الخطاب الاقناعي في البلاغة العربية
نوقشت يوم الجمعة 30 يونيو 2006 بكلية آداب مراكش أطروحة تقدم بها الباحث حسن المودن لنيل دكتوراه الدولة في موضوع : الخطاب الاقناعي في البلاغة العربية. وكانت لجنة المناقشة تتكون من الأساتذة: الدكتور عباس ارحيلة رئيسا ومحمد ايت الفران مشرفا ومقررا والدكاترة عبد الواحد بنياسر وعلي المتقي وعز الدين الذهبي أعضاء.
وبعد مناقشة استغرقت من الساعة الثالثة زوالا إلى الساعة الثامنة مساء، قررت اللجنة منح الباحث دكتوراه الدولة بميزة حسن جدا.
1 ــ يقارب البحث إشكالية الخطاب الاقناعي من منظور علم البلاغة، والبلاغة العربية أساسا. وقد انطلق الاهتمام بالخطاب الاقناعي مع بحث الإجازة(الخطاب الإشهاري في التلفزة المغربية، 1986). وان انصرفت رسالة دبلوم الدراسات العليا إلى دراسة آليات اشتغال اللاوعي داخل الخطاب الأدبي، فانه من خلال هذين البحثين المتواضعين بدأ الانشغال بإشكالات أساس هي التي تحاول هذه الأطروحة ملامستها من خلال الانطلاق من أسئلة ، من أهمها: ما حدود الاتصال والانفصال بين الخطاب الاقناعي والخطاب الأدبي؟ هل يصح أن نقيم فصلا مطلقا بين التداولي والتخييلي؟ هل يمكن الخوض في منطقة يتقاطعان من خلالها؟
والدرس الجوهري الذي تعلمته في مساري العلمي المتواضع هو أن البلاغة أحد أهم الأبواب المركزية والضرورية في قراءة الخطاب، فالاشتغال على خطاب، يحكمه الوعي أو اللاوعي أو هما معا، يقتضي من الباحث أن يكون قادرا على تفكيك أسرار البلاغة ومخادعها وحيلها، وهذا عمل لا يمكن أن يتحقق في نظرنا من دون العودة إلى التراث البلاغي.
وقد سمحت معاشرة التراث البلاغي العربي من جديد بالانتباه إلى عناصر أساس هي التي تشكل افتراضات هذا البحث الأولية، ومن أهمها:
ــ أن البلاغة العربية ــ كباقي البلاغات القديمة ــ كانت تعالج في أغلب الأحيان نصوصا وخطابات أدبية يحكمها الوعي والقصد ، فلم يكن البلاغي يهتم بالخطاب الذي يكتفي بذاته ولا يعير اهتماما لمخاطبه، ولم تكن البلاغة تعتبر النص كلاما يهم المتكلم فقط، أو كلاما مكتفيا بذاته، بل هي تهتم أساسا بالنص الذي يتوجه إلى الآخرين.
ــ أن البلاغة العربية كانت تؤسس جسور التواصل بين الشعر والخطابة، بين التخييل والإقناع. وهذا عمل مفيد وثري لم ينل إلا القليل من الاهتمام في الدرس البلاغي المعاصر، مع أن الرهان اليوم هو في الوصل بين المقاربة البلاغية والمقاربة الأدبية لا الفصل بينهما.
يقودنا التفكير البلاغي إلى إعادة النظر في الفكرة التي تقول باستقلالية حقل الشعري والأدبي عن الرهانات الحجاجية للبلاغة. فالأدب ليس دائما خطابا منغلقا على ذاته، وله في حد ذاته غائيته الخاصة، ويرفض بطريقة ما الاحتكاك بالواقع، منغلقا داخل متعة جمالية خالصة. ذلك لأن هذا التصور الجمالي الخالص ليس إلا أحد التصورات الممكنة للنص الأدبي. والتفكير البلاغي يدفعنا إلى طرح أسئلة أخرى: ألا يمكن أن نقرأ الأدب باعتباره حجاجا؟ ألا يمكن الاشتغال نظريا وتطبيقيا على إعادة بناء مصالحة بين الشعري والبلاغي بالتركيز على ما يجمع بينهما؟
هذه الأسئلة هي التي تقود هذا البحث الذي تأتي دراسته للتراث البلاغي مصاحبة ومدعمة بقراءة ما كتب عن هذا التراث. فالملاحظ أن التراث العربي الإسلامي قد حظي باهتمام متزايد، ومن زوايا مختلفة، إذ أحاطت الدراسات بتاريخه وأعلامه وقضاياه. واللافت للنظر أن هذه الدراسات قد عرفت منعطفا هاما في العقود الأخيرة، وذلك بالنظر إلى طريقتها في قراءة التراث البلاغي، وكيفية إدماجه في معالجة القضايا التي تطرحها البلاغة المعاصرة.
