الاجتماعية والإبدالات السياسية وجدلية الجنس الروائي.
8- تجليات الصورية في الروايات الحافة:
نوسع دائرة الصورية لتشمل الروايات الحافة، وذلك لمعاينة المؤتلف والمختلف من تجلياتها، وما تستتبعه من علائق ( علاقة الصوري بالموضوعاتي، علاقة الصوري بالواقع، علاقة المتلفظ بالصور المنتقاة..) ، ثم لاستجلاء الآثار التلفظية والقيم الأكسيولوجية وإيحاءاتها، ثم للتوقف عند بعض الثوابت التي تحكمت في السيرورة الروائية خلال مطلع التسعينات.
تطلب التدليل على استقلالية البعد التحدثي داخل النظرية السيميائية ما يلي:
ا-مجاراة كريماص وفونتاني في تدارك نقائص التحليل المعجمي، بإنجاز دراسة " ممتدة" للمعجميات في خطابات أخرى، ثم بيان تجلياتها وتخطيبها في المتن الروائي. وهذا ما أسعف على إغناء النماذج التركيبية، وفهم تنيظم تمظهر معجمي-دلالي في كليته.
ب-إن الإقرار بوجود الحالة الكلامية حتم تصنيف الوحدات الكلامية في مقولات منطقية عامة ( موضوعاتية الكلام)، وإبراز التوجهات المتحكمة فيها، واستنتاج نماذج توقعية قابلة أن تعمم وتشغل على خطابات مختلفة للتأكد من تماسكها وصرامتها.
ج-تم تحديد طبيعة العلاقة التي تجمع بين المتلفظ والمتلفظ له، وتبيان الآثار التلفظية التي تكشف عن هوية المتكلم، وتصنفه داخل فئات سيميائية واجتماعية محددة ( القيم والإيحاءات الأكسيولوجية، اللغة الفردية، اللغات الاجتماعية، الملفوظات المشخصة بطريقة أدبية).
لقد استطاع محمد الداهي أن يستجمع من مختلف المصادر والمراجع السيميائية عدة مفاهيمية خاصة بسيميائية الكلام. ويمكن أن نجملها فيما يلي:
-الموضوع: إعادة بناء الكلام سيميائيا، الحالة الكلامية وقوتها.
-الجهة: الحمل على الاعتقاد ( الإقناع)
-البعد المعتمد: البعد الاستيثاقي( كسب الثقة) والبعد التحققي ( منزلة الحقيقة داخل النص).
-الأدوار: الأدوار التحدثية.
-الخطاطة التحدثية المقننة: المقصدية، الحفظ أو العطاء، التلفظ، التقويم الأخلاقي.
يضع محمد الداهي هذه العدة المفاهمية لتمييز سيمائية الكلام عن سيميائية الأهواء. ويعتبر من باب الإجحاف الإلمام بالمفاهيم كلها. فهو لم يذكر إلا الأساسي منها للبرهنة على استقلالية البعد التحدثي داخل النظرية السميائية العامة. " إن البرهنة على استقلالية البعد الكلامي داخل النظرية السيميائية(المعيار)، استدعت معالجته بلغة واصفة ملائمة، إبراز منزلته مقارنة مع منزلتي العمل والهوى. وبعد التأكد من صحة الفرضيتين، نلاحظ أن مشروع سيميائية الكلام أعاد الاعتبار للقضايا الآتية: إدماج مفهوم المقام في التصور السيميائي، والمزاوجة بين الفهم ( تحليل المعنى) والتفسير( بناء المعنى)، وتوسيع مفهوم الذاتية ليشمل الآثار التلفظية، ومعالجة المجموعات الدالة بدلا من الاقتصار على العناصر الجزئية" ص267.
