الأثر اليوناني في البلاغة العربية: بلاغة النص وبلاغة الخطاب
عبدالجبار الشرافي |
يطرح هذا المقال قضية أن البلاغة العربية تعد من بين العلوم
العربية الأصيلة التي تشمل العلوم اللغوية والتي كما يقول ابن خلدون عنها:
أنها ولدت في البيئة العربية لخدمة مقاصد عربية محضة. ويأتي على رأس هذه
المقاصد منع اللحن الذي كان قد بدأ يزحف على اللغة العربية مع دخول الشعوب
غير العربية الإسلام. وإلى مثل هذا يشير أيضا الدكتور محمد عابد الجابري
في كتابه "تكوين العقل العربي" (2002: 80). وبهذا فإن أطروحة هذه المقالة
ترد على المزاعم التي طرحها الدكتور طه حسين في أحد مقالاته التي كتبها
باللغة الفرنسية قبل ما يزيد عن ثمانين عاما وخلاصة هذه المزاعم أن
الفيلسوف اليوناني أرسطو لم يكن المعلم الأول للمسلمين في الفلسفة فحسب
وإنما كان كذلك في علم البيان(1).
سأعرض في القسم الأول من هذه المقالة لطبيعة البلاغة العربية،
وفي القسم الثاني سأعطي موجزا مختصرا عن تاريخ البلاغة العربية، وفي الجزء
الثالث موجزا مختصرا عن البلاغة اليونانية لكي أبين أن كل تراث من هذين
التراثين البلاغيين كان له بدايات وإرهاصات وتاريخ مختلف عن الآخر. ثم بعد
ذلك في الجزء الرابع من المقال أتناول أقسام البلاغة العربية، وفي القسم
الخامس أقسام البلاغة اليونانية لأصل إلى خلاصة مفادها أن أقسام البلاغتين
تختلفان اختلافا جوهريا. وفي القسم السادس من هذه المقالة أتحدث عن أنواع
البلاغة العربية، وأما الجزء السابع فيتناول أنواع البلاغة اليونانية لكي
نصل إلى نتيجة أن التقسيم مختلف بينهما كذلك. وفي القسم الثامن أتعرض
لموضوع التأثير اليوناني في البلاغة العربية ثم اختم بتلخيص النقاط المهمة
في هذا المقال.
قبل أن أدخل في الموضوع لا بد من توضيح يتعلق بالمصطلحين الذين ظهرا في عنوان هذا المقال (النص والخطاب).
فالنص: هو مصطلح يقصد به -في إطار هذا المقال- النص المكتوب.
والخطاب: مصطلح يقصد به -في إطار هذا المقال- النص المكتوب والمسموع أيضا.
1. طبيعة البلاغة العربية
يشير المستشرق المعروف فيرستيغ إلى أن الأثر اليوناني على
المعارف العربية رغم أنه كان شائعا في العديد من الجوانب المعرفية إلا أنه
من المؤكد أنه لم يشمل ما كان يسمى بعلوم العربية مثل العلوم اللغوية
(1977: 1). ومما يجدر ذكره أن العلوم اللغوية العربية بدأت قبل بداية
التأثر بالثقافة اليونانية، فكما يقول ابن الأنباري أن أول مُؤلّف في
النحو العربي قام بجمعه أبوالأسود الدؤلي في الثمانينيات من القرن السابع
الميلادي تقريبا، ويعزو ابن الأنباري في كتابه "نزهة الألباء" بدايات
اهتمام العرب بالنحو ودراسة اللغة بشكل عام إلى الخليفة الرابع علي بن أبي
طالب -رضي الله عنه- ويروي القصة التالية دعما لهذا الموقف: يقول
أبوالأسود الدؤلي: أنه جاء إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله
عنه-، ورأى مخطوطا في يده فسأل أمير المؤمنين عنه فأجابه قائلا: "لقد كنت
أفكر في لغة العرب ولاحظت أنه قد كثر اللحن فيها باختلاطنا مع هؤلاء
الأعاجم، وأردت أن أقوم بعمل شيء ما من أجل أن يعتمدوا عليه"، ثم ناول
أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب أبا الأسود المخطوط الذي كُتِب فيه" اللغة
اسم وفعل وحرف. الاسم هو ما دل على شيء والفعل ما دل على حدث، والحرف هو
ما دل على معنى" وقال لأبي الأسود الدؤلي "أُنْحُ هذا النحو وأضف إليه ما
تجد"(نزهة الألباء، ص4).
من هذا نجد أن البدايات الأولى للدراسات اللغوية في الحضارة
العربية كانت عربية أصيلة بل كانت لعلاج ما أفسدته ألسنة الأعاجم من إدخال
اللحن في العربية، ولم يكن ذلك بتأثر من أي ثقافة أجنبية.
2. موجز في تاريخ البلاغة العربية
نجد في الدراسات والمؤلفات تعريفات عدة لكلمة بلاغة ولكنها تلتقي
في النهاية على مفهوم واحد يحدد طبيعة هذا العلم. ففي الموسوعة الإسلامية
نجد أن كلمة بلاغة تعرف بأنها "اسم مجرد من بليغ وأصلها بلغ أي تحصل الشيء
المراد" وعلى هذا فهي تعني الوصول إلى المقصود من الكلام والتأثير في
السامع. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الموسوعة الإسلامية تشير إلى أنه
وبالرغم من أن هنالك إشارات متكررة إلى أن هذه التعريفات أو تلك إنما كان
منشؤها أمم أخرى غير العربية كالفارسية واليونانية والهندية إلا أن هناك
إشارات واضحة تدل على أن المفهوم نشأ في عمق البيئة الثقافية العربية.