2 ــ هكذا يتوزع هذا البحث إلى مقدمة ومدخل عام وثلاثة أبواب وخاتمة. وقد حاول الباحث في مقدمته أن يكشف الاعتبارات التي دفعته إلى اختيار موضوعه، ومن أهمها أن الاهتمام ببلاغة الخطاب الاقناعي لا ينفصل عما يجري في العصر الراهن، فالإقناع أبرز إشكالية في عالم اليوم، ودراستها محكومة بوعي حاد بمسيس الحاجة إلى ثقافة التواصل والإقناع.
واهتمام البحث ببلاغة الإقناع هو تقدير للحيوية التي استعادها علم البلاغة في العصر الراهن. ومن أهم خصائص هذه الحيوية، نذكر أولا الرهان على الاجتماعي، فبهذا الرهان عادت البلاغة لتتخذ أبعادا اجتماعية. ويعود الفضل إلى البلاغة الجديدة في جعل العلاقة الاجتماعية من أوليات انشغالاتها، واعادة الاعتبار للدور الذي تلعبه الأطر الاجتماعية في الحجاج والإقناع.
والبلاغة بعودتها هذه تدعو إلى إعادة النظر في مفهوم اللغة، وتدفع في اتجاه ينظر إلى اللغة على أنها خطاب، أي أنها شكل من أشكال الممارسة الاجتماعية. فاللغة جزء من المجتمع، وهي سيرورة اجتماعية، وهي مشروطة اجتماعيا بالجوانب غير اللغوية من المجتمع. والخطاب هو ما يتحدد بالبنى الاجتماعية، وماله تأثيرات على هذه البنى، ودور في تحقيق الاستمرار أو التحول الاجتماعيين.
ويضاف إلى ذلك أن عودة البلاغة تعني إعادة الاعتبار للبعد الحجاجي، والاهتمام بتقنيات الإقناع المؤثر، وعدم حصر البلاغة في الأسلوبي والشعري. والأكثر أهمية أن عودة البلاعة تدفع في اتجاه إعادة الاعتبار للتوجه نحو مفهوم نسقي للبلاغة، وهو مفهوم يرفض اختيار الفصل بين بلاغة الحجاج وبلاغة الأسلوب، لأنه لا يمكن أن توجد الواحدة دون الأخرى، والبلاغة تتألف منهما معا.
وبالنظر إلى المفهوم النسقي للبلاغة، نفترض راهنية البلاغة العربية القديمة، ذلك أنها منذ تأسست مع الجاحظ وهي تحاول التأليف بين رافدين كبيرين هما الرافد الخطابي والرافد الشعري.
إن هذه الاعتبارات في مجموعها هي التي دفعت الباحث إلى الاشتغال على التراث البلاغي العربي القديم، فإشكالية الخطاب الإقناعي في عصرنا الراهن لا تفرض العودة إلى الدراسات المعاصرة فقط، بل تفرض أولا أن نعيد بناء التراث البلاغي الإنساني، ولأن الغربيين يعيدون بناء تراثهم، فان من واجب الباحثين العرب إعادة بناء تراثهم، خاصة وأن هذا التراث يتميز براهنية يستمدها من مفهومه النسقي للبلاغة، وهو المفهوم الذي يشغل اهتمام بعض الدارسين المعاصرين.
أما المتن البلاغي موضوع البحث فهو يتألف من أهم المؤلفات البلاغية التي ظهرت في مرحلة تمتد من الجاحظ إلى السكاكي. ومرد ذلك أن الدراسات البلاغية الحديثة تجمع على أن الجاحظ يمثل فترة التأسيس، وتجمع على أن السكاكي يمثل فترة الاكتمال وبلوغ ذروة ليس بعدها إلا التراجع والانكماش، مع استثناء حالات قليلة من مثل حازم القرطاجني.