[1] - يقصد الباحث بالروايات الحافة أي ما يحف المتن الرئيس. فهو اعتمد على رواية ذات بصفها متنا رئيسا، ثم يمتحن مدى سداد المنهجية المعتمدة في الروايات الأخرى التي لا تقل أهمية عن ذات قيمة وقدرة على تشخيص الواقع
عرفت وتيرة الكتابة عند الباحث المغربي محمد الداهي تزايدا كبيرا .والواقع أن هذا الانضباط ينم عن زخم في الكتابة النقدية ،كما يكشف عن مراس نظري وتطبيقي مميزين . وأبت عزيمته خلال هذه السنة إلا أن تخرج للقراء المغاربة والعرب كتابين اثنين .جاء الأول بعنوان :
التشخيص الأدبي للغة
مقاربة سيميائية-اجتماعية
أما الثاني فيحمل عنوان :
وقد توصلنا من الصديق عبد المولى بنمالك بدراستين للكتابين معا ننشرهما دعما لمجهود الصديق الباحث محمد الداهي :
صدر مؤخرا كتابان للدكتور محمد الداهي. يحمل الأول عنوان سيميائية الكلام الروائي ( منشورات المدارس، الدار البيضاء 2006)، أما الثاني فموسوم بـ التشخيص الأدبي للغة في رواية الفريق لعبد الله العروي (منشورات دار الأمان، الرباط 2006). صدر الناشر الكتاب الثاني- الذي سنحاول بيان بعض مفاصله في هذا المقال- بشهادة للدكتور عبد الله العروي تحت عنوان " الفريق وجاذبية الواقع". وفيها بين المفكر والروائي عبدالله العروي الملابسات العامة التي أوحت له بكتابة رواية الفريق (1996) التي تعتبر، في نظر النقاد، من بين الروايات العربية الشاملة التي استطاعت بنياتها أن تستوعب تحولات اجتماعية، وتواكب تأثير الخطابات الإيديولوجية في نفسية البشر وتطلعاتهم. " كان المشروع إذن، من البدء تقنيا، بمعنى أن المراهنة كانت على اللغة والأسلوب. والتعامل مع اللغة، على مستوياتها المختلفة، هو الذي جعلني أنقاد كليا للواقع.. منذ البداية لفت انتباهي عدد اللاعبين على الميدان، أحد عشر بعد الحارس.رقم ساحر ما ذكرت بعض الأسماء ( محمد، علي، الحسين) حتى استتبعت السلسلة كاملة، سلسلة الأئمة وكان الإغراء قويا أن أسحب مكارم الاسم على المسمى. أنقذني من " الخطأ" هم الواقع بقيت أصداء من الميل العابر قد تؤثر في شعور بعض القراء النبهاء. لا تنافي ، إذن، بين الواقعية والرمزية، بل خطر الرمز كامن في الواقع المجرد. واجب الكاتب هو الممانعة. وهذه لا تتحقق إلا إذا شحنت الرواية بأكبر قدر ممكن من دقة وصف وكمال" ص4.
يدور الكتاب حول سؤال جوهري يتعلق ليس بدور اللغة في نسخ الواقع وتشخيصه وإنما في قدرتها على جعل القارئ يعتقد بأنها تنسخه أو تشخصه. ويقصد بالتشخيص الأدبي للغة ذلك الوعي الذي يتسم به بعض الروائيين لتمييز الشخوص لغويا وفق انتماءاتها الاجتماعية والطبقية ومواقفها الإيديولوجية. وفي هذا الصدد يستبدل عبدالله العروي مفهوم الأدب المساوي للواقع بمفهوم علائقي يفترض إعادة تشخيص الواقع عبر الكلمات والأخيلة والرموز. وهذا ما يضفي على الكتابة بعدا لعبيا يكشف عن هموم الكاتب وأحلامه وأسئلته.
تناول محمد الداهي معضلة التشخيص الأدبي للغة ( أو ما يصطلح عليه كذلك بمعضلة صورة اللغة) بمنهجية سيميائية واجتماعية(Socio-sémiotique).فبعد أن عرض محمد الداهي تصور كريماص وبيير زيما لهذه المنهجية، خلص إلى التركيب الآتي :
1-تشخيص الظواهر الاجتماعية على المستوى اللغة التخييلية، والتعامل مع البني الخارجية للنص بوصفها بنيات لغوية.
2-إضفاء مسحة اجتماعية على المفاهيم السيميائية حتى تتخلص من الطابع السكوني أو البنيوي الصرف.
ويتكون الكتاب من الفصول الآتية:
1-الأشكال الأولية للسرد: قدم فيه محمد الداهي نظرة مجملة عن التحول الجوهري في الرواية، ورصد التنظيم التركيبي وما يستتبعه من جهات أساسية وبرامج سردية وبرامج سردية مضادة وآليات الوصل والفصل. واستعان بمقولتي الظهور والكينونة للكشف عن أوجه الشبه بين مدلول المظاهرة ( ما حدث في الدار البيضاء) ومدلول البركان (ما حدث في ميسور).
2-التمفصلات الدلالية للزمن: حاول التوفيق بين التقنيات الزمنية وأبعادها الدلالية؛ وذلك بالتركيز على موضوعاتية الزمن المتواترة، وتزمينها سيميائيا، وبيان تجلياتها الخطابية، وتدارك ما لبعض المفاهيم الزمنية من حمولات موضوعاتية ودلالية، واستثمار بعض تصورات ميخائيل باختين حول الكرنطوب، وجعل التجربة الزمنية مرتبطة بالمتلفظ بوصفه ذاتا اختبارية أو ذاتا نصية تثمن الزمن من الوجهة الاجتماعية.