والبلاغة العربية كانت نتاجا للظروف السائدة في المجتمع العربي
بعد الإسلام، وكانت قد بدأت كفرع من فروع الدراسات اللغوية القرآنية التي
تعنى بتفسير القرآن الكريم، والتي كانت تهدف أساسا لإثبات إعجاز القرآن
الكريم الذي تحدّى العرب وهم أهل الفصاحة وفرسان البلاغة أن يأتوا بسورة
من مثله. من ثمّ فإن اهتمام العلماء كان منصبا أساسا على فكرة بحث جوهر
هذا التحدّي. وكما نرى فإن البلاغة العربية من يومها الأول اصطبغت بصبغة
الدراسات التحليلية للنص القرآني الموجود بين دفتي المصحف كنص مكتوب. وكان
أول من اهتم بدراسة المجاز في القرآن الكريم هو الفراء المتوفى سنة 207
هـ/830 م، والذي ألّف كتابا في هذا المجال تحت عنوان "معاني القرآن"، وتلا
ذلك أبو عبيدة معمر بن المثنى المتوفى سنة 210 هـ/ 833م، والذي ترك لنا
كتابا في هذا المجال بعنوان "مجاز القرآن". بعد ذلك يأتي ابن قتيبة
المتوفى سنة 276 هـ 889م وهو الذي ألّف كتابا بعنوان "تأويل مشكل القرآن".
وفي هذه المؤلفات نجد تصريحات عامة عن المجاز والذي كان يعني بالنسبة لهم
الأسلوب.
واستمر الأمر على هذه الحال من التناول اللغوي لقضية مجاز
القرآن، والذي كان غالبا ما يقصد به أسلوب القرآن في تلك الفترة من مراحل
تطور الدراسات اللغوية والبلاغية في التراث البلاغي العربي حتى كان عصر
الجاحظ الذي عاش في النصف الأول من القرن الثالث الهجري وتوفى سنة(255هـ/
868م)، ويعتبر الجاحظ وريث تراث لغوي وبلاغي اهتم بدراسة النص القرآني
وتحليل أساليبه إلاّ أنّ الجديد في فكر الجاحظ أنّه أدرج أمثلة كثيرة من
خارج النص القرآني وأنّه أعمل فكره الاعتزالي في طرح القضايا البلاغية في
كتابيه المشهورين "البيان والتبيين" و"الحيوان"، وكان من بين الآراء التي
طرحها الجاحظ فكرة أنّ الإعجاز لا يكمن في المعاني ولكن في الصياغة وحسن
السبك، لأنه -وحسب رأي الجاحظ- فإن المعاني موجودة ومتوفرة للجميع، ولكن
قليل من يحسن وضع هذه المعاني في قوالب بديعة الرصف ولطيفة السبك
والصياغة، تبين الجمال والإبداع.
وفي عام(274هـ/ 887م) كتب ابن المعتز كتابه "البديع"، والذي
استخدم فيه القرآن الكريم والحديث ليبرهن على أن البديع لم يكن مما
استحدثه المبتدعون في الشعر العربي، وإنما هو فن أصيل له ما يؤيده في
القرآن الكريم والحديث الشريف. والجدير بالذكر أن الدكتور طه حسين لم ير
كتاب ابن المعتز قبل أن يكتب تلك المقالة التي أشرت إليها سابقا في مطلع
هذا المقال، والسبب أنه في ذلك الوقت لم يكن كتاب ابن المعتز قد حُقِّقَ
بَعْدُ، وخرج إلى النور، حيث تمت طباعته فيما بعد في انجلترا بعد أن قام
بتحقيقه المستشرق كراتشوفسكي في عام 1935م. ومن الإشارات لهذا الكتاب في
مصادر أخرى وليس من الكتاب نفسه قام الدكتور طه حسين بتكوين فكرة عما يمكن
أن يحتويه الكتاب، وادعى حسين في مقالته أن كتاب ابن المعتز قد ينطوي على
الكثير من التأثر بالثقافة اليونانية. ولكن لسوء حظ الدكتور طه حسين فإن
توقعاته لم تكن في مكانها فقد اتضح بعد تحقيق الكتاب ونشره كما يقول
الدكتور شوقي ضيف(1965: 70) أنه خلا تماماً من أي من هذا التأثر بالثقافة
اليونانية، وأن الكتاب كان ينهل من تراث بلاغي عربي أصيل ومصادر عربية
صافية، وكان من أبرز هذه المصادر بالطبع أبو عمر الجاحظ.
وكان المبرد المتوفى سنة 285هـ/ 898م، قد ألّف كتابا في النحو
سماه "الكامل" وأشار فيه إلى بعض أنواع الصور البلاغية مثل الحذف،
والتقديم والتأخير، والتشبيه. وقد قام المبرد بمناقشة هذه الموضوعات في
فصل مستقل في كتابه المذكور. وجاء من بعده الرماني المتوفى سنة 386هـ
996م، وألّف كتابا سماه "النكت في إعجاز القرآن". وقسم الرماني كتابه إلى
ثمانية أجزاء، كل منها مختص بمظهر من مظاهر الإعجاز، وأحد هذه المظاهر هو
البلاغة والتي قسمها إلى ثلاثة مستويات: البلاغة الرفيعة وهي بلاغة القرآن
الكريم، والمستويين الثاني والثالث هما بلاغة البلغاء على درجات متفاوتة.