يتكون المتن البلاغي بشكل أساس من المؤلفات البلاغية الآتية: كتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب البديع لابن المعتز، وكتاب الصناعتين للعسكري، وكتاب سر الفصاحة للخفاجي، وكتابا أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز للجرجاني، وكتاب مفتاح العلوم للسكاكي.
ومع ذلك، فالباحث يستحضر مؤلفات بلاغية أخرى قديمة ومعاصرة، عربية وأجنبية. والغاية من هذا فتح حوار علمي بين مختلف التصورات من ثقافات وعصور مختلفة، والاستفادة من كل ذلك في مقاربة موضوع كان منذ القدم والى اليوم مثار اهتمام العلماء و الباحثين.
ومعنى هذا أن أهم خاصية في هذا البحث طموحه إلى إنتاج نص نظري بلاغي انطلاقا من نصوص نظرية بلاغية قديمة، فنصوص التراث البلاغي هي المصدر الأول والأساس للنص الذي يسعى الباحث إلى تأسيسه. ويتم هذا التأسيس دون أن تغيب نصوص أخرى قديمة وحديثة، ومن ثقافات مختلفة، كمصادر ثانية تدعم أطروحات النصوص الأولى أو تطورها أو توضحها أو تفتح من خلالها آفاقا جديدة للبحث العلمي.
ويعني الاشتغال على النصوص القديمة بالنسبة إلى الباحث أن يقوم بتأويلها، أو الأصح أن يقترح تأويلا، وأن يتموضع في منطقة المحتمل، وهو ما يفرض عليه هو الآخر الحجاج والاستدلال.
ويقتضي التأويل أن يعاشر الباحث النصوص موضوع بحثه معاشرة طويلة، تلقائية فوضوية في مراحلها الأولى، ومنظمة منسقة في مراحلها الأخيرة. وقد استغرق هذا البحث عشر سنوات، وسمح بالانتباه إلى أشياء في التراث البلاغي شديدة الأهمية، لكنها لم تنل ما تستحق من الاهتمام، أو نالت قليله ويسيره. كما سمحت هذه المعاشرة للباحث الذي أتى من ميدان النقد الأدبي المعاصر بانفتاح أبواب ونوافذ قد لا تفتح في وجه الباحث المتسرع العابر الغريب، ولا في وجه الباحث المنغلق الذي لا ينفتح على معارف وثقافات أخرى، قديمة وحديثة.
ويتطلب التأويل الإقامة بين نصوص التراث البلاغي، ومعاشرة النصوص اللاحقة التي تناولته والنصوص التي تشبهه أو تقترب منه، واعادة تحديد المصطلحات والمفاهيم، وفتح الباب أمام الأسئلة الحبلى، وبناء شكل جديد وإعطاء ترتيب جديد للموضوع المعالج يفتح آفاقا جديدة أمام البحث.
والخلاصة هنا أن بلاغة الخطاب الاقناعي من الإشكاليات التي شغلت التفكير الإنساني على امتداد قرون، وعادت اليوم لتطرح من جديد. ونفترض أن التراث البلاغي العربي يسمح بقراءته بالشكل الذي يجعله يساهم في إغناء التفكير البلاغي المعاصر. ذلك أنه كان منشغلا بأسئلة تحتل اليوم مكانة هامة في الدراسات البلاغية: كيف يتأسس الخطاب؟ ما هي مصادره ومراجعه ووسائله؟ ما هي وظائف الخطاب البليغ؟ وما علاقته بلغة الشعر والأدب؟ ما دور المتكلم والمخاطب والمقام في بناء الخطاب ؟
الخلاصة أن مقدمة البحث تشير إلى أهم الاعتبارات التي كانت وراء اختيار الموضوع، وتطرح أهم الأسئلة والاشكالات التي تتأسس عليها الأطروحة.