3-التناص: تعامل محمد الداهي مع التناص بوصفه آلة لامتصاص اللغات الشفهية والمكتوبة، والتصرف فيها بإدخال تحويلات وتعديلات عليها، وإعطائها منزلة خاصة داخل الراوية. وقد مكن التناص الباحث من تشخيص الوضعية الاجتماعية واللغوية، واستنتاج اللغات الاجتماعية التي كانت سائدة في المغرب خلال الفترة الزمنية المتحدث عنها (1986-1985).
4-اللغات الاجتماعية: اشتغل محمد الداهي على جملة من الخطابات الاجتماعية ( الخطاب الليبرالي، الخطاب الديني، خطاب السلطة، خطاب الرأي العام، خطاب الجمعية الرياضية..) مبينا مقوماتها المعجمية والدلالية، ودورها في تعميق الهوة بين التطلعات والواقع، وتشخيص عوائق التحديث في المجتمع.
5-اللغة الثالثة: أفرد محمد الداهي فصلا للغة الثالثة التي تعتبرها رواية الفريق نموذجا للغة المحكية، ذولك للتوقف عند بنياتها التركيبية والنحوية والمعجمية والصوتية، واستخلاص الإيحاءات الطبقية والإقليمية منها.
6-إيحاءات اسم العلم: اعتبر اسم العلم دليلا لغويا، مشددا على بعده اللغوي ومساهمته في إغناء التعدد الصوتي والدلالي للرواية. وقد اتضح، من خلال التحليل، الوعي الكراتيلي بالأدلة عند الكاتب. فهو اختارها بناء على ما تتضمنه من تعليلات صوتية وصرفية واشتقاقية، وما تخضع له من قواعد منطقية وجمالية وإيديولوجية.
7-ملاءمة الكلام في البنية العاملية: أبرز الباحث مدى أهمية الكلام في تحريك البرامج الحكائية، ونقل الفعل من العالم الطبيعي إلى العالم السيميائي، وتمييز القوى الفاعلة حسب قدرتها على التواصل والإقناع (وهو سيتوسع فيه في كتاب سيمائية الكلام الروائي).
من خلال هذه الكتاب نخرج بالتأملات الآتية:
1-حاول كتاب محمد الداهي أن يعيد الاعتبار لدور الأصوات الإيديولوجية والذات الفاعلة والأنساق الثقافية في إنتاج النص الروائي وإضفاء الحركية عليه. ولهذا تحرر الباحث نسبيا من التصور البنيوي الذي كان يبحث عن العلاقات الشكلية في النص على نحو يجردها ويفرغها من حمولاتها الدلالية.
2-أعاد النظر في بعض المفاهيم حتى تكون منسجمة مع تصوره النقدي ( التوليف بين المقاربة السيمائية والمقاربة الاجتماعية). فهو، في غياب تحليل اجتماعي للوضعية الاجتماعية اللغوية، لم يتعامل معها بوصفها معطى خارجيا، وإنما استنتج معالمها الكبرى من بنية النص الروائي، وحصرها في لغات اجتماعية تبين موقف بعض الفئات الاجتماعية من التحولات الاجتماعية التي عرفها المغرب خلال الفترة الزمنية المتحدث عنها. كما أنه استبدل مفهوم الرؤية للعالم باللغة الاجتماعية(Sociolecte) التي تعتبر بنية خطابية يتحكم فيها مفهوم الملاءمة في اختيار الألفاظ وتنظيمها في شكل تشاكلات دلالية. وهكذا بدلا من يسقط معطيات اجتماعية وإيديولوجية على النص عمد على استنتاجها منه معززا أطروحة مفادها أن البنيات الاجتماعية ملازمة لعوالمه الداخلية وأن العلاقة بين الاجتماعي والأدبي تتشخص على المستوى اللغوي ( من خلال التهجين، والأسلبة، والتنويع، والمحاكاة الساخرة، والأجناس المتخللة)، ومدعما المحايثة النصية في تقاطعها التحولات الاجتماعية التي تحكمت في إنتاج الرواية، وتفاعلها مع الذوات الفاعلة ( الأصوات المتعددة) التي أسهمت في تنويع بنياتها بالتعدد اللغوي و العينات الإيديولوجية(Idéologèmes).