أمّا العسكري المتوفى سنة (395هـ/1005م) فقد ألّف كتابا في هذا الفن وسماه
"الصناعتين" وقصد به صناعتي الشعر والنثر. وقد التزم العسكري خط مدرسة
المتكلمين في الدراسات البلاغية من أمثال الجاحظ.
ويرى الباقلاني المتوفى سنة(403هـ/1013م) في كتابه "إعجاز
القرآن"؛ أن جميع مظاهر البلاغة الموجودة في القرآن الكريم تدل على أنها
بلاغة في اللفظ والمعنى. وقد تحدث القاضي عبد الجبار المعتزلي المتوفى
سنة(419هـ/1024م)، عن الإعجاز في القرآن الكريم في الجزء السادس عشر من
كتابه المغني في أبواب التوحيد والعدل، وفي معرض حديثه يطرح القاضي عبد
الجبار القضية في إطار الفكر المعتزلي كسلفه الجاحظ، وجوهر القضية أن
الإعجاز في القرآن الكريم يقع في اللفظ وحسن السبك.
وعلى رأس هذا التراث البلاغي العربي يأتي عبد القاهر الجرجاني
المتوفى سنة(471هـ/ 1078م)، ليؤسس للبلاغة العربية في كتابيه المشهورين
"أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز". لم يكن عبد القاهر من المعتزلة الذين
نظروا إلى اللفظ كمحدد أساسي لإعجاز القرآن، ولم يكن الجرجاني كذلك ممن
يقولون: إنّ الإعجاز يقع في المعنى دون اللفظ بل كان صاحب نظرية جديدة في
البلاغة العربية تتلخص في أن إعجاز القرآن يكمن في النظم وهو التركيب
والصياغة.
أما أبو يعقوب السكاكي المتوفى سنة(626هـ/1226م) فقد نهج طريقا
مغايرا لمنهج الجرجاني والتزم منهج المتكلمين وخصوصا المناطقة منهم فترى
كتابه "مفتاح العلوم" وقد امتلأ بالتقسيمات والتفريعات المنطقية لأقسام
البلاغة وأنواع المجاز. ويأتي بعده ابن الأثير المتوفى سنة (637هـ/1237م)،
والذي ألف كتابا أسماه "المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر" والذي نجد
فيه الكثير من الاهتمام بتنظيم وترتيب أنواع المجاز مثل الاستعارة
والكناية والتشبيه. ونري أن غالبية الأمثلة التي يعرضها ابن الأثير مأخوذة
من القرآن الكريم والحديث الشريف. وفي أوائل القرن الثامن الهجري/ أوائل
القرن الرابع عشر الميلادي، كان مجيء الإمام يحي بن حمزة العلوي اليمني
والذي ألّف كتابا في البلاغة والإعجاز سماه "الطراز في أسرار البلاغة
وحقائق الإعجاز" والذي قدم فيه منهجية تهتم باللفظ والمعنى جنبا إلى جنب
في تناول قضية الإعجاز في القرآن الكريم. أما ابن قيم الجوزية المتوفى
سنة(750هـ/1350م) فقد ألّف كتابا سماه "كتاب الفوائد المشوق إلى علوم
القرآن وعلوم البيان". وقد أودع ابن القيم في هذا الكتاب تعاريف مختلفة
للفصاحة والبلاغة وأثار عدة نقاشات حول قضايا البلاغة العامة مثل الحقيقة
والمجاز وغيرها من الموضوعات البلاغية، ويرى أن الإعجاز يكون في اللفظ
والمعنى.
في هذا الجزء من المقال حاولت أن استعرض تاريخا موجزا للبلاغة
العربية، وأن أبيّن أنّ طبيعة البلاغة العربية ونشأتها كان لغرض أساس هو
إثبات أنّ القرآن الكريم معجز في لفظه كما رأينا عند بعض البلاغيين العرب،
أو أنه معجز في معناه كما رأينا عند بعضهم الآخر، أو أنه معجز في لفظه
ومعناه، أو أنّ إعجاز القرآن يقع في النظم كما في منهجية الجرجاني. ولا
يكاد يخلو كتاب أو مؤلف من مؤلفات البلاغة العربية إلا ويعدّ موضوع
الإعجاز جزءًا أساسياً من أهدافه. وعليه فإنه من المستبعد جدا أن يقوم
هؤلاء العلماء، وهم ما انبروا إلا ليدافعوا عن القرآن وليثبتوا أوجه
الإعجاز فيه - أن يستوردوا أفكارا أو حتى يتأثروا بأفكار من ثقافة كانوا
يعدونها وثنية، ومن فلسفة كانوا يصفونها بالزندقة!