وبعد المقدمة، يأتي المدخل العام الذي يحدد أهم المصطلحات والمفاهيم التي يدور حولها البحث: الخطاب، الإقناع، البلاغة. فالملاحظ اليوم أن هناك تحولا في مفهوم اللغة، فلم تعد هذه الأخيرة تدرك باعتبارها لسانا ، أي نسقا مستقلا بذاته مفصولا عن الإنسان ومجتمعه وثقافته وتاريخه، بل بدأ النظر يتوجه إليها عندما تتحول إلى فعل لغوي اجتماعي، أي إلى خطاب.
وقد تأسس مفهوم الكلام عند البلاغيين على مبدأين جوهريين ومترابطين لا ينفصلان: مبدأ التداولية ومبدأ الشعرية. ويعني الأول أن الكلام لا ينتج إلا من أجل تحقيق منفعة، ويعني الثاني أن الكلام لا ينظر إلى مضمونه فقط، بل إلى صورته وشكله أيضا.ومعنى هذا أن الخطاب البليغ يشتمل على مظهرين: مظهر حجاجي ومظهر أسلوبي، وليس من السهل دوما التمييز بينهما.
تفيد عبارة " البلاغة " معنى نسقيا يشمل التخييل والحجاج، ويستوعب المفهومين معا من خلال المنطقة التي يتقاطعان فيها. وهذا المعنى النسقي للبلاغة هو ما يهم هذا البحث الذي يسترشد بدراسات معاصرة قليلة انشغلت بهذا المعنى، وخاصة دراسات شايم بيرلمان وأوليفيي روبول ومحمد العمري وعبد الله صولة .
وغاية البحث أن يرصد بعض الشروط والخصائص التي يقتضيها الخطاب الاقناعي من منظور البلاغة العربية القديمة، وأن يدعم التوجه نحو التفكير في منطقة التقاطع بين الشعري والتداولي، بالشكل الذي يجعل من البلاغة علما عاما للشعري والخطبي يستوعب علوم اللغة والأدب كلها. وقد ركزت أبواب البحث على الأطراف والعناصر الجوهرية التي تؤلف بلاغة الخطاب الاقناعي: المتكلم، النص، المخاطب/ المقام.
وهكذا تمّ تكريس الباب الأول لبيان الدور الذي يلعبه المتكلم منتج الخطاب في بناء الخطاب الاقناعي ونجاحه في تحقيق غاياته. فالبلاغي لا ينظر إلى منتج الخطاب على أنه مجرد وذو وضع اعتباري نظري، لأنه ليس مجرد مصدر للعمليات، ولا مجرد ذات لسانية، بل هو فاعل اجتماعي يفعل داخل مقامات اجتماعية ملموسة ومحددة. ويفترض هذا الدور كفاءات خاصة في المتكلم.
ونميز بين الكفاءة التي يقتضيها إنتاج الخطاب وتلك التي يتطلبها إنجاز الخطاب الشفوي داخل مقام اجتماعي حيّ. أي أن الأمر يتعلق بكفاءة قبلية لابد منها من أجل إنتاج خطاب بليغ، ونسميها كفاءة الإنتاج، ويتعلق من جهة ثانية بكفاءة بعدية هي التي تسمح بإنجاز الخطاب وتحويله إلى كلام شفوي ـ بصري، ونسميها كفاءة الانجاز، وهي نوع من الكفاءة المسرحية التي تستتبع استثمار إمكانات الصوت والحركة والجسد واللباس البلاغية.
هكذا قسّـمنا الباب الأول إلى تمهيد وفصلين وخلاصة، ويتناول الفصل الأول أهم الكفاءات القبلية التي يحتاجها المتكلم البليغ من أجل إنتاج خطاب إقناعي بليغ.
وقد قاربنا كفاءات الإنتاج من خلال ثلاثة مباحث، كل مبحث بكفاءة محددة: كفاءة لغوية أدبية وكفاءة ثقافية تداولية وكفاءة نفسية انفعالية. فأول ما يحتاجه مؤلف الكلام معرفة اللغة، والعلم بأسرارها،وانتاج الكلام وفق أصولها وقواعدها اللغوية والأدبية، والقدرة على الإبداع والابتكار وانتاج الكلام البليغ. وتعني الكفاءة الثقافية أن يعرف مؤلف الخطاب ثقافة العالم الذي يريد أن يتدخل فيه، وأن يستثمر عناصر هذه الثقافة في الإقناع والتأثير. وتنقسم الكفاءة النفسية إلى كفاءتين: الأولى لها علاقة بالحالة النفسية الانفعالية التي يستحسن أن يكون عليها المتكلم عندما يقبل على إنتاج الكلام البليغ، والثانية تتعلق بالحالة النفسية المناسبة لإنجاز الخطاب وأدائه أمام السامع/ السامعين.