3-لقد أسعفت اللغات الاجتماعية المستخلصة من الرواية على إبراز عوائق التحديث في المجتمع المغربي، واستجلاء تصاعد المد التقليدي في مختلف أشكاله و تجلياته. وتتمثل عوائق التحديث في عدم قيام الوسائط الاجتماعية ( وفي مقدمتها الجمعية الرياضية) بدورها التأطيري، واستغلالها من ذوي النزوع التقليدي لتسريب قيم قديمة والحض على " الجهاد"، وتهافت الناس على الانخراط فيها ليس اقتناعا بمحتوياتها وإنما لإدراك مآربهم الشخصية ( كل شخصية يحذوها أمل في تحقيق غرض من الأغراض الشخصية) ، وإحياء أشكال الترابطات الاجتماعية التقليدية ( التضامن القبلي والعشائري). وهذا ما جعل شخصية واحدة ممن راسلتهم لجنة المساندة تقاطع المشروع الرياضي بمدينة الصديقية بدعوى أنه يقوم على إثارة التنابذ والعصبية القبلية بدلا من إذكاء روح التعاون والتعارف. " لقد جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا. ما قال: لتناحروا ولتمايزوا. لو قلتم هذه جمعية سكان لإذكاء روح التعاون لكانت فكرة حميدة. لكن قلتم هذه جمعية أولا والفرق لايحتاج إلى توضيح. لا يحق أن نرجع إلى عهد التنابذ بعد أن هدينا إلى كلمة سوء. لست منكم ولا أنتم مني. والله يحكم بالحق بين القوم الظالمين" ص109.
وهكذا، يتضح أن الرواية ترهص بتنامي التقليدية الجوهرية ( بتعبير جورج بالاندييه G. Balandier) التي تتجسد في الجمود اللغوي والثوابت الفكرية المستوحاة من الماضي. وتعمل هذه اللغة الاجتماعية على تدريب اللاعبين على الجري فجرا عبر أهم أضرحة المدينة مرددين شعارات دينية وصوفية (على نحو الله حي الله حي..)؛ وذلك لإعدادهم بدنيا وذهنيا للمباراة المصيرية التي ستجرى على أرضية الملعب الشرفي في البيضاء ( شكل من أشكال المجاهدة). كما أنها تشحن المنخرطين في النادي بالتعاليم الرياضية سواء أتعلقت بالجسد أو النفس المطمئنة. ويستسيغ المنخرطون هذا الخطاب لكونه يستجيب لتطلعاتهم ويخاطب وجدانهم. في حين يجدون صعوبة كبيرة في فهم خطاب معقلن على نحو المحاضرة التي ألقاها سرحان بالنادي عن العقلية الأمريكية. علقت الجماهير آمالا عريضة على الفريق الجديد لإعادة أمجاد الماضي وبطولاته، ونسيان الفريق القديم الذي لم يكن في مستوى تطلعاتهم وأمانيهم. وبالمقابل، كانت السلطة تنتظر تعثر الفريق الجديد للتدخل لحله، ومحاسبة المؤطرين على نوياهم وسلوكاتهم، وإعادة التوازن إلى الحياة الاجتماعية. خانت " البركة" الفريق الجديد في المقابلة المصيرية، وخابت آمال الجماهير التي رفعت شعارات " دينية" منددة بمستواه الضعيف، واحتجت في مظاهرة عارمة ومدمرة اضطرت الشرطة للتدخل واعتقال المدبرين المعروفين لديها ( وخاصة شعيب ذو النزوع التقليدي وصاحب فكرة تأسيس فريق جديد في الصديقية، وسرحان ذو النزوع الليبرالي الذي انضم إلى الجمعية الرياضية لتحقيق غرضه الشخصي ( تنظيم مهرجان العيطة)).
4-لا يمكن أن نفهم مدلول المظاهرة إلا بربطه بمدلول. فالحدثان معا وقعا في التوقيت عينه. فكل حدث يحيل على الآخر، ويفسره، ويبين أبعاده الرمزية والدلالية. فما أراد الروائي أن يوصله إلى القراء هو أن ما حدث في البيضاء ( وما سبق أن حدث في الصديقية ومدن أخرى) هو بركان اجتماعي يضرب بجذوره في أعماق نفسية البشر. فمن الفينة إلى الأخرى تطفو على السطح مظاهرات/براكين غير متوقعة تقلب كل الحسابات والتحليلات السياسية رأسا على عقب، وتبين ضعف التأطير السياسي والمدني وهشاشة التنظيمات الوسائطية . وتردد الجماهير الغاضبة في مثل هذه التظاهرات شعارات التقليدية الجوهرية التي تمتح من معين السلف الصالح، وتستعين بالصالحين والأوليا لجلب النصر ودفع الهزائم المتكررة والمفجعة.