3. نظرة على بدايات البلاغة اليونانية
لقد كان البلاغيون اليونان متأثرين بالتغيرات الاجتماعية التي حدثت في
القرن الخامس قبل الميلاد في بلاد اليونان. ففي كتابه "سيناجوج" يعزو
أرسطو نشأة البلاغة إلى تسياس وكوراكس الصِّقِلِّيَّيْنِ في الربع الثاني
من القرن الخامس قبل الميلاد، وكان هذان الشخصان بارعين في التحدث أمام
العامة، وماهرين في إقناع الآخرين بوجهة نظرهما. وبعد طرد الطغاة
والمستبدين من سيراكوس وإقامة نظام حكم ديموقراطي فيها، قام ملاك الأراضي
التي كانت قد صودرت أيام حكم الدكتاتوريين بإجراء مرافعات قانونية
لاسترداد أراضيهم وأملاكهم. ولهذا احتاج هؤلاء إلى مساعدة كوراكس وتيسياس
في هذه المرافعات. وممّا يجدر ذكره أنه وخلال هذه الفترة شهدت اليونان
نوعين من الإصلاحات كان لهما الأثر الكبير على تطور فن البيان في اليونان
القديمة. كان الإصلاح الأول الذي شهدته أثينا في تلك الفترة هو الإصلاح
السياسي الذي قام به كليسثينيس في العام 450 قبل الميلاد، والذي نتج عنه
إنشاء نوع من الحكم الديموقراطي. أمّا الإصلاح الثاني فقد تمثل في الإصلاح
القضائي الذي قام به إيفياليتس في العام 462 قبل الميلاد. ولقد مكنت تلك
الإصلاحات السياسية جميع المواطنين الأثينيين-ولومن حيث المبدأ- من أن
يصبحوا أعضاء في البرلمان الأثيني، وأن يُصَوِّتُوا في الأمور العامة مما
أدى إلى وجود حركة اجتماعية كبيرة في مجتمع أثينا لأنه أصبح من الممكن لأي
من المواطنين الحق، ولو نظريا، في التطلع إلى امتهان السياسة أو العمل في
سلك الخدمة المدنية وبهذا زادت الحاجة إلى مهارات التحدث ومهارات الإقناع.
أما الإصلاح القضائي فقد كان له أكبر الأثر في إعطاء الناس الحرية في طرح
قضاياهم والدفاع عن أنفسهم ومقاضاة الآخرين بأنفسهم، وعرض مرافعاتهم أمام
هيئة محلفين حيث لم يكن هناك محامون بالمعنى المتعارف عليه اليوم. وغالبا
ما كان يصل عدد أعضاء هيئة المحلفين إلى مائتي فرد نظرا لأن المقاضات كانت
أكثر علنية مما هي عليه اليوم (انظر Conely 1990، Dixon 1971، Kennedy
1994). في ضوء هذه التغيرات أصبحت المَلَكَةُ البلاغية وأصبح فن التحدث
وإقناع العامة أمرا غاية في الأهمية في المجتمع اليوناني في تلك الفترة،
وأصبح من أهم معاني البيان أوالبلاغة هوالتحدث بشكل جيد ومؤثر ومقنع.
ويذكر Kennedy 1994 أن إيسوكريتس كان يتقاضى مبالغ كبيرة، وكان يدفع له
بسخاء نظير قيامه بتدريب الناس على مهارات التحدث بشكل جيد أمام العامة.
ومن هذا العرض المختصر لمقاصد البلاغة اليونانية يتضح أنها ظهرت
لخدمة أهداف مغايرة تماما للمقاصد التي جاءت من أجلها البلاغة العربية.
ولعل الأمر الأكثر أهمية في هذا الصدد أن البلاغة اليونانية ركزت أول ما
ركزت على الحديث أو على الكلمة المسموعة، وهذا على خلاف الاهتمام الرئيسي
للبلاغة العربية والتي اهتمت بشكل أساسي ومنذ بدايتها على دراسة النص
المكتوب وهو القرآن الكريم ومظاهر الإعجاز فيه.
4. أقسام البلاغة العربية
أصبح من المتعارف عليه تقسيم البلاغة العربية إلى ثلاثة أقسام
رئيسية هي: البيان والمعاني والبديع، وهذا التقسيم الثلاثي كان موجودا حتى
عند القدماء ولاسيما في كتابات المتأخرين منهم مثل السكاكي والعلوي. أما
علم البيان فهو العلم الذي يبحث في أنواع المجاز والتشبيه، وهو العلم
المختص بالتمييز بين الاستخدامات اللغوية التي تحمل على وجه الحقيقة، وهو
الأسلوب الطبيعي كما يراه البلاغيون العرب القدماء والاستخدامات اللغوية
المجازية وهو الأمر الاستثنائي عندهم. وأنا لست هنا بصدد تمحيص هذا الموقف
أو دراسته أو نقده لأن هذا ليس المكان المناسب، وإنما أريد أن أعرض هنا
لأقسام البلاغة كما كان يراها أئمة البلاغة في تلك الفترة. والقسم الثاني
من أقسام البلاغة العربية هو ما يسمى بعلم المعاني، ويقصدون به علم
التراكيب وعلم دراسة مناسبة تركيب الجملة للموقف والسياق الذي قيلت فيه.
أما القسم الثالث فهو علم البديع ويقصد به أوجه صياغة اللفظة لكي تكتسب
جرسا صوتيا معينا يؤثر في السامع.