ويعالج الفصل الثاني كفاءة الانجاز، وهو يتوزع إلى مبحثين، يتناول الأول شروط الانجاز البليغ ودورها في الإقناع، ويتوقف بالأخص عند بعض العناصر التي ترفع من القيمة البلاغية للخطاب الاقناعي الشفوي: الصمت، الابتداء، الإيجاز، الاختتام. ويخلص هذا المبحث إلى أن لظروف الإنجاز دورا فعالا في بناء الخطاب الاقناعي، فالإنجاز البليغ يعني أن يقدم المتكلم للسامعين قطعة نصية موجزة، جيدة البناء، بليغة في افتتاحها واختتامها، شديدة التدلال والإبلاغ، بليغة في صمتها وكلامها، خفية في تأثيرها وإقناعها، لا تملّـها الآذان، وتتعلق بها القلوب، وتحتفظ بها الصدور.
ويتناول المبحث الثاني دور الكفاءة المسرحية في الإقناع، فالإنجاز يعني أن المتكلم يستعمل صوته وحركته وجسده ولباسه ...الخ، بالشكل الذي يسمح بالحديث عن بلاغات أخرى غير لفظية يستغل المتكلم إمكاناتها في التأثير والإقناع.
ويخلص هذا المبحث إلى أن الخطاب الاقناعي الشفوي لا يتحدد في ما يسمعه السامع فقط، بل وفي ما يراه أيضا، كأن الأمر يتعلق بعرض مسرحي، إنجازه يقتضي القدرة على تحويل الجسد إلى جسد متكلم، يقول ويعبّر ويرمز ويؤثر. فعندما يتحدث البلاغي العربي ــ الجاحظ خاصة ــ عن الصوت والحركة والعمامة والعصا، فهو يشير إلى وظائفها التواصلية الابلاغية التي تحول الجسد إلى خطاب ثقافي رمزي يرتبط بالخطاب الثقافي العام الذي يؤطر المجتمع، ويمتلك القدرة على الإخبار والإبلاغ والترميز والتأثير.
الخلاصة أن الباب الأول قد حاول أن يبرز الدور الفعال الذي يلعبه المتكلم في إنتاج الخطاب البليغ وإنجازه.
واهتم الباب الثاني بفعالية النص التي تتحدد في أن يتوفر النص على ما يكفي من الإمكانات والخصائص التي تسمح له بالفعل، أي بإدماج المخاطب واستمالته. فالنص أداة للفعل في سياق تخاطبي محدد، لكن هذه الأداة تتحول هي نفسها إلى موضوع للتفكير والاشتغال والإبداع، وبهذا التحول يمتلك النص فعالية أكثر قوة ونجاعة.
ولهذا يقع التركيز في هذا الباب على مكونات للنص أولاها البلاغيون الكثير من اهتمامهم، ومن أهمها: اللفظ، والنظم، والمجاز. وهو يتألف ـ أي الباب الثاني ـ من تمهيد وثلاثة فصول وخلاصة، وتم تكريس كل فصل لكل مكون من المكونات النصية الثلاثة. فالفصل الأول مكرس لبلاغة اللفظ، ويتكون من ثلاثة مباحث، تمّ تحديد المقصود باللفظ في المبحث الأول، وفي المبحث الثاني تمّ إبراز الدور الذي تلعبه شعرية اللفظ في الإقناع من منظور البلاغي، وفي المبحث الثالث بيان للحضور الذي تعرفه بلاغة اللفظ في الدراسات المعاصرة.