5- تنتهي الرواية بإخفاق فردي وجماعي. فعلى المستوى الفردي خابت أمال الشخصيات التي رغبت في تحقيق أغراضها الشخصية. وعلى المستوى الجماعي تم الاحتفاظ بالمدبر ( شعيب) رهن الاعتقال، و فتح ملف قضائي لمحاكمة الجمعية الرياضية بدعوى أن ما حدث ليس نتيجة الصدفة، وحل الفريق الجديد." قلت مرارا آن أن تنطق حل الفريق وحرم اللعب. خمدت النار وعاد السكون، همدت الأرض، واستقر الكون" ص367. وبتفكيك الفريق انتهى حلم أغرام المراهن على الانتخابات، وخاب أمل سرحان في تنظيم مهرجان للطرب الشعبي. وبانفجار المطبخ يمكن أن تتأزم العلاقة بين خميطة وعلي نور. وتأزمت نفسية المختار وشان إن لم نقل إنها وصلت إلى حد الانهيار النهائي لأنه لم يجد من يساعده على إيجاد حلول لمشاكله المزمنة. وانتهت قصة ذات العينين الزرقاوين بتورط عمر في مصيبة أخلاقية.
*****************
1-مشروع سيمائية الكلام:
صدر مؤخرا للناقد والباحث محمد الداهي كتاب جديد موسوم بسيميائية الكلام الروائي ( منشورات المدارس، الدار البيضاء، 2006). ينطلق فيه من إشكالات وفرضيات للبحث عن منزلة الكلام في النظرية السيميائية، وبيان كيف يتفاعل مع المكونات الأخرى التي يتشكل منها المسار التوليدي العام. وبين في المقدمة أنه قبل الإقدام على هذا المشروع أرسل تقريرا عنه إلى جاك فونتاني ( أحد أقطاب مدرسة باريس) للتأكد من مدى ملاءمته. وأجابه برسالة بتاريخ17-4-2001 يشجعه فيها على مواصلته مبحثه والاستفادة من بعض المراجع للتدليل على مكانة التحدث في النظرية السيميائية.
لقد ظلت السيمائية متحفظة من النزعة اللغوية، وهذا ما جعلها تعتبر الخطاب أثرا من الآثار الممكنة للنظام الطاقي الداخلي أو الخزان اللغوي المفترض. لكن نتيجة انفتاح السيميائية على المكتسبات التي راكمها تحليل الخطاب والتداولية والتلفظ، أصبح السيميائيون يولون أهمية للظواهر الخطابية التي تهم بلاغة الخطاب ومساراته الصورية. وفي هذا الإطار يدخل مشروع الباحث محمد الداهي للتدليل على استقلالية البعد الكلامي داخل النظرية السيميائية. وهذا ما يقتضي تصنيف وحداته، وتصنيف تمظهراته الدلالية والمعجمية، وإبراز جهاته وبرامجه الحكائية وبنياته العاملية، واستنتاج أنساقه الصغرى والكبرى..الخ. لقد حتم هذا المشروع على الباحث أن يتحرك على أرضية تلفظية، والتعامل مع التلفظ بوصفه فعلا سيميائيا يكشف عن هوية المضطلع به، وباعتباره أثرا تلفظيا يميط اللثام عن ذاتية المتلفظ غير المصرح به، وعيناته الإيديولوجية، وانفعالاته وأهوائه. اعتمد محمد الداهي على متن مكون من أربع رويات صدرت خلال مطلع التسعينات من الألفية الثانية. وهي ذات لصنع الله إبراهيم، والضوء الهارب لمحمد برادة، وبرج السعود لمبارك ربيع، و شطح المدينة لجمال الغيطاني.
لم يكن ألجيرداس جوليان كريماص مطمئنا على استمرار السيميائية مستقبلا. وإثر انعقاد مناظرة سيميائية الفضاء سنة 1973، أبدى تخوفه من انحسار التقليعة السيميائية بعد ثلاث سنوات على أكبر تقدير. لكن وقع عكس ما توقعه، إذ اتعست دائرة الإشعاع السيميائي في مختلف بقاع العالم، واستطاعت أن تتكيف مع المستحدثات المعرفية والمنهجية. وفي تقويم محمد الداهي للتاريخ السيميائي لاحظ أنه يتدرج في سيرورة عمودية وسيرورة أفقية.
في السيرورة العمودية، تنشطر السيمائية إلى مرحلتين: سيمائية العمل Sémiotique de l’action، ثم سيميائية الأهواء Sémiotique des passions. ويندرج مبحث محمد الداهي في إطار إضافة حلقة جديدة تتعلق بمشروع سيميائية الكلام.