5. أقسام البلاغية اليونانية
أمّا البلاغية اليونانية فقد استقرت في وضعها النهائي كما نجدها
في كتابات شيشرو في القرن الأول قبل الميلاد وفي كتابات كوانتلين في القرن
الأول الميلادي على خمسة أقسام (انظر Kennedy 994، Dixon 1791). القسم
الأول هو الابتكار، وهذا هو القسم المتعلق بابتكار الموضوع والمادة الخام
للنص. وبالنسبة للبلاغيين اليونانيين فهذا القسم بالذات مهم جدا لأن
اختيار الموضوع واختيار المادة التي سيتم الحديث عنها بالغ الأهمية، ويؤثر
كثيرا على قناعات السامعين. والقسم الثاني هو ما يطلقون عليه الترتيب أو
التنظيم، ومقصود به هنا الترتيب المنطقي للأفكار والموضوعات والمقدمات
والنتائج، وهذا ما يمكن أن نطلق عليه بمصطلحات علم اللغة الحديث بالتركيب
البنيوي للنص، وضمان توفر التناسق والانسجام بين مكوناته. في هذا القسم
نجد أن المتحدث أو الكاتب يقوم بتقسيم النص إلى مقدمة وسرد وبراهين
وخاتمة، وفي كل من هذه التقسيمات الفرعية يكون هناك أيضا تفريعات أخرى
ومقاصد مستقلة. على سبيل المثال في المقدمة يهدف الخطيب إلى اجتذاب سماع
الجمهور والاستحواذ على اهتمامهم بما يقال. أمّا القسم الثالث فهو الذي
يتناول أساليب الفصاحة وصياغة الألفاظ وتحسين العبارة وأناقة الرصف
والسبك. وهنا يكون الاهتمام منصبا على الشكل والصياغة واللفظ. وهنا يبرز
مصطلحان من مصطلحات البلاغة اليونانية هما: المفرد والتركيب، وهذان
المصطلحان يشبهان إلى حد كبير مصطلحين مهمين أصبحا من أهم مبادئ البنيوية
اللغوية الحديثة التي تأسست على يد العالم السويسري فردناند دوسوسير في
عام 1916م. هذان المصطلحان هما "الترتيب الباراديجماتي" ويقصد به الاختيار
من بين المفردات، و"الترتيب السينتاجماتي" ويقصد به الربط بين المفردات
وتركيبها في تراكيب لغوية معينة. ومما يجدر ذكره أن العلامة اللغوي الروسي
المولد والأمريكي الموطن رومان ياكوبسن قد توصل إلى مصطلحين يشبهان إلى حد
كبير هذين المصطلحين وسماهما في بحث نشره في عام 1971م، الاختيار
والترابط، ويقصد بذلك أننا نقوم باختيار الألفاظ من مستودع الألفاظ ثم
نقوم برصف وربط هذه الألفاظ في تراكيب لغوية مختلفة حسب قواعد معينة.
وهذان المصطلحان كذلك يشبهان إلى حد كبير مصطلح "الفئة" و"التركيب" اللذين
أتى بهما العلامة اللغوي الإنجليزي مايكل هاليدي في نظريته المسماة
باللغويات المنظوماتية الوظيفية المنشورة في كتاب عام 1985م.
أمّا القسم الرابع فهو المتعلق بحفظ الخطبة أو النص الخطابي عن
ظهر قلب وما يصاحب ذلك من مهارات التذكر والاستحضار. والقسم الخامس هو
الإلقاء وهو الأداء الفعلي وما يصاحب ذلك من أساليب التشويق والحركات
الجسدية المصاحبة للإلقاء والتي تعطي معاني إضافية للنص. وكل قسم من هذه
الأقسام يعد علما في حد ذاته.
أما إذا نظرنا إلى البلاغة العربية فنجد أنها بأقسامها الثلاثة
تقع ضمن إطار القسم الثالث من أقسام البلاغة اليونانية. فلو أن البلاغة
العربية تأثرت بالبلاغة اليونانية كما يزعم الدكتور طه حسين في مقاله-
لوجدنا تشابها وتأثرا فيما يتعلق بالأقسام الأخرى.
6. أنواع البلاغة العربية
لا توجد أنواع للبلاغة العربية وإن كان هناك أنواع للخطابة مثل
الخطابة السياسة والدينية والاجتماعية. ولعل هذا يقودنا إلى التفريق بين
البلاغة والخطابة. فالخطابة فهي الفن والنشاط الذي يقوم به بعض الناس إما
بالسليقة وإما عن طريق التدريب والتعلم. أما البلاغة فهي العلم الذي يدرس
ويضع الأصول والقواعد لفن الخطابة. وحسب علمي أنه وإن كانت قد وجدت
الخطابة بأنواعها المذكورة فإنه لم يوجد ما يوازي ذلك من علم يدرس ويضع
القواعد لها في التراث العربي إذا استثنينا ما ذكره الجاحظ بشكل مقتضب في
كتابه البيان والتبيين عن الجوانب الأسلوبية للخطابة أو ما ذكره غيره في
كتبهم وهو عبارة عن ملاحظات عامة لا ترقى إلى مستوى التأصيل والتقعيد لعلم
الخطابة.