ويخلص الباحث في الفصل الأول إلى أن اللفظ قوة خلاقة من الضروري أن يستغلها المتكلم في الإقناع، والبلاغة هي العلم الذي يحدد الشروط والقواعد التي تسمح باستعمال شعرية اللفظ في الإقناع والتأثير. والبلاغة العربية من خلال هذه المصطلحات: الفصاحة والبيان والبديع، تعتبر اللفظ فعالية نصية مهمة، وإمكانا من إمكانات الخطاب الأساس، مع أخذ شروط السياق السوسيو ثقافي وقيمه بعين الاعتبار عند توظيف شعرية اللفظ في الإقناع والتأثير.
ويتألف الفصل الثاني المكرس لبلاغة النظم من أربعة مباحث، في المبحث الأول محاولة رصد الانتقال من الاهتمام باللفظ إلى الانشغال بالنظم، وفي المبحث الثاني إحاطة بمعنى النظم في علم النحو ومعناه في علم البلاغة، وكشف للفروق والمشتركات بين المعنيين. وفي المبحث الثالث إشارة إلى المكانة التي احتلها النظم في الدراسات المعاصرة من خلال نماذج تنتمي إلى حقول معرفية مختلفة( الفكر الفلسفي، الفكر اللغوي، الفكر النقدي، الفكر البلاغي). وفي المبحث الرابع يتوقف الباحث عند شعرية النظم ودورها في الإقناع.
والغاية من هذا الفصل كشف النقاب عن تحول جوهري في التفكير البلاغي، بانتقاله من الاهتمام بشعرية اللفظ إلى الانشغال بمسألة النظم ووظائفه الشعرية والتداولية. وهذا تحول في التفكير يفتح آفاقا جديدة للبحث، لأنه لم يعد يفكر في النص من خلال اللفظ، بل من خلال التركيب، ويؤسس مفهوما للنظم يجمع بين النظر إليه كمكون نصي داخلي من المكونات البنيوية للنص، لا من منظور نحوي ضيق، بل من منظور بلاغي واسع يأخذ بعين الاعتبار شعرية النظم وانزياحاته وانتهاكاته وألاعيبه، وبين النظر إليه من منظور تداولي باعتبار التأثيرات التي يحدثها بشعريته وقدرته على الإيحاء والتدلال في مقام معين.
ويتوزع الفصل الثالث، الذي يتناول مسألة الإقناع بالمجاز والاستعارة، إلى ثلاثة مباحث، يتحدث الأول عن وظيفية المجاز، ويتناول الثاني حجاجية الاستعارة في الدراسات المعاصرة، ويركز الثالث على تداولية المجاز بين القدامى والمعاصرين من خلال بعض القضايا الأساس: المجاز والكذب، المجاز والوضوح.
والغاية من هذا الفصل الإشارة إلى المباحث الجديدة والثرية التي يفتحها البلاغي ــ عبد القاهر الجرجاني خاصة ــ عندما يتساءل عن وظيفية المجاز، ويتحدث عن حجاجية الاستعارة والتخييل.
ويخلص الباحث في الباب الثاني إلى أن النص الشعري هو موضوع البلاغة العربية المفضل، وهي في معالجتها لهذا الموضوع تشدد على فعالية الشعري ونجاعته في التأثير والتلقي، مقدمة معالجة مركبة للقضايا الإشكالية التي يثيرها نص متعدد الوظائف.
لم يكن البلاغي ينظر إلى النص من منظور شعري خالص، كما لم يكن يقاربه من منظور تداولي يقصي الشعري من دائرة اهتمامه. وهنا نكتشف تنظيرا لتداولية نصية لا تفهم النص الأدبي إلا إذا كان قادرا على أن يؤدي وظائف يتضافر فيها الشعري والتداولي. ففعالية النص تعني أن النص البليغ هو الذي يستطيع أن يحول الأشكال الصوتية والتركيبية والمجازية الاستعارية إلى عناصر أساس في بناء حجاجية للنص تكون قادرة في الوقت ذاته على إقناع العقول والأذهان واستمالة النفوس والقلوب.