وفي السيرورة الأفقية، تندرج تحاليل ومقاربات متعددة. إما تعاملت مع السيميائية بطريقة مدرسية، أو تقيدت بمستوياتها ومكوناتها حرفيا، أو فتحت السيمائية على آفاق منهجية ومعرفية جديدة.
ومن خلال السيرورتين معا، يتضح أن السيميائية مفرد بصيغة الجمع، وأنها ما فتئت تتطور تبعا لتجدد الأسئلة، وباين الفرضيات المنطلق منها. ولا أحد يدعي بأنه يملك القطعة الأخيرة ل" لمربكة الشاسعة". إنها الصورة التي أثارها كريماص سنة 1976." أعتقد أنا، والمتعاونين معي، بأننا نملك قطعا عديدة قادرة على بناء هذه المربكة الشاسعة التي يمكن أن تكون هي النحو الخطابي. ما يتعدى ذلك هو من باب التضليل".
وإن ركز محمد الداهي على الكلام الروائي ، فإن الأمر قد تطلب منه الاستعانة بالمعاجم لضبط التمظهرات المعجمية والدلالية لوحداته الكبرى المهيمنة، والاستئناس بأنواع خطابية أخرى ( القرآن الكريم، الحديث النبوي، الشعر، الصحف) لاستنتاج الأنساق الصغرى والكبرى والخطاطة التحدثية. وفي عملية التخطيب يتأكد ما إذا انضبط الكاتب للخطاطة الأصلية أو أنه أضاف إليها عناصر جديدة.
وإذا كان هم الباحث منكبا أساسا على الكلام العربي بما يحفل به من خصوصيات وإيحاءات ثقافية وأكسيولويجة، فإن المنهجية المتبعة قابلة للتشغيل والتعميم على كلام آخر. وهكذا يتضح أن بحثه ذو طبيعة منهجية لوصف الكلام وإعادة سميأته، ثم إثارة قضايا معرفية تهم موضعة الكلام ضمن ديناميتي العمل و الهوى:
ا-سيميائية العمل:
تستمد هذه السيميائية نسغها من دينامية البرامج الحكائية وحالات الاتصال والانفصال، ومن الشروط التي ينبغي للذات أن تتوفر عليها حتى تنفذ عملها (أهليتها، إنجازها، منزلتها النمطية، أدوارها المتباينة، أنماط وجودها).
ب- سيميائية الأهواء:
إذا كانت الاختصاصات أغلبها تعتني بالأهواء من الزاوية الموضوعاتية والتصنيفية، وتبين أهميتها بالنسبة للكائن البشري؛ فإن السيميائية تدرسها خصيصا لإعادة بنائها . وهذا ما استدعى منها التدليل على استقلالية البعد الانفعالي(Dimenssion thymique) داخل النظرية السيميائية، وتحديد مجال دراستها ( الحالة النفسية)، وبيان من تتضمنه الوحدات الاستهوائية(pathèmes) من جهات، وبرامج حكائية، وخطاطات مقننة، وأدوار استهوائية (pathémiques)، وإيحاءات ثقافية وأكسيولوجية. وما يسترعي الانتباه أن المصادر السيميائية درست الأهواء من زاوية تلفظية تعيد النظر في التصور السيميائي للخطاب والتخطيب، وتنشط من جديد مفهوم الذاتية ليستوعب العينات الاستهوائية أو علامات الإحساس بوصفها آثارا خطابية.
2-الجانب التطبيقي:
يتوخى الجانب التطبيقي التدليل على استقلالية البعد التحدثي داخل النظرية السيميائية العامة ، وإرساء دعامات سيميائية الكلام وتمييزها عن سيميائيتي العمل والهوى. ولتحقيق هذا الغرض انكب محمد الداهي على ما يلي:
1- التمظهرات المعجمية و الدلالية للبث:
خصص الباحث هذا الفصل لاستجلاء وتحليل التمظهرات المعجمية-الدلالية لوحدة البث المتواترة في رواية ذات. وبعد أن أبرز معانيها المعجمية، وما تستتبعه من جهات ووجهات وبرامج ومسارات تلفظية وعلائق تركيبية، استقرأ بعض تجليات تخطيبها في القرآن الكريم والشعر والواقعة الصحفية ؛ وذلك بهدف فهم التمظهر في كليته، ورصد الخطاطة التركيبية التحدثية القابلة للانسحاب على وحدات أخرى. ولما تفحص مختلف استعمالاتها في رواية ذات، تبين لنا بأنها تقترن بمقوم الإرسال الذي فرضته وسائل الإعلام، وجعلته بديلا للمقومات المتعارف عليها: [+التفريق]، [+الذر]،[+الاطلاع]،[+النشر].