7. أنواع البلاغة اليونانية
أما البلاغة اليونانية فتدين بالفضل للفيلسوف أرسطو الذي قدم
تصنيفا ثلاثيا لأنواع البلاغة اليونانية بصفتها العلم الذي يدرس أنواع
الخطابة ويضع لها القواعد والأسس. هذا التصنيف الثلاثي الذي جاء به أرسطو
يتلخص في أن هناك ثلاثة أنواع من البلاغة هي: بلاغة الخطاب السياسي وبلاغة
الخطاب القضائي وبلاغة الخطاب الأدبي. وفي الفصل الثالث من الكتاب الأول
من الخطابة يقدم لنا أرسطو هذا التقسيم، وينص على أن معيار التقسيم كان
على حسب طبيعة ودور جمهور المستمعين للنص. فإذا كان مطلوب من المستمعين أن
يصدروا حكما في أمور ماضية كان نوع الخطاب قضائيا، لأن الخطيب يتحدث عن
أحداث حدثت في الماضي لكي يتسنى لهيئة المحلفين أن يصدروا حكما بشأن هذه
الأحداث. وإن كان يطلب من المستمعين إصدار حكم على أمور مستقبلية كان نوع
الخطاب سياسيا، لأن الخطيب يتحدث عن أمر عام في المجلس النيابي ربما يتخذ
بشأنه إجراء أو يصدر حكما بشأنه في المستقبل. أما إذا كان الجمهور غير
مطلوب منه أن يصدر حكما فإن أرسطو يطلق على هذا النوع من النص الخطاب
الأدبي. إلا أن أرسطو يعود ويؤكد في الفصل الثامن عشر من الكتاب الأول من
الخطابة أنه حتى في الخطاب الأدبي يوجد هناك نوع من إصدار الحكم بمعنى أن
الجمهور في هذا النوع من الخطاب لا يكون سلبيا وإنما يكون له موقف ووجهة
نظر حول مدى تأثير الخطيب وقدرته على جذب اهتمام السامعين وهو ما يحدث
عادة عن قراءتنا للأدب فإننا نقرؤه أو نسمعه ونحكم على قدرة الكاتب أو
المتكلم الأدبية.
مما سبق يتبين لنا أن البلاغة العربية تختلف اختلافا جذريا عن البلاغة
اليونانية سواء من حيث المقاصد والأهداف، أومن حيث الطبيعة والتقسيمات
والأنواع فكيف لهذه البلاغة أن تكون مدينة للمعلم الأول أرسطو؟!.
8. التأثير اليوناني على البلاغة العربية:
لقد ترجم العرب خلال العصور الوسطى كما هائلا من التراث الثقافي
اليوناني، وفي الحقيقة أن بعض المؤلفات اليونانية لم تصلنا اليوم إلا عن
طريق الترجمات من العربية إلى اللغات الأوروبية لأن الأصل اليوناني كان قد
ضاع فما كان من المؤرخين إلا أن عادوا إلى المخطوطات العربية واسترجعوا
بعض نماذج هذا التراث. هذه حقيقة لا يمكن إنكارها وهي في الحقيقة مظهر
طبيعي من مظاهر التوارث الحضاري بين الأمم والثقافات. إن استفادة العرب من
الثقافات الأخرى مثل الثقافة الفارسية والثقافة الهندية والثقافة
اليونانية-أمرٌ ليس موضع النقاش هنا، وإنما ما هو موضع للنقاش هو نطاق هذا
التأثر ومجالاته في الثقافة العربية فيما يسمى في الغرب بالعصور الوسطى.
وبينما كان التأثر واضحا في مجال العلوم الطبيعية والفلك والرياضيات
والفلسفة لسبب يسير أن العرب لم تكن لديهم هذه العلوم فيما سبق وإنما
اكتسبوها بعد احتكاكهم بالثقافات الأخرى ومنها الثقافة اليونانية، إلا أن
وجود هذا التأثير اليوناني في العلوم العربية المحضة وهي العلوم اللغوية
العربية وعلى رأسها البلاغة العربية لا يزال موضع جدل واسع، وتوجد كما
بينا وسنبين فيما يأتي أراء قوية تقول: أنّ تأثير البلاغة اليونانية على
البلاغة العربية لم يكن ذا بال على عكس ما يقوله الدكتور طه حسين من أن
أرسطو هو المعلم الأول للمسلمين في البلاغة.
لقد ألمح الدكتور طه حسين في مقاله المذكور إلى أن البلاغة
العربية مدينة للبلاغة اليونانية وبالأخص للإطار البلاغي الأرسطي، وفي
مواضع كثيرة في هذه المقالة حاول الدكتور طه حسين أن يتتبع أثر البلاغة
اليونانية على البلاغة العربية، وكانت الخلاصة التي توصل إليها هي: "وإذا
لا يكون أرسطو المعلم الأول للمسلمين في الفلسفة وحدها؛ ولكنه إلى جانب
ذلك كان معلمهم الأول في علم البيان".
ويمكن سرد الملاحظات التالية للرد على هذا الادعاء:
أولا: كانت البلاغة اليونانية نتاجاً لتغيرات سياسية
واجتماعية في المجتمع الأثيني، وكان لهذه التغيرات أعمق الأثر في صبغة
البلاغة اليونانية بصبغة خاصة بها، والتي نتج عنها أن تكون البلاغة
اليونانية في الأساس تعني فن التحدث والخطابة أمام العامة. وبالمثل كانت
البلاغة العربية نتاج البيئة العربية والمقاصد العربية المحضة، ولقد كان
الباعث الديني هو الموجه الرئيس للبلاغة لإثبات إعجاز القرآن الكريم. ولقد
نتج عن هذا الهدف أن أصبح جل اهتمام الدراسات البلاغية في الثقافة العربية
هو دراسة القرآن الكريم كنص مكتوب مما أفاد في تطور الدراسات الأسلوبية في
البلاغة العربية تطورا كبيرا منذ عهد بعيد. على عكس البلاغة اليونانية
التي اهتمت بمختلف أوجه الخطابة كنص مسموع ونص مكتوب أيضا.