هكذا يمكن أن نتساءل عن دور الأشكال الصوتية الموسيقية في الإقناع النصي، وخاصة عندما ننظر إلى النصوص من خلال مظهرها الدينامي، باعتبارها نشاطا يجري ويحدث ويكون قادرا على إنتاج دلالات وتأويلات. ويمكن أن نعيد السؤال حول تأثيرات المجاز والتخييل وحجاجية الاستعارة، وأهمية النظر إليها لا في علاقة باللفظ المفرد بل في علاقة بالنظم والتركيب. فالحجاج بواسطة التخييل يخلق الكثير من الحيرة والارتباك، ومع ذلك من الضروري إعادة فحصه ودراسته، بما يعيد إدماج التخييل في قلب البلاغة، ويلقي الضوء على الأنماط الحجاجية التي تحرّك الأدب التخييلي، ويكشف النقاب عن منطقة ميزتها الأساس هذا التمفصل الإشكالي بين الفعالية المنطقية والتأثير السحري للتصوير والتخييل والمجاز والاستعارة.
ويتألف الباب الثالث ، وهو مكرس للمخاطب والمقام ودورهما في الإقناع، إلى تمهيد وثلاثة فصول وخلاصة. ويتوزع الفصل الأول، وهو يتحدث عن دور المخاطب في إنتاج الخطاب الاقناعي، إلى ثلاثة مباحث. يعالج الأول مسألة الوصل والفصل بين المخاطب الواقعي والمخاطب المتخيل، في حين يحاول الثاني تحديد معاني مصطلحين أساسين: العامة والخاصة من المخاطبين، ويركز الثالث على تحديد المقصود بمراعاة حال المخاطب.
وينتهي الفصل الأول بالتشديد على دور المخاطب في بناء الخطاب ونجاحه، فمراعاة حال المخاطب تعني أن يأخذ المتكلم بعين الاعتبار ما يتعلق بمخاطبيه لغويا واجتماعيا وذهنيا وثقافيا ونفسيا، فالمخاطب عنصر أساس في عملية الإقناع، ليس باعتباره غاية الخطاب فقط، بل باعتباره عنصرا ضروريا في بنائه وتكوينه.
أما الفصل الثاني فهو يقارب مسألة المقام ودوره في إنتاج الخطاب الاقناعي، من خلال ثلاثة مباحث، يتوقف الأول عند مبدأ أساس في البلاغة: لكل مقام مقال، ويحاول الثاني تحديد المقصود بمراعاة الألفاظ للأغراض والمقاصد، فيما يتناول الثالث المقصود بمراعاة التراكيب للأغراض والمقاصد. ومن خلال ثلاثة مباحث، يقدم الفصل الثالث معاني المخاطب والمقام في الدراسات المعاصرة الغربية والعربية.
ويخلص الباحث في هذا الباب إلى أن الخطاب الاقناعي يقوم على أفكار من أهمها أن ليس هناك في بلاغة الخطاب الاقناعي فصل أو تعارض بين المتكلم والمخاطب، بل هناك حوارية لا تقتضي المطابقة الشكلية للغة المخاطب، بل تقتضي أن تكون للغة المتكلم قابلية التواصل والتأثير على الآخرين. وأن البلاغة مسألة نسبية، فليس هناك من بلاغة مطلقة صالحة لكل إنسان وزمان ومكان، فالبلاغة بلاغات، ولكل مقام مقال، والمقام ليس شيئا خارجيا بل هو عنصر ضروري في بناء الخطاب ونجاحه.
3 ــ لقد سمح البحث بخلاصات من أهمها:
ـ يعني التفكير في الخطاب أن نأخذ بعين الاعتبار عناصره وأطرافه الضرورية، وما بينها من العلاقات المعقدة : المتكلم، النص، المخاطب، المقام.
ويقتضي التفكير في المتكلم استحضار أهمّ الشروط والكفاءات التي ينبغي أن تتوفر في متكلم يمارس الإقناع بواسطة الخطاب. كما يستلزم النظر في التفاعلات التي تحصل بين المتكلم ومخاطبه في مرحلة إنتاج الخطاب كما في مرحلة إنجازه.
ـ يدفع التفكير في الخطاب الاقناعي إلى تحديد هوية النص اللفظي اللغوي التي تكسب الخطاب فعالية خاصة في التواصل والإبلاغ والإقناع. وهكذا يمكن التفكير في النص باعتباره ألفاظا وأصواتا، وتحظى المادة اللفظية الصوتية باهتمام كبير لما فيها من الإمكانات التعبيرية، ولما لها من تأثيرات خفية وفعالة.