2-التمظهرات المعجمية و الدلالية للحديث والشكوى والطلب:
حلل روايات أخرى من المتن نفسه ( الضوء الهارب، برج السعود، وشطح المدينة) للتأكد من صحة النتائج المتوصل إليها، ومن إجرائية المفاهيم المشغلة وسدادها. وهكذا حلل الوحدات الكلامية المهيمنة معجميا ودلاليا، ثم بين جهاتها ووجهاتها وأدوارها التحدثية وبرامجها وأنساقها ومقاطعها الصغرى، ثم توقف عند مدى انضباطها للخطاطة التحدثية المقننة التي استخلصها من وحدة البث.
3-التطويع التلفظي في رواية ذات:
منح الباحث في هذا الفصل منزلة سيميائية للتطويع التلفظي، ثم حدد المرتكزات التي يستند إليها ( الأفعال اللغوية، الجهات التحدثية، تقنية الإيضاح، والمشروع الكلامي). فالكلام يكون في البداية عبارة عن مشروع ( الإخراج المقاصدي، والسيناريوهات الممكنة)، ثم يتحقق في شكل استراتجيات خطابية محددة، ثم يمر عبر سيرورة تحدثية مراهنة على تطويع المتلفظ له وحمله على تصديق ما يبث له. وفي حالة ما إذا كان هذا الأخير واعيا بمناورات المتلفظ، فسيجد نفسه مضطرا لاستخدام دهائه وكفايته اللغوية لإحباطها ( التطويع المضاد).
4-التطويع التلفظي في الروايات الحافة([1]):
جرب محمد الداهي في هذا الفصل أوليات التطويع التلفظي على الروايات الحافة للتأكد من إجرائيتها ومرونتها. وقد فرضت عليه خصوصية كل عمل على حدة أن يتوقف على ثوابت التطويع ( الإخراج المقاصدي، جهة الحمل على الاعتقاد، البعد الاستيثاقي، وتغيير معتقدات المتلفظ له) ومتغيراته (تبادل الأدوار التلفظية، تفاوت الفواعل في استخدام الجهات التحدثية، تمرير الحجج في الخطابات غير المباشرة، وإعادة تنشيط البنيات اللغوية للمتخيل الجماعي..). ويتعزز التطويع التلفظي بالانفعالات ، وينسجم مع الشروط المقامية ومقتضياتها ليؤدي الوظيفة المنوطة به على الوجه الأحسن. ففي حالة تجرده من الانفعالات الملائمة، فإنه غالبا ما ينزاح من الدلالة الصريحة إلى الاستلزام الحواري. وفي حالة انتفاء الشروط المقامية التي تؤطره، فإنه يصبح مجرد لغو وصخب صبياني.
5-المقاطع التحدثية في رواية ذات:
ظلت خانة فارغة تتخلل الصوغ الفاعلي، وتنتظر أن يشغلها مالكها الحقيقي. وهي تتعلق بالمقاطع التحدثية التي تسعف على تفريد الفاعل، وإبراز انتماءاته الاجتماعية وانفعالاته ، والكشف عن هويته وموقفه من الوجود. وهذا ما استدعى من الباحث -في إطار تشييد مشروع سيميائية الكلام- التعريف بهذه المقاطع ( الكلام النمطي، اللغة الفردية، اللغة الاجتماعية)، وإبراز تجلياتها وتضاريسها في رواية ذات ، وبيان ما يميز الدور التحدثي من الدور الموضوعاتي.
6- المقاطع التحدثية في الروايات الحافة:
حرص محمد الداهي من مقاربة المقاطع التلفظية على إبراز مكانتها السيميائية، وتبيان ما أضفته الروايات الحافة من طابع خصوصي عليها. وبعد الفراغ من تحليلها خلص إلى ما للتشخيص الأدبي للغة من دور في توسيع البعد الحواري، وإغناء الفضاء الروائي بالعينات الإيديولوجية، واستحضار النزوع الديمقراطي الذي فرضته التقلبات العالمية الجديدة بعد انهيار جدار برلين، والتدليل على الأهمية التي يحظى بها الدور التحدثي لتغيير معتقدات المتلقين، وتحريك البرامج الحكائية، ونقلها من المستوى المجرد إلى المستوى الملموس.