لقد كانت البذور الأولى للبلاغة العربية عبارة عن معالجات لقضايا
الأسلوب، وكانت هذه المعالجات منثورة في كتب النحويين، وظلت البلاغة
العربية تظهر اهتماما كبيرا في تركيب العبارة وتركيب الجملة حتى ظهرت
إشارات عامة في كتابات الإمام عبد القاهر الجرجاني وفي كتابات المتأخرين
من أمثال العلوي إلى النص كوحدة للتحليل أكبر من الجملة. والتأكيد هنا على
النص المكتوب سواء كان نصيا دينيا من القرآن والسنة أو نصا من الشعر
العربي أو حتى من فن الخطابة العربية. وعلى عكس البلاغة اليونانية التي
تتسم بأنها بلاغة تركيبية لأنها تركز على تركيب النص منذ مراحله الأولى
كمراحل ابتكار الأفكار، مرورا بترتيب وتنظيم الأفكار، ومن ثم المظاهر
الأسلوبية والحفظ والاستذكار، وأخيرا الإلقاء، فإن البلاغة العربية كانت
بلاغة تحليلية تهتم بتحليل النص الموجود أصلا ودراسة المظاهر الأسلوبية
فيه.
ومن الناحية التاريخية، فإن ترجمة كتاب الشعر لأرسطو إلى اللغة
العربية كان أولا على شكل مختصر قام به الفيلسوف العربي الكندي المتوفى
سنة(252هـ/865م)، وكما يقول الدكتور شوقي ضيف (1965م): إنّ الفلاسفة العرب
في العصور الوسطى كانوا مهتمين بتقديم الأعمال الأدبية لأرسطو للغويين
العرب لكي يستفيدوا منها. وعندما شعر هؤلاء الفلاسفة أن الملخصات لم تف
بالغرض بدؤُوا بترجمة كاملة لكتابي أرسطو المشهورين في هذا المجال وهما
كتاب الشعر وكتاب الخطابة. أما الأول فقد قام بترجمته أبو بشر متَّى بن
يونس المتوفى سنة(328هـ/941م)، والذي يقول الدكتور طه حسين نفسه عنه: إنه
لم يفهم هذه الترجمة أحد في ذلك العصر(2). ويروى أن كتاب الخطابة كانت له
ترجمتان، إحداهما قام بها حنين ابن إسحاق، والأخرى -والتي يسميها ابن
النديم الترجمة القديمة- التي رآها في كتيب من مائة صفحة قام بترجمتها
السرخسي وهو تلميذ الكندي. وعلى كل حال فإنه من الواضح من كتاب البيان
للجاحظ أنه لم يطلع على هذه الترجمة القديمة لأنه لا توجد أي إشارة لها في
كتابه وهذه نتيجة توصل لها الدكتور شوقي ضيف في كتابه(1965م) وأشار إليها
الدكتور طه حسين نفسه في مقاله المذكور(3).
وإذا كان الجاحظ مؤسس البيان العربي -حسب رأي الدكتور طه حسين
نفسه- لم يقرأ ترجمة كتاب الخطابة لأن الترجمة جاءت متأخرة أي بعد وفاة
الجاحظ -فإنه من الصعب المجازفة بالقول بأن البلاغة العربية قد تأثرت
بالبلاغة اليونانية أو أن البلاغة العربية مدينة للبلاغة اليونانية. وإذا
كان الجاحظ لم ينهل من المؤلفات البلاغية اليونانية بشكل عام، ومن الفكر
البلاغي الأرسطي بشكل خاص- فالاحتمال الوحيد هو أن الجاحظ كان ينهل من
تراث بلاغي عربي خالص، وهذه النتيجة تصبح أكثر تأكيدا عندما نعلم أن
الجاحظ نفسه لم يشر إلى أي مصدر غير المصدر العربي فيما يتعلق بالأفكار
التي كان يطرحها في كتبه. هذا فيما عدا القصص التي كان يوردها عن تعريف
البلاغة عند الفرس والهنود واليونان.
يشير طه حسين في مقاله إلى أن البلاغيين العرب والفلاسفة العرب لم
يفهموا كتابي أرسطو في الخطابة والشعر لأن العرب لم تكن لهم الأجناس
الأدبية التي كانت عند اليونان. وقبل هذا وذاك لم تتوفر لدى العرب كذلك
الظروف السياسية والقضائية التي تستدعي تدريب الناس على التحدث أمام
العامة، ولذا فهم لم يفهموا الكثير مما كان يتحدث عنه أرسطو في هذين
الكتابين. وكثيرا ما يردد الدكتور طه حسين أن البلاغيين العرب فهموا إلى
حد ما الجزء الذي يتحدث عن الأسلوب من كتاب الخطابة لأرسطو أفضل بكثير من
غيره من الأجزاء، وهذا لعمري دليل واضح على أن العرب عند ترجمة كتاب
الخطابة إلى اللغة العربية كان لديهم تراث بلاغي عريق يبحث ويدرس فن أسلوب
صياغة اللفظ وبناء العبارة والجملة ومن ثم النص. ولذلك فهم البلاغيون
العرب هذا الجزء أكثر من غيره.