ويمكن التفكير في النص باعتباره نظما وتركيبا، فلا يكون معنى للنص من دون نظم ألفاظه وتأليف مادته اللفظية على نحو خاصّ. فالنظم يعني أن الألفاظ لا تستمدّ قيمتها المعنوية والدلالية إلا من خلال صياغتها وتأليفها وموقعها داخل السياق النصّي، والنظم لا يعني مجرد جمع بين الألفاظ، بل انه يفرض الاهتمام بكيفيات التركيب الأكثر فعالية وتأثيرا في المتلقي.
ويمكن التفكير في النص باعتباره مجازا واستعارة وتخييلا، والسؤال الأساس الذي شغل علماء البلاغة هو: ما هي الشروط التداولية التي تجعل النص المجازي الاستعاري مقبولا وفاعلا؟ وما هي شروط النجاح التداولي للمجاز والاستعارة؟
ـ إذا كان التفكير في النص يفرض، من جهة أولى، الانتباه إلى البنيات والأشكال التي تؤلفه، فانه يقتضي، من جهة ثانية، الانطلاق من أن النص، ببنياته وأشكاله هاته، لا ينفصل عن مخاطبه ومقامه. ذلك أن مراعاة المقام تعتبر من الشروط الجوهرية في إنتاج الخطاب الاقناعي، وهي تقوم على مبدأين أساسين: مراعاة حال المخاطب، ولكل مقام مقال.
والأساس هنا أن المقال ليس مادة لغوية منفصلة كل الانفصال عن مقامها، وأن المقام لا يفهم دوما على أنه عنصر يقع خارج المقال وينفصل عنه. وتتوضح هذه الفكرة أكثر عندما يتحدث البلاغي عن مراعاة الألفاظ والتراكيب للأغراض والمقاصد، ساعيا إلى إلقاء بعض الضوء على العلاقات المعقدة التي تقوم بين مكونات النص اللغوي الداخلية ومكونات المقام الخارجية. ولاشك أن التفكير بهذه الطريقة يقود إلى إعادة النظر في التصورات التي تفصل بين النص والسياق، ويفتح فضاء جديدا لإعادة صوغ إشكالية النص الأدبي.
أخيرا، يأمل البحث أن ينتهي إلى تجديد الاقتناع بأنّ قوة البلاغة في ارتباطها بالإقناع، وأن فهم البلاغة في معناها النسقي العام يفتح آفاقا جديدة وخصبة أمام البحث العلمي، وخاصة عندما يركز على منطقة التفاعل الذي يحصل بين أطراف ثنائيات عديدة: المتكلم/المخاطب، النص/ المقام، الحجة/ الصورة، الشكل/المضمون... الخ.
وتتجلى قوة البلاغة كذلك في كونها تعلم الباحث القراءة الفاحصة لمكونات النص الداخلية كما للعلاقات المعقدة الممكنة بين هذه المكونات والعناصر الخارجية( المخاطب، المقام، السياق). وهي لا تكتفي بالتسليم بأن بين الداخل والخارج، أي بين النص والسياق، علاقات جدلية حوارية، بل انها تدفع إلى الاشتغال التطبيقي التفصيلي على علاقة المكونات النصية بالأغراض والمقاصد، والانتباه إلى ما في الألفاظ والأصوات والتراكيب والصور من تعدد دلالي وثراء إيحائي ، ومن قابلية للاستعمال في مقامات وسياقات مختلفة.
ويضاف إلى ذلك أن القراءة البلاغية لا تهمها مسألة الأجناس كثيرا، لأن هدفها أن تقوم بخطوة إلى ما وراء تحليل الأجناس مستهدفة خصوصية كل وحدة من وحدات النص( الصوت، اللفظ، النظم، البديع، المجاز...)، وهي بذلك تركز على ما يميز نصا ما بالأخص. وما أحوجنا اليوم في النقد والبلاغة إلى مثل هذه القراءة.
وختاما، إن صاحب هذا العمل إذ يعترف بافتتانه بهذا الموضوع، يدرك أن العناية الوافية بقضاياه المتعددة تتطلب مجهودات متواصلة وأكثر تفصيلا.