7-تجليات الصورية في رواية ذات:
حظيت الصورية (Figurativité) - إلى جانب الأهواء والتلفظ- باهتمام السيميائيين في السنوات الأخيرة. ومنح لها محمد الداهي منزلة خاصة بعد الإفادة من تصوراتهم. في البداية أبرز مكانتها في بعض المصادر السيميائية، ثم بين ما يميز الصوري من الموضوعاتي، ثم استشف تجليات الصورية في رواية ذات من خلال قطبي الأيقوني و المجرد، والبعد الأكسيولوجي. وتتمثل المنزلة التي أعطيت لها في تبيان آثار التلفظ والإيحاءات الأكسيولوجية، وإظهار القيمة التي تستمدها الصور من طبيعة الطقوس الاجتماعية والإبدالات السياسية وجدلية الجنس الروائي.
8- تجليات الصورية في الروايات الحافة:
نوسع دائرة الصورية لتشمل الروايات الحافة، وذلك لمعاينة المؤتلف والمختلف من تجلياتها، وما تستتبعه من علائق ( علاقة الصوري بالموضوعاتي، علاقة الصوري بالواقع، علاقة المتلفظ بالصور المنتقاة..) ، ثم لاستجلاء الآثار التلفظية والقيم الأكسيولوجية وإيحاءاتها، ثم للتوقف عند بعض الثوابت التي تحكمت في السيرورة الروائية خلال مطلع التسعينات.
تطلب التدليل على استقلالية البعد التحدثي داخل النظرية السيميائية ما يلي:
ا-مجاراة كريماص وفونتاني في تدارك نقائص التحليل المعجمي، بإنجاز دراسة " ممتدة" للمعجميات في خطابات أخرى، ثم بيان تجلياتها وتخطيبها في المتن الروائي. وهذا ما أسعف على إغناء النماذج التركيبية، وفهم تنيظم تمظهر معجمي-دلالي في كليته.
ب-إن الإقرار بوجود الحالة الكلامية حتم تصنيف الوحدات الكلامية في مقولات منطقية عامة ( موضوعاتية الكلام)، وإبراز التوجهات المتحكمة فيها، واستنتاج نماذج توقعية قابلة أن تعمم وتشغل على خطابات مختلفة للتأكد من تماسكها وصرامتها.
ج-تم تحديد طبيعة العلاقة التي تجمع بين المتلفظ والمتلفظ له، وتبيان الآثار التلفظية التي تكشف عن هوية المتكلم، وتصنفه داخل فئات سيميائية واجتماعية محددة ( القيم والإيحاءات الأكسيولوجية، اللغة الفردية، اللغات الاجتماعية، الملفوظات المشخصة بطريقة أدبية).
لقد استطاع محمد الداهي أن يستجمع من مختلف المصادر والمراجع السيميائية عدة مفاهيمية خاصة بسيميائية الكلام. ويمكن أن نجملها فيما يلي:
-الموضوع: إعادة بناء الكلام سيميائيا، الحالة الكلامية وقوتها.
-الجهة: الحمل على الاعتقاد ( الإقناع)
-البعد المعتمد: البعد الاستيثاقي( كسب الثقة) والبعد التحققي ( منزلة الحقيقة داخل النص).
-الأدوار: الأدوار التحدثية.
-الخطاطة التحدثية المقننة: المقصدية، الحفظ أو العطاء، التلفظ، التقويم الأخلاقي.
يضع محمد الداهي هذه العدة المفاهمية لتمييز سيمائية الكلام عن سيميائية الأهواء. ويعتبر من باب الإجحاف الإلمام بالمفاهيم كلها. فهو لم يذكر إلا الأساسي منها للبرهنة على استقلالية البعد التحدثي داخل النظرية السميائية العامة. " إن البرهنة على استقلالية البعد الكلامي داخل النظرية السيميائية(المعيار)، استدعت معالجته بلغة واصفة ملائمة، إبراز منزلته مقارنة مع منزلتي العمل والهوى. وبعد التأكد من صحة الفرضيتين، نلاحظ أن مشروع سيميائية الكلام أعاد الاعتبار للقضايا الآتية: إدماج مفهوم المقام في التصور السيميائي، والمزاوجة بين الفهم ( تحليل المعنى) والتفسير( بناء المعنى)، وتوسيع مفهوم الذاتية ليشمل الآثار التلفظية، ومعالجة المجموعات الدالة بدلا من الاقتصار على العناصر الجزئية" ص267.
[1] - يقصد الباحث بالروايات الحافة أي ما يحف المتن الرئيس. فهو اعتمد على رواية ذات بصفها متنا رئيسا، ثم يمتحن مدى سداد المنهجية المعتمدة في الروايات الأخرى التي لا تقل أهمية عن ذات قيمة وقدرة على تشخيص الواقع