ستيتكيفيتش يلقي الضوء على هذا الموضوع ويؤكد أن "تتبع أي أثر
للثقافة اليونانية في العلوم اللغوية العربية أمر في غاية الصعوبة. وأن
بدايات الدراسات النحوية العربية تشير إلى أنه لا يوجد أي أثر لهذا النوع
من التأثر مطلقا. أما فيما يخص المصطلحات النحوية والصرفية فهذه تعد جزءا
لا يتجزأ من علوم عربية أصيلة"(4).
في مقدمته لتحقيقه لكتاب "أسرار البلاغة" للجرجاني في عام (1954م)
فإن العلامة ريتر ينفي المقولة التي تقول بتأثير الهيلينية على البلاغة
العربية، ويستبعد أن يكون للثقافة اليونانية هذا التأثير على البلاغة
العربية في إشارة إلى مزاعم طه حسين وغيره. ويعتمد ريتر في جداله على أساس
أن المؤلفات العربية في البلاغة كانت قد ظهرت حتى قبل ظهور الشاعر أبي
تمام، والذي يعزو إليه الدكتور طه حسين البدايات الأولى لتأثير الهيلينية
على البلاغة العربية. وهذا دليل آخر على أن البلاغة العربية كانت -ولا
تزال بالفعل– اهتماماً عربياً خالصاً وُجِدَ لتحقيق مقاصد محددة يأتي على
رأسها المقصد الديني.
وأختم هذا المقال بالاستشهاد بما يقوله الدكتور محمد عابد
الجابري: (إذا كانت الفلسفة هي "معجزة" اليونان فإن علوم العربية هي
"معجزة" العرب)(5). وهذا الاستنتاج الذي يسوقه الدكتور محمد الجابري يعد
دليلا قويا، خصوصا أن الدكتور يتحدث عن تكوين العقل العربي فيما يسميه
بعصر التدوين والذي يعده العصر الذي تشكلت فيه الثقافة العربية والعقل
العربي.
خاتمة
تدور مناقشة الدكتور طه حسين حول ثلاث دعاوى: الأولى هي أن الجاحظ
في كتابه "البيان والتبيين" كان ينهل من البلاغة اليونانية. ويمكن رد هذه
الدعوى بأن الجاحظ لم يشر إلى أي مصدر يوناني في كتابه، وكثيرا ما كان
يؤكد أن البديع وهو المصطلح الذي كان يطلق على كل مظاهر البلاغة في ذلك
الوقت هو خاصية فريدة يتميز بها العرب دون سواهم من الأمم. وكما أشرت
سابقا فإن كتاب الخطابة لأرسطو لم يترجم إلى العربية إلا بعد وفاة الجاحظ.
الدعوى الثانية تتلخص في أن الدكتور طه حسين كان يعتقد أن كتاب ابن المعتز
كانت مظاهر التأثر بالثقافة الهيلينية فيه واضحة بجلاء ولكن الكتاب بعد أن
تم تحقيقه وطباعته لم يبين أي دليل على هذا التأثر كما يقول الدكتور شوقي
ضيف. أما الدعوى الثالثة فهي أن عبد القاهر الجرجاني في كتابيه "دلائل
الإعجاز" و"أسرار البلاغة" وخصوصا في الكتاب الثاني "أسرار البلاغة" لم
يكن سوى فيلسوف ينهل من الفلسفة اليونانية التي كانت قد ترجمت إلى العربية
آنذاك. وهذا الزعم يرد عليه العلامة ريتر الذي حقق كتاب "أسرار البلاغة"
والذي أكد أن دعوى تأثر البلاغة العربية بالبلاغة اليونانية دعوى لا أساس
لها ولا ترتكز على سبب أو تنهض على أي دليل.
*******************
الهوامش
* كاتب وأكاديمي من اليمن.
(1) انظر ترجمة هذه المقالة في مقدمة نقد النثر لقادمة بن جعفر تحقيق
الدكتور طه حسين وعبد الحميد العبادي، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر
(1940)
(2) انظر مقال الدكتور طه حسين المذكور ص(15)..
(3) المرجع السابق ص(11-12).
(4) انظر كتاب ستيتكيفيتش (1970:3).
(5) انظر كتاب الدكتور محمد الجابري تكوين العقل العربي (2002) صفحة (80).
----------------
المراجع العربية
ابن الأنباري نزهة الألباء في طبقات الأدباء. تحقيق عطية عامر. استوكهولم (1962).
الجابري، محمد عابد (2002) تكوين العقل العربي. الطبعة الثامنة. مركز دراسات الوحدة العربية: بيروت.
الجرجاني، عبد القاهر أسرار البلاغة. تحقيق ه. ريتر (1954) مطابع وزارة التعليم: استانبول.
الخولي، أمين (1947) فن القول في معهد الدراسات. دار الفكر العربي: القاهرة.
الخولي، أمين (1961) مناهج تجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب. دار المعارف: القاهرة.
حسين، طه (1940) تمهيد في البيان العربي. مقدمة في كتاب نقد النثر لقدامة بن جعفر، تحقيق طه حسين وعبد الحميد.
العبادي، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة.
خطابي، محمد (1991) لسانيات النص: مدخل إلى انسجام الخطاب، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء.
ضيف، شوقي (1965) البلاغة: تطور وتاريخ. دار المعارف: القاهرة.
فضل، صلاح (1991) شفرات النص. دار الفكر: القاهرة.
مطلوب، أحمد (1978) دراسات بلاغية ونقدية. دار الرشيد: بغداد.
المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